كتبه
أبو رائد المالكي
فهرس الكتاب ( * ):
أسباب
ظهور الخوارج في بلاد التوحيد :
دور
العلماء في كشف أهل البدع :
ضرورة
إقامة حكم الله على الخوارج :
مناظرة
ابن عباس للخوارج الأولين :
خفاء
حال أهل البدع على كثير من الناس و وجوب التحذير منهم:
نبذ
التفرق والحث على الاجتماع :
تنبيه
بشأن الحكم على بعض المعاصرين :
رؤوس
الجماعات الحزبية المنبع الذي خرجت منه الفرق :
الجهل
بالتوحيد عند قادة الإخوان المسلمين، وعدم الدعوة إليه كما دعا الأنبياء :
حقيقة
الشمولية والتدرج عند الإخوان المسلمين :
جماعات
العنف المنشقة عن جماعة الاخوان المسلمين :
بعض
جماعات التكفير والجهاد ، تعلن تراجعها عن
سياستها والتغيير لبعض أفكارها :
أصول
الخوارج التي بنوا عليها :
من
الذي يدعوا إلى الجهاد ويأمر به :
تغير
بعض الأحكام بين حالة الحرب وحالة السلم :
مدى
مشروعية العمليات الفدائية :
هل
تجوز الهدنة المطلقة دون تحديد مدة :
أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب :
فصل
في بيان حكم بعض نوازل العصر
هل
يجوزالخروج على الحاكم المسلم الجائر :
قتال
الطائفة الممتنعة عن أداء بعض الشعائر :
التفريق
بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في الحديث :
براءة
أئمة الدعوة في نجد من خوارج العصر والرد على المرجفين :
ضرورة
التربية و التحذير من الحزبية :
التحذير
من الإحداث في الدين والأمر بإتباع سبيل المؤمنين .
الفرقة
الناجية والطائفة المنصورة :
من
هم أهل الحديث الطائفة المنصورة :
ألوية
النصر في الرد على خوارج العصر
قدم له فضيلة الشيخ الدكتور
عبود
بن على بن درع القحطاني
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على
رسولنا الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد
بين الله في كتابه العزيز أن الاختلاف واقع ، وأنه سنة من سنن الله التي لا تبديل
ولا تغير في كل الأمم وجميع الناس ، بل قد ورد آيات كثيرة في كتاب الله تنهى عن
الاختلاف والتفرق ، وتحذر منه ، وتتوعد
المفترقين وتحذر مما وقع فيه أهل
كتاب الله والمشركون والأمم السابقة التي
أفترقت واختلفت وانقسمت إلى شيع وأحزاب بعد ما أنزل الله إليهم ما يتقون ، حيث
أرسل الرسل وأنزل الكتب بالبينات فكان أختلفهم بعد الهدى ، وتفرقهم بعد وفاق ،
وضلالهم بعد بينة ، قال سبحانه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153) سورة الأنعام
فالصراط
المستقيم هو القران والاسلام والفطرة التى فطر الله الناس عليها ، والسبل هى
الأهواء والفرق والبدع والمحدثات ، فال مجاهد رحمه الله ولا
تتبعوا السبل يعنى البدع والضلالات .
ولقد
أخبرنا الحق جل جلاله أن الذين يتبعون المتشابه هم أهل لزيغ والفتنة وهو أهل
الأهواء والافتراق قال سبحانه :
{هُوَ
الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (7) سورة آل عمران
ونهى
الله تعالى هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم السالفة من الأختلاف والتفرق من بعد
ماجاءتهم البينات وأنزل الله اليهم الكتب فقال جل وعلا {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ
وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} (105) سورة آل عمران
وقد
توعد الله المفترقين بالعذاب الأليم والعظيم .
ثم
بين سبحانه وتعالى حال المفارقين ، أهل البدع
والأهواء فقال سبحانه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }
(106) سورة آل عمرانقال ابن عباس رضي الله عنه : (تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه
أهل البدع ) .
وأحبر
تعالى ، أن الرسول r برىء من الذين يفرقون دينهم ، ويكونون شيعاً وأحزاباً ، d {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (159)
سورة الأنعامومن سنن الله جل وعلا التي حكم فيها بين عباده أنهم لا يزالون مختلفين
إلا من رحم ربك وأنه كتب ذلك عليهم فلا راد لقضاء الله ، d {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (118) سورة
هود
وقد
نهى النبي r
أمته من الأفتراق والأهواء والبدع فقال r (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإن من فارق الجماعة
قيد شبر ، فقد ربقة الأسلام ) رواه البخاري
وقال
(من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف
كائنا من كان ) رواه مسلم . وهذا الكتاب الذي بين أظهرنا ، فيه تجلبه واضحة ،
وردود دامغة ، صريحة وصحيحة لهذه الفرق ، وخاصة خوارج العصر ، بعيداً عن التعصب ،
قصد مؤلفه تجلية الحقيقة ، والنصح لإخوانه ، ومحاولة بيان الشبهات التى تثار
والاجابة عليها .
كما
ذكر المؤلف مسائل تتعلق بحال أهل البدع ، ورؤوس الجماعات الحزبية ، ولم يُغفل
الحديث عن فقه الجهاد ، وعرض مسائل عدة تمس الجاجة إلى معرفتها في هذا الباب
العظيم .
وكل
ذلك بجواب مقنع ، ورد قوي ، من الكتاب والسنة ، وكلام أهل العلم الراسخين .
وفق
الله المؤلف لكل خير ، ونفع بهذا الجهد الاسلام والمسلمين ، ورزقنا العلم النافع
والعمل الصالح ، وصى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
و كتب
د/ عبود بن
على بن درع القحطاني
الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل
العلم ، يدعون من ضل إلى الهُدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يُحيون بكتاب الله
الموتى ، ويُبصِّرون بنور الله أهل العَمَى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم
من ضال تائه قد هَدَوْه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم ،
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالِين ، وانتحال المُبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين
عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عقال الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون
للكتاب ، مجمعون على مفارقة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير
علم ، يتكلمون بالمتشابه ، ويخدعون جُهّال الناس بما يُشَبِّهون عليهم ، فنعوذ
بالله من فتنة المضلين ..... أما بعد :
● قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحم
الله الجميع (فتح المجيد ص344) : " من خالف الكتاب والسنَّة فيجب الرد عليه ،
كما قال ابن عباس رضي الله عنه والشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله وذلك مجمع عليه
" .اهـ
وقال شيخنا الإمام عبد العزيز :
" فلا يجوز لأهل العلم السكوت وترك الكلام للفاجر والمبتدع والجاهل فإن هذا
غلط عظيم ومن أسباب انتشار الشر والبدع واختفاء الخير وقلته وخفاء السنة . فالواجب
على أهل العلم أن يتكلموا بالحق ويدعوا إليه وأن ينكروا الباطل ويحذروا منه ويجب
أن يكون ذلك عن علم وبصيرة ".اهـ مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ( 6 / 53)
وفي سنن الدارمي [1]:
عن إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَقَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ قَالَ إِبْلِيسُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
تَأْتُونَ بَنِي آدَمَ فَقَالُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ فَهَلْ تَأْتُونَهُمْ
مِنْ قِبَلِ الِاسْتِغْفَارِ قَالُوا هَيْهَاتَ ذَاكَ شَيْءٌ قُرِنَ
بِالتَّوْحِيدِ قَالَ لَأَبُثَّنَّ فِيهِمْ شَيْئًا لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ
مِنْهُ قَالَ فَبَثَّ فِيهِمُ الْأَهْوَاءَ *
قلت : وأهل الأهواء في هذا العصر كثير نسأل الله العافية ، والرد
عليهم وبيان انحراف طريقتهم من أعظم الجهاد كما قال شيخ الإسلام ، وعلماء الإسلام
مدعوون لصد العدوان عن بلاد التوحيد التي تكالب عليها الأعداء من كل جانب .
● يقول فضيلة الشيخ ( بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار
العلماء) :
" جزيرة العرب هي بارقة الأمل للمسلمين في نشر عقيدة التوحيد
لأنها موئل جماعة المسلمين الأول وهي السور الحافظ حول الحرمين الشريفين فينبغي أن
تكون كذلك أبداً فلا يسمح بحال بقيام أي نشاط عقدي أو دعوي - مهما كان - تحت مظلة
الإسلام مخالفاً منهاج النبوة الذي قامت به جماعة المسلمين الأولى : صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وجدده وأعلى مناره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
تعالى ، فالجماعة واحدة : جماعة المسلمين تحت علم التوحيد على منهاج النبوة لا
تتوازعهم الفرق والأهواء ولا الجماعات والأحزاب . و إن قبول أي دعوة تحت مضلة
الإسلام تخالف ذلك هي وسيلة إجهاز على دعوة التوحيد وتفتيت لجماعة المسلمين وإسقاط لامتياز الدعوة وسقوط لجماعتها وكسر
لحاجز النفرة من البدع والمبتدعين والفسق والفاسقين . والجماعات إن استشرى تعددها
في الجزيرة فهو خطر داهم يهدد واقعها ويهدم مستقبلها ويسلم بيدها ملف الاستعمار
لها ، وبه تكون مجمع صراع فكري وعقدي وسلوكي " (خصائص جزيرة العرب ص 85) .
ثم قال ص88 " ولما كانت هذه الجزيرة ، وهذه البقاع المقدسة
مصدر الشعاع العالمي الإسلامي ، ومقياس قوة الإسلام وسلطانه ، كان علماء المسلمين
وقادتهم – في كل زمان وبلد – شديدي الحساسية لما يقع فيها من حوادث ، ولما يجري
فيها من تيارات .... فواجب والله تنظيف هذه الجزيرة من تلكم المناهج الفكرية
المبتدعة ، والأهواء الضالة ، وأن تبقى عنوان نصرة للكتاب ، والسنة والسير على هدي
سلف الأمة ، حرباً للبدع والأهواء المضلة "
● والأهواء في اللغة جمع هوى ، و الفعل منها هوى يهوي بمعنى
سقط ، والهوى اصطلاحاً خلاف الهدى ، قال تعالى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} ](50) سورة القصص [
وقال تعالى {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}] (14)
سورة محمد .[ .
ومعرفة سبيل المخالفين من أهل البدع والأهواء من أصول هذا الدين ،
قال ابن القيم في الفوائد (1/110) "
فالعالمون بالله و كتابه و دينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل
المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل
إلى مقصوده و الطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق و أنفعهم للناس و
انصحهم لهم و هم الأدلاء الهداة .... فمَن لم يعرف سبيل المجرمين و لم تستـبن له
أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور
كثيرة في باب الاعتقاد و العلم و العمل و هي من سبيل المجرمين و الكفار و أعداء
الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين و دعا إليها و كفَّر
مَن خالفها و استحلَّ منه ما حرَّمه الله و رسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية
و القدرية و الخوارج و الروافض و أشباههم ممن ابتدع بدعة و دعا إليها و كفَّر مَن
خالفها "
● ولقد بُليت الأمَّة في هذا العصر - قبل فترة قصيرة - بعقيدة المرجئة التي كان ينادي بها بعض طلبة
العلم ، وحمل رايتها اثنان منهم ، أحدهما في أقصى الشمال والآخر في أقصى الجنوب ،
و انساق وراءهما كثير من الرعاع .
حتى أصبح الحال كما قال بعض السلف ، كما في شرح أصول اعتقاد أهل
السنة والجماعة للالكائي:
لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو بن مرة في الإرجاء فتهافت الناس
فيه .
ثم توالت عليهما ضربات أهل السنة من كل صوب ، وقد كانت لنا والحمد
لله مشاركة في دفع هذه البدعة الشنيعة بمؤلف بعنوان : " اجتماع الأئمة على نصرة مذهب أهل
السنَّة " راجعه وقدم له إمام من أئمة أهل السنَّة ، شيخنا أبو عبد الرحمن
مقبل بن هادي الوادعي ، وقد قال في مقدمته : " فقد قرأت كتاب الشيخ الفاضل
سعود بن صالح السعدي (اجتماع الأئمة على
نصرة مذهب أهل السنَّة ) فوجدته كتاباً يتعلق بالعقيدة اشتمل على فوائد تشد لها
الرحال ، ضمنه التنبيه على ما زلق فيه بعض العصريين فجزاه الله خيراً ، والأخ
الشيخ سعود بن صالح من أبرز الدعاة إلى الله يدعو إلى الله على بصيرة يحب السنَّة
وأهلها ويحارب البدعة وأهلها قوي في العقيدة قولاً وعملاً ويجل علماء التوحيد
ميتهم وحيهم ومحب للعلم النافع وحريص على التزود منه ويبغض الحزبية وينفِّر عنها
من أجل هذا كله فقد أحببناه في الله فجزاه الله خيراً ونفع به الإسلام والمسلمين
إنه جواد كريم."
كما قدم له شيخنا الدكتور وصي الله عباس المدرس بالحرم المكي
والأستاذ بجامعة أم القرى وقال في مقدمته : " فقد قرأت البحث الذي ألّفه
أخونا الفاضل الأستاذ أبو رائد سعود بن صالح المالكي سلمه الله , المتعلق بمسائل
تتعلق بالإيمان و الكفر و الشرك وسماه اجتماع الأئمة على نصرة مذهب أهل السنة ، فوجدته قد جمع من النصوص الثابتة من الكتاب
والسنَّة وأقوال الأئمة ما تكفي لإثبات المذهب الحق والرد على الآراء الباطلة
فجزاه الله خيراً , ووفقه لمزيد من البحث المفيد." أ.هـ
و لقد كان القوم يقولون " إن الإيمان ينقص حتى يبقى منه ذرة
" ، وهذا هو ملخص عقيدتهم في الإيمان وما يضاده حتى قال مُقدَمهم : " إن
الشهادتين تنجي صاحبها من الخلود في النار بدون عمل الجوارح ولو ترك جميع الواجبات
واقترف جميع المحرمات عدا الشرك الأكبر".
وقد نشر بعضهم ذلك في مذكِّرة لهم بينوا فيها عقيدتهم ، ثم تحقق
بعض ما أردنا بعد أن أوقفناهم على كلام شيخنا الإمام ناصر الدين الألباني حيث قال
" إن الإيمان ينقص حتى لا يبقى منه شيء " و بعد أن تكلمنا مع بعض من
عرضوا عليه نشرتهم تلك .
ثم قاموا بتعديل تلك العبارة والحمد لله على الوجه الصحيح وأثبتوا
ذلك في نشرة لهم قاموا بنشرها وتوزيعها ،
وقد بلغنا أن دعوتهم بين الأعاجم تقوم على هذه العقيدة الباطلة ، فهم
يقنعون الأعجمي أن ينطق بالشهادتين حتى ينجو من الخلود في النار !! ، وله بعد ذلك
، أن يفعل ما شاء ، عدا الشرك الأكبر .
وبعضهم يحتج بما جاء في الصحيحين [2]:
عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ
وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ *
ولكن أبا طالب كان أفقه من هؤلاء بمعنى لا إله إلا الله ، فهو لم
يقلها لأنه عرف معناها ومقتضاها .
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب
التوحيد في مسائل الباب بعد أن ذكر حديث أبي سعيد السابق[3]:
" الثالثة : وهي المسألة الكبيرة ، تفسير قوله : ( قل لا إله
إلا لله ) بخلاف ما عليه من يدعي العلم " .
وقال في كشف الشبهات [4]
: " والكفار الجهَّال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة ،
هو إفراد الله بالتعلق ، والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم
:قولوا لا إله إلا الله ؛ قالوا :
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ] (5) سورة ص [، فإذا عرفت أن جهَّال الكفار يعرفون ذلك ،
فالعجب ممن يدعي الإسلام ،وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهَّال الكفار
" .
وقد بينت في الأصل[5]
آخر اعتقادات وتلبيسات هذه الطائفة في باب الإيمان وما يضاده ، ولا بأس أن أذكر
هنا أهم أصولهم ، ولا يفوتني أن أنبه إلى أن بعض علمائنا ومشايخنا الأفاضل ،
ينسبهم المخالفون لهم ظلما ً وزوراً إلى هذا التيار ، بل إن كاتب هذه السطور لم
يسلم من هذه النسبة [6] ،
وهذا من أهم الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة عن هذه الطائفة حتى يعلم القاريء
حقيقة الأمر .
فهذه الطائفة نشأت كردة فعل للسروية ، لكن لا الإسلام نصروا ولا
السرورية كسروا فقد كانوا يقولون عن بعض رموز السرورية ، هم من أهل السنَّة ، وقد
كانوا يرسلون أتباعهم إلى الإمام الألباني ليستخرجوا منه فتوى في السرورية فكانوا
يقولون للشيخ الألباني ، هم معنا في العقيدة لكنهم يخالفوننا في المنهج فقال الشيخ
رحمه الله ، إذاً هذا اختلاف في الأسلوب لا يوجب هذه النفرة ، حتى دلسوا على الشيخ
فظن أن الأمر كما وصفوا أنهم معنا في العقيدة ، حتى إذا أفتى فيهم اعتماداً على
وصفهم لم يرضوا بفتواه وطعنوا فيه ، فالعجب من قوم يعادون أهل السنة بلا هوادة ثم
يدّعون أنهم يمثلون الدعوة السلفية الحقَّة .
وهذه الطائفة وافقت الأحزاب الأخرى في بعض الأصول وزادت عليهم في
أخرى ، فهم من جهة التنظيم جمعوا بين التنظيم الهرمي والتنظيم العنقودي .
فكما هو معلوم أن الإخوان المسلمين يعتمدون التنظيم الهرمي
بينما السروريون يعتمدون التنظيم العنقودي ، لكن هؤلاء أخذوا من التنظيم الهرمي
القمة فقط فهم يدينون بالطاعة والاتّباع لشيخهم الأكبر ولا تجد أحداً ينوب عنه ممن
هو دونه كما عند أصحاب التنظيم الهرمي بينما أخذوا من أصحاب التنظيم العنقودي
العمل الجماعي وفق أهداف معينة .
ومن جهة الاعتداد بالنفس ليسوا كالإخوان المسلمين الذين يرون أنهم
جماعة من الجماعات العاملة وليسوا كالسرورية الذين يرون أنهم الطائفة المنصورة
وباقي الجماعات في دائرة الفرقة الناجية ويفرقون بينهما ، أما المناهجة هؤلاء فهم
يرون أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ولا يفرقون بينهما.
وقد وافقوا باقي الأحزاب في الطعن في كبار العلماء ، خاصة إذا احتج
من يعاديهم أو ينشق عنهم من أفرادهم بأقوال هؤلاء العلماء .
فمن أصول هذه الطائفة وسماتها الخاصة بها :
1) التفريق بين العقيدة والمنهج :
والهدف من ذلك تسهيل الطعن في مخالفيهم من أهل السنَّة والجماعة
بحجَّة أنه وإن كانت عقيدته سليمة إلا أن منهجه فيه خلل . لذلك تجدهم يكثرون من
القول " كيف منهجه " عندما يريدون أن يستفسروا عن أحد من الدعاة ليعرفوا
هل هو من جماعتهم أم من الجماعات الأخرى .
وتزداد عجباً إذا عرفت أن الميزان عندهم في هذه المسألة هو
"مدى حبه أو بغضه لكبيرهم ".
وممن أنكر عليهم في هذه المسألة خاصة ، شيخنا مقبل الوادعي رحمه
الله ، ففي الفتاوى المكيَّة[7]
ذكر رحمه الله أنه دخل المكتبة – بدار الحديث بدمَّاج - ذات يوم فوجدهم قد علقوا
لافتة وكتبوا عليها " كتب المنهج " قال فنزعتها وقلت منهجنا الكتاب
والسنة ، قال وكان يأتيني بعض الطلاب فيقول نريد درساً يا أبا عبد الرحمن في
المنهج فكان يقول رحمه الله ما عندنا غير هذا - الكتاب والسنة - وكان يقول لهم ما
نقرأه عليكم من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما هو المنهج .
2) عندهم غلو وخلل واضح في مسائل الهجر و الولاء والبراء ويعتمدون
في ذلك على ما يسمى بالإرهاب الفكري ، فإذا قرروا قولاً في مسألة ما ، فالويل لمن
يخالفهم ولو كان معه الدليل بل ولو كان من كبار العلماء ، فكم تسببوا في كتم الحق
وكم غرروا أتباعهم فالله المستعان ، وهم دون باقي الأحزاب غير مأموني الصحبة ،
فبمجرد أن تخالفه في مسالة محتملة تجده فجأة وبدون مقدمات يتخذك عدواً لدوداً
، وتزداد عجباً إذا علمت أن بعضهم لا
يفعل ذلك غيرة على الدين وإنما يفعل ذلك خشية أن يهجر من طائفته ، فنسأل الله
العافية .
3) عندهم غلو في مسألة الولاة عموماً فهم يفسرون الجماعة في حديث
عليكم بالجماعة بأنها " الحكومة " !! هكذا ، ولو فسروها بما فسرها به
السلف لضمنوا القول بطاعة الوالي المسلم لأن هذه هي عقيدة السلف وقد نصوا في كتبهم
على هذا فقالوا " والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين ، برهم
وفاجرهم ، إلى قيام الساعة ، لايبطلهما شيء ولاينقضهما " .
قال شيخ الإسلام وهو يتكلم عن وجوب طاعة الولاة كما في مجموع
الفتاوى (28/508) " بل يطيعهم فى طاعة الله ولا يطيعهم فى معصية الله إذ لا
طاعة لمخلوق فى معصية الخالق وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا وهى واجبة
على كل مكلف وهى متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد
الناشىء عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء
مطلقاً وأن لم يكونوا أبراراً "
4) هم على عقيدة المرجئة في مسائل الإيمان والكفر وقد أنكر عليهم
في ذلك كبار العلماء ، ومن أكبر الشواهد على أنهم تشربوا هذه العقيدة أن كثيراً من
كبارهم لم يتعرض إلى الانكار على المخالف لهم في هذه المسألة في آخر فتنة وقعت في
صفوف هذه الطائفة مع علمهم أنه حامل راية الإرجاء في هذا العصر ، وعلى كل حال فهم
عندهم ضعف واضح في العقيدة وليس لهم مصنفات في هذا الباب وإذا تكلم أحدهم أو كتب
في هذا الباب فكلامه مجرد عمومات مما قد اتفق عليه أهل السنة . وكثير منهم لا يفقه
التوحيد فضلاً عن باقي أبواب العلم ، وكتاب التوحيد المعتمد عندهم في بعض النواحي
قد قرر فيه صاحبه عقيدة المرجئة وقد رددت عليه في " اجتماع الأئمة على نصرة
مذهب أهل السنة " .
5) وافقوا الأحزاب الأخرى في طريقتهم وشعارهم الذي يسيرون عليه
" كتِّـل ثم علِّم " فأصبح عندهم جمع الشباب والحفاظ على عدم تفرقهم
مقدم على كثير من مسائل العقيدة ، فكان عقاب الله لهم أن فرقهم وشتتهم وكشف عوارهم
.
6) لجوؤهم إلى التصنيف بغير دليل لكل من خالفهم فمن رد عليهم ولم
يرد على السرورين يسمونه " إخواني أو سروري " ومن رد عليهم وعلى
السرورين يسمونه " حدادي [8]"
والسلفي هو الذي يمدحهم ويبجل شيخهم .
7) عدم تبديع المعين ، وهذا خلاف المشهور عنهم والسبب في
ذلك تفريقهم بين العقيدة والمنهج فالمخالف لهم لا يتجرأون على تبديعه لأنهم يرون
أنه يوافقهم في العقيدة ، وما هذا إلا بسبب جهلهم بالعقيدة ، لذلك تجدهم يصفون
المخالف لهم بكل أوصاف قبيحة مثل خبيث دسيسة كذاب أشر صاحب فتنة .... وغير ذلك ،
لكن لا يمكن أن يصفوه على الملأ بأنه مبتدع وربما يتفوهون بهذا في مجالسهم الخاصة
، ومن الأسباب أيضاً أنهم يخافون أن يتهموا من خصومهم بأنهم حدادية .
8) ينطلقون من مبدأ الوصاية على الدين ، ويعتبرون الكلام في رموزهم
طعن في السلفية ، ورحم الله شيخنا ناصر الدين كان عندما يقال له ياشيخ يقولون عنك
: كذا وكذا ، كان يقول : ما لنا ولهم .
