بين القصيدتين
صلات مشتركة تدفع إلى إلقاء هذه
الظلال بعيداً عن الغلو
والإفراط كما ظهر ذلك في بعض
الدراسات حتى فقدت طابع اليسر
والسماحة .
البعد عن الأهل والإحساس
بالغربة :
كلا الشاعرين بعيد عن أهله ،
ناءٍ عن أصدقائه ، ولكن كلاً
منهما يستقبل النأي والغربة
استقبالاً مختلفاً تماماً .
فالشنفرى صلب الإرادة ، قوي
النفس ، ماضي العزم ، يتخذ أهلاً
له جدداً من الوحوش المفترسة ،
فأصدقاؤه : الذئاب والنمور
والضباع والحيات ، استمع إليه
يقول :
لَعَمْرُكَ ، ما
بالأرض
ضـــــــــــــــيقٌ على
أمرئٍ
|
سَـــــــــــــــــــــرَى
راغباً أو راهباً ، وهو
يعقلُ
|
ولي ، دونكم ،
أهـــــــــــــلونَ :
سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
|
وأرقطُ
زُهـــــلــــول
وَعَـــــــرفــاءُ
جـــــــــــــيألُ
|
أما الطغرائي :
فرقيق الحاشية ، واهي العزم، فما
إقامته ببغداد وليس له فيها صديق
يشكو إليه حزنه ويزف إليه فرحه ،
إلى دليل على ذلك ، ولذلك يقول :
فيم
الإقامةُ بالزوراءِ لا
سَـــــــــــــــــــــــــكنِي
|
بها ولا
ناقــــــــــــــــــــــــــتي
فيها ولا جملي
|
ناءٍ
عن الأهلِ صِـــــــــــفر
الكف مُنفـــــــــــــردٌ
|
كالســــــــــــــــــــــيفِ
عُرِّي مَتناه عن الخلل
|
فلا
صـــــــــــــــــــــــديقَ
إليه مشتكى حَزَني
|
ولا أنيسَ إليه
مُنتهى
جــــــــــــــــــــــــــذلي
|
فتجد في حديثه رنة
الأسى ، ونبرة الحزن ، وضعف
النفس متمثلاً في قوله ناءٍ عن
الأهل ، صفر الكف ، منفرد ، فلا
صديق أبثه حزني ، ولا أنيس أخلو
إليه من وحدتي ، فالرجل لايقوى
على مثل هذه المواقف كما يقوى
عليها الشنفرى الذي يقرر حقائق
وَطَّن نفسه عليها
وفي الأرض مَنْأىً ،
للكـــــــــــريم ، عن
الأذى
|
وفيها ، لمن
خــــــــــــــــــاف
القِلى ، مُتعزَّلُ
|
ثم يقسم على ذلك
ويجد البديل عن الأهل في هذه
الوحوش التي أنس إليها وأنست
إليه .
والشنفرى :
يستعيض عن فقد من لم يجد فيهم
خيراً وليس في صحبتهم نفع بثلاثة
أصحاب ، هم قلبه الشجاع الجسور ،
وسيفه الصقيل ، وقوسه الصفراء
المتينة .
وإني كفــــــــاني
فَقْدُ من ليس
جـــــــــــــازياً
|
بِحُســـــــــــــــــــــــنى
، ولا في قـربه مُتَعَلَّلُ
|
ثلاثةُ
أصــــــــــــــــحـــــابٍ
: فؤادٌ مشـــــــيعٌ ،
|
وأبيضُ
إصــــــليتٌ ،
وصــــــــــــــــــفراءُ
عيطلُ
|
أما الطغرائي :
فإنه يقصد من يعوضه عن الأهل
والأصدقاء لأن له هدفاً هو بسطة
الكف ، وسعة العيش ، يستعين به
على ما يريده من الوصول إلى
العلا والرفعة ، ولكن الدهر
يعاكسه ، ويقف في طريقه ، فيرضى
من الغنيمة بالإياب :
أريدُ
بســـــــــطـــــــــةَ
كفٍ أســـــــــتعين بها
|
على
قــــضــــاء حـــقـــوقٍ
للعـــلى قِــبَــلــي
|
والدهــــــــر
يعكــــــــــــــــس
آمالي ويُقنعني
|
من
الغــــــنيمة بعد
الكـــــــــــــدِّ
بالقــــفــــلِ
|
والشكوى ، والتودد
، ومحاولة الاستمالة للحصول على
مطلوبه ، كل ذلك واضح في قوله :
فقلتُ :
أدعــــــــــــــــــــــوك
للجلَّى لتنصرني
|
وأنت تخذلني في
الحــــــــــــــــــــادث
الجللِ
|
وكل منهما يذكر
المرأة في لاميته غير أن منهج كل
واحد منهما مختلف عن الآخر ،
فالشنفرى ليس رجلاً جباناً قعيد
منزله ، لاجئاً عند زوجته
يشاورها في كل الأمور بل هو شجاع
تعلو نفسه عن الركون إلى المرأة
، ولايقصد إليها . فهو ليس رجلاً
قليل الخير ، لايفارق داره ،
يصبح ويمسي جالساً إلى النساء
لمحادثتهن يدهن ويتكحل كأنه
منهن :
ولســــــــــــــــــــتُ
بمهيافِ ، يُعَشِّى سَوامهُ
|
مُــــجَـــــــــدَعَةً
سُــــــــــــقبانها ،
وهي بُهَّلُ
|
ولا جبأ أكهى
مُرِبِّ
بعرسـِـــــــــــــــــــــــــــــهِ
|
يُطـــــــــــــالعها
في شــــــــــــأنه كيف
يفعـلُ
|
ولا
خــــــــــــــــــــــــــــــــالفِ
داريَّةٍ ، مُتغَزِّلٍ ،
|
يــــروحُ
ويـــغــــــدو ،
داهـــــــــــــــناً ،
يتكحلُ
|
أما الطغرائي :
فإن نفح الطيب المنبعث من المرأة
يهديه في طريقه ، ويجذبه إليه
فيدعو صاحبه أن يحث السير إليها
، وحب النساء يصمي قلبه ،
وعيونهن النجلاوات ينفذن إلى
شغاف نفسه ، فيقع أسيراً لهن
فســـــــــر
بنا في ذِمام الليل
معتسِـــــــــفـاً
|
فنفخةُ الطيبِ
تهـــــــــــــــــــــدينا
إلى الحللِ
|
تبيتُ نار
الهــــــــــــــــــــــــوى
منهن في كبدِ
|
حــــــــــرَّى
ونار القـــــــرى منهم على
القُللِ
|
يَقْتُلْنَ
أنضـــــــــــــــــــــــــاءَ
حُبِّ لا حِراك بهم
|
وينحـــــــــــــــــرون
كِـــــــــــرام الخيل
والإبلِ
|
لا
أكـــــــــــــــــــرهُ
الطعنة النجلاء قد شفِعت
|
برشــــــــــــــــــــــــقةٍ