9) مصدر قوتهم أخطاء الآخرين ، فإذا وقعوا على خطأ لأحد المخالفين
لهم شهروا به ، وأخرجوه من السلفية ، وإلا فإن كبارهم ليس لهم جهد يذكر في باب التصفية والتربية إلا
ما ندر ، وليس لهم برنامج علمي يفيد الأمة بل هم يقتاتون على انتقاد كتابات
الآخرين وفقاً لما يعتقدونه ، بل أن كثيراً منهم لم يُعرفوا إلا بعد أن ردوا على
بعض المشهورين فاتخذوا الآخرين مطية للشهرة .
10 ) ينطلقون من مبدأ المؤامرة على السلفية فقد صرح كبارهم بأن
فتوى هيئة كبار العلماء فيهم يراد بها الطعن في السلفية ، ومن غرائب الأمثلة أنه
لما عُرض على كبيرهم كتابي " إغاثة الطالب لنيل أعلى المطالب " طلب
تغيير العنوان ، قال : لأن فيه مدخل للصوفية يحتجون به على السلفيين .
وعلى كل حال فإن الذي شجعني على كشف حقيقة هذا الحزب الجديد أنني
وجدت أن كثيراً من طلبة العلم مال إلى الخوارج بعد أن أصبح يميز الحق عنده بمخالفة
هؤلاء القوم له ، بل أصبح بعضهم يعمم هذا الحكم على جميع السلفيين ، فتمييزاً لأهل
الحق [9]،
ولأن هؤلاء القوم أصبحوا يكتمون الحق عن أتباعهم بحجة أن القائل مخالف لهم في
المنهج ، أقدمت على هذه الخطوة ، والله
المستعان .
● وما إن تخلصت الأمة من هذه البدعة الشنيعة حتى ظهرت بوادر
عقيدة الخوارج ، وإن كانت عقيدة الخوارج هي الأسبق دائماً حتى من الناحية
التاريخية ، إلا إننا في هذا العصر نجد التناوب بين هاتين العقيدتين ، فما أن
تنطفيء نار إحداهما حتى تشتعل نار الأخرى ، وأهل السنَّة لهما بالمرصاد ، والخوف
والعياذ بالله أن نفاجأ بعقيدة الكرامية بعد القضاء على عقيدة الخوارج.
ولقد ادعى بعضهم أن الخوارج لم يظهروا في عهد عمر بن عبد العزيز
بسبب عدله ، وهم لهم قصد من وراء هذه المقولة ، وهذا قول باطل لأن بذرتهم وأول قرن
منهم خرج في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولا يزالون يخرجون في كل عصر حتى في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، قال
شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 3/240 )
" طلب عمر بن عبد العزيز دعاة
القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به " وقال أيضاً في مجموع
الفتاوى ( 11/685 ) : " و
الخوارج لما أرسل اليهم ابن عباس
فناظرهم ورجع منهم نصفهم أو نحوه وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد
العزيز " .
وفي مصنف ابن أبي شيبة (7/557) من طريق الحسن عن أبيه قال "
أشهد أن كتاب عمر بن عبد العزيز قرئ علينا : إن سفكوا الدم الحرام وقطعوا السبيل
فتبرأ في كتابه من الحرورية وأمر بقتالهم " .
وفي السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (2/642) بإسناد صحيح عن عون بن
عبد الله " أن عمر
بن عبد العزيز أخرجه إلى
الخوارج فكلمهم " .
و الخوارج كنا نسمع عنهم في بعض البلاد المجاورة ، حتى ادعى بعضهم
، أن ظهورهم كان نتيجة الكبت والبطش والظلم ، والسجن والتعذيب فإذا بنا نفاجأ
بظهورهم في بلادنا بدون تلك العوامل المزعومة فما السر في ظهورهم ، هذا ما سنبينه
فيما يأتي.
أسباب ظهور الخوارج في بلاد التوحيد :
● إن المتأمل في حال كثير من الدعوات في هذا العصر ممن يدعي
الانتساب إلى مذهب أهل السنة والجماعة من صوفية ومرجئة وخوارج يلاحظ ، أنه قد
تفرقت بأصحابها الأهواء ، والأسباب وراء
ذلك كثيرة فمن ذلك تصدر الرويبضة.
ففي مسند الإمام أحمد [10]:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ
يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا
الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ
قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ
*
ومن الأسباب قلة العلم وكثرة الجهل حتى أصبح العلم يطلب عند
الأصاغر .
والأصاغر كما قال عبد الله بن المبارك هم أهل البدع .
وفي الصحيحين [11]
:
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ
النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا
وَأَضَلُّوا *
وما تعانيه الأمَّة في هذه الأيام من انتشار جماعات التكفير ، إلا
نتيجة للجهل والتصدر قبل النضج في العلم و العقل أيضاً.
كما قال الشاعر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في سيرها الخلل .
● لقد كنا بالأمس ننكر على أصحاب ( المناهج الجديدة ) ممن
نجدهم في باب الأسماء والصفات قد وافقوا السلف فلم يُعملوا عقولهم في آيات وأحاديث
الأسماء والصفات كما فعلت الجهمية مثلاً ، بل قالوا نُمرَّها كما
جاءت من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل ، وليسعنا في ذلك ما وسع
السلف ، يقولون لأننا نعلم إن السلف أرسخ منا علماً ولو كان إعمال العقل في هذا
الباب فيه خير لكان السلف أسبق منا إلى ذلك .
ثم تراهم في باب آخر مثل باب الدعوة والتربية والجهاد والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لا يلتفتون إلى القاعدة السابقة التي تقول لو أن في
الأمر خيراً لكان السلف أسبق منا إلى ذلك بل تجدهم يقدمون العقل تحت ستار ما
يسمونه بفهم معتدل للنصوص يتناسب مع الزمان والحال ولا يتعارض مع مقاصد الدين
ومنهج السلف زعموا ، وبعضهم بلغ به الهوى أن تجرأ فنادى بسلفية العقيدة وعصرية
المواجهة !!.
ولا ندري من أين لهم هذا التفريق بين أمر من أمور الدين يلتزمون
فيه بفهم السلف وأمر آخر يقدمون فيه فهمهم على فهم السلف .
فمن المعلوم أن الكل دين ، وما التفريق بين أمر وآخر من أمور الدين
بغير ما أنزل الله إلا دأب بني إسرائيل الذين
قال الله فيهم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ](85)
سورة البقرة [.
والعجيب أن كثيراً ممن هم على هذه المناهج الجديدة يظنون أنهم على
منهج السلف بل يدّعون أحيانا !! أنهم سلفيون .
والذي ندين الله به أننا ملزمون بإتباع سبيل السلف الصالح في كل
أمور الدين لا فرق بين أمر وآخر وإن هذا المنهج من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة
أتباع السلف الصالح أهل الأثر وأهل الحديث وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة .
● ويخطيء من يصف بعض من حادوا عن هذا المنهج السلفي - الذي
سار عليه أئمة العصر - أنهم سلفيون في باب الاعتقاد وإنما طرأ عليهم الخلل في باب
الدعوة وأسلوب الدعوة و سيأتي بيان ذلك .
● إن الذين بذروا
بذرة الغلو في التكفير وأصلوا هذا المذهب في كتبهم وأشرطتهم منذ سنين ومهدوا لمن جاء
بعدهم كما قال سفيان الثوري - رحمه الله - وهو ينقل وصية عمر رضي الله عنه ( حلية
الأولياء 5/338) ، قال " واعلم أنه لم يبتدع إنسان قط بدعة إلا قد مضى قبلها
ما هو دليل عليها وعبرة فيها فعليك بلزوم السنَّة فإنها لك بإذن الله عصمة "
.
وفي ذلك يقول الإمام البربهاري - رحمه الله - في شرح السنَّة [12]:
" واحذر صغار المحدثات من الأمور فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً وكذلك
كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها ثم
لم يستطع المخرج منها فعظمت وصارت ديناً يدان بها فخالف الصراط المستقيم فخرج من
الإسلام ، فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصَّة فلا تعجلن ولا
تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر ، هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم أو أحد من العلماء فإن أصبت فيه أثراً عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا
تختر عليه شيئاً فتسقط في النار " .
فهؤلاء القوم الذين بذروا هذه البذرة ، وسقوا شجرتها الخبيثة التي
نشاهدها هذه الأيام ، هم الذين كانوا يؤيدون العنف ويعدونه من أنجح أساليب الدعوة
، حتى قال مُقدَمهم وهو يتكلم عن القدس:
" إن الحديث عن الحقوق المشروعة والقرارات الدولية الذي استنزف ويستنزف من
الإعلام العربي ما يملأ البحار لم يجد أذنًا - ولا عُشرَ أذن - كتلك التي أحدثها
انفجار مشاة البحرية في بيروت والهجوم على ثكناتهم في مقديشو، بهذه اللغة
وحدها يسحب الكفر أذيال الهزيمة وتنحني هامات الخواجات العتية أمام مجموعات طائفية
وعصابات قبلية وليست جيوشًا دولية ، وإن استرداد بضعة قرى ومدن في البوسنة قلَب
المؤشر الصليبي وأرغمه على إعادة حساباته ، وإن أي خطاب للكفر لا يستخدم هذه اللغة
هو لغو من القول وزور من العمل".
وقال في شرحه لرسالة تحكيم القوانين: "ونحن يجب علينا أن نرد
تغير الناس إلى الحق الذي لا يتغير. فالناس كانوا يكرهون الكفار، ولم يكن أحد منهم
يصافحهم، كان الكافر إذا دخل جزيرة العرب إما أن يدّعي أنه حاج من إحدى الدول
الإسلامية - كما فعل بعضهم - وإما أن يتبين أمره فيقتل، فكان لا يستطيع أن يذهب
إلى اليمن ولا إلى الحجاز ولا إلى نجد إلا بهذه المنزلة. أما الآن فمنهم السائق
والخادم ومدير الأعمال والمهندس والمستشار والخبير..إلخ.
فهل تغيرت الفتوى أو نحن الذين تغيرنا؟ نحن تغيرنا، أما حكم الله
عز وجل فلم يتغير، فحكم الله : إنهم نجس، ولا يجوز أن يقربوا المسجد الحرام، وإنه
لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. هذا حكم مطلق قاله النبي صلى الله عليه وسلم،
وأوصى به في مرض موته وهو في النزع الأخير صلوات الله وسلامه عليه قبيل التحاقه
بالرفيق الأعلى، فلا يمكن أن يتغير، ولا يمكن أن ينسخ" ، وسيأتي الجواب عن
هذا.
● وها نحن نراهم اليوم ينكرون ما وصلت إليه هذه الجماعات من
استحلال لدماء المسلمين وقتل للمعصومين ! ، ولا غرابة في ذلك ، فهذه النتيجة وإن
كان الذين زرعوها لم يتوقعوها بهذه السرعة ، إلا إنها عند الدارسين للسنَّة من
النتائج الحتمية لهذا المذهب الفاسد .
ففي الصحيحين [13]:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ
السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ
الْأَوْثَانِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ" .
وقال في وصفهم كما في الصحيحين أيضاً [14]:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "
يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ
مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي
الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا
وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ".
وفي الصحيحين :
عن علي رَضِي اللَّه عَنْه
مرفوعاً " يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ
الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ
الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ
حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ
أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ومع ذلك نجد الصيحات ترتفع من كل مكان من قبل هؤلاء المنظرين ،
الذين يتظاهرون اليوم بإنكارهم لهذه الضلالات ، ولا ندري هل هذا تكتيك منهم! أم
توبة ، وهل إنكارهم من أجل المكان أم من أجل الزمان أم من أجل ذات العمل ،
وعلى كل حال فإن التائب اُشترط لتوبته ، أن يتنكر مما أخطأ فيه فيما مضى ، ويحذِر
منه ، وهؤلاء لم نسمع منهم كلمة واحدة تشير إلى أنهم كانوا على خطأ فاهتدوا ، بل
صرح كبيرهم في بيان له في مجلة مشهورة من مجلاتهم بأن على الحركة في هذه المرحلة
القادمة أن تتبنى مبدأ التورية كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ، فقد كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها !!
، قال " واليوم تأتي مواقف تحتاج الأمة فيها إلى التورية ضمن السياسة
الشرعية، ولكن ذلك لا يحدث خوفاً من الاتهام؛ لأن الاتهام عند آخرين جاهز لأدنى
احتمال دون تقدير للاعتبارات العلمية والمصالح الشرعية وبُعد النظر في العواقب
سواء في ميدان الجهاد أو الدعوة والإصلاح " ، ولا زالت البيانات تصدر منهم
تأكيداً لهذا المبدأ نصيحة وذكرى ! ، وفيها يؤكدون على ضرورة مراعاة مصلحة الدعوة
.
والمراقب لأطرواحاتهم !! قبل مرحلة السجن يجد أنها تختلف عنها بعد
السجن ففي مرحلة ما بعد السجن أصبحوا يسيرون على قاعدة " التورية " وقد
كنت قبل أن أقف على تصريحهم بوجوب الأخذ بهذه القاعدة أتعجب من بعض مواقفهم التي
تتعارض مع طريقتهم التي كانوا عليها قبل السجن ، بل إن بعض من كانوا معهم على نفس
المنهج والعقيده ناصبوهم العداء حتى أدى ذلك إلى انشقاق هذا التيار إلى جماعات
متعددة لكن الملاحظ يجد أنهم في الآونة الأخيرة بدأوا يعيدون ترتيب أوراقهم من
جديد وتم الاتفاق على أن هذا المنهج إنما هو تكتيك! وليس استراتيجية تقوم عليها
هذه الجماعة حسب اصطلاحاتهم الحركية نسأل الله العافية ، ولا حاجة لي إلى أن أذكر
القارئ بعقيدة التقية عند النجدية[15]
، { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}.
وإنني بهذه المناسبة أقول لكل من اغتر بكلامهم وظن فيهم الظن الحسن
وأن القوم تابوا وأنابوا أن يأخذ حذره وأن يسأل نفسه متى سمعهم يتبرأون من ماضيهم
الذي أنكر عليهم وهل سمعهم يمدحون علماء العصر المتفق على إمامتهم ، وهل سمعهم
يقررون عقيدة السلف في التعامل مع الحكام ، وهل سمعهم يبدعون من يقول بجواز الخروج
على الحاكم الجائر ، ويحذرون من الافتئات على ولي الأمر المسلم ، أما كلامهم عن
الجهاديين ! ، فهذه حرب أحزاب وانتصار للمنهج بعد ظهور كثير من الردود عليهم من
قبل بعض خصومهم من هذا التيار ، فلا تغتر بها .
● ولقد كنت أتمنى من كثير منهم أن يصرح بعقيدته أمام الملأ
في ولاة الأمر عندنا ويبين عقيدته في الخروج على الحاكم المسلم وفي مسألة الولاء
والبراء و أثرها في واقع الحكام والمحكومين ، وموقفهم من صاحب البدعة ، وكذلك
مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، مدعماً قوله بالكتاب والسنَّة وآثار السلف ، حتى
يستريح المحب ويستراح من المناويء ، فو الله إنَّا نتمنى أن يكونوا من أنصار
السنَّة ، وأعداء الخوارج ، وأما أن يسكتوا ويبرروا مواقفهم بالمصالح والمفاسد
فهذا دليل قاطع على أنهم على عقيدتهم القديمة ، وأن لمزهم للعلماء الربانيين وعدم
حث الشباب على الالتفاف حولهم دليل قاطع أيضاً على صحة ما قاله الإمام الأوزاعي :
" من أخفى عنَّا بدعته لم تخف عنَّا
ألفته " ، فوالله إن المسلم يكاد يلتبس عليه الحق مما يشاهده ويسمعه وهو يعلم
يقيناً مخالفته لطريقة السلف ، لكن تنتابه الحيرة حين يرى الكثرة تؤيد هذا المنهج
، و يرى قلة المنكرين .
ولله در سليمان بن يسار حين قال لابنه: " يا بني، لا تعجب ممن
هلك كيف هلك، ولكن اعجب ممن نجا كيف نجا " رواه ابن بطة في الإبانة ، فنسأل
الله أن يباعد بيننا وبين سبل أهل الأهواء .
● كما إنه من الملاحظ أنهم مع إنكارهم الذي أجبرهم عليه
المجتمع الذي يعيشون فيه ، أو ما يسمى بالرأي العام ، و قد جعلوا مراعاة الرأي
العام من أصول دعوتهم ، وكذلك الصفعات والردود التي تلقوها من هذا التيار الذي
ينعتونه بالتيار الجهادي !! ، تجدهم يحاولون بشتى الطرق أن يثبتوا للناس أن
أصحاب هذا الفكر ليسوا خوارج ، بل هم بغاة ، والعلاج الناجع معهم حينئذ هو
محاورتهم ومناظرتهم ، قالوا وإن أصر علماء السلطة !! على تسميتهم خوارج ، فلابد من
مناظرتهم كما فعل ابن عباس مع الخوارج الأولين ، وبعض السامعين لهذا الخطاب تنتابه
الحيرة ، وهو لا يعلم أن وراء الأكمة ما وراءها.
●فهم لن يسمحوا بوصف أهل هذا الفكر بأنهم خوارج ، حتى لا
ينقلب السحر على الساحر ، فهم يعلمون أن العقيدة واحدة وإنما الاختلاف في الأسلوب
، ولذلك أعلنوا في أول خطاب وجه منهم لتنظيم القاعدة بعد أحداث سبتمبر أن أعضاء
القاعدة افتأتوا على المشايخ ! .
بل بلغ بهم الأمر إلى دعوة الناس إلى التماس الأعذار لأصحاب تيار
العنف ، قال بعضهم في بيان للأمة " إن المسلم إذا اجتهد في نصرة الدين
والانتقام لإخوانه المسلمين من الكفار الظالمين، وإحداث النكاية فيهم فأخطأ فهو
مأجور على نيته وإن كان مخطئاً في عمله" ، وقال أيضاً منافحاً عن أعراضهم
"من استحل غيبتهم والوقوع في أعراضهم مسايرة لأعداء الله ومجاراة للمنافقين
والمفسدين في الأرض فهو أشد إثماً ممن فعل ذلك لحظ نفسه وهواه " .
● ولقد وصل الأمر ببعضهم أن يموه على الناس بقوله أن هؤلاء –
أي الذين ينعتون بالجهاديين - ينفذون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب "
، وهو يعلم أن اليهود بقوا في المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم و في
عهد أبي بكر رضي الله عنه ولم يخرجهم إلا عمر رضي الله عنه بعد أن استغنى المسلمون
عنهم ، وليس في الحديث أمر بقتلهم ! ، بل ولا نقض عهدهم ، وسيأتي بحث هذه المسألة
.
● الخوارج ليس كما هو شائع أنهم فقط الذين يكفرون بالمعاصي
كما يحاول بعضهم أن يؤصل هذه الفكرة في نفوس الناس إما مكراً منه أو جهلاً ، بل الذي عليه أهل العلم أن هذا الوصف يلحق
بأقوام دون ذلك ، وقد كنا بالأمس نرى بعض من أنكر على من وقع في الإرجاء يقول هم
مرجئة ولو قالوا : الإيمان قول وعمل ، بل تجرأ بعضهم ، ولا أدري هل هذا جهل منه أم
اتباع للهوى فقال : هم مرجئة ولو قالوا الإيمان قول وعمل يزيد وينقص حتى لا يبقى
منه شيء .
وقد جاء في شرح السنَّة للبربهاري [16]"
من قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء أوله وآخره " ومثله
جاء عن الإمام أحمد ، وفيه أيضاً [17]"
الإيمان قول وعمل ، وعمل وقول ، ونية وإصابة يزيد وينقص يزيد ما شاء الله وينقص
حتى لا يبقى منه شيء " ، وجاء مثل ذلك عن الأوزاعي وإسحاق بن راهويه ( انظر
اجتماع الأئمة على نصرة مذهب أهل السنَّة ) .
● واليوم رغم ظهور علامات الخوارج فيهم إلا أنهم لا يقرون
بذلك بل وضع بعضهم شروطاً وأوصافاً للخوارج لا تجدها حتى في الخوارج الأولين ،
فالتكفير بكل كبيرة و الحكم على صاحبها بالخلود في النار ، لا يوجد في بعض فرق
الخوارج المشهورة والمتفق على أنها من أكبر فرق الخوارج كالنجدية .
ففي مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ( 1/183) قال " وأصل قول الخوارج إنما هو قول
الأزارقة والأباضية والصفرية والنجدية وكل الأصناف سوى الأزارقة والأباضية
والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية " ، فالنجدية من رؤوس الخوارج كما ترى ،
ومع ذلك فقد وصفهم بأنهم لا يكفرون بكل كبيرة .
قال أبو الحسن الأشعري و هو يتكلم عن صفات الخوارج: " وأجمعوا
على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك ، وأجمعوا على أن الله يعذب
أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات أصحاب نجدة " ، وقد نقل هذا القول
عن الأشعري شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/461) دون أن يتعقبه .
لكن قد ذكر بعص المصنفين في الفرق خلاف هذا ، وكما قال شيخ الإسلام
(مجموع الفتاوى 13/49):
" وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم لم نقف لهم
على كتاب مصنف ".
لكن الذي يعنينا هنا أن من أثبت لهم هذه الصفة كالأشعري وشيخ
الإسلام عدوهم من الخوارج .
فسبحان الله كيف يعمل الهوى في أهله ، ما كانوا يقررونه بالأمس ،
أصبحوا اليوم ينقضونه ، قال الإمام أحمد : " لعن الله أهل البدع ، يقولون ما
لهم ويتركون ما عليهم " .
● وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله من أعرف الناس بأهل البدع
وحكمهم في الشرع وها هو في هذا النقل النادر ، الذي يذكره عنه ابن كثير تلميذه
يحكم على طائفة من المسلمين ظهرت في عصره ، أنهم يقاتَلون قتال الخوارج رغم
اختلافهم عن الخوارج في خصال كثيرة .
قال ابن كثير في البداية والنهاية (14/23) :
" وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو فإنهم
يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه
فقال الشيخ تقي الدين هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية
ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين
ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم
منه بأضعاف مضاعفة فتفطن العلماء والناس لذلك وكان يقول للناس إذا رأيتموني من ذلك
الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم
ولله الحمد " .
فتأمل قوله في وصفهم وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق ، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من
المعاصي والظلم .
وفي الاقتضاء (1/75) قال شيخ الإسلام:
" روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ
وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ
رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ
يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي
يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي
لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ )، ذكر صلى الله عليه وسلم
في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من
البغاء والعداة وأهل العصبية"
ثم قال " والقسم الثالث ، الخوارج على الأمة إما من العداة
الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم ، أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل مصر ،
الذين هم تحت حكم غيره مطلقاً وإن لم يكونوا مقاتلة أو من الخارجين عن السنَّة
الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقاً كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه
" .
فتأمل كيف جعل العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم ،
أو غرضهم الرياسة من الخوارج .
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة الحسن بن صالح (
7/363) :" دخل سفيان الثوري يوم
الجمعة من الباب القبلي فإذا الحسن بن صالح يصلي فقال نعوذ بالله من خشوع النفاق
وأخذ نعليه فتحول إلى سارية أخرى " .
والحسن بن صالح قال فيه الإمام الذهبي ، هو من أئمة الإسلام لولا
تلبسه ببدعة.
قلت : وبدعته أنه كان يرى جواز الخروج على أئمة الجور .
قال أبو سليمان الداراني " ما رأيت أحداً الخوف أظهر على وجهه
والخشوع من الحسن بن صالح قام ليلة بـ عم يتساءلون - النبأ - فغشي عليه فلم يختمها
إلى الفجر " ، وروى عن الحسن بن صالح أنه كان إذا نظر إلى المقبرة يصرخ ويغشى
عليه ، قال أبو سعيد ، سمعت ابن إدريس وذُكر له صعق الحسن بن صالح فقال: تبسم سفيان أحب إلينا من صعق الحسن .
فهذا من أئمة الإسلام كما نعته بذلك الذهبي لكن عد من الخوارج
لموافقته إياهم في مسألة واحدة .
● إن فهم المسألة السابقة يزيل الشبهة العالقة في أذهان كثير
من طلبة العلم فيما يتعلق بقتال الخوارج ، ويبين خطأ من عد كثيراً من الخارجين في
هذا العصر من البغاة لكونهم لا يكفرون بكل كبيرة ، ويبين لك كذلك تهافت ما يسمى
بمبادرات الصلح .
فقد إتفق سلف الأمة وأئمتها على قتال الخوارج وفرقوا بينهم وبين
البغاة ، فلم يتنازع الصحابة فى قتال الخوارج كما تنازعوا فى القتال يوم الجمل
وصفين .
وقد عرف عن الصحابة رضي الله عنهم التفريق بين قتال الخوارج و قتال
أهل البغي فقد سلكوا في قتال الخوارج وأهل الردة مسلكاً لم يسلكوه في قتال أهل
البغي وإن كانوا يفرقون في الحكم بين الخوارج وأهل الردة كما سيأتي .
يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه [18]:
" تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "
فذكر في هذا الحديث ثلاث طوائف فدل أن حكم الطائفة الثالثة وهي
المارقة يختلف عن حكم الطائفتين الأخريين .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 28/515):
" قتال مانعى الزكاة
والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة
المتقدمين وهو الذى يذكرونه فى إعتقاد أهل السنَّة والجماعة وهو مذهب أهل المدينة
كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا فى
غير موضع حتى فى الأموال فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج وقد نص أحمد فى
رواية أبى طالب فى حرورية كان لهم سهم فى قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم
المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين فيقسم خمسة على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا
يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد
عنوة ووقفه على المسلمين فجعل أحمد الأرض التى للخوراج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من
أموال الكفار وبالجملة فهذه الطريقة هى الصواب المقطوع به فإن النص والإجماع فرق
بين هذا وهذا وسيرة على رضى الله عنه تفريق بين هذا وهذا فإنه قاتل الخوارج بنص
رسول الله وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة وأما القتال يوم صفين فقد ظهر
منه من كراهته والذم عليه ما ظهر وقال فى أهل الجمل وغيرهم إخواننا بغوا
علينا طهرهم السيف وصلى على قتلى
الطائفتين "
والباحث يجد في بعض كتب الفقهاء
عدم التفريق بين قتال البغاة وقتال الخوارج وقد أنكر عليهم شيخ الإسلام هذا الأمر
.
ففي مجموع الفتاوى (28/486) :
قال شيخ الإسلام "ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه
المسائل فى مختصراتهم وكثير من الأئمة المصنفين فى الشريعة لم يذكروا فى مصنفاتهم
قتال الخارجين عن أصول الشريعة الإعتقادية والعملية كمانعى الزكاة والخوارج ونحوهم
إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام كأهل الجمل وصفين وهذا غلط بل الكتاب والسنة
وإجماع الصحابة فرَّق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث
والتصوف والكلام وغيرهم ".
فالخارجون على الإمام أحد صنفين ، صنف خرجوا بتأويل سائغ وهم
موافقون لأهل السنة في باقي مسائل العقيدة فهذا الصنف يُعد أصحابه من البغاة ،
وهؤلاء لم يأت الأمر بقتالهم إلا بعد الإصلاح لقوله تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (9) سورة الحجرات .
وذلك أن مقاتلتها بعد الإصلاح من المؤشرات على بغيها فحينئذ لا يعد
قتالها من قتال الفتنة ، لأن الله أمر به ، وكذلك كل من ظهر بغيه لايعد قتاله من
قتال الفتنة . قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 4/ 442 ) " والقرآن إنما فيه
قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال فإنه قال تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الآية ، ](9) سورة الحجرات [ فلم يأمر بالقتال إبتداءً مع واحدة من الطائفتين
لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية " .
وقال ( مجموع الفتاوى 4/ 443 )
" فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة يكون قبل البغى وما ورد من
الوصف بالبغى يكون بعد ذلك " .
قلت : وفرق بين من خرج بتأويل سائغ كما في الصنف السابق ، ومن
يعتقد جواز الخروج على الحاكم الجائر ولو لم يباشر الخروج ، فالأول من البغاة
والثاني من الخوارج و سيأتي ذكر الدلائل على ذلك وبيان متى يحكم على تأويل
الخارجين بأنه سائغ أو غير سائغ ، وأن مرد ذلك إلى أهل الحل والعقد .
ومن أصناف الخارجين صنف ليس لهم تأويل سائغ أو أنهم وافقوا الخوارج
في كثير من اعتقاداتهم فهؤلاء يقاتلون قتال الخوارج وإن لم نحكم بكفرهم ، ويختلفون
عن القسم الأول في أن قتالهم مرَّغب فيه كما قال النبي " فَإِذَا خَرَجُوا
فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا
فَاقْتُلُوهُمْ فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ." رواه
أحمد في المسند وفي السنة بإسناد جيد .
وأما من قال بقتل أسيرهم وإتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم فقد
بنى قوله هذا على تكفيرهم ، والله أعلم .
قال الحافظ ( الفتح 12/353) : " وقال الغزالي في الوسيط تبعاً
لغيره في حكم الخوارج وجهان أحدهما أنه
كحكم أهل الردة والثاني أنه كحكم أهل البغي ورجح الرافعي الأول ، وليس الذي قاله
مطرداً في كل خارجي فانهم على قسمين أحدهما من تقدم ذكره [19]
والثاني من خرج في طلب الملك لا للدعاء الى معتقده وهم على قسمين أيضا قسم خرجوا
غضباً للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنَّة النبوية فهؤلاء أهل حق ، ومنهم
الحسين بن علي وأهل المدينة في الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج ، وقسم خرجوا
لطلب الملك فقط سواء كانت فيهم شبهة أم لا ، وهم البغاة وسيأتي بيان حكمهم في كتاب
الفتن وبالله التوفيق " .
وأما وصف من خرج من أهل السنة بأنهم أهل حق فهذا قبل انعقاد
الإجماع على عدم جواز الخروج ، قال الحافظ نفسه في تهذيب التهذيب عند ترجمة الحسن
بن صالح (2/250) " وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة
الجور وهذا مذهب للسلف قديم لكن أستقر
الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث
وغيرهما عظة لمن تدبر" .
وينبني على هذا كما قررنا سابقاً أن من خرج بغير تأويل سائغ فإنه
يقاتل قتال الخوارج ولا يعد من البغاة بأي حال من الأحوال ، لا كما قرر الحافظ
رحمه الله .
فلم يبق من مسوغات الخروج إلا ما ذكره النبي في قوله " إِلَّا
أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ " ،
وسيأتي زيادة بيان لهذه المسألة .
● أما تكفير الخوارج فقد صرح جماعة من العلماء بكفرهم ، قال
الحافظ وهو ظاهر صنيع البخاري حيث قرنهم بالملحدين وأفرد للمتأولين باباً آخر ،
وممن صرح بكفرهم القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي قال : الصحيح إنهم كفار
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( يمرقون من الدين ) ولقوله (لأقتلنهم قتل عاد) وفي
لفظ ( ثمود ) وكل منهما إنما هلك بالكفر ، ولقوله ( هم شر الخلق ) ولا يوصف بذلك
إلا الكفار ، ولقوله ( إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى ) ولحكمهم على كل من خالف
معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم .
قال الخطابي وهو ممن يرى عدم كفرهم ، فيكون معنى قوله صلى الله
عليه وسلم يمرقون من الدين ، أراد بالدين الطاعة أي أنه يخرجون من طاعة الإمام
المفترض الطاعة وينسلخون منها.
لكن جاء في بعض الروايات في الصحيحين " يمرقون من الإسلام
" فيكون المعنى أن تشددهم هذا يوصل بعضهم إلى الكفر.
● فالراجح عدم كفرهم يدل على ذلك أمور منها أن من المقرر ، أن
الخلل في التدين يأتي إما من جهة الإخلاص أو من جهة الاتباع وهما نوعا التوحيد ،
توحيد العبادة وتوحيد الاتباع ويدل عليهما شطرا الشهادتين كما ذكر ابن أبي العز في
شرح الطحاوية ، فالخوارج أتوا من جهة الإتباع ولو كان الخلل من جهة الإخلاص لحكم
بكفرهم لظاهر النصوص .
وأما تكفيرهم للمسلمين فهم فعلوا ذلك متأولين فلا ينطبق عليهم قول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم " من
كفَّر مسلماً فقد كفر " .
وأما تكفيرهم بالتكذيب لشهادة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض
الصحابة بالجنة بشهادتهم له بالنار فلا سبيل إليه لأنه لم يثبت عندنا أنهم علموا
هذه الشهادة فكذبوها .
وقد نقل شيخ الإسلام
إجماع الصحابة على عدم كفرهم ، قال الشيخ
الإمام عبد الرحمن بن حسن في الدرر( 8/
270) " الصحيح الذي قاله الأكثرون المحققون : أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم "
قال شيخ الإسلام ( منهاج السنة 5/247) : " ومما يدل على أن
الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله
عنه وغيره من الصحابة يصلون خلف
نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم
كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه
في البخاري [20]
وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما
يتناظر المسلمان وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم
الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث
الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث
الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم
لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في
قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم
وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم
والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا
فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة وهكذا سائر فرق أهل البدع
والأهواء من الشيعة والمعتزلة "
وحجة من قال بعدم كفرهم ما جاء في الصحيحين [21]:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ
مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي
الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا
وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ *
فقوله " وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ " ، الفوق هو الحز
الذي في آخر السهم والمعنى ، يشك هل علق به شيء من الدم واللحم ، ذكر ذلك ابن عبد
البر في التمهيد والحافظ في الفتح وهذه اللفظة من حجج من قال بعدم كفرهم والله
أعلم .
● الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، لا يزالون
يخرجون في كل عصر وفي كل مصر وإن اختلفت أوصافهم ، وذلك لأن سبب ظهور الخوارج في
الأصل ، التأويل الفاسد والإنعزال عن العلماء والطعن فيهم وفي الحكام ، قال شيخ
الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/496 ) :
" فهؤلاء أصل ضلالهم إعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين
أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون" .
والخوارج لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال ففي سنن
النسائي [22]
بسند صحيح كما قال الحافظ:
" لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ
الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ
الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ " .
وفي هذا رد على من حاول أن يشكك في حديث الفرق وأراد أن يتلاعب في
النصوص تحت شعار كيف نختلف !! .
● والخوارج لهم صفات يعرفون بها ، لكن ينبغي أن يعلم أن بعض
هذه الصفات عرفت عنهم بالتتبع والاستقراء وكلام العلماء ، ولا يشترط في كل صفة
تذكر عنهم أن يقروا بها ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (13/49) : "
و أقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم لم نقف لهم على كتاب مصنف "
كما أن الخوارج لا يعرفهم كثير من الناس لأن أهل البدع بصفة عامة
لا يستطيع تمييزهم عامة الناس إلا إذا كانوا أهل منعة وشوكة أو أن يكونوا منعزلين
عن المخالفين لهم ، قال شيخ الإسلام في
كتاب النبوات (1/139) :
" وكذلك الخوارج لما كانوا أهل سيف وقتال ظهرت مخالفتهم
للجماعة حين كانوا يقاتلون الناس وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس".
● ولذلك كان السلف يستدلون على معرفة أهل البدع بأمور لا يقر
بها كثير من أهل العصر من ذلك مدخل الرجل ومخرجه وألفته ، كما قال الأوزاعي "
من أخفى عنا بدعته لم تخف عنا ألفته " .
ومن ذلك تنقصه لأهل العلم كما قال أبو حاتم وأبو زرعة " علامة
أهل البدع الطعن في أهل الأثر " .
ومن ذلك عدم تحذيره من أهل البدع كما قال بعض السلف " إذا
رأيت الرجل يحب القوم فاعلم أنه قد رضي هديهم " .
وهدي السلف في التعامل مع أهل البدع يجهله كثير من الناس ، قال أبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف " أصحاب
الحديث يبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا
يصحبونهم" .
وقد كان السلف يحذرون من أمور يعد أهل العصر
التحذير منها من عظائم الأمور ، فهذا الحارث المحاسبي ، قال الخطيب ، تاريخ بغداد
(8/211): " وللحارث كتب كثيرة في
الزهد وفي أصول الديانات والرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة وغيرهما".
وقال فيه الذهبي (سير أعلام النبلاء 12/112) : " المحاسبي كبير القدر وقد دخل
في شيء يسير من الكلام " ، لكن عندما سئل أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وكتبه،
قال للسائل: " إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر ، قيل له
في هذه الكتب عبرة فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة ثم
قال، ما أسرع الناس إلى البدع " ، (انظر أيضاً ميزان الاعتدال 2/165، تاريخ بغداد (8/211) وما
بعدها )
وسئل عنه الإمام أحمد: "فقال ذاك رجل سوء،
لا تكلمه ولا كرامة ".
وعندما
سئل الإمام أحمد عن حسين الكرابيسي قال "مبتدع".
بينما نجد الذهبي يثني عليه ويصفه بأنه من بحور
العلم وأوعيته ، قال الذهبي "
ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في مسألة التلفظ وأنه مخلوق هو حق لكن أباه
الإمام أحمد لئلا يتذرع به إلى القول بخلق القرآن فسد الباب ، لأنك لا تقدر أن
تفرز التلفظ من الملفوظ الذي هو كلام الله إلا في ذهنك "(انظر سير أعلام
النبلاء 12/79)
قلت : فلو كان الإمام أحمد في عصرنا هذا لقال أهل الأهواء ما أبقى
أحداً .
● والذي يحذَّر منه هو من كان يحدث منه ضرر على المسلمين في
أمر دينهم كأن يعلمهم أموراً مخالفة لاعتقاد أهل السنة والجماعة أو أنه يسبب لهم
فتنة تضرهم في الدين أو الدنيا .
وأمر هذا المخالف الذي يحذَّر منه يعرف بالتتبع أو الاستفاضة أو
بما هو أقل من ذلك كما سبق .
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ( 2/28 ) " مسألة في
الشهادة عن العاصي والمبتدع هل تجوز بالاستفاضة والشهرة أم لا بد من السماع
والمعاينة وإن كانت الاستفاضة في ذلك كافية فمن ذهب إليه من الأئمة وما وجه حجته والداعي
إلى البدعة والمرجح لها هل يجوز الستر عليه أم يتأكد إشهاره ليحذره الناس وما
حد البدعة التي يعد فيها الرجل من أهل الأهواء.
الجواب : ما يجرح به الشاهد
وغيره مما يقدح في عدالته ودينه فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد به بالاستفاضة ويكون
ذلك قدحاً شرعياً كما صرح بذلك طوائف الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية
وغيرهم في كتبهم الكبار والصغار صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحاً مفسراً أنه يجرحه
الجارح بما سمعه منه أو رآه واستفاض ، وما أعلم في هذا نزاعاً بين الناس فإن
المسلمين كلهم يشهدون في وقتنا في مثل عمر بن العزيز والحسن البصري وأمثالهما
والذين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف والمختار بن
أبي عبيد وعمرو بن عبيد وغيلان القدري وعبد الله بن سبأ الرافضي ونحوهم من أهل
الظلم والبدعة بما لا يعلمونه إلا بالاستفاضة
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً
فقال وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها
شراً فقال وجبت وجبت قالوا يا رسول الله ما قولك وجبت
وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها
خيراً فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة
أثنيتم عليها شراً فقلت وجبت لها النار
أنتم شهداء الله في الأرض .
هذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته وأما إذا كان
المقصود التحذير منه واتقاء شره فيكتفي بما دون ذلك
كما قال عبد الله بن مسعود اعتبروا الناس
بأخدانهم وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً يجتمع إليه الأحداث فنهى عن
مجالسته فإذا كان الرجل مخالطاً في السر لأهل الشر يحذر عنه ، والداعي إلى البدعة
مستحق العقوبة باتفاق المسلمين وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه كما قتل
السلف جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهم ولو قدر أنه لا يستحق
العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلا بد من بيان بدعته والتحذير منها فإن هذا من جملة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله والبدعة التي يعد بها
الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة"
.
ومن تعظيم أهل البدع ذكر محاسنهم فقد وروى
ابن أبي الدنيا: عن أبي صالح المروزي قال سمعت رافع بن أشرس قال كان يقال: من
عقوبة الكذاب أن لا يقبل صدقه، وأنا أقول: من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر
محاسنه .
قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: "
اسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة " .
ثم
روى بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( مثل المنافق في
أمتي كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تصير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري
أيهما تتبع)[23].
● والشيطان يفرح بالبدعة أكثر من فرحه
بمعاصي الشهوات قال سفيان [24] " البدعة أحب إلى
إبليس من المعصية ، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها " ، و عن أيوب
السختياني قال [25] " ما ازداد صاحب
بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً " وقد كان بعض السلف يتمنى أن يقع
ابنه في الزنا وشرب الخمر ولا يقع في الأهواء والبدع قال يونس بن عبيد لابنه [26] " أنهاك عن الزنى
والسرقة وشرب الخمر ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو
" .
وقال سلام بن أبي مطيع أبو سعيد الخزاعي [27]" لأن ألقى الله
بصحيفة الحجاج أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفة عمرو بن عبيد".
● فالحذر الحذر من البدع وأهلها ولو وصفهم
الجاهل بهم بوصف العلماء فهذا عمرو بن عبيد وإن كان قد استقر في عصرنا أنه من
المعتزلة إلا أن الأمر كان على خلاف ذلك في عصره فقد كان يدافع عنه كبار العلماء
في ذلك العصر لجهلهم بحقيقة أمره خاصة وأنه كان من الخطباء المفوهين والوعاظ
الزاهدين حتى إنه كان يجلس في مجلس المنصور فلا يقوم إلا وقد أبكى المنصور ومن معه
لقوة وعظه وقد كان يقول المنصور لجلسائه : كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو
بن عبيد ، غره لزهده ، وكان يقول نثرت الحب
لجلسائي فالتقطوه إلا عمرو بن عبيد .
وعمرو بن عبيد له من
التآليف ما يجعل السامع بها يظن أن الرجل من كبار أهل السنة فمن ذلك كتاب التوحيد
والرد على القدرية مع أنه زعيمهم لكن ما كان يقر بذلك ،
وما أشبه الليلة بالبارحة فكم رأينا خارجيا يؤلف في ذم الخوارج وفي ضوابط التكفير
وهو منهم .
وفي الباب قول الإمام أحمد
عندما قال له رجل بجانبه " اتق الله يا أبا عبد الله فهذه غيبة فقال : اسكت
ياجاهل أن لم أتكلم أنا ويتكلم غيري فكيف يعرف الناس " وكذلك قيل ليوسف بن
أسباط : لما تحذر من الحسن بن صالح ، أليس كلامك فيه غيبة ؟! ، فقال : ( لم يا
أحمق ؛ أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم ، وأنا أنهى الناس أن يعملوا بما
أحدثوا فتتبعهم أوزارهم ومن أطراهم كان أضرّ عليهم ) .
فنقول لكل أحول وكل جاهل وكل أحمق نحن خيرٌ لهؤلاء الذين نحذر منهم من آبائهم
وأمهاتهم ، نحن ننهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم ومن أطراهم كان
أضرّ عليهم ، أضف إلى ذلك أن هذا من أعظم
الجهاد ومن النصيحة في الدين .
قال الذهبي " هو الذي
كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان وبالحضرة رؤوس المعتزلة
والرافضة والقدرية وألوان البدع ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية وكان يرد على
الكرامية وينصر الحنابلة عليهم بينه وبين أهل الحديث عامر وإن كانوا قد يختلفون في
مسائل دقيقة فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام " .
وكذلك
انخدع البيهقي بابن فورك فوقع في الأشعرية ، وانخدع عبد الرزاق الصنعاني بعبادة وزهد
جعفر بن سليمان الضبعي، فوقع في حبائل التشيع .
● فماذا يقول أهل الأهواء بعد هذا و ماذا يقول الذين ينادون
بمبدأ الموازنات الذي جعلوه ستاراً لهم يستر بدع أصحابهم ويستر موالاتهم وحبهم
لأهل البدع ، فهل آن لهم أن يعترفوا بجهلهم بهذا العلم ، علم الجرح والتعديل ، وهل
آن لهم أن يعطوا القوس باريها ، أرجو ذلك والله المستعان على ما يصفون.
وهذه المسألة المهمة المتعلقة بمعرفة أهل البدع وتمييزهم والتعامل
معهم والتحذير منهم ، ينبغي أن يتفقه فيها طالب العلم لأنه بمعرفتها تنحل له إشكالات
كثيرة ، بل أن الباحث يجد أن الخوارج الأولين المتفق على ضلالهم قد استشكل أمرهم
على أهل عصرهم كما سيأتي فكيف بمن يظهرون الانتساب إلى السنَّة في هذا العصر وهم
خوارج شعروا أم لم يشعروا .
● وفي الحقيقة أن المتأمل في حال أهل العصر يجد أن أولئك
الذين أُنكر عليهم من أصحاب تيار العنف ، يعتقدون أن الحكم بغير ما أنزل الله
وتحكيم القوانين كفر أكبر على الإطلاق ، وكذلك المنكرون عليهم ، الذين ينسبون إلى
ما يسمى بتيار الإصلاح ! أو التيار التربوي ، بل أنهم في هذه المسألة خاصة وهي أم
المسائل عندهم يعتذرون لتيار العنف أصحاب التفجيرات حتى قال بعض كبار رموزهم في
اتصال له مع إحدى القنوات " قضية التكفير تكثر وتُتداول، يجب على الدولة أن
تعالج هذه المشكلة، يعني.. يعني تلغي كل القوانين الوضعية، وتتحاكم فعلاً إلى
الشريعة، وتعدِّل نظام القضاء، وتلغي المعاهدات والولاءات يعني غير الشرعية، وتزيل
المنكرات التي تستفز هؤلاء ".
وهذا القائل له مواقف مضطربة لكنه في الآونة الأخيرة نُبه على
مسألة يعرفها أرباب السياسة وهي كما وصفها بعضهم : أن أي بلد محتل في الدنيا ..
هناك ظاهرة .. تحدث دوما بشكل طبيعي .. تخرج حركة مسلحة تسمى ( المقاومة المسلحة
للاحتلال ) .. هذه المقاومة .. يستفيد منها مفكروا البلد والمثقفون في ترتيب
المطالب .. بحيث عندما يقتنع الخصم المحتل من خلال الضربات العسكرية التي توجهها
له المقاومة .. أنه حان الوقت ليستمع لمطالب المقاومة ويبدأ بالسعي لمعرفتها يجلس
معهم للتفاوض .. والعسكريون عادة لا
يحسنون الحديث والتفاوض ، ولذا يقوم بتمثيلهم المثقفون والمفكرون في المفاوضات مع
المحتل ويسمع المحتل من المفكرين والمثقفين ماذا تريد حركة المقاومة وما هي
مطالبها .. فيكونون هم الواجهة الفكرية لحركة المقاومة المسلحة .. هذا يحدث في كل
بلد ولو تابعتم تواريخ الثورات في جميع البلدان لوجدتم جهة فكرية تتبنى أن تكون
واجهة للحركة المسلحة ....، أهـ .
فأراد أن يفوز بهذا المنصب ولذلك كانت مبادرته التي طبّل لها
أتباعة أول خطوة في هذا الطريق .
وعندما سئل صاحب هذا القول في لقاء معه في إحدى قنواتهم عن رأيه في
اشتراط الشيخ ابن باز والشيخ الألباني
الاستحلال في كفر من يحكم بالقوانين أجاب بأن اشتراط الاستحلال زلة عالم ثم
شرع يبين للمشاهدين أن أهل السنة لا يشترطون الاستحلال في الكفر! ، وهو يعلم أن الخلاف بينه وبين الشيخين في كون الحكم بغير ما أنزل الله هل هو من الشرك
الأكبر فحينئذ لا يشترط الاستحلال أم أنه من الأصغر الذي يشترط فيه الاستحلال
بالإجماع ، والشيخان يقولان بالثاني ، فما
كفاه أن يتهم الشيخ الألباني بالإرجاء في ظاهرته وإذا به الآن يلحق به الشيخ ابن
باز ، فقاتل الله الهوى .