من نبال الأعين النُّجلِ
|
وكل منهما يدعو
إلى المعالي ويتمرد على الذل ،
فالشنفرى يرتكب الصعب من الأمور
، فيقاوم الجوع حتى ينساه ،
ويذهل عنه ، ولو أدى به الحال إلى
أن يستف التراب حتى لا يرى لأحدِ
فضلاً عليه فنفسه مرة لا تقيم
على الضيم ، ولا ترضى به مهما
كانت الأمور :
أُدِيمُ مِطالَ
الجــــــــــــــــــــــــوعِ
حتى أُمِيتهُ ،
|
وأضربُ عنه
الذِّكرَ
صـــــــــــــــــــفحاً
، فأذهَلُ
|
وأســــــــــــــــــتفُّ
تُرب الأرضِ كي لا يرى لهُ
|
عَليَّ ، من
الطَّــــــــــــــــــــــوْلِ
، امرُؤ مُتطوِّلُ
|
ولكنَّ
نفســـــــــــــــــــــــــــــاً
مُرةً لا تقيمُ بي
|
على
الضــــــــــــــــــــــــــيم
، إلا ريثما أتحولُ
|
أما الطغرائي :
فيرى أن حب السلامة يثني همم
الضعفاء فيغريهم بالكسل والخمول
، ويدفعهم إلى تجنب المغامرات ،
والبعد عن الأهوال ، والإنزواء
عن الناس . وأما المعالي فإنها
تدعو صاحبها إلى المغامرة وركوب
الأخطار :
حبُّ
الســـــــــــــــــــــــلامةِ
يثني هم صاحبهِ
|
عن المعالي
ويغري المرء
بالكســـــــــــــــــلِ
|
فإن
جــــنــــحــــتَ إليه
فـــاتـــخـــذ
نــفــقـــاً
|
في الأرض أو
ســــلماً في
الجـــــــــوِّ فاعتزلِ
|
ودع
غمار العُــــــلا
للمقــــــــــــــــدمين
عـلى
|
ركــــــــــوبــــهــا
واقـــتــنــعْ
مــنــهـــن بالبللِ
|
يرضى
الذليلُ بخفض العيشِ
مســـــــــــــكنهُ
|
والعِـــــــــــــــزُّ
عند رســــــــــيم الأينق
الذّلُلِ
|
****
وكل منهما لا يرضى بالإقامة ولكن
مطلب كلٍ منهما مختلف ، فالشنفرى
طريد جنايات ارتكبها ، يتوقع أن
تنقض عليه ، فهو هارب من وجه
الساعين إلى دمه ، ينام بعيون
يقظى ، فلا يضع جنبه على وجه
الأرض حتى تعاوده الهموم من كل
جانب ، وقد اعتاد هذه الهموم
وألفها ، ولذلك يقول :
وآلف وجه الأرض عند
افتراشـــــــــــــــــــــها
|
بأهـْــــــــدَأ
تُنبيه سَــــناسِـــــنُ
قُــحَّــــــــلُ ؛
|
طَــــــرِيدُ
جِــــناياتٍ
تياســــــــــرنَ
لَــحْــمَــهُ ،
|
عَــــــقِــــــيـــرَتـُهُ
فـــــي أيِّـــهــا
حُـــــمَّ أولُ ،
|
تـــنــــامُ إذا
مــا نـــام ، يــقــظــى
عُــيــُونُـها ،
|
حِــــثــــاثــــاً
إلى مـــكـــروهــــهِ
تَتَغَــلْغَــــــلُ
|
وإلفُ
هــــــــمــــومٍ مــــا
تــــزال
تَــــعُــــــــودهُ
|
عِــــيــاداً ،
كـــحــمـــى الرَّبعِ ،
أوهي أثقـــــلُ
|
أما الطغرائي :
فإنه لايرضى بالإقامة ، لأن نفسه
تحدثه أن العز الذي يريده لا
يتحقق بإقامته وإنما يتحقق
بالتنقل والرحلة .