وهو من الذين يصرحون بأن تحكيم القانون كفر على الإطلاق ففي بعض
كتبه قال " فبعد أن قال الله { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى
الطَّاغُوتِ { أكد ذلك بقوله } وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } ](60) سورة النساء[ وهذا من أصرح الأدلة على أن تحكيم غير الشرع كفر
وأن تحكيم القانون كفر " .
وهذا بسبب الأخذ بإطلاقات النصوص وتعظيم نصوص الوعيد كما سيأتي ،
بل قد ظهر لي أنه لا يقول بالتفصيل الثابت عن ابن عباس في آية الحكم وقد حذفه من
بعض كتبه ، ولم يشر إليه في موضعه في بعضها .
● فالنتيجة كما ترى عند الفريقين أن الحكام كفار خارجون عن
ملة الإسلام ، وإنما الفرق بين الطائفتين أن أولئك الذين أُنكر عليهم يصرحون بهذا
، ويرتبون عليه الأحكام الواردة في الشرع في باب حكم المرتد وأما هؤلاء فيلجأون
إلى التورية . ومسألة الحكم بغير ما أنزل الله قد وقع الخلاف فيها بين أهل العصر ،
لكن ينبغي أن نفرق بين الخلاف الذي في دائرة أهل السنة والجماعة ولو كان خلاف تضاد
، والخلاف الذي يقع خارج هذه الدائرة ويضلل به صاحبه .
والخلاف في هذه المسألة على أربعة أقسام اثنان منها من أقوال أهل
البدع كمن عد الحكم بغير ما أنزل الله على مرتبة واحدة وأنه مخرج من الملة وعمد
إلى تضعيف أثر ابن عباس في قوله " كفر دون كفر " ، فهذا قول الخوارج
بالإجماع كما نقل ذلك ابن عبد البر والقول الثاني من فرق لكنه جعل تحكيم القوانين
كفر لذاته فهذا يلحق بالقول الأول . وأما القولان الآخران فهما من أقوال أهل
السنَّة كمن جعل تحكيم القوانين دليلاً على الاستحلال ، فهذا القول مرده إلى القول
الثاني وهو ، أن الحاكم لا يكفر إلا أن يكون جاحداً أو مستحلاً ، وسيأتي تفصيل هذه
المسألة المهمة .
كما أن أولئك الذين أُنكر عليهم يعتقدون أن موالاة الكفار ولو
بكلمة ، كفر يخرج صاحبه من الملَّة وكذلك هؤلاء دعاة الإصلاح والفرق بينهما ما سبق
.
● وأما ما يتعلق بالموالاة فقصة حاطب عندما أرسل كتاباً إلى
مشركي مكة يخبرهم فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم على قتالهم نص قاطع
للنزاع في المسألة ، فالخلاف فيها على أربعة أقسام ثلاثة منها باطلة كمن قال إن
فعل حاطب ليس كفراً ، وبنى عليه أن الواقع فيه لا يكفر مطلقاً ، لكن الآية
المذكورة في سبب النزول تثبت أن فعل حاطب من الموالاة المنهي عنها ، وبذلك تعلم
بطلان هذا القول .
والقول الثاني : من قال إن فعل حاطب كفر لكنه لم يكفر لسابقته في
بدر ، وهذا قول من لم يفقه معنى التوحيد .
والقول الثالث : من قال إن فعل حاطب كفر لكنه لم يكفر لأنه كان
متأولاً وهذا أيضاً قول باطل وإن كان قد قال به بعض أهل السنة ، لكنهم لم يبنوا
عليه كما يفعل خوارج العصر ، ولكن كان غرضهم من ذلك تبرئة حاطب من الوقوع في الكفر
، والله أعلم .
والقول الرابع : أن فعل حاطب محتمل للأمرين الكفر ، أو ماهو دونه ،
حسب الغرض الحامل له على الموالاة ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال " ياحاطب ما حملك على ما
صنعت " .
وهذا نص صريح على عدم التكفير بالموالاة دون النظر إلى الحامل
عليها ،لأن من وقع في الكفر من غير جهل ولا إكراه ، لا يقال له ذلك ، فلو سجد رجل
لصنم ولم يكن جاهلاً ولا مكرهاً فهل يقال
له ما حملك على ما صنعت !! .
قال ابن كثير رحمه الله ( التفسير 4/348) " ولهذا قبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لَمّا ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعةً لقريش لأجل
ما كان له عندهم من الأموال والأولاد"ا.هـ .
قال الشافعي رحمه الله
(4/249) " وليس الدلالة على عورة
مسلم ولا تأييد كافر بأن يُحذِّر أن المسلمين يريدون منه غِرَّةً ليحذرها أو يتقدم
في نكاية المسلمين بكفرٍ بَـيـِّنٍ ا.هـ ."
فالمقرر عند العلماء التفريق في الموالاة بين ماكان من أجل غرض
دنيوي ، وما كان من أجل غرض آخر ، وسيأتي تفصيل هذه المسألة .
● كما أن أولئك أصحاب تيار الغلو ، يعتقدون أن الحاكم كافر
وأنه لا ولاية للكافر على المسلم بإجماع أهل العلم ، وهؤلاء أصحاب تيار الإصلاح
وإن كانوا لا يصرحون بكفر الحكام ، إلا أنهم زيادة على ذلك ، يعتقدون جواز الخروج
على الحاكم الجائر ولو كان مسلماً ، فأي الفريقين أشد خطراً. أولئك يكفِّرون
بالحكم بغير ما أنزل الله لذاته و بالموالاة للكفار مطلقاً ، وهؤلاء زيادة على ذلك
، لا يفرقون بين الاستحلال العملي والاستحلال الاعتقادي ويرون أنهما يخرجان من
الملة ، وأدى بهم هذا الاعتقاد إلى التكفير بالمعاصي ، لذلك تراهم دائما يدندنون
حول شرك المحبة وشرك الطاعة وينكرون على من يدندن على ما يسمونه بشرك القبور حتى
اخترع بعضهم تسمية الشرك الحضاري في مقابلة الشرك البدائي وشرك القصور في مقابلة
شرك القبور ، فنسبوا إلى الأنبياء وأتباعهم إنكار الشرك البدائي وإلى أنفسهم
الحضاري. فما الفرق بين الفريقين ، لا فرق ، إلا أن هؤلاء يقولون بألسنتهم ما ليس
في قلوبهم وأولئك باعوا أنفسهم للهوى والشيطان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
● وعلى كل حال فإن القاعدة التي يسير عليها دعاة الإصلاح أو
التيار التربوي ! مع من خالفهم في الأسلوب من أصحاب تيار العنف هي ما صرح بها أحد
منظريهم عند الكلام عن الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي
المعاصر تحت عنوان: عدم التورط في إدانة بقية الفصائل العاملة للإسلام .
قال " ولهذا, فإن المشتغلين في هذا المجال مدعوون إلى توثيق
الصلة مع الفصائل العاملة للاسلام كافة, والحذر من اسقاط الشرعية من أعمالهم
الدعوية أو الجهادية ولو بإشارة عارضة, إلا إذا كان ذلك ضمن منظومة كاملة من
التنسيق والتكامل. وسبيلهم إلى ذلك ما يلي:
● التأكيد على أن العمل السياسي هو أحد المجالات التي تمارس
من خلالها الحركة الإسلامية دعوتها الشاملة للإصلاح والتجديد. وأن العمل لنصرة
الإسلام لا ينحصر في هذا الإطار . وأنها إن كانت رابطت على هذا الثغر, فإن بقية
الفصائل العاملة للإسلام مدعوة للمرابطة على بقية الثغور.
● عدم التورط في إدانة الفصائل الأخرى العاملة للإسلام إدانة
علنية تحت شعار الغلو والتطرف, مهما تورطت هذه الفصائل في أعمال تبدو منافية
للاعتدال والقصد والنضج.
فإن كان لا بد من حديث للتعليق على بعض هذه الأعمال الفجة فليبدأ
أولا بإدانة الإرهاب الحكومي في قمع الإسلام, والتنكيل بدعاته والذي كان من نتائجه
الطبيعية هذه الأعمال, التي تبدو غالية وحادة, والتي تمثل رد فعل متوقع لما تمارسه
الحكومات من تطرف في معاداتها للإسلام, وغلو في رفضها لتحكيم شريعته . وأنه لا
سبيل إلى حسم هذه التداعيات, وسد الذريعة إلى التطرف من الفريقين إلا بتحكيم
الشريعة وإقامة كتاب الله في الأمة, فيردع الغلاة والجفاة.
وذلك لأن الإدانة المطلقة لهذه الأعمال الجهادية ستكرس بطبيعة
الحال الخصومة مع هذه الفصائل, وتملأ ساحة العمل الإسلامي بالفتن والتهارج, اللهم
إلا إذا كان ذلك - كما سبق - بتنسيق مسبق وتوزيع متبادل للأدوار.
وإن الجاهلية لأحرص ما تكون على استنطاق الإسلاميين في هذه
المجالس, لإدانة الأعمال الجهادية التي تقوم بها الفصائل الأخرى, تحت شعار نبذ
الإرهاب, ومحاربة التطرف, وسوف تمارس من الضغوط في ذلك ما لا يقوى على لأوائه إلا
الصابرون, وقد تتهمهم بالتواطؤ مع المتورطين في هذه الأعمال, إن لم يصدر عنهم
إدانة صريحة لها, وبراءة ظاهرة من أصحابها. وهي بذلك تحقق أهدافها بكل دقة, فتشقق
التيار الإسلامي وتؤجج الفتن بين فصائله من ناحية, وتنكل بهذه التيارات الجهادية
بكل شرعية من ناحية أخرى.
ومن هنا تأتي ضرورة الحرص البالغ والدقة المتناهية فيما يصدر عن
الإسلاميين في هذه المجالس , من تصريحات ومقولات تمس إحدى هذه الفصائل ، هذا, ولا
يبعد القول بأن مصلحة العمل الإسلامي قد تقتضي أن يقوم فريق من رجاله ببعض هذه
الأعمال الجهادية, ويظهر النكير عليها آخرون, ولا يبعد تحقيق ذلك عمليا إذا بلغ
العمل الإسلامي مرحلة من الرشد, أمكنه معه أن يتفق على الترخص في شئ من ذلك,
ترجيحاً لمصلحة استمرار رسالة الإسلاميين في هذه المجالس بغير تشويش ولا إثارة
"، انتهى.
● وعلى كل حال فهم يسعون إلى جمع الحركات الإسلامية والدعاة
تحت مظلة أهل السنة والجماعة وضابط ذلك عندهم أن كل من انتسب إلى هذا الشعار فيجب
قبوله والتغاضي عن أخطائه بحجة أن الدعوة بحاجة إلى كل داعية وكل خطيب ، وأن الأمة
الآن في جهاد دفع ، وجهاد الدفع كما قال شيخ الإسلام لا يشترط له شرط ، وأكبر شاهد
على ذلك التجمع العالمي الذي أسسوه أخيراً لمواجهة العدوان زعموا ، ويضم في قائمة
المؤسسين له من قال " وثنيون هم عبدة النصوص " وآخر من المؤسسين يقول في
مدح المعتزلة " وهكذا كان المعتزلة ، كوكبة من أهل الفكر ، والنظر ، والدين ،
والثورة ، اتخذوا من الفلسفة والفكر والرقي في المعرفة بديلاً عن الأحساب والأنساب
" ، ولا أدري هل سيأخذون بباقي أحكام
جهاد الدفع في هذه المرحلة كأخذ السبايا و توزيغ الغنائم أم الأمر اتباع للهوى
وتلاعب بعقول الجهلة السذج أتباع كل ناعق .
وهم في هذا الباب عندهم أساليب ملتوية لإثارة العواطف فمن ذلك قول
أحدهم " ليس الصائل مجرد باغ أو قاطع طرق، أو فئة محدودة، إنه نظام عالمي
جديد، إنها هجمة اليهود المحتلين لبلاد الشام في فلسطين وما حولها، والساعين
لاحتلال كامل العالم العربي والإسلامي من خلال برامج التطبيع الاقتصادي والثقافي
والاجتماعي بل والأمني والعسكري في كامل المنطقة ، إنها هجمة أمريكا وبريطانيا
وفرنسا وحلفاءهم في حلف الناتو مع روسيا في وسط آسيا على كافة بلاد الإسلام ولا
سيما في عقر دارهم ومكان مقدساتهم وثرواتهم النفطية وغيرها ، إنها هجمة الحكومات
المرتدة وأجهزة أمنها وجيوشها وشرطتها ومخبريها وسجانيها وجلاديها وأجهزة إعلامها الكافرة
على أنفس المسلمين وأعراضهم وأموالهم، حكومات موالية للأعداء نائبة لهم في حكمنا
بشرائع الكفر ، إنها هجمة المنافقين الضالين المضلين الذين يكفون أيدي الناس
وقلوبهم وعقولهم عن جهاد هذا الصائل ويفتون بقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ،
فمتى يكون دفع الصائل فرض عين إن لم يكن في مثل ما نحن فيه. وكما قال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء
** إذا احتاج النهار إلى دليل
إننا نؤمن ونعلن بكل صراحة مستعينين بالله: إن حكم الجهاد اليوم
فرض عين على كل مسلم، جهاد اليهود والصليبيين حيث وجدوا في بلادنا أو بلادهم مدنيين
وعسكريين محتلين واقتصاديين مبشرين ودعاة كفر ودعارة وضلالة، بالسيف والسلاح، وإن
حكم قتال وجهاد الحكام المرتدين الموالين لهم المدافعين عنهم الحامين لقواعدهم
وتواجدهم فرض عين لوحده وتبعاً لجهاد اليهود والنصارى، بالسيف والسلاح، وإن حكم
مواجهة باطل المنافقين وحججهم بالحجة الحقة والكتاب والسنة وأدلة الدين واجب أيضاً
ولا سيما على العلماء والدعاة المجاهدين، كما قال تعالى ( وكذلك نفصل الآيات
ولتستبين سبيل المجرمين ) هذا في عامة ديار أهل الإسلام، فما حكم هذا في بلاد
المقدسات، الجزيرة واليمن والشام، بلاد الحرمين وقدس المسلمين، بلاد الجزيرة التي
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج منها كل مشرك ولا يجتمع فيها دينان ، لا
شك أنه أوجب وآكد من باقي الديار وهو واجب مؤكد في كل ديار الإسلام، فهناك قبلتهم
ومسجد نبيهم ومسراه، وهناك بيت مالهم ومحط ثرواتهم ومنبع أرزاقهم وهو النفط والغاز
والثروات التي رزقها الله أهل الإسلام وجعلها في أكناف بيته ومسجد حبيبه ومسجد
مسراه عليه الصلاة والسلام، وهي عقر دار الإسلام ومحل مقدساتهم، فما هو واجب أهل
اليمن خاصة تجاه هذه الفريضة، هذا ما سنبينه في الفصل والفقرة التالية" .
ومن العجائب أنك تراهم
يتعاونون مع كل أحد محيين بذلك شعار البنّا " نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر
بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " الشعار الذي كانوا يضللون من يقول به ، وكما
قال حذيفة رضي الله عنه " إن الضلالة كل الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن
تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في الدين فإن دين الله واحد" .
وحجتهم أن الأمم الآن قد
تكالبت على المسلمين ، وحجة الإخوان المسلمين حين كان يُنكر عليهم ، أن الأمم قد تكالبت على المسلمين منذ أن سقطت
الخلافة ، فلا ندري أي الفريقين نصدق ، والظاهر أن حجة الإخوان أقوى لكن لا أدري
كيف خفيت على هؤلاء وهم يدعون أنهم أفقه للواقع من غيرهم !! .
بينما تراهم يحاربون وبشدة
كل الدعوات التي تتسمى بالسلفية لعلمهم أن السلفيين لا يقبلون هذا التجميع ، ولا
يداهنون في دين الله ، مع أن هؤلاء يقولون
منهجنا الكتاب والسنة وعلى فهم السلف الصالح !!!!.
● وضابط الانتساب عندهم إلى أهل السنة والجماعة ، الاحتجاج
بالكتاب والسنة و الإجماع ، فكل من قال بهذه الأصول الثلاثة فهو منهم قال بعض منظريهم ، تحت عنوان اتباع الأصول
الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع : " وهذا هو الذي يميز أهل السنة من أهل
البدعة ، فهذه الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي مبنى دين المسلمين وهي
بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء .... وإن استيفاء هذا القدر هو الذي يكفل بقاء
المسيرة على الجادة وانتساب أصحابها إلى أهل السنة والجماعة ويقيهم من الوقوع فيما
وقعت فيه الفرق الضالة المتوعدة على لسانه e لأن شعار هذه الفرق هو
مفارقة الكتاب والسنة والإجماع " .
وما كنت أريد تكلف الرد على هذه الدعوى لولا أني رأيت بعض من ينسب
إلى العلم يجعل عدم مخالفة الإجماع ضابطاً في تمييز أهل السنَّة والجماعة الفرقة
الناجية و الطائفة المنصورة .
قلت : الاحتجاج بأدلة من الكتاب أوالسنة وعدم مخالفة الإجماع بالمعنى الاصطلاحي لا يكفي لتمييز أهل الحق ولا
يكفي أيضاً في تمييز الحق من الباطل حتى بين أهل الحق ! .
لأنك حينئذ ستوافق الصوفي القبوري الذي يحتج بالكتاب والسنة في
مشروعية التوسل والتبرك بالمخلوقين خاصة والمسألة لم ينقل فيها إجماع بالمعنى
المصطلح عليه .
وستوافق المعتزلي الذي لا يأخذ العقيدة من أحاديث الآحاد بحجة أن
أحاديث الآحاد تفيد الظن والله يقول {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا
إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا
يَفْعَلُونَ} ](36) سورة يونس [
والنبي e يقول " إن الظن أكذب الحديث "
وبالاستقراء فقد وقع الخطأ في أحاديث الآحاد .
وستوافق الأشعري في انكار بعض الصفات كنفي وصف الله بأنه شخص ، قال
الحافظ ابن حجر في الفتح : " قال ابن بطال أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا
يجوز أن يوصف بأنه شخص لأن التوقيف لم يرد به " ، مع أنه جاء في صحيح مسلم
1499: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ
رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ
عَنْهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ
وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ
إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ
الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ
الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ *
لكن جاء في بعض الروايات " وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ
الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ
وَالْمُنْذِرِينَ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ *
فرجح من تأول الحديث الروايات التي فيها " وَلَا أَحَدَ " على التي فيها " وَلَا شَخْصَ " .
بل لا أبالغ إذا قلت أنك ستوافق حتى العلماني لأننا وجدنا بعض
العلمانيين يحتجون على مذهبهم بالكتاب والسنة مثل قول النبي e " أَنْتُمْ أَعْلَمُ
بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " رواه مسلم
2363 .
ويشهد لهذا أنهم ضموا إلى عضوية حملتهم المزعومة ليبراليين فجعلوهم
من المؤسسين فاللهم لطفك .
وهم عندهم استعداد للتعاون مع أهل البدع والأهواء بمختلف مشاربهم
في سبيل تحقيق أهدافهم ، حتى قال بعضهم :
" يجب أن نأخذ قاعدة ، ميزة الدعوات الإسلامية في العالم في العالم كله على
ما فيها من تفاوت وما بينها من أخطاء ميزتها أنها تنبع من داخل الأمة يعني يدعو
للإسلام حتى لو أن عند بعضهم انحرافات إما إلى المعتزلة وإما إلى الخوارج وإمّا
إلى الرافضة كما تعلمون فهو يأخذها من واقع الأمة ومن تاريخها وتراثها " .
● وعلى كل حال فالمقصود أنهم مخالفون لسبيل المؤمنين في
الدعوة إلى الله فتراهم في محاضراتهم ودروسهم لا يتكلمون مثلا ً عن طاعة ولي الأمر
المسلم ولا التحذير من الافتئات عليه في إدارة شئون الأمة ، كما يفعل العلماء في
كثير من محاضراتهم لحاجة الناس إلى التنبيه على مثل هذه المسائل ، حتى بعد تغيير طريقتهم
، وبعضهم بلغ به الأمر أنه لا يسمي المملكة العربية السعودية في خطاباته بهذا
الاسم بل يسميها ببلاد الحرمين أو الجزيرة كما يفعل غلاة الخوارج الظاهر أمرهم،
كما إنهم لا يوجهون الشباب إلى الرجوع إلى العلماء الكبار وقت الفتن كما يفعل
السلفيون من أهل العلم ، بل على العكس من ذلك يحاولون تنفير الناس عن العلماء ، بل
من عجائب الأمور أن بعضهم بدأ يطعن في العلماء بحجة أنهم وهابية تماشياً مع
الإعلام الغربي ، وبعضهم ينعتهم بالعلماء الرسميين في مقابلة دعاة الإصلاح أو
علماء الصحوة ، ويتهمونهم مرة بالجبن وكتم الحق ومرة بالمداهنة وحب الدنيا ، قال
الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري
رحمها الله وهما من أئمة الدعوة [28]
" ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة وسوء
الظن بهم وعدم الأخذ عنهم وهذا سبب لحرمان العلم النافع والعلماء ورثة الأنبياء في
كل زمان ومكان فلا يتلقى العلم إلا عنهم فمن زهد في الأخذ عنهم ولم يقبل ما نقلوه
فقد زهد في ميراث سيد المرسلين واعتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين الذين لا دراية
لهم بأحكام الشريعة ، والعلماء هم الأمناء على دين الله فواجب على كل مكلف أخذ
الدين عن أهله كما قال بعض السلف ، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم
" كما أنك لا تجد لهم كلاماً البته في ذم رموز التكفير الظاهر أمرهم كالمقدسي
ومن سار على شاكلته ، وأيضا قد عرفوا بمخالفة كلام أهل العلم في كثير من فتاواهم
كما في بعض مسائل الجهاد والعمليات الفدائية والاغتيالات لأهل العهد من النصارى
والمظاهرات وغير ذلك من نوازل العصر ففتاواهم في هذه المسائل مخالفة لفتاوى أهل
العلم موافقة لما عليه رموز التكفيريين الظاهر أمرهم ، ولا يجد القاريء فرقاً إلا
ما كان متعلقاً بالزمان أو المكان ، وبهذا تستطيع أن تميزهم دون عناء لا كثرهم
الله ، فهل بعد هذا يقال إنهم يخالفون أصحاب التفجيرات على الإطلاق أم يقال إن في
المسألة تفصيل .
المقرر عند العلماء المحققين
أن الأصل عدم العمل بقول أحد إلا بحجة كما نبه على ذلك جمع من العلماء كابن القيم
في إعلام الموقعين ، وابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله ، وصديق حسن
خان في الدين الخالص ، والشوكاني وغيرهم رحمهم الله تعالى ، والأدلة على هذا الأصل
كثيرة منها قوله تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء
} .
إلا أن هذه المسألة من المسائل
التي وقع الناس فيها بين إفراط وتفريط حتى غلا بعض أهل العصر وأبطلوا الأخذ بكلام
العلماء بحجة عدم جواز التقليد ورتبوا على ذلك أحكاماً ، والمذهب الحق أن المسألة
فيها تفصيل ، فهنالك مسائل في الدين ليس فيها نصوص قطعية الدلالة ، وقد افترق فيها
الناس وضَّل فيها من ضَّل ، فلا يتم موافقة الحق فيها إلا بالاستقراء التام لنصوص
الشريعة ، ومعرفة الجمع بين النصوص ، وهذا الأمر لا يتم إلا لكبار العلماء وهم
الأئمة ولكل عصر أئمته ، كما قال تعالى {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ
فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ
قَلِيلاً} (83) سورة النساء .
وفي المستدرك عن ابن عباس قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" البركة مع أكابركم " قال الحاكم هذا حديث صحيح على
شرط البخاري ولم يخرجاه
قال المناوي في فيض القدير
(3/220) : " البركة مع أكابركم
المجربين للأمور المحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا
بهديهم ".
ومن فضل الله أن كلام الأئمة
السابقين من السلف وأتباعهم محفوظ بل ومتوافر في مثل هذه المسائل التي تعد من
الأصول ، بل يصل الأمر في كثير منها إلى حد الإجماع ، الذي لا يجوز مخالفته فلا
تكون الموافقة لهم في مثل هذا الحال تقليداً . وعلى كل حال فالتقليد قد يحتاج له
العالم عند الضرورة كما بينت ذلك في كتابي " إغاثة الطالب لنيل أعلى المطالب
" ، والمشاهد أن بعض طلبة العلم هداهم الله يتعلق ببعض النصوص فيبني عليها
عقيدة ، ضارباً عرض الحائط بالنصوص الأخرى والقواعد التي قررها العلماء ثم يعتذر
بأنه متبع للنصوص ، فما نجده من بعض طلبة العلم من الخوض في كثير من المسائل
الكبار التي تعد من الأصول ، وذهاب كل فريق منهم برأي يخالف فيه الفريق الآخر ، هو
عين الخطأ. ففي مثل هذه المسائل ، لابد لطالب العلم أن يدين الله فيها بما عليه
الأئمة السابقين ، بعد معرفة أدلتهم ، وإن كانت المسألة من المسائل
المستجدة فلا بد أن يرجع إلى أقوال أئمة أهل زمانه فلا تزال طائفة على الحق في كل
زمان .
وقد جاء في بعض الآثار ما يؤيد
هذا المسلك ويبين أنه المسلك والمنهج الصحيح وإن توهم بعضهم غير هذا .
فقد بوب البخاري في صحيحه :
بَاب قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
} ](143)
سورة البقرة [ وَمَا أمر النَّبِيُّ r بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أهل
الْعِلْمِ.
وفي سن الترمذي :
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : ( إن اللَّهَ لا
يَجْمَعُ أمتي أو قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ r
عَلَى ضَلالَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ
شَذَّ إلى النَّارِ )
قَالَ أَبُو عِيسَى : وَتَفْسِيرُ
الْجَمَاعَةِ عِنْدَ أهل الْعِلْمِ هُمْ أهل الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ
وَالْحَدِيثِ قَالَ و سَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّ
بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَنِ
الْجَمَاعَةُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ قَالَ فُلانٌ وَفُلانٌ قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ فُلانٌ وَفُلانٌ فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ جَمَاعَةٌ قَالَ
أَبُو عِيسَى وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ وَكَانَ شَيْخًا
صَالِحًا وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ عِنْدَنَا "
وحديث ابن عمر السابق صحيح دون
زيادة " وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلى
النَّارِ " وقد قال أبو عيسى عقبه ، هذا حديث غريب من هذا الوجه ([29]).
وقد جاء عن إسحاق كما في
الحلية لأبي نعيم أنه سئل عن السواد الأعظم فقال محمد بن نصر المروزي هو السواد
الأعظم .
وهذا يؤكد مكانة العالم في
المجتمع ودوره في توجيه الأمة ، وأن الخلاف والفرقة أقرب إلى الأمة أو المجتمع
الذي يعيش بدون علماء وقد كان السلف
حريصين على الرجوع إلى العلماء والصدور عن أمرهم مع علمهم وتفقههم في الدين ففي
سنن الدارمي:
عن عَمْرُو بْنُ يَحْيَى قَالَ
سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا
مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ
أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ قُلْنَا لَا فَجَلَسَ
مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ
أَبُو مُوسَى يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ
آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا خَيْرًا
قَالَ فَمَا هُوَ فَقَالَ إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ قَالَ رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ
قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ
وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ كَبِّرُوا مِائَةً فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً
فَيَقُولُ هَلِّلُوا مِائَةً فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً وَيَقُولُ سَبِّحُوا مِائَةً
فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً قَالَ فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ قَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ
شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ *
● والعلماء الذين يقاس بهم هم من شهد لهم أهل العلم بالتقدم
والإمامة لا من شهد لهم أتباعهم أو الجهَّال ، وهؤلاء لهم مكانة لا يعرفها إلا من
زاحمهم بالركب ، فقد جاء في "ترتيب المدارك " للقاضي عياض أن يحي بن يحي
النيسابوري أقام سنة عند الإمام مالك بعد أن أخذ الموطأ سماعاً منه ،فقيل لـه في
ذلك ، فقال :" إنما قمت مستفيداً لشمائله فإنها شمائل الصحابة
والتابعين".
وفي ترجمة الإمام أحمد ، أنه
كان يحضر له قرابة الخمسة آلاف ، خمسمائة يكتبون عنه والباقون يتعلمون من
هديه وسمته ، ( انظر السير 11/316).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لايزال الناس بخير ما
أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم
وعلمائهم فإذا أخذوا عن صغارهم وشرارهم هلكوا " .
وفي حلية الأولياء قال أبو عثمان الرازي (10/71) " واعلم أن العلماء هم أمناء الرسول عليه
الصلاة والسلام وورثة الأنبياء عليهم السلام أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم
في زمانه دعا إلى الزهد في فضول الدنيا والتهاون بها ومن معه من العلماء كانوا
يحذرون حلال الدنيا ويشفقون منها أشد من حذر الجهال من حرامها لأنه لا يسلم من
الدنيا من ينالها ولا يسلم من شرها من أحبها وأمن مكرها هي حتف أهلها دون الحتف
واعلم أن العالم بالله الخائف من الله يهدم بحق الله باطل أهل الرغبة في الدنيا
وأن العالم المغتر يطفئ نور الحق بظلمة الباطل واعلم أن الله إذا أراد أن يغني
فقيراً أو يفقر غنياً أو يرفع وضيعاً أو يضع رفيعاً فعل ما أراد من ذلك فلا تغالب
الله على أمره ولا تلتمس شيئاً من ذلك بغير طاعة الله فإن الذين التمسوا الأمور
بغير طاعة الله خسروا خسراناً مبيناً فيما أصابوا بما طالبوا وفيما أخطأهم مما
أرادوا فانظر إذا كنت إماماً أي إمام تكون فربما نجت الأمة بالإمام الواحد
وربما هلكت بالإمام الواحد وإنما هما إمامان إمام هدى قال الله عز وجل
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } ](24) سورة السجدة [ يعني على الدنيا وإنما صاروا أئمة حين صبروا عن
الدنيا ولا يكون إمام هدى حجة لأهل الباطل فإنه قال يهدون بأمرنا لا بأمر أنفسهم
ولا بأمور الناس فقال { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} ](73) سورة الأنبياء [ فهذا إمام هدى فهو ومن أجابه شريكان وإمام آخر
قال الله تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } ](41) سورة القصص [ ولا تجد أحداً يدعو إلى النار ولكن الدعاة إلى
معصية الله فهذان إمامان هما مثل من الذين خلوامن قبلكم وموعظة للمتقين "
وفي الجرح والتعديل (1/292) قيل لأبي مسهر " تعرف أحداً يحفظ
على هذه الأمة أمر دينها قال لا أعلمه إلا
شاباً في ناحية المشرق يعنى احمد بن حنبل " .
و في سنن الترمذي : قَالَ أَبُو عِيسَى : وَتَفْسِيرُ الْجَمَاعَةِ
عِنْدَ أهل الْعِلْمِ هُمْ أهل الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ قَالَ و
سَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ
يَقُولُ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَنِ الْجَمَاعَةُ فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ فُلانٌ
وَفُلانٌ قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ فُلانٌ وَفُلانٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ ، أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ جَمَاعَةٌ قَالَ أَبُو عِيسَى
وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ عِنْدَنَا " .
فهاهو ابن المبارك يقرن الحق بالعالم الإمام ، وما ذلك إلا لبيان
منزلة العلماء وحاجة الأمّة إليهم وإلا فإن الحق منصوص عليه في الكتاب والسنة .
وقد جاء عن إسحاق كما في الحلية لأبي نعيم أنه سئل عن السواد
الأعظم فقال محمد بن نصر المروزي هو السواد الأعظم .
● وقد كان السلف يمتحنون أهل البدع ويميزونهم برأيهم في أئمة
العصر ، قال البربهاري في شرح السنة [30]
: ( والمحنة في الإسلام بدعة ، وأمّا اليوم فيمتحن بالسنة ).
ونقل الحافظ ابن حجر في " التهذيب " : عن زائدة بن قدامة
الثقفي أنه كان لا يحدّث أحداً حتى يمتحنه ، وذكر أن زهير بن معاوية كلمه في رجلٍ
كي يحدثه ، فقال زائدة : من أهل السنة هو ؟ ، قال : ما أعرفه ببدعة فقال : من أهل
السنة هو ؟ فقال زهير : متى كان الناس هكذا ؟ فقال زائدة : متى كان الناس يشتمون
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ؟! " .
وأنا أقول : متى كان الناس يزينون الخروج على السلطان ويتنقصون
العلماء ويكفرون بالذنوب .
وفي كتاب الجرح والتعديل لإبن أبي حاتم (1/308):
باب استحقاق الرجل السنة بمحبة احمد بن حنبل ثم روى بسنده عن أبي
رجاء يعنى قتيبة بن سعيد يقول إذا رأيت الرجل يحب احمد بن حنبل فاعلم انه صاحب سنة
.
وفي شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة (1/171) " إذا رأيت
الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن رواء ذلك خيراً إن شاء
الله وإذا رأيت الرجل يعتمد من أهل البصرة على أيوب السختياني وابن عون ويونس
والتيمي ويحبهم ويكثر ذكرهم والاقتداء بهم فارج خيره ثم من بعد هؤلاء حماد بن سلمة
ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير فإن هؤلاء محنة أهل البدع وإذا رأيت الرجل من أهل
الكوفة يعتمد على طلحة بن مصرف وابن ابجر وابن حيان التيمي ومالك بن مغول وسفيان
بن سعيد الثوري وزايده فارجه ومن بعدهم عبد الله بن أدريس ومحمد بن عبيد وابن أبي
عتبة والمحاربي فارجه وإذا رأيت الرجل يحب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه فلا تطمئن
إليه وإلى من يذهب مذهبه ممن يغلو في أمره ويتخذه إماماً " .
وفي عصرنا هذا كان الشيخ حمود التويجري رحمه الله يقول الشيخ
الألباني الآن علم على السنَّة الطعن فيه إعانة على الطعن في السنَّة .
قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الفضيل ( السير 4/ 448) :
" إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض، والخوارج، ومثل الفضيل
يتُكلم فيه، فمن الذي يسلم من أَلسنة الناس، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم
يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع".
قال الإمام إسماعيل الصابوني في كتاب السنَّة : " وعلامات أهل البدع على أهلها بادية
ظاهرة ، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه
وسلم ، واحتقارهم لهم وتسميتهم إيّاهم حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة .." .
وروى أبو عثمان الصابوني بسنده
إلى أحمد بن سلمة قال قرأ علينا أبو رجاء قُتَيْبَةُ بن سعيد كتاب " الإيمان
" له، فكان في آخره: " فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري، ومالك بن أنس،
والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، وأبا الأحوص، وشريكاً، ووكيعاً، ويحي بن سعيد،
وعبد الرحمن بن مهدي، فاعلم أنه صاحب سنَّة . قال أحمد بن سلمة رحمه الله ؛ وألحقت
بخطي تحته : ويحي بن يحي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه " .
وفي شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة ( 1/66)
" أخبرنا أحمد بن عبيد ابنا محمد بن الحسين ثنا أحمد بن زهير قال سمعت أحمد
بن عبد الله بن يونس يقول امتحن أهل الموصل بمعافى بن عمران فإن أحبوه فهم أهل
السنة وإن أبغضوه فهم أهل بدعة كما يمتحن أهل الكوفة بيحي ".
ولابد من الإشارة هنا إلى أن
كثيراً من الدعاة قد غلا في هذا الباب فأصبح كل حزب يمتحن الآخرين برموز حزبه وقد
لا يعدو أحسنهم أن يكون طالب علم قال الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه الحث على
اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع وبيان خطرها : " ومن البدع المنكرة ما حدث
في هذا الزمان من امتحان بعض من أهل السنَّة بعضاً بأشخاص، سواء كان الباعث على
الامتحان الجفاء في شخص يُمتحن به، أو كان الباعث عليه الإطراء لشخص آخر، وإذا
كانت نتيجة الامتحان الموافقة لِمَا أراده الممتحِن ظفر بالترحيب والمدح والثناء، وإلاَّ
كان حظّه التجريح والتبديع والهجر والتحذير "
●
ومن رحمة الله بهذه الأمة أن حفظها بالعلماء ، فالعلماء ورثة الأنبياء ففي
الصحيحين [31]:
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ
النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا
وَأَضَلُّوا *
وكذلك العلماء أمنة هذه الأمّة فإذا ذهب العلماء أتى الأمّة ما
توعد ففي صحيح مسلم [32] :
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا
ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي
فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ
لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ *
قال الإمام الذهبي في السير (11/82) " فوالله لولا الحفاظ
الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر، ولئن خطب خاطبٌ من أهل البدع، فإنما هو بسيف
الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنَّة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم ، فنعوذ بالله من الخذلان" .
فلا يستطيع أن يكشف حيلهم ويرصد بدعهم
ومخالفاتهم لطريقة السلف إلا العلماء .
وإن كنّا
لا ندعي العصمة للعلماء إلا إنهم أكثر الناس صوابا ً، قال الذهبي " ونحن لا ندعي العصمة
في أئمة الجرح والتعديل ، لكنهم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأً وأشدهم إنصافاً
وأبعدهم عن التحامل. وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ ، فتمسك به واعضض عليه
بناجذيك، ولا تتجاوزه فتندم ، ومن شذ منهم فلا عِبْرة به. فخَلِّ عنك العَناء،
وأعط القوس باريها".
● وفي هذا رد على كل من يرد كلام العلماء الأثبات في أهل
البدع بحجة عدم التقليد ، وهؤلاء الرادون لكلام العلماء جمعوا مع جهلهم لهذا العلم
- علم الجرح والتعديل - جهلهم لمسألة التقليد والاتباع فإن أخذ كلام العالم في
العقائد والأحكام بدون دليل هو من باب التقليد في الرأي وهذا مذموم وأما في باب
الجرح والتعديل فهو من باب قبول خبر الثقة وهذا جائز بالاتفاق ، فتنبه .
وعلى هذا سار السلف ، فقد كانوا يقدمون كلام أهل
العلم فيمن لا يعرف حاله فضلاً عن تقديمه في أهل البدع ، قال عبد الرحمن بن أبي
حاتم في الجرح والتعديل قدم محمد بن إسماعيل – أي الإمام البخاري صاحب الصحيح -
الري سنة خمسين ومئتين وسمع منه أبي وأبو زرعة وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد
بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق [33].
فهذا أبو زرعة وأبو حاتم على جلالة قدرهما تركا حديث أمير المؤمنين
في الحديث الإمام البخاري ولم يقولا كما يقول جهلة العصر ما ظهر لنا ما قيل فيه .
ولا شك أن الإمام البخاري قد ظُلم في تلك الفتنة التي وقعت له مع
الإمام الذهلي لكن عذر الإمامين أبي زرعة وأبي حاتم أن الأمر دين فلم يكونا
ليخاطرا بدينهما مع من لم يشتهر أمره وقد حذر منه إمام من أئمة العلم .
وهاك مثالاً آخر يبين فساد قواعد الجرح والتعديل عند أهل الأهواء
من المتأخرين [34].
وعلى كل حال فإن كثيراً من المتصدرين ممن يسميهم أتباعهم بعلماء الصحوة ، لا يمكن أن
نعدهم من العلماء ولو أبى أتباعهم بل منهم من لم يشموا رائحة الفقه في الدين بل
بلغ الأمر ببعضهم إلى التلاعب في ثوابت الدين باسم " الثوابت والمتغيرات فى مسيرة العمل
الإسلامى " ، انطلاقاً من قول حسن البنّا " ليس فى فروع الدين أمر متفق
عليه " ، لكنه زاد فجعل المتغيرات تطول حتى أبواب العقائد ومبنى هذا عنده على
قاعدة المصالح والمفاسد التي لم يفتئوا ينادون بها ، وهو من الكتب المعتمدة ولذلك
تجدهم كثيراً يستعملون مصطلح تحقيق المناط ، ومصطلح معرفة خير الخيرين وشر الشرين
، وبهذين المصطلحين استطاع الكاتب ومن سار على منهجه أن يغيروا كثيراً من ثوابت
الدين .
ثم جاء آخر منهم ينادي بفقه التيسير وملخص الفكرة أن الأحكام يرجع
فيها إلى أقوال العلماء فما وجدناه أيسر وأسهل أخذنا به مادام صاحبه يحتج بالدليل
، وهذا المسلك يلتقي مع ما ذكروه من ضوابط لمعرفة أهل السنة والجماعة .
وخوارج العصر لو رأوا من مصلحة دعوتهم الكلام في بعض القضايا
السابقة التي يحرص على الكلام فيها علماء السنَّة ، فإنهم لايؤصلون ما يدعون إليه
بأدلة الشرع ومنهج السلف فالأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية متكاثرة في مثل
ما يتعلق بحقوق الولاة وعدم الخروج عليهم ، ونبذ العنف .
ومع ذلك فهم يؤكدون دائماً على الأخذ بمبدأ المصالح والمفاسد دون
التعرض إلى التقريرات السلفية ، أو حتى نقد المخالفين والتحذير منهم ، بل على
العكس فهم يطعنون في العلماء السلفيين في كل مناسبة من أجل تنفير الناس عنهم وعدم
الأخذ بأقوالهم .
ونحن هنا لا نتهمهم - في كل ما يفعلونه - أنهم يسعون من وراء ذلك
إلى إحداث انقلاب عسكري كما يظن بعض خصومهم ، لكن الذي يظهر أن همهم الأكبر هو غرس
عقيدتهم في نفوس الناس ، وتكوين قاعدة شعبية ، حتى قال أحد المنظرين " إنّه
لا يُمكن للإسلاميين أن يصلوا إلى إقامة حكمٍ .. عن طريق الانقلابات العسكرية، لم يبق أمامهم من حلٍ واقعي
ومعقول سوى الاعتماد على الثورة الشعبية " ويقول أيضاً " ولا يُمكن أن
نقول عن القاعدة أنّها كثيرةٌ ،حتّى تتغلغل
في أوساط المثّقفين والعمّال والمواطنين والأطِّباء
والمهندسين .. والأغنياء والعلماء .. وعلى العموم أن تتغلغل في كلِّ الفئات وعلى كلِّ المُستويات ، فهذه لجنةٌ دعويةٌ في
محيط الطلاّب ، وأخرى مسؤولةٌ عن قطاع النساء والطالبات
، وخامسةٌ مُهمُّتها في مجال القرى والأرياف .. وسابعةٌ في ميدان العوائل الكبيرة والأحياء " ، يفعلون ذلك وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعاً ، و كما قال ابن مسعود رضي الله عنه عندما قال له أولئك القوم الذين
أنكر عليكم : ما أردنا إلا الخير قال لهم : وكم مريد للخير لا يصيبه ، قال الراوي
فرأينا عامة أولئك القوم يطاعنوننا يوم النهروان .
والدارس لتاريخ الفرق يجد أن هنالك فرقة من الخوارج يسمون
بالقَعَدية لا يباشرون الخروج ولكن يزينونه للناس ، وقد روى أبو داود في مسائل
الإمام أحمد (ص 271) عن عبد الله بن محمد – رحمه الله – قال : " قَعد الخوارج
أخبث الخوارج " .
قال عبد الله بن عكيم : "لا أعين على قتل خليفة بعد عثمان
أبدا قال فقيل له أعنت على دمه قال إني أعد ذكر مساوئه عوناً على دمه " رواه
ابن أبي شيبة (6/362) وابن سعد في الطبقات ( 3/80) .
وبهذه المناسبة أحب أن أشير إلى أن بعض من كتب عن هذه الجماعة قد
بالغ في تفسير تصرفاتهم حتى كان ذلك من أعظم الأسباب التي صدت الناس عن قبول كلامه
فيهم ، فليتنبه لهذا .
وقد وجدت هذه الطائفة قبولاً عند بعض الناس والسبب في ذلك أنه قد
كان لهذه الطائفة دور في كشف بعض المخططات اليهودية والصليبة ولكنهم – وهذا أمر لم
يتفطن له بعض محبيهم - في كل ذلك ينطلقون من مبدأ " المؤامرة " فيقعون
في المبالغة ، وأقرب وصف لهذه الجماعة ، أنها طبعة مزيدة ومنقحة من جماعة الإخوان
المسلمين .
كما أنه ليس لهم برنامج خاص للوصول إلى الحكم ، لكن كونهم يوافقون
جماعة الإخوان المسلمين في كثير من الأهداف والبرامج ، جعل كثير من المحللين
يعتقدون أن لهم نفس الأهداف والخطط لإقامة الدولة الإسلامية المزعومة ، لكن الواقع
يخالف هذا الاعتقاد ، ومن أهم الدلائل على ذلك أن البنية التنظيمية لهذه الجماعة
تختلف تماماً عما عند الإخوان المسلمين فهم يعتمدون التنظيم العنقودي أو ما يسمى
في علم الإدارة بأسلوب الإدارة بالأهداف بينما تجد الإخوان المسلمين يعتمدون التنظيم
الهرمي أو ما يسمى في علم الإدراة بأسلوب الإدارة بالمعلومات ، وإن كان قد بلغنا
أنهم بدوأ يتبنون التنظيم الهرمي في بعض الجهات ،
كما أن القيادات لا تزال شابة لم تتهيأ لها نفس الظروف والوقت الذي تهيأ
لجماعة الإخوان المسلمين ، وهم يختلفون عن جماعة الإخوان المسلمين ، أنهم يصنفون
عند كثير من الناس ، من جماعات التيار السلفي أينما كانوا ، بينما الإخوان
المسلمين لا يصنفون هذا التصنيف إلا من كان منهم داخل الجزيرة .
وتقريبا للأمر سأذكر لهؤلاء القوم الذين ينعتون بالسروريين أو
القطبيين أصولاً عشرة خالفوا فيها أهل السنَّة والجماعة وعلى كل حال فهؤلاء القوم
خوارج كما وصفهم بذلك الشيخ الألباني رحمه الله وإن تزيَّوا بزي أهل السنَّة
والجماعة .
الأصل الأول :
إضفاء لباس الشرعية على كثير من الأمور التي أحدثوها باسم المصالح
المرسلة ووصف البدعة أولى بها .
فلا يستطيعون أن يميزوا بين السنَّة والبدعة ، حتى نسبوا للدين و
السنَّة ما ليس منهما ولذلك تجدهم يتوسعون في أساليب الدعوة حتى لا تستطيع التفريق
بينهم وبين الإخوان المفلسين حتى أن كثيراً من المدعويين الذين يشاركونهم في
مراكزهم الصيفية لا يستطيعون أن يفرقوا بين مراكزهم ومراكز الإخوان المسلمين ،
فيصدق على هؤلاء القطبيين السروريين أنهم " طبعة مزيدة ومنقحة من الإخوان
المسلمين " .
الأصل الثاني :
مدح أهل البدع والحث على استخدام سياسة الاحتواء و الموازنة معهم
بذكر حسناتهم إن كان لا بد من ذكر مثالبهم وسيئاتهم !! بل بلغ الأمر ببعضهم أن
يذكرهم في مقدمة كتاب له عن أئمة الدعوة
في هذا العصر فلا تجد إلا متلبساً ببدعة أو داعياً إليها وهذا من صور التأثر
بالإرجاء عند هؤلاء القوم وإن كانوا خوارج نسأل الله العافية .
الأصل الثالث :
تضخيم أنواع من الشرك الأصغر حتى جعلوها من الشرك الأكبر .
فتراهم دائما يدندنون حول شرك المحبة وشرك الطاعة وينكرون على من
يدندن على ما يسمونه بشرك القبور حتى اخترع بعضهم تسمية الشرك الحضاري في مقابلة
الشرك البدائي وشرك القصور في مقابلة شرك القبور ، فنسبوا إلى الأنبياء وأتباعهم
إنكار الشرك البدائي وإلى أنفسهم الحضاري.
والصحيح أن شرك المحبة وشرك الطاعة لا يبلغ بصاحبه الشرك الأكبر
إلا بتحقق شروط ، من ذلك أن المحبة لا تكون شركاً أكبر حتى تكون من جنس المحبة
التي لا تكون إلا لله كما قال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً
يحبونهم كحب الله " فكل شيء يحب لغيره ، ولا يحب لذاته إلا الله وهذه هي محبة
العبادة .
وأما الطاعة فلا بد فيها من شرط الاستحلال كما ورد في حديث عدي بن
حاتم عند الترمذي وسيأتي بيان ما فيه من فقه .
وهؤلاء القوم ممن وقع في هذا المأزق الخطير تجدهم متناقضين في
أحكامهم فعندما يحكمون بأن الطاعة في معصية الله شرك أكبر يقفون مبهوتين إذا قيل
لهم ما حكم من وقع في هذا الذنب ونحن نرى أن أكثر الناس اليوم يقعون فيه إلا من
رحم ربي ، أو أنهم يتوصلون بهذا إلى تكفير المجتمع .
الأصل الرابع :
تزيين الخروج على الحكام المسلمين بذكر مثالبهم أمام العامة وقد
حفظ لنا التاريخ فرقة من فرق الخوارج تسمى بالقعدية لا يرون الخروج ولكن يزينونه
للناس .
الأصل الخامس :
التأثر ببدعة التكفير بالمعاصي كما هو عند الخوارج ، فهم يكفرون
بمجرد التزام الترك لأي من الواجبات ومن ذلك المباني الأربعة ، وكذلك يكفرون
بالاستحلال العملي حتى تجد في بعض مؤلفاتهم الاحتجاج بحجج واهية على عدم التفريق
بين الاستحلال الاعتقادي الذي يكفر صاحبه والعملي الذي لا يكفر صاحبه بالإجماع .
قال بعضهم " لا شك إن الاستخفاف بالذنب ـ خاصة إذا كان ذنباً
كبيراً ومتفق على تحريمه ــ أنه كفر بالله ، فمثل هؤلاء لا شك أن عملهم هذا ردة عن
الإسلام أقول هذا وأنا مرتاح مطمئن القلب إلى ذلك "
و عندما أوقف الشيخ ناصر الدين الألباني على كلامهم في هذا الباب ،
قال كما في شريط " السرورية خارجية عصرية " :" كلامهم ينحو منحى
الخوارج في تكفير مرتكب الكبائر ، لكنهم – ولعل هذا ما أدري أن أقول – غفلة منهم أو مكر منهم " .
ولازلت أتساءل كيف اجتمعت كلمتهم على هذه العقيدة الباطلة وكيف
تسربت هذه العقيدة إليهم حتى بدا لي الجواب فوجدت أن شيخهم يصرح بهذه العقيدة في
كتابه " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ".
قال " لأن قومه –أي لوط- لو استجابوا له في دعوته إلى الإيمان
بالله وعدم الإشراك به لما كان لاستجابتهم له أي معنى إذا لم يقلعوا عن عاداتهم
الخبيثة التي اجتمعوا عليها ولم يستتروا من فعلها "
فتأمل كيف جعلوا العلة هي المجاهرة وعدم التستر تزداد عجباً ، وقد
قال عمرو بن قيس الملائي: " إذا رأيتَ الشَابَّ أوَّلَ ما يَنشأُ مع أهل
السنة والجماعة فارْجُه، وإذا رأيتَه مع أهل البدع فايْئَسْ منه؛ فإنّ الشّابَّ
على أَوّل نُشُوئه "، رواه ابن بطة في الإبانة
الأصل السادس :
جعل الحكم بغير ما أنزل الله
- ومن ذلك الحكم بالقوانين الوضعية - من الكفر الأكبر قولا واحداً وإن
اختلفوا في بعض التفصيلات ، وهذا مذهب الخوارج بلا شك قولاً واحداً ، والصحيح أن
الخلاف في هذه المسألة يمكن تقسيمه إلى أربعة كما سيأتي .
الأصل السابع :
يرون عدم الطاعة ونكث البيعة لولي الأمر المسلم وأنه لا بيعة ولا
طاعة إلا للإمام الأعظم ، وهذا خلاف الآثار وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة
وسيأتي تفصيل المسألة ، بل بلغ الأمر ببعضهم أنه لايسمي بلاد التوحيد إلا ببلاد
الحرمين أو الجزيرة كما يفعل غلاة الخوارج الظاهر أمرهم ، ويعدل عن اسم المملكة
العربية السعودية .
الأصل الثامن :
مخالفون لسبيل المؤمنين في الدعوة إلى الله فتراهم في محاضراتهم
ودروسهم لا يتكلمون مثلا ً عن طاعة ولي الأمر المسلم ولا التحذير من الافتئات عليه
في إدارة شئون الأمة ، كما يفعل العلماء في كثير من محاضراتهم لحاجة الناس إلى
التنبيه على مثل هذه المسائل ، حتى بعد تغيير طريقتهم ، كما إنهم لا يوجهون الشباب
إلى الرجوع إلى العلماء الكبار وقت الفتن كما يفعل السلفيون من أهل العلم ، بل على
العكس من ذلك يحاولون تنفير الناس عن العلماء ، بل من عجائب الأمور أن بعضهم بداً
يطعن في العلماء بحجة أنهم وهابية تماشياً مع الإعلام الغربي وبعضهم ينعتهم
بالعلماء الرسميين في مقابلة دعاة الإصلاح أو علماء الصحوة ، ولا تجد لهم كلاماً
البته في ذم رموز التكفير الظاهر أمرهم كالمقدسي ومن سار على شاكلته ، وأيضا قد
عرفوا بمخالفة كلام أهل العلم في كثير من فتاواهم كما في بعض مسائل الجهاد
والعمليات الفدائية والاغتيالات لأهل العهد من النصارى والمظاهرات وغير ذلك من
نوازل العصر ففتاواهم في هذه المسائل مخالفة لفتاوى أهل العلم موافقة لما عليه
رموز التكفيريين الظاهر أمرهم ، ولا يجد القاريء فرقاً إلا ما كان متعلقاً بالزمان
أو المكان ، وبهذا تستطيع أن تميزهم دون عناء لا كثرهم الله .
الأصل التاسع :
الطعن في العلماء المخالفين لهم أو المنفرين عنهم بأمور هم منها
براء ، قال أبو زرعة و أبو حاتم الرازي " علامة أهل البدع الوقيعة في أهل
الأثر" .
وقال ابن ناصر الدمشقي- رحمه الله " لحوم العلماء مسمومة وعادة
الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة ومن وقع فيهم بالثلب، ابتلاه الله قبل موته
بموت القلب".
وقد بلغ الأمر ببعضهم أن اخترع أوصافاً للفرقة الناجية حشر فيها
السلفيين علماء وطلبة علم وأوصافاً للطائفة المنصورة حشر فيها طائفته .
فهم يعيبون العلماء بأنهم لا يفقهون الواقع وأنهم يعيشون في صوامع
وبروج عاجية ، وبعضهم تجده يعتمد كلام العلماء في الصلاة والصوم والزكاة والحج
وأما الجهاد والدعوة والمنهج زعموا فتراه معرضاً عن فتاواهم في هذه المسائل حتى
قال بعضهم مسائل الجهاد لا تؤخذ إلا من أهل الجهاد !! ، وقصدون بذلك الذين سجنوا .
ولعلمهم أنهم يجهلون كثيراً من مسائل الدين - أي هؤلاء الخوارج - تجدهم يحيلون على العلماء
في كثير من المسائل ولكون بعضهم لا يستطيع
أن يذم العلماء بالقول الصريح يقول نحن نكمل العلماء فهم يريدون بذلك صرف الناس زمن
الفتن عن العلماء ليخلوا لهم الأمر لتوجيه الناس وفق ما يريدون .
والعجيب أنهم يتحرجون من الإفتاء في مسائل الطهارة والصلاة ونحوهما
بدعوى الخوف من القول على الله بلا علم ثم تراهم يتجرأون على الإفتاء في دماء
الأمة وعلى مسائل يتحرج من الإفتاء فيها كبار العلماء ، ورحم الله شيخنا الإمام
عبد العزيز بن باز كان عندما يسأل وقت الفتن يقول " حتى تجتمع اللجنة "
.
ومع ذلك تجد هؤلاء الخوارج يصفون العلماء الكبار بأنهم علماء
السلطان ومقصدهم بذلك أن هؤلاء العلماء يفتون بغير الحق ويكتمون الحق مراعاة للخلق
ومرة يصفونهم بالمجاملة ومرة بعدم فقه الواقع وهكذا ثم يقولون نحن نكملهم نحن طلبة
العلم الذين في سعة من أمرنا !! .
حتى قال بعضهم :
لا تبع ذمتك العظمى ولو
ألبسوك بشتاً ذهبياً .
وفي لقاء معه في إحدى الجرائد :
أشاد بالديموقراطية وأشار إلى أن العلماء منغلقون في صوامعهم
وثالثة تبرأ منها ولم يتبرأ من سابقتيها .
فقولهم عن العلماء أنهم لا يبينون الحق إنما قصدوا بالحق ما تهواه
أنفسهم وما نطقت به ألسنتهم من القول على الله بلا علم مما يفتوا به الناس و إلا
فما الحق الذي لم يبينه العلماء للناس
فالتوحيد بينوه والعقيدة بينوها والأحكام بينوها في كثير من دروسهم وفتاواهم ولكن
الحقيقة أن بعض الناس يعتقد أمراً ثم يلزم العلماء أن يقولوا بقوله و إلا صاروا
كاتمين للحق مداهنين ، فتنبه .
ومنهم من يتهم العالم بموالاة الكفار لا لشيء إلا لأنه أفتى بما لا
يوافق هواه في مسائل الجهاد ، وكثير من هؤلاء الخوارج يوقر رموز الجماعات البدعية
كحسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب والترابي والقرضاوي وغيرهم و إذا ذكر علماء الأمة
غمزهم وقلل من قدرهم .
وبعضهم تجده يتكلم عن مآسي المسلمين وجراحاتهم ثم لا يلبث يهجم على
العلماء ويقدح فيهم فجرح الأمة من هذا أشد مضاضة ، ومنهم من يسعى في تضخيم أخطاء
العلماء عند العامة و يكون ذلك إذا ذكرت له فتوى لهم لا توافق هواه .
ومثال الطعن في أهل الأثر ما قرره بعضهم في رسالته التي أسسها على
الطعن في الدعوة السلفية متمثله في شيخها ناصر الدين رحمه الله كما يبدوا واضحاً
لكل من قرأها و مصداق ذلك مقدمتها عند الكلام عن الأساس الأول والثاني من الثلاثة
أسس التي بنى عليها رسالته ، وهو فيما يظهر ، من أوائل من الصق بالشيخ الألباني
تهمة الإرجاء .
ففي هذه الرسالة يقول عن الإمام الألباني " والمؤسف للغاية أن
بعض علماء الحديث المعاصرين الملتزمين بمنهج السلف الصالح قد تبعوا هؤلاء المرجئة
فى القول بأن الأعمال شرط كمال فقط ... أنظر رسالة حكم تارك الصلاة المنسوبة للشيخ
الألبانى ص 42. "
ويقول أيضاً " فالعجب ممن ينسب إلى نفسه السنة والحديث ثم
يوافقهم ، فمهما عمل أحد من المكفرات ( كالتشريع من دون الله ) فإنه لا يكفر عندهم
إلا إذا جحد أو استحل مراعاة منهم لهذا الإذعان أو التصديق المزعوم .؟ "
ويقول أيضاً : " حتى لقد وصل بهم (أي الجهمية) التمادى إلى
إخراج شعائر التقرب والتنسك كالنذر والتوسل والذبح والتعظيم من مسمى العبادة ، بل
صرحوا بأن السجود للصنم ليس بكفر لذاته ، انظر (1/124-163) ، ومن العجيب إن بعض من
ينتسب للسلف يوافقهم فى بعض الأمر."
وكذلك قوله في بعض دروسه عن هيئة كبار العلماء إنهم لا يفقهون
الواقع وإننا نكملهم فما سلم أحد من أئمة هذا الزمان من لمز هذا الرجل نسأل الله
له الهداية .
ويقول في كتاب آخر :
" وهنا لابد أن أؤكد أن الذين يؤمنون بهذا الوعد
التوراتي هم المؤمنون بالمسيح الدجال
وبالتالي فكل من يعتقد أو يوافق على مشروع إسرائيل آمنة مطمئنة فإنه شاء أم أبى
علم أو لم يعلم يعمل لإنشاء مملكة المسيح الدجال, ويسعى لتحقيق النبوة التوراتية
التي يدعيها هؤلاء ويخدم راضيا أو غير راض, يعلم أو لا يعلم، هذه الأهداف
الصهيونية التي يؤمن بها هؤلاء الأصوليون مع أولئك اليهود" ، وقد قال هذا الكلام بعد فتوى الإمام ابن باز
في مسألة الصلح مع اليهود .
ثم أنشأ قصيدته في لمز العلماء حيث يقول :
وبنو صهيون منذ الآن
إخوان الفسيلة
غير مغضوب عليهم
عند أصحاب الفضيلة
فاحذفوا ما قيل قدما في التفاسير الطويلة
واشطبوا ما قيل عنهم بئسما تلك المقولة
عدل التاريخ واحذف منه حطين الدخيلة
عدل السيرة واحذف ذكر كعب وقبيله
واجعل الكفار حصرا في قريش أوبجيلة
كل هذا شرط شامير فأوفوا المرء كيله
وبهذا عقد مدربد فأعطوا العهد قيله
سورة الأحزاب والحشر معانيها ثقيلة
فاطلب التأويل شيخا تلق للإسراء حيلة
أو تجاوزها إلى الكهف ولا تخشى المثيلة.
والفسيلة هي صغار النخل و هي كما هو معلوم منتشرة في بلاد نجد
ولزيادة التوضيح انظر قوله " أصحاب الفضيلة ".
وفي كتاب آخر جاء في كلام الناشر في مقدمته: "ويظهر الله الحق
على أيدي العلماء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم في الوقت الذي ينزوي فيه
آخرون إلى تكايا السلطان إيثارا للراحة أو خوفا من المواجهة ويتركون أمر الأمة
لطاغية مستبد أو عائلة سادرة أو أحزاب مستهترة بالأمة ودينها لا ترجو لله ولا
لعباده وقار".
ويقول المؤلف "... ونتيجة لهذا الغليان الذي لم يهدأ احتاجت
الحكومة لصوت إسلامي مضاد فكان إعلان التأييد في مجلس القضاء الأعلى ثم في هيئتكم
الموقرة وتم طلب ذلك من المحاكم الشرعية ومع تحفظي على صيغة التأييد من جهة أنه لم
يشر إلى أسباب البلاء ووسائل دفعها ولو بإيجاز ومن جهة لم يقيد الضرورة ... وغير
ذلك فقد ارتحت من جهة أنه لم يذكر أدلة تفصيلية"
ويقول أيضا في نفس الكتاب:" كل الأطراف تتكلم عن الأزمة حتى
(الفنانين والفنانات) والساكتون أو المسكتون هم أهل العلم والدعوة إلا من أيد
الواقع كما هو دون الإشارة إلى أخطاء الماضي وواجبات المستقبل"
وفي شريط له يقول:
" لماذا نضع اللوم دائما على جهة معينة؟ وخاصة الذي يشيع في
معترك معين, وظروف معينة، تحتم عليه المجاملات وأوضاع صعبة نحن الذين في بحبوحة أن
نقول الحق في بيوتنا في مساجدنا. علماؤنا يا إخوان كفاهم، كفاهم لا نبرر لهم كل
شيء لا نقول إنهم معصومون! نحن نقول نعم عندهم تقصير في معرفة الواقع، عندهم أشياء
نحن نستكملهم فيها ليس من فضلنا عليهم لكن
نحن عشنا أحداث هم ما عاشوها بحكم الزمن الذي عاشوا أو بحكم أوضاع أخرى! ومع ذلك
أقول المسؤولية الأساس علينا نحن طلبة العلم بالدرجة الأولى! و بعض هؤلاء العلماء
قد بدأ يسلم الأمر لأنه انتهوا في السن ".
فتأمل هذا الكلام وكيف جعل صاحبه منزلة طلاب العلم عند النوازل
مقدمة على منزلة العلماء ، مع أن المقرر أن الفتنة إذا أقبلت لا يعرفها إلا
العلماء وإذا أدبرت عرفها كل أحد ، وتأمل كيف وصلت به الجرأة إلى أن قال إن بعض
العلماء بدأ يسلم الأمر ، فنسأل الله العافية .
وقال آخر من رموزهم " ما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس
قضاياهم السياسية، التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها، والتي تتعلق بمصالح
الأمة العامة، أتريد من العالم أن يبقى محصوراً في أحكام مثلاً: الذبائح والصيد
والنسك والحيض والنفاس والوضوء والغسل والمسح على الخفين"
فتأمل في هذا الكلام الذي ليس لصاحبه سلف إلا ما قاله عمرو بن عبيد
المعتزلي: ( ألا تسمعون ما كلام الحسن وابن سيرين، عندما تسمعون إلا خِرقة حيض
ملقاة) وقال ( إن علم الشافعي وأبي حنيفة
جملة لا يخرج من سراويل امرأة) .
وقد يتعذر لهم من يقول إنهم ما أرادوا علماءنا فنقول فأين إذا
العلماء الذين قصدهم !! .
وعلى هذا المنوال سار الآخرون ففي كثير من تصريحاتهم ينفون وجود
مرجعية علمية صحيحة وموثوقة للمسلمين .
فبالله عليك أخي القاري كيف تتصور أن يكون حال من تربوا على كتابات
وأشرطة هؤلاء ، وبعد هذا نقول ما بال الشباب لا يأخذون بكلام العلماء وما بال
الشباب أصبح همهم الشاغل الوقيعة في العلماء وفي ولاة الأمر .
فمتى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم .
قال أحمد بن الحسن لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ذكروا لابن أبي قتيلة
بمكة أصحاب الحديث فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد بن حنبل وهو ينفض ثوبه
ويقول: زنديق، زنديق، حتى دخل البيت ، فاحذر أخي على دينك وحذر من أهل البدع .
كلمة أخيرة :
وفيها بيان الأصل العاشر من أصولهم :
لا يزال أهل الأهواء في كل عصر ومصر يتلونون حتى يحققوا مآربهم
وأهدافهم كما قال حذيفة رضي الله عنه :
"إن الضلالة كل الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت
تعرف وإياك والتلون في الدين فإن دين الله واحد"
وكما قال أبو طاهر السلفي :
ودع آراء أهل الزيغ رأسا ولا تغررك حذلقة الرذال
فليس يدوم للبدعي رأي
ومن أين المقر لذي ارتحال
يوافي حائرا في كل حال
وقد خلى طريق الإعتدال
ويترك دائبا رأيا لرأي ومنه كذا سريع الإنتقال
وعمدة ما يدين به سفاها
فأحداث من أبواب الجدال
وقول أئمة الزيغ الذي لا يشابهه سوى الداء العضال
كمعبد المضلل في هواه
وواصل أو كغيلان المحال
وجعد ثم جهم وابن حرب
حمير يستحقون المخالي
وثور كاسمه أو شئت فاقلب
وحفص الفرد قرد ذي افتعال
وبشر لا أرى بشرى فمنه
تولد كل شر وإختلال
وأتباع ابن كلاب كلاب على التحقيق هم من شر آل
والمراقب لأطرواحاتهم !! قبل مرحلة السجن يجد أنها تختلف عنها بعد
السجن ففي مرحلة ما بعد السجن أصبحوا يسيرون على قاعدة " التورية " {
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، وقد سبق الكلام عن هذا
الأصل.
كثير من الجماعات يعتمدون السرية في كثير من خططهم وأعمالهم بل
أنهم يبدأون مع المدعوين بتأصيل هذا الأمر وذلك بانتقاء موضوعات من السيرة يحملونها
على تحقيق أهدافهم ، لكنهم لا يبالغون في السرية كما يفعل الإخوان المسلمون فهم
يختلفون عن الإخوان ، أن قياداتهم ظاهرة ومعروفة ، ولذلك تجد أن المنهج السروري
أقرب إلى كونه منهج أشخاص يتغير المنهج بتغيرهم ويثبت بثباتهم ويرتب أولوياته حسب
قناعاتهم .
وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة للالكائي :
● وأعلم رحمك الله أنه لم يكن هنالك سرية
في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قد يتوهم بعضهم فالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم من أول يوم بعث فيه وكل
أحد يعرف الداعي ومايدعو إليه كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ}. فأهل مكة وغيرهم يعلمون أنه رسول وأنه أتى بدين جديد يدعو فيه إلى
عبادة الله وحده كما قال تعالى عنهم " أجعل الآلهة إلهاً واحداً" .
بل بلغ به الأمر صلى الله عليه وآله وسلم في أول الدعوة أنه كان يسب
دينهم ويضلل آبائهم ويسفه أحلامهم وكان يعرض دعوته ليس عليهم فقط بل على كل قادم إلى
مكة ، فأين السرية بعد هذا .
وإنما الذي حدث من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه جعل دعوته مرحلية فبدأ بدعوتهم فرداً فرداً
ثم جماعة جماعة .
أو من أجل بعض الأتباع الذين كان يخاف على دينهم
، وأما من كان فيه قوة أو له منعة فقد رخص له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدع بكلمة التوحيد بين
أظهرهم .
ففي الصحيحين في قصة إسلام أبي ذر :
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ
اكْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا
فَأَقْبِلْ فَقُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ
فَقَامُوا فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ
وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ فَأَقْلَعُوا عَنِّي فَلَمَّا أَنْ
أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالْأَمْسِ فَقَالُوا
قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالْأَمْسِ
وَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ
بِالْأَمْسِ قَالَ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ
*
والغريب في الأمر أن المخالفين يحتجون بهذا الحديث على صحة مذهبهم
!! .
قال النووي " وأما قوله ابتلينا فجعل الرجل
لا يصلي إلا سراً ، فلعله كان في بعض الفتن التي جرت "
وأما قوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ]
(94) سورة الحجر[،
فالمعنى أمض في دعوتك وتبليغها وإن كثر أذى المشركين لك ، وعندما زاد أذاهم له قال
له تعالى (إنا كفيناك المستهزئين) .
● وهذا الذي عناه بعض أهل السير عندما
يذكرون السرية في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن أهل الأهواء يجعلون هذه المسألة وهي السرية في دعوة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم مدخلاً لتمرير بدعهم على الأتباع بحجة السرية فيقطعون الصلة بين
المدعو والعلماء ثم يكونون تنظيماتهم السرية بمثل هذه الحجج التي تبدو لمن لا علم
عنده أنها من الشرع .
وعلى كل حال فهناك اتفاق بين كل من تكلم في هذه
المسألة على أن مرحلة السرية في حياته صلى الله عليه وآله وسلم - على القول بثبوت ذلك - كانت مرحلة مؤقتة لم تتجاوز الثلاث سنوات
ثم نسخت ونحن الآن مخاطبون بآخر النصوص .
● ومما يدل على فساد السرية أننا وجدنا أكثر من يلجأ إليها
أصحاب التحالفات والجماعات الحزبية وقد جاء في صحيح مسلم عَنْ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ
يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً *
فهذا دليل صريح على ذم المعاهدات والبيعات التي أحدثها أصحاب
الجماعات الإسلامية ، وقد وجدنا كثيراً منهم يلجأ إلى هذه التحالفات إما لأنه لا
يرى وجوب البيعة لولي الأمر في بلده ، وإما لأنه يرى كفره ، وبعضهم يقول أن الدعوة
لا تقوم إلا بهذا ، وصدق ، فإن دعوتهم المبنية على مبدأ كتل ثم علم ، ثم لا تعليم
، لا تقوم إلا بهذه البدعة وأما الدعوة السلفية النقية فإنها تتعطل بمثل هذه
الأساليب العصرية .
ففي الحلية (2/204) باسناد
صحيح عن مطرف قال " كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول يا عباد الله أكرموا
وأجملوا فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين الخوف والطمع فأتيته ذات يوم وقد
كتبوا كتابا فنسقوا كلاما من هذا النحو إن الله ربنا ومحمد
رسولنا والقرآن إمامنا ومن كنا وكنا ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا قال فجعل
يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا فيقولون أقررت يا فلان حتى أنتهوا إلي فقالوا أقررت
يا غلام قلت لا قال - يعني زيدا - لاتعجلوا على الغلام ما تقول يا غلام قلت إن
الله قد أخذ علي عهدا في كتابه فلن أحدث عهدا سوى العهد
الذي أخذه علي فرجع القوم من عند
آخرهم ما أقر منهم أحد وكانوا زهاء ثلاثين نفسا "
● وأما ما جاء في الصحيحين
عن عَاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ
أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا حِلْفَ
فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي *
فلا يصلح أن يكون حجة على مشروعية الأحلاف ومنها الجماعات لما
قدمنا ، والظاهر من جواب أنس رضي الله عنه أنه لم يبلغه الحديث وأما احتجاجه
بالمحالفة بين المهاجرين والأنصار فهي منسوخة باتفاق أهل العلم ، كما أن الحلف الذي
كان بين المهاجرين والأنصار لا يشبه ما تقوم به الجماعات الإسلامية في هذا العصر
من تحالفات وتكتلات .
● وبعض الكتاب يحتجون بسيرة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
رحمه الله وببعض فتاواه لا أقول على مشروعية العمل الجماعي فقط ، ولكن على مشروعية
الجماعات القائمة على معاهدات وتحالفات سرية ، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على جهل
هؤلاء القوم ومبلغ علمهم فإن شيخ الإسلام ليس نبياً ، وإن كنا نعتقد أنه من
الداعين إلى مذهب السلف ومن أحسن الناس بياناً له ، والدارس لسيرة الشيخ الإمام
يجد أنه كان يعيش بين كثير من أعداء الدعوة السلفية من الأشاعرة وغيرهم و أكبر
دليل على ذلك أن أئمة أهل السنة في ذلك العصر أمثال الحافظ المزي وشيخ الإسلام ابن
القيم قد سجنوا بل إن وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية كانت في سجن القلعة بسبب فتوى في
منع شد الرحال إلى قبر النبي e بعد أن خدم الأمة وقاد
الجيوش الإسلامية في مواجهة التتار لكنه رحمه الله استطاع أن يبين زيف عقيدة
الأشاعرة الذين كانوا يتقلدون مناصب التدريس والقضاء ولهم الحظ الأوفر عند
السلاطين الذين كانوا يرون أنهم أولى من غيرهم وأنهم على مذهب الجمهور فتأثر
بدعوته تلك أفراد فاعتنقوا مذهب السلف من أهل السنة وهؤلاء هم المعنيين بالجماعة
في رسالته التي أرسلها لهم وهو في السجن فهذه الجماعة هي التي جاء ذكرها في
الأحاديث وأنها الطائفة المنصورة لا كما ظن بعض المتعالمين فألف كتاباً في ذلك
ليوهم القاريء أن تلك الجماعة كباقي الجماعات الدعوية في هذا العصر ، فتلك الجماعة
كانت في مقابل الأشاعرة والحلولية من الصوفية ، وهذه الجماعات التي عناها الكاتب
هي في مقابل الدعوة السلفية التي يتبناها علماء الأمة ، فشتان بينها ، هذا ما
يتعلق بسيرة الشيخ .
● وأما ما تعلق به آخرون من فتاوى للشيخ يقر فيها الانتساب
للمعلم أو المربي فهذه إنما كانت في حالة تخالف تماما ما عليه الجماعات المعاصرة ،
فأولاً هذه الفتوى كانت في فترة لم يكن فيها عليهم ولاية فقد شبه شيخ الإسلام
المخالف من أولئك السائلين بالتتار و لم يكن في ذلك الوقت حاكم يحكمهم كما هو ثابت
في كتب التاريخ ، كما أن أولئك المعلمين كانوا يدربون الناس على أدوات الجهاد
ويعدونهم كعسكر يقاتلون في سبيل الله يدل على ذلك قوله رحمه الله " ولا يجوز
أن يكون مثل هؤلاء في عسكر المسلمين " ، فكان الانتقال من معلم إلى آخر يسبب
مفاسد كثيرة فلذلك نهى رحمه الله عن ذلك ، ومما يؤيد هذا قوله رحمه الله في تلك
الفتوى " وللمعلمين أن يطلبوا جعلاً ممن يعلمونه هذه الصناعة فإن أخذ الجعل
والعوض على تعليم هذه الصناعه جائز " .
● أهل الأهواء حريصون على نشر أفكارهم ولو عن طريق الحوارات
والمناظرات ، ولذلك وجدنا كثيراً من خوارج العصر يعترضون على ما يسمى بالعلاج
الأمني مع الخارجين عن الجماعة ، والمستحلين لدماء المعصومين عن طريق القتل
والتفجير .
فأما اعتراض هؤلاء على ما يسمى بالعلاج الأمني ودعوتهم للحوار وعقد
المناظرات مع أولئك القوم فهذا مكر من بعضهم ، وجهل من بعضهم الآخر حيث أنهم يعدون
هؤلاء الخارجين من البغاة وقد سبق بطلان هذا القول .
فرغم مخالفتهم للنصوص وهدي السلف في هذين الأمرين ، وسيأتي بيان
ذلك ، إلا أنهم يعلمون مقدار ماعند هؤلاء القوم من شبه تجعل الحليم حيراناً ،
يعتقدون أنها حق .
فإذا بدأت الحوارات والمناظرات ، سينتشر هذا الشر ويصبح من كان
ينكر عليهم في الماضي يقف الآن بعد معرفة حججهم ، موقف الصامت على أقل تقدير ،
وبعضهم يحتج على ذلك بمناظرة ابن عباس للخوارج الأولين ، وليس في ذلك حجة كما
سيأتي ، فالخوارج الأولون لم يعرفهم إلا آحاد الصحابة ومنهم علي رضي الله عنه ولم
تكن شبهاتهم معروفة أيضاً لذلك ناظرهم ابن عباس مع أن على أوصاه إلا يحدث شيئاً
حتى يأتي هو لمناظرتهم ، فشتان بين الحالين ، ولذلك كان السلف ينهون عن مناظرة أهل
البدع إذا كان الحق ظاهراً ، وهذا لا يخالف مناظرة بعض السلف لأهل البدع لأن القصد
من النهي ، الحيلولة دون نشر شبههم وتوسيع دائرة البدعة ، فإذا أمن هذا الجانب فلا
بأس من المناظرة .
قال شيخ الإسلام (درء التعارض 7/170): " فإن الحق إذا كان
ظاهراً قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من
ذلك ، فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن
عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم
وغيلان القدري وغيرهما كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعياً وهو لا يقبل
الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى
المسلمين "
ثم قال " والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف وكان مقصود الداعي
إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة ،
قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ
لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ } (16) سورة الشورى " .
قال الإمام اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/19) :
" فما جنى على المسلمين جناية ؛ أعظم من مناظرة المبتدعة ، ولم يكن لهم قهر
ولا ذل ؛ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة ، يموتون من الغيظ كمداً ودرداً ،
ولا يجدون إِلى إظهار بدعتهم سبيلاً حتى
جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقا وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً حتى
الغرماء بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من
الخاصة والعامة حتى تقابلت الشبه في الحجج وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا
اقراناً وأخداناً وعلى المداهنة خلاناً وإخواناً " .
وفي الإبانة لابن بطة ، أن ابن عباس - رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا -
قال : " باب شرك فتح على أهل الصلاة التكذيب بالقدر ، فلا تجادلوهم
فيجري شركهم على أيديكم " .
وفي شرح السنة للبربهاري [35]
" إذا سألك الرجل عن مسألة في هذا الباب وهو مسترشد فكلمه وأرشده وإذا جاءك
يناظرك فاحذره فإن في المناظرة المراء والجدال والمغالبة والخصومة والغضب وقد نهيت
عن جميع هذا وهو يزيل عن طريق الحق ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا وعلمائنا أنه
جادل أو ناظر أو خاصم ، قال الحسن الحكيم لا يماري ولا يداري حكمته ينشرها إن قبلت
حمد الله وإن ردت حمد الله وجاء رجل إلى الحسن فقال أنا أناظرك في الدين فقال
الحسن أنا قد عرفت ديني فإن كان دينك قد ضل منك فاذهب فاطلبه وسمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم قوما على باب حجرته يقول أحدهم ألم يقل الله كذا ويقول الآخر ألم
يقل الله كذا فخرج مغضبا فقال أبهذا أمرتكم أم بهذا بعثت إليكم أن تضربوا كتاب
الله بعضه ببعض فنهاهم عن الجدال ، وكان ابن عمر يكره المناظرة ومالك بن أنس ومن
فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق قال الله تعالى
وما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا وسأل رجل عمر بن الخطاب فقال ما الناشطات
نشطا فقال لو كنت محلوقا لضربت عنقك "
● لقد كنا نحذر من الخوارج منذ زمن ونرى بوادر خروجهم من تلك
الجموع المتحمسة التي أثار حماسها قوم انغر الناس بهم فترة من الزمن ، حتى إذا قال
العلماء كلمتهم لم يصغ إليهم أحد ، وهم إنما بينوا خطورتهم على الشباب فكيف لو
وصفوفهم بوصف آخر.
ولكن هذه الحقيقة المرة لا زال كثير من الناس يشكك في صحتها
تجاوباً مع العواطف ! .
و إلا لو تجردنا للحق واتبعنا سبيل المؤمنين لوضحت لنا الأمور،
وأنا لا أريد أن أنّقب في الماضي ، لكن حتى تتضح الصورة للقارئ أنقل هنا محاورة لهم مع إمام العصر شيخنا الإمام عبد
العزيز بن باز ، في مسألة يَعُد أهل السنَّة المخالف فيها من
الخوارج ، كما سيأتي في كلام الشيخ[36] وهذا قبل أن يستفحل أمرهم ويصبحوا أئمة عند
أتباعهم :
● قال أحد المشايخ : في التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى :
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) كفر دون كفر.
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : إذا لم يستحله ، يعني حكم
بالرشوة أو على عدوه أو لصديقه يكون كفراً دون كفر ، أما إذا استحل الحكم ، إذا
استحل ترك الشرع يكون كافراً ، إذا استحله كفر ، لكن لو حكم بالرشوة ما يكون
كافراً كفراً أكبر ، يكون كفراً دون كفر ، مثل ماقال ابن عباس ومجاهد وغيره.
قال المناقش : هو الإشكال الكبير في هذا المقام ـ عفا الله عنك ـ
مسألة تبديل الأحكام الشرعية بقوانين …
قال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : هذا محل البحث إذا فعلها
مستحلاً …
فقاطعه المناقش بقوله : وقد يدعي أنه غير مستحل ؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : إذا فعلها مستحلاً لها يكفر
وإذا فعلها لتأويل لإرضاء قومه أو لكذا وكذا يكون كفراً دون كفر ، ولكن يجب على
المسلمين قتاله إذا كان عندهم قوة حتى يلتزم ، من غيَّر دين الله بالزكاة أو غيرها
يقاتل حتى يلتزم .
فقال المناقش نفسه : بدَّل الحدود ، بدَّل حد الزنا وكذا وكذا .
فقال الشيخ ابن باز رحمه الله ـ : يعني ما أقام الحدود ، عزره بدل
القتل عزره.
فقال الشيخ ابن جبرين ـ حفظه الله ـ : أو الحبس .
فقال الشيخ ابن باز : أو الحبس .
قال المناقش : وضع مواد ـ عفا الله عنك ـ .
فقال الشيخ ابن باز : الأصل عدم الكفر حتى يستحل ، يكون
عاصيا وأتى كبيرة ويستحق العقاب ، كفر دون كفر حتى يستحل.
فقال المناقش : حتى يستحل ؟!! الاستحلال في قلبه ما ندري عنه ؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ هذا هو ، إذا ادعى ذلك ، إذا
ادعى أنه يستحله .
فقال أحد المشايخ : إذا أباح الزنا برضى الطرفين …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : كذلك هذا كفر .
فأكمل الشيخ نفسه كلامه بقوله : المرأة حرة في نفسها فلها أن تبذل
نفسها ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا أحلوا ذلك بالرضا فهو كفر .
فقال مناقش آخر : لو حكم ـ
حفظكم الله ـ بشريعة منسوخة كـاليهودية مثلا ، وفرضها على الناس وجعلها قانوناً
عاماً وعاقب من رفضه بالسجن والقتل والتطريد وما أشبه ذلك ؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : ينسبه إلى الشرع ولا لا (يعني
أو لا ) ؟
فقال المناقش نفسه : حكم
بها من غير أن يتكلم بذلك ، جعلها يعني بديل؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : أما إذا نسبها إلى الشرع
فيكون كفراً .
فقال المناقش : كفراً أكبر
أو أصغر ؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : أكبر ، إذا نسبها إلى الشريعة
، أما إذا ما نسبها إلى الشريعة ، بس مجرد قانون وضعه ، لا ، مثل الذي يجلد الناس
بغير الحكم الشرعي ، يجلد الناس لهواه أو يقتلهم لهواه ، قد يقتل بعض الناس لهواه
وغلبه .
فقال المناقش : ما يفرق ـ
حفظكم الله ـ بين الحالة الخاصة في نازلة أو قضية معينة وبين كونه يضعه قانوناً
عاماً للناس كلهم ؟
فقال الشيخ ابن باز : أما إذا كان نسبه إلى الشرع يكفر وأما إذا ما
نسبه إلى الشرع ، يرى أنه قانوناً يصلح بين الناس ما هو بشرعي ما هو عن الله ولا
عن رسوله يكون جريمة ولكن لا يكون كفراً أكبر فيما أعتقد .
فقال المناقش : ابن كثير ـ
فضيلة الشيخ ـ نقل في البداية والنهاية الإجماع على كفره كفراً أكبر .
فقال الشيخ ابن باز : لعله إذا نسبه إلى الشرع [37].
فقال المناقش : لا ، قال من
حكم بغير شريعة الله من الشرائع المنزلة المنسوخة فهو كافر فكيف من حكم بغير ذلك
من أراء البشر لاشك أنه مرتد …
فقال ابن باز : ولو ، ولو ، ابن كثير ما هو معصوم ، يحتاج تأمل ،
قد يغلط هو وغيره ، وما أكثر من يحكي الإجماع .
فقال أحد المشايخ : هم يجعلونه بدل الشرع ، ويقولون هو أحسن وأولى
بالناس ، وأنسب لهم من الأحكام الشرعية .
فقال الشيخ ابن باز : هذا كفر مستقل ، إذا قال إن هذا الشيء أحسن
من الشرع أو مثل الشرع أو جائز الحكم بغير ما أنزل الله يكون كفراً أكبر .
فقال أحد الحاضرين : الذين يكفرون النظام ويقولون : لا يكفر
الأشخاص ، يعني يفرقون في أطروحاتهم ، يقولون : النظام كافر لكن ما نكفر الأشخاص ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر ولو
هو شخص ، يعين ، يكفر بنفسه ، يقال فلان كافر إذا استحل الحكم بغير ماأنزل الله أو
استحل الزنا يكفر بعينه ، مثل ما هو كفر ، مثل ما كفر الصحابة بأعيانهم الناس
الذين تركوا (الزكاة).
مسيلمة يكفر بعينه ، طليحة قبل أن يتوب يكفر بعينه ، وهكذا من
استهزأ بالدين يكفر بعينه ، كل من وجد منه ناقض يكفر بعينه ، أما القتل شيء آخر ،
يعني القتل يحتاج استتابة .
فقال أحد الحضور : لكن إذا نسبه إلى الشرع ألا يحكم بأنه من
الكذابين ؟
فقال الشيخ ابن باز : من الكذابين .
فقال السائل : لكن دون الكفر .
فقال الشيخ ابن باز : إي نعم
[ ثم سؤال من نفس المناقش غير واضح ، وهو عن الكذب على النبي صلى
الله عليه وسلم ] .
وكذلك جواب الشيخ ابن باز غير واضح ، إلى أن قال : …… أما إذا قال
: لا ، أنا أقول إنه مثل الشرع أو أحسن من الشرع فهو كفر ، أما إذا كان رأى بدعة
فأهل البدعة معروف حكمهم .
فقال سائل : طيب ياشيخ بعضهم يقول : إن عمر ترك الحدود في المجاعة
عام الرمادة ؟
فقال الشيخ ابن باز : هذا اجتهاد له وجه ، لأنه قد يضطر الإنسان
إلى أخذ الشيء سرقة للضرورة .
فقال المناقش : ـ حفظكم
الله ـ الدليل على كون الكفر المذكور في القرآن أصغر ( فأولئك هم الكافرون ) أقول
ما هو الصارف مع أنها جاءت بصيغة الحصر؟
فقال الشيخ ابن باز : هو محمول على الاستحلال على الأصح ، وإن حمل
على غير الاستحلال فمثل ما قال ابن عباس يحمل على كفر دون كفر ، و إلا فالأصل هم
الكافرون [38].
فقال أحد المناقشين : ما فيه دليل ابن عباس ، مافيه أنه ما استحل
…… [ ثم كلام غير واضح من المناقش ]
فتدخل المناقش قائلا : نعم يعني ما الذي جعلنا نصرف النص عن ظاهره
؟
فقال ابن باز : لأنه مستحل له ، وذلك في الكفار الذين حكموا بغير
ما أنزل الله ، حكموا بحل الميتة ، حكموا بأشباهه ، أما لو حكم زيد أو عمرو برشوة
نقول كفر ؟ !! ما يكفر بهذا ، أو حكم بقتل زيد بغير حق لهواه ما يكفر بذلك.
ثم قال ابن باز بعد سكوت يسير : على القاعدة ، التحليل والتحريم له
شأن ، مثل الزاني هل يكفر ؟
فقال المناقش : ما يكفر .
فقال الشيخ ابن باز : وإذا قال حلال ؟
فقال المناقش : يكفر .
فقال الشيخ ابن باز : هذا هو .
فقال المناقش وآخر معه في
نفس الوقت قالا : يكفر ولو لم يزنِ .
فقال الشيخ ابن باز : ولو ما زنا .
فقال المناقش : نرجع سماحة
الوالد للنص ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) فعلق الحكم بترك الحكم ؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : الحكم بما أنزل الله يعني
مستحلاً له ، يحمل على هذا .
فقال المناقش : القيد هذا
من أين جاء ؟
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : من الأدلة الأخرى الدالة عليه
، التي دلت أن المعاصي لا يكفر صاحبها ، إذا لم يستحل ما صار كافراً .
ثم سؤال من شخص آخر والسؤال غير واضح ...
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : فاسق وظالم وكافر هذا إذا كان
مستحلاً له ، أو يرى أنه ما هو مناسب أو يرى الحكم بغيره أولى ، المقصود أنه محمول
على المستحل أو الذي يرى بعد ذا أنه فوق الاستحلال يراه أحسن من حكم الله ، أما
إذا كان حكم بغير ما أنزل الله لهواه يكون عاصياً مثل من زنا لهواه لا لاستحلال ،
عق والديه للهوى ، قتل للهوى يكون عاصياً ، أما إذا قتل مستحلاً ، عصى والديه
مستحلاً لعقوقهما ، زنا مستحلاً : كفر ، وبهذا نخرج عن الخوارج ، نباين الخوارج
يكون بيننا وبين الخوارج حينئذ متسع ولاَّ ـ بتشديد اللام بمعنى أو ـ وقعنا فيما
وقعت فيه الخوارج ، وهو الذي شبه على الخوارج هذا ، الإطلاقات هذه .
فقال المناقش : يعني
المسألة قد تكون مشكلة عند كثير من الأخوان فلا بأس لو أخذنا بعض الوقت .
فقال الشيخ ابن باز : لا ، مهمة مهمة ، عظيمة .
فقال المناقش : ذكرتم مسألة تكفير العاصي وفاعل الكبيرة ، هذا ليس
موضع خلاف .
فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : لا ، ما هي المسألة مسألة
الخوارج ، هو علة الخوارج ، الإطلاقات هذه ـ تركوا المقيدات وأخذوا المطلقات
وكفروا الناس ، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه.
فقال المناقش : الزاني والسارق سماحة الشيخ …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : هم كفار عند الخوارج .
فقال المناقش : عند
الخوارج ، لكن أهل السنة متفقون على أن هؤلاء عصاة .
فقال الشيخ ابن باز : ما لم يستحلوا .
فأكمل المناقش كلامه بقوله : لا يخرجون من الإسلام …
فكرر الشيخ قوله : ما لم يستحلوا .
فقال المناقش : ما لم يستحلوا
نعم . إنما هو يرون أن هناك فرقاً بين من يفعل المعصية فنحكم بأنه مسلم فاسق أو
ناقص الإيمان ، وبين من يجعل المعصية قانوناً ملزماً للناس ، لأنه ـ يقولون ـ لا
يتصور من كونه أبعد الشريعة مثلا وأقصاها وجعل بدلها قانوناً ملزماً ـ ولو قال إنه
لا يستحله ـ لا يتصور إلا أنه إما أنه يستحله أو يرى أنه أفضل للناس أوما أشبه
ذلك ، وأنه يفارق الذي حكم في قضية خاصة لقرابة أو لرشوة ؟
فقال الشيخ ابن باز : بس قاعدة ، قاعدة : لا زم الحكم ليس بحكم ،
لا زم الحكم ليس بحكم ، قد يقال في الذي حكم لهواه أو لقريبه : أنه مستحل يلزمه
ذلك وليش يسأل ، ما هو بلازم الحكم حكم ، هذا فيما بينه وبين الله ، أما
بينه وبين الناس يجب على المسلمين إذا كان دولة مسلمة قوية تستطيع أن تقاتل هذا ،
ليش ما يحكم بما أنزل الله ، يقاتل قتال المرتدين إذا دافع ، مثل ما يقاتل مانعي
الزكاة إذا دافع عنها وقاتل يقاتل قتال المرتدين ، لأن دفاعه عن الحكم بغير ما
أنزل الله مثل دفاعه عن الزكاة وعدم إخراج الزكاة ، بل أكبر وأعظم ، يكون
كافراً ، صرح به الشيخ تقي الدين ـ رحمه الله ـ في هذا ، قال قتاله
يكون قتال المرتدين لا قتال العصاة إذا دافعوا عن باطلهم ، ذكره رحمه الله في ،
أظن كتاب السياسة ، لا ، ما هو في السياسة ، غير هذا ، قال عنه فتح المجيد أظنه في
باب …
فتدخل المناقش قائلا : في الفتاوى في كلامه في التتر .
فقال الشيخ ابن باز : يمكن في التتر ، ذكر هذا رحمه الله أن قتالهم
ليس مثل قتال العصاة بل قتال المرتدين ، لأن دفاعهم عن المعصية مثل دفاع مانعي
الزكاة في عهد الصديق سواءً سواء .
فقال المناقش : حفظكم الله
ـ الآن بالنسبة لمانع الزكاة إذا قاتل عليها قلنا إنه يقاتل قتال كفر …
فقاطعة الشيخ ابن باز بقوله : لا شك ، لا شك .
فأكمل المناقش كلامه : لأن
امتناعه ، امتناعه وقتاله على ذلك …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : هو …… [ كلمة لم أعرفها ] دفاع من
يحكم بغير ما أنزل …
فأكمل المناقش كلامه بقوله : دليل على جحده للوجوب …
فقال الشيخ ابن باز مقاطعاً المناقش : إذا دافع عن الحكم بغير ما أنزل
الله وقال ما أرجع فهو دفاع المستحل ، يكون كافراً.
فقال أحد الحضور: هؤلاء مقطوع بأنهم سيستميتون …
فقال الشيخ ابن باز : إذا وقع ، إذا وقع كفروا ، إذا وقع
قيل لهم أحكموا بما أنزل الله و إلا قاتلناكم وأبوا يكفرون ، هذا الظن فيهم [39].
فقال المناقش نفسه : هذا الظن فيهم .
فقال الشيخ ابن باز : لا شك ، الظن فيهم هو هذا ، لكن بس الحكم
بغير الظن ، والظن في حكام مصر وغيرها ـ الله لا يبلانا ـ هو الظن فيهم الشر
والكفر ، لكن بس يتورع الإنسان عن قوله كافر ، إلا إذا عرف أنه استحله ، نسأل الله
العافية.
ثم قال الشيخ ابن باز : ما أدري عندك أسئلة ولا خلاص .
فقال آخر : نحن ننتظر الأذن لنا .
فقال ابن باز : لا بأس . ثم قال : البحث هذا ما يمنع البحث الآخر ،
البحث هذا ، كل واحد يجتهد في البحث ، قد يجد ما يطمئن له قلبه ، لأنها مسائل
خطيرة ، ما هي بسهلة مسائل مهمة.
فقال المناقش : ترون أن هذه المسألة ـ سماحتكم ـ يعني اجتهادية ؟
فقال الشيخ ابن باز : والله أنا هذا الذي اعتقده من النصوص يعني من
كلام أهل العلم فيما يتعلق في الفرق بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة ،
خصوصا الخوارج ، أن فعل المعصية ليس بكفر إلا إذا استحله أو دافع عن دونها بالقتال
.
فقال أحد الحضور : ـ سماحة الشيخ ـ أقول أحسن الله إليكم ـ إذا
كوتبوا وطولبوا بالشريعة فلم يرجعوا يحكم بكفرهم ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا قاتلوا بس ، أما إذا ما قاتلوا دونها لا
.
فقال المناقش : إذا طولبوا بهذا .
فقال ابن باز : إذا طلبت زيدا فقلت له زك فعيّا يزكي [ يعني رفض
يزكي ] عليك …… [ كلمة لم أعرفها والظاهر أنها بمعنى الإلزام ] بالزكاة ولو بالضرب
، أما إذا قاتل دونها يكفر .
فقال المناقش : لكن الذي سيطالب ضعيف وقد يقاتل .
فقال ابن باز : ولو ، ما يكفر إلا بهذا ، مادام أنه مجرد منع يعزر ،
وتؤخذ منه مع القدرة ، ومع عدم القدرة يقاتل إن كان للدولة القدرة على القتال
تقاتله .
فقال المناقش : لا ، من طلب بالحكم بشرع الله فأبى ؟
فقال ابن باز : يقاتل ، فإن قاتل كفر ، وإن لم يقاتل لم يكفر يكون
حكمه حكم العصاة .
فقال آخر : من الذي يقاتله ؟
فقال ابن باز : الدولة المسلمة .
فقال أحد الحضور : وإذا ما فيه دولة مسلمة ؟
فقال ابن باز : يبقى على حاله بينه وبين الله .
فقال أحد المشايخ : بعض
الدول متساهلين .
فقال الشيخ ابن باز : الله المستعان .
فقال المناقش : سماحة الشيخ ـ الشيخ محمد ـ الله يرحمه ـ ابن
إبراهيم في رسالته ذكر أن الدول التي تحكم بالقانون دول كفرية يجب الهجرة منها .
فقال الشيخ ابن باز : لظهور الشر لظهور الكفر والمعاصي .
فقال المناقش : الذين
يحكمون بالقانون .
فقال الشيخ ابن باز : شفت رسالته ـ الله يغفر له ـ بل يرى
ظاهرهم الكفر ، لأن وضعهم للقوانين دليل على رضى واستحلال ، هذا ظاهر رسالته[40] ـ رحمه الله ـ ، لكن أنا عندي فيها توقف ، أنه
ما يكفي هذا حتى يعرف أنه استحله ، أما مجرد أنه حكم بغير ما أنزل الله أو أمر
بذلك ما يكفر بذلك مثل الذي أمر بالحكم على فلان أو قتل فلان ما يكفر بذلك حتى
يستحله ، الحجاج بن يوسف ما يكفر بذلك ولو قتل ما قتل حتى يستحل ، لأن لهم شبهة ،
وعبد الملك بن مروان ، ومعاوية وغيرهم ، مايكفرون بهذا لعدم الاستحلال ، وقتل
النفوس أعظم من الزنا وأعظم من الحكم بالرشوة
فقال أحدهم : مجرد وجود الإنسان في بلاد كفر لا يلزمه الهجرة …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : الهجرة فيها تفصيل ، من أظهر دينه ما
يلزمه ، أو عجز ما يلزمه إلا المستضعفين .
فقال آخر : فيه آثار عن الإمام أحمد يكفر من يقول بخلق القرآن .
فقال الشيخ ابن باز : هذا معروف ، أهل السنة يكفرون من قال بخلق
القرآن … الخ هذه المناقشة حول خلق القرآن وتكفير القائل به ، والتي بها ختم
الشريط ،انتهى .
هذا فيما يتعلق بمسألة الحكم بغير ما أنزل الله وهي أم المسائل
عندهم وعلىها يؤصلون ، و سيأتي زيادة بيان لهذه المسألة .
وأما ما يتعلق بمسألة الخروج على الحاكم المسلم فقد خالفوا الإجماع
أيضاً ونصوا في كتبهم على الجواز ، بحجَّة أنه قد خرج من السلف قوم لأجل ظلم
الحاكم وفسقه ، والصحيح أن من خرج منهم قد أُنكر عليه ، ثم إنه قد انعقد إجماعهم
على تحريم الخروج ، قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب عند ترجمة الحسن بن صالح
" استقر الأمر على ترك ذلك – أي الخروج بالسيف - لما رأوه قد أفضى إلى أشد
منه ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر" ، وسيأتي زيادة
بيان لهذه المسألة أيضاً.
وأما لمزهم وتنقصهم للعلماء فحدث ولا حرج قال أبو حاتم الرازي
" علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر " ، وقد مضى بيان ذلك.
مناظرة ابن عباس للخوارج
الأولين [41]
:
عن عبد الله بن عباس قال لما
خرجت الحرورية اعتزلوا في دار وكانوا ستة آلاف ، فقلت لعلي يا أمير المؤمنين أبرد
بالصلاة لعلي أكلم هؤلاء القوم ؟
قال إني أخافهم عليك ، قلت كلا
فلبست ثيابي ومضيت حتى دخلت عليهم في دار وهم مجتمعون فيها ، فقالوا مرحبا بك يا
بن عباس ما جاء بك ؟ قلت أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره وعليهم نزل القرآن فهم أعلم بتأويله منكم
.
وليس فيكم منهم أحد ، لأبلغكم
ما يقولون وأبلغهم ما تقولون ، فانتحى لي نفر منهم قلت هاتوا ما نقمتم على أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وختنه وأول من آمن به ، قالوا ثلاث
قلت ما هي ؟ قالوا إحداهن : أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال الله تعالى ( إن
الحكم إلا لله ) قلت هذه واحدة ، قالوا وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم
فإن كانوا كفارا لقد حلت لنا نساؤهم وأموالهم ، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت علينا
دماؤهم ، قلت هذه أخرى ، قالوا وأما الثالثة فإنه محا نفسه من أمير المؤمنين فإن
لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين ، قلت هل عندكم شيء غير هذا ؟ قالوا حسبنا
هذا .
قلت لهم أرأيتم إن قرأت عليكم
من كتاب الله وحدثتكم من سنة نبيه ما يرد قولكم هذا ترجعون ؟ قالوا اللهم نعم ، قلت
أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فأنا أقرأ عليكم أن قد صير الله حكمه إلى
الرجال في أرنب ثمنها ربع درهم ، قال تعالى ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ـ إلى
قوله ـ يحكم به ذوا عدل منكم ) ، وقال في المرأة وزوجها ( وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم
وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم ؟ فقالوا اللهم بل في حقن
دمائهم وإصلاح ذات بينهم ، قلت أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم .
قلت وأما قولكم إنه قاتل ولم
يسب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة فتستحلوا منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم ، فإن
فعلتم لقد كفرتم وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم قال الله تعالى ( النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) فأنتم بين ضلالتين فأتوا منهما بمخرج أخرجت
من هذه الأخرى قالوا اللهم نعم .
قلت وأما قولكم محا نفسه من
أمير المؤمنين فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم دعا قريشا يوم الحديبية على أن
يكتب بينهم وبينه كتابا فقال اكتب ( هذا ما قضى عليه محمد رسول الله فقالوا والله
لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد
الله فقال والله إني لرسول الله وإن كذبتموني يا علي اكتب محمد بن عبد الله ،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي
وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك محوا من النبوة ، أخرجت من هذه الأخرى قالوا اللهم
نعم .
فرجع منهم ألفان وبقي سائرهم
فقتلوا على ضلالتهم قتلهم المهاجرون والأنصار ، انتهى .
وهذه المناظرة تدل على جهلهم
وانتحالهم للقرآن وإعراضهم عن السنَّة كما سيأتي في صفاتهم ، ومثلها مارواه مسلم :
عن مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي
أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ
مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ
نَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ قَالَ فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ
فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِذَا هُوَ قَدْ
ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ مَا
هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ ( إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) وَ ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا
فِيهَا ) فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ قَالَ فَقَالَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ
قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام
يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ مَقَامُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ
اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ قَالَ ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمَرَّ
النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ قَالَ غَيْرَ
أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ
يَكُونُوا فِيهَا قَالَ يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ
قَالَ فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ
فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ فَرَجَعْنَا قُلْنَا وَيْحَكُمْ
أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ
أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ *
وهذا الوصف ينطبق تماما على
الخواج الأولين وأما خوارج العصر فينطبق عليهم ما جاء في الصحيحين :
عن عَلِيٌّ رَضِي اللَّهُ
عَنْهُ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ
الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ
الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ
إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ
قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ *
قد جمعت في الأصل أربعين صفة من
صفات الخوارج وسأذكرها هنا مختصرة :
1) أن فيهم ورعاً كاذباً ، قال
شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/140) :
" وهذا الورع قد يوقع
صاحبه في البدع الكبار فان ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس
تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلماً من مخالطة الظلمة في زعمهم حتى تركوا
الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم
وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة وصار حالهم يذكر في اعتقاد
أهل السنة والجماعة " .
وفي مصنف ابن أبي شيبة (7/
560) :
" عن أبي مجلز قال بينما
عبد الله بن خباب في يد الخوارج إذ أتوا على نخل فتناول رجل منهم تمرة فاقبل
عليه أصحابه فقالوا له أخذت تمرة من تمر أهل العهد وأتوا على رجل منهم بالسيف
فأقبل عليه أصحابه فقالوا له قتلت خنزيرا من خنازير أهل العهد قال فقال عبد الله
ألا أخبركم من هو أعظم عليكم حقاً من هذا قالوا من ، قال أنا ، ما تركت صلاة ولا
تركت كذا ولا تركت كذا قال فقتلوه قال فلما جاءهم علي قال أقيدونا بعبد الله بن
خباب قالوا كيف نقيدك به وكلنا شرك في دمه فاستحل قتالهم " .
وفيه :
عن حميد بن هلال قال حدثني رجل
من عبد القيس قال كنت مع الخوارج فرأيت منهم شيئا كرهته ففارقتهم على أن لا أكثر
عليهم فبينا أنا مع طائفة منهم إذ رأوا رجلا خرج كأنه قرع وبينهم وبينه نهر فقطعوا
إليه النهر فقالوا كأنا رعناك قال أجل قالوا ومن أنت قال أنا عبد الله بن خباب بن
الأرت قالوا عندك حديث تحدثنا عن أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعته يقول أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن فتنة جائية القاعد
فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي فإذا لقيتهم فإن استطعت أن تكون
عبد الله المقتول فلا تكن عبد الله القاتل قال فقربوه إلى النهرة فضربوا عنقه
فرأيت دمه يسيل على الماء كأنه شراك ماء اندفر بالماء حتى توارى عنه ثم دعوا بسرية
له حبلى فبقروا عما في بطنها "
قال الحافظ اسنادها صحيح (
فتح12/367).
ومن ذلك تورعهم في هذا العصر
عن الفتوى في بعض مسائل الصلاة والطهارة والطلاق ثم هم يفتون في مسائل تتعلق بمصير
الأمة ويترتب عليها حدوث فتن وسفك للدماء .
2) أنهم خارجون على جماعة
المسلمين ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/496 ) :
" فهؤلاء أصل ضلالهم
إعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون" .
3) ومن صفاتهم الاعتداد بالنفس والتعالي على أهل العلم ، قال
شيخ الإسلام في الاستقامة (1/13) :
"وأول من ضل في ذلك هم
الخوارج المارقون حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته."
4) ومنها خروجهم عن السنَّة
وجعلهم ماليس بسيئة سيئة و ماليس بحسنة حسنة .
قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (19/72) :
" ولهم خاصتان مشهورتان
فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم أحدهما خروجهم عن السنَّة وجعلهم ماليس بسيئة
سيئة أو ماليس بحسنة حسنة "
5) يكفرون بالذنوب والسيئات ،
ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار
حرب ودارهم دار الإيمان ، ولا يلزم من ذلك أنهم يكفرون بكل المعاصي كما هو شائع .
قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (19/72) :
"الفرق الثانى فى الخوارج
وأهل البدع أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء
المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان "
6) يتبعون المتشابه من القرآن
والحديث ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 17/414) :
" كذلك كان أحمد يفسر
المتشابه من الآيات و الأحاديث التى يحتج بها الزائغون من الخوارج وغيرهم " .
7) من أسوأ صفاتهم السيف ، قال
ابن القيم في أغاثة اللهفان (2/81) :
" وأخرجت الخوارج قتال
الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " .
8) الخروج على الأئمة ، فلا
يقرون لهم بالطاعة .
قال شيخ الإسلام في منهاج
السنة (4/536):" وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة حتى
قاتلت عليا وغيره من المسلمين "
9) صرف النصوص إلى ما يعتقدونه
.
قال شيخ الإسلام في منهاج
السنة (4/536):" فإن اهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه دينا لكن قد
يخطئون من وجهين أحدهما أن يكون ما رأوه
دينا ليس بدين كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء فإنهم يعتقدون رأيا هو خطأ
وبدعة ويقاتلون الناس عليه بل يكفرون من خالفهم فيصيرون مخطئين في رأيهم وفي قتال
من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم وهذه حال عامة أهل الأهواء "
10) ظهور الجهل فيهم ، ويظهر
ذلك في كثير من مناظراتهم كما في مناظرة
ابن عباس للخوارج الأولين التي تبين مدى الجهل الذي بلغوه وانتحالهم للقرآن
وإعراضهم عن السنَّة ، وهاتان صفتان أخريان من صفاتهم .
11) عندهم خلل واضح في منهج
الاستدلال فهم يحتجون بالعمومات والإطلاقات ، قال الشاطبي (الاعتصام 1/245) "
من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها ، وبالعمومات من غير
تأمل هل لها مخصصات أم لا وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق " .
12) يعترضون على الكتاب والسنة
بالتأويل والقياس ، قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (1/308) :
"ومن اعترض على الكتاب
والسنة بنوع تأويل من قياس أو ذوق أو عقل أو حال ففيه شبه من الخوارج
أتباع ذي الخويصرة "
13) عندهم تقلب وعدم استقرار
في الآراء والأحكام ، وهذه الصفة عامة في أهل البدع قال حذيفة رضي الله عنه :
"إن الضلالة كل الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت تعرف وإياك
والتلون في الدين فإن دين الله واحد"
وكما قال أبو طاهر السلفي :
ودع آراء أهل الزيغ رأسا ولا تغررك حذلقة الرذال
فليس يدوم للبدعي رأي ومن أين المقر لذي ارتحال
14) عندهم تسرع واستعجال في
إصدار الأحكام ، والعجيب كما مر معنا أنهم يتحرجون من الإفتاء في مسائل الطهارة
والصلاة ونحوهما بدعوى الخوف من القول على الله بلا علم ثم تراهم يتجرأون على
الإفتاء في دماء الأمة وعلى مسائل يتحرج من الإفتاء فيها كبار العلماء ، ورحم الله
شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز كان عندما يسأل وقت الفتن يقول " حتى تجتمع
اللجنة" .
15) عندهم قصر نظر وقلة صبر ،
وأحداث سبتمبر وما جناه المسلمون من ورائها أكبر شاهد على ذلك وكذلك التفجيرات
التي استحلوا فيها دماء المسلمين بحجة عدم التميز .
16) عندهم جور وعدم رحمة
بالمؤمنين ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/110) :
" مثال ذلك أن الوعيدية
من الخوارج وغيرهم فيما يعظمونه من أمر
المعاصي والمنهي عنها واتباع القرآن وتعظيمه أحسنوا لكن إنما أتوا من جهة عدم
اتباعهم للسنَّة وإيمانهم بما دلت عليه من الرحمة للمؤمنين وان كان ذا كبيرة
" .
17) هم أهل بدعة حتى في الفروع
، ففي سنن الدارمي في قصة ابن مسعود رضي الله عنه مع النفر الذين كانوا يعدون
التسبيح بالحصى حيث أنكر عليهم وفيه قالوا " وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ قَالَ وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ
لَنْ يُصِيبَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ
وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ثُمَّ تَوَلَّى
عَنْهُمْ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا
يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ *
18) يقولون مالايفعلون ، ففي
الدرر قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (8/ 111)
( وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها , قبل الشروع في المقصود , وهي أن كثيراً من أهل الأزمنة وقبلها , قد غرهم من
أنفسهم أمران :
أحدهما : أنهم إن أحسنوا القول
رأوه كافياً , ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض , وما عرفوا أقوال الصادق المصدوق
صلى الله عليه وآله وسلم في الخوارج ,
" يقولون من قول خير البرية " " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية".)
19) ومن صفاتهم أنهم يحسنون
القول ، ففي الفتح ( وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أبي داود والطبراني "
يحسنون القول ويسيئون الفعل " وهو معنى قوله " يقولون من خير قول البرية
" قال الحافظ والمراد القول الحسن في الظاهر وباطنه على خلاف ذلك ).
قال بعض السلف " لو أن كل
صاحب بدعة حدثك ببدعته من حين جلوسه إليك
لنفرت منه ولكن يحدثك بالسنة ثم يدخل عليك البدعة " .
ومن صفاتهم :
20) تشددهم وغلوهم في العبادة
والأحكام ففي العبادة قال النبي في وصفهم كما في الصحيحين :
" يَخْرُجُ فِيكُمْ
قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ
مَعَ عَمَلِهِمْ " .
وأما في الأحكام فقد عرف عنهم
أنهم كانوا يوجبون الصلاة على الحائض كما فعلت الحرورية منهم ، ففي الصحيحين :
عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ
سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا
تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ
وَلَكِنِّي أَسْأَلُ قَالَتْ كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ
الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ *
كما أنهم يصلون الفرائض تامة
في السفر ، وبعضهم لم يثبت من الصلوات إلا صلاتين صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ،
ويشددون في باب النجاسات فيجعلون كل خارج من البدن نجساً ، قال ابن عبد البر في
التمهيد " ودفعوا رجم المحصن الزاني ومنهم من دفع الظهر والعصر " .
21) سيماهم التحليق ، ففي صحيح
البخاري :
سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ أَوْ
قَالَ التَّسْبِيدُ .
قال شيخ الإسلام " ولهذا
لما جاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله من المتشابه
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه ضرباً عظيماً كشف رأسه فوجده ذا ضفيرتين فقال
لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك لأنه لو وجده محلوقاً استدل بذلك على أنه
من الخوارج المارقين وكان يقتله لأمر النبي بقتالهم " ( مجموع الفتاوى 1/258)
22) لا يزالون يخرجون قرناً
بعد قرن كلما هلك قرن ظهر آخر ، حتى يكون آخر ظهورهم مع الدجال.
ففي سنن النسائي:
لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ
حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ * وهو في صحيح السنن .
وفي هذا رد على كثير من المتساهلين الذين ينكرون
وجود الفرق ومنها الخوارج ، لكن ربما يكون الإشكال عن أصحاب هذا القول ما ذكره شيخ
الإسلام ، قال في كتاب النبوات (1/139) :
" وكذلك الخوارج لما
كانوا أهل سيف وقتال ظهرت مخالفتهم للجماعة حين كانوا يقاتلون الناس وأما اليوم
فلا يعرفهم أكثر الناس".
23) يخرجون من المشرق ، ففي
صحيح البخاري :
" يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ
قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ " .
24) يخرجون على حين فرقة ، ففي
الصحيحين :
" يَخْرُجُونَ عَلَى
حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ " .
25) يعظمون آيات وأحاديث الوعيد ، فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه
: بَاب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ
عَلَيْهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا
بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ وَقَالَ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى
آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *
26) ليس فيهم علماء .
27) حدثاء الأسنان ، ففي
الصحيحين من حديث علي رَضِي اللَّه عَنْه
" يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ
سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ
الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ
حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ
أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
28) يكفر ويضلل بعضهم بعضاً ،
وهذا هو المشهور عنهم فإنه قلَّما يجتمعون في مجلس للنقاش ويخرجون منه دون أن يكفر
أو يضلل بعضهم بعضاً .
قال شيخ الإسلام ( المنهاج
5/251) " من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم
يخطئون ولا يكفرون "
29) يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، ففي الصحيحين [42]:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ
السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ
الْأَوْثَانِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ*
30) ليس لهم مؤلفات لانشغالهم
بالقتال وأما خوارج العصر فمؤلفاتهم كثيرة .
31) هم كلاب النار ، ففي سنن
الترمذي [43]:
عن أبي غالب قال رأى أبو أمامة
رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة كلاب النار شر قتلى تحت أديم
السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه إلى آخر الآية قلت لأبي
أمامة أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو لم أسمعه إلا مرة أو
مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه ".
32) شر قتلى تحت أديم السماء .
33) خير الشهداء من قتلوه ،
وهاتان الصفتان مذكورتان في حديث أبي أمامة السابق .
34) تكفل الله لمن قتلهم
بالأجر العظيم ، ففي صحيح مسلم :
عن زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ
الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِي
اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِي
اللَّهُ عَنْهُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى
صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ
صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ
مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ "
35) وصفهم بعض السلف بالفسق ،
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/588)
"قوله (و ما يضل به إلا
الفاسقين ) أي كل من ضل به فهو فاسق فهو ذم لمن يضل به فإنه فاسق ليس أنه كان
فاسقا قبل ذلك و لهذا تأولها سعد بن أبى و قاص في الخوارج
و سماهم فاسقين لأنهم ضلوا بالقرآن فمن ضل بالقرآن فهو فاسق " .
وفي الفتح قال الحافظ :
" وذهب أكثر أهل الأصول
من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين
ومواظبتهم على أركان الإسلام وإنما فسقوا بتكفير المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد
وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك
"
36) هم شر الخلق ، ففي سنن النسائي [44]
بسند صحيح كما قال الحافظ:
" لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ
الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ
الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ " .
37) يعملون بالتقية كما
عند النجدات .
38) يوجبون الكفر والخلود في
النار على أصحاب الذنوب عدا أصحابهم كما تفعل النجدات .
39) هم من الأخسرين أعمالاً ،
قال ابن كثير :
" وما أحسن ما قال بعض
السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا
بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) "
40) يسيئون الأعمال ، وهذا باب
واسع ، يشمل ما سبق ذكره وزيادة .
هذا ما تحصل من صفاتهم لا
كثرهم الله .
قال أبو العالية رحمه الله " قرأت المحكم بعد وفاة
نبيكم صلى الله عليه و سلم بعشر سنين ،
فقد أنعم الله علي بنعمتين لا أدري أيهما أفضل: أن هداني للإسلام ولم يجعلني
حرورياً " .
والحرورية فرقة من الخوارج كما
سبق .
وفي مصنف ابن أبي شيبة :
عن أبان قال خرجت خارجة من
البصرة فقُتلوا فأتيت أنساً فقال ما للناس فزعوا قلت خارجة خرجت ، قال : يقولون
ماذا ، قال قلت: يقولون مهاجرين ، قال : إلى الشيطان هاجروا أو ليس قد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أبي
غالب قال لما أتي برءوس الآزارقة فنصبت على درج دمشق جاء أبو أمامة رضي الله عنه
فلما رآهم دمعت عيناه ثم قال كلاب النار كلاب النار هؤلاء لشر قتلى قتلوا تحت أديم
السماء وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء قلت فما شأنك دمعت عيناك قال
رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام قال قلت أبرأيك قلت كلاب النار أو شيء سمعته
قال إني إذاً لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه مرة ولا اثنتين ولا
ثلاثاً فعدد مراراً ثم تلا ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ، حتى بلغ ، (هم فيها
خالدون )، وتلا : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) حتى بلغ (أولوا
الألباب) ، ثم أخذ بيدي فقال أما إنهم بأرضك كثير فأعاذك الله تعالى " .
ورواه أحمد والترمذي وقال حسن وحسنه الألباني في المشكاة (3554 ) .
خفاء حال أهل البدع على كثير من
الناس و وجوب التحذير منهم:
من المسائل المهمة التي تغيب
عن أذهان بعض طلبة العلم أن حال أهل البدع اليوم قد خفي على كثير من طلبة العلم
والسبب في ذلك اختلاطهم بأهل السنة وإلا لو كان