إن
العـــــــــلا
حــــــدثتني وهي
صــــــــــادقةٌ
|
فيما
تُحـــــــــــــــــــــــــدثُ
أن العز في النقلِ
|
كما أنه يهدف إلى
تحقيق آماله ، التي يتوقع حصولها
يوماً بعد يوم :
أعــــــللُ
النــفــس بالآمــــال
أرقــــــــــــــبــها
|
ما
أضــــــــيق العــيــش
لولا فُســـحــة الأمل
|
وكل منهما له في
الحديث عن الصبر حِكمٌ تسير مع
الزمن ، فالشنفرى مولى الصبر
يلبس ملابسه على قلبِ مثل
السِّمع ، والسِّمع هو الذئب
الشجاع ، وينتعل الحزم :
فأني لمــــولى
الصــــــبر ،
أجـــــــــــــتابُ
بَزَّه
|
على مِثل قلب
السَّــــــــــــمْع ،
والحزم أنعلُ
|
وهو لايجزع من
الفقر ولا يفرح للغنى :
وأُعـــــــدمُ
أحْـــــــــياناً ،
وأُغــــــــــنى ، وإنما
|
يـــنـــالُ
الغِـــنى ذو
البُــعْـــدَةِ
المـــتــبَــــــذِّلُ
|
فلا
جَــــــــــــــــــــــــــــــزَعٌ
من خِلةٍ مُتكشِّفٌ
|
ولا
مَـــــــــرِحٌ
تحــــــــــت
الغِـــــــــــنى أتخيلُ
|
لكن الطغرائي :
يتبرم من إدبار الدنيا عنه ،
وإقبالها على غيره ، ويشكو لأن
أناساً أقل منه قد سبقوه ، وكان
حظهم أعظم من حظه :
ماكــــــــنتُ
أوثرُ أن يمتد بي
زمـــــــــــــــــني
|
حتى
أرى دولة الأوغاد
والســــــــــــــــــــــفلِ
|
تــقــدمـــتـــنــي
أناسٌ كان
شــــــــــــــوطُهمُ
|
وراءَ
خطوي لو
أمشــــــــــــــــــــي
على مهلِ
|
وقد شاعت الحكمة
وانتشرت في كلا القصيدتين ، حتى
تغنى الناس بحكم كل منهما ومن
حكم الطغرائي التي يرددها الناس
على مرِّ الزمان قوله :
وإن
عـــــــــــــــــــــــلاني
مَنْ دوني فلا عَجبٌ
|
لي
أســــــوةٌ بانحطــــــاط
الشمسِ عن زُحلِ
|
وقوله :
أعـــــــــدى
عــــــــدوك من
وثِقـــــــــــــــتْ به
|
فحاذر الناس
واصـــــــحــــــــــبهم
على دخلِ
|
فإنما
رُجــــــــــــــــل
الدنيا
وواحـــــــــــــــدها
|
من
لايعـــــــــــولُ في
الدنيا على
رجـــــــــــلِ
|
وقوله :
وحُســـــــــــــــــــــــــــــن
ظنك بالأيام معجزَةٌ
|
فَظنَّ
شــــــــــــــــــــــراً
وكن منها على وجَلِ
|
****
غاض
الوفــــــــــاءُ وفاض
الغـــــــــدر وانفرجت
|
مســــــــــــــــــــافة
الخُلفِ بين القوْل والعملِ
|
****
وشـــــــــــــــــــــان
صدقكَ عند الناس كذبهم
|
وهلْ
يُطـــــــــابق
مِعْــــــــــــــــــــــوجٌ
بمعتدلِ
|
****
فيم
اقتحــــامك لجَّ
البحـــــــــــــــــــــــر
تركبهُ
|
وأنت
تكـــــفــــــيك
مــــنـــهُ مــــصـة
الوشـلِ
|
****
مُلكُ
القـــنـــاعــــةِ لا
يُخــــشـــــــى عليه ولا
|
يُحتاجُ فيه
إلى
الأنصــــــــــــــــــــــــار
والخَولِ
|
خلاصة :
والواقع أن الحكم المنتشرة في
لامية الشنفرى منتظمة ضمن ذلك
العقد الذي ينتظم قصيدته ، وضمن
تجربته في الحياة ، إنها فرائد
منها مرتبطة بها ارتباطاً
وثيقاً قوياً محكماً .
أما فرائد الطغرائي ، فمتناثرة
في قصيدته ، والرابط بينها ليس
من الإحكام والقوة التي ظهرت في
لامية الشنفرى فقد جاءت مرتبطة
حيناً بتجاربه في الحياة ،
ومرارة العيش التي يشكو منها ،
وأحياناً يضعف ذلك الخيط الذي
يربطها فيبدو واهياً ضعيفاً ،
وتبدو متراصة بعضها بجوار بعض في
معزل عن تلك التجارب .
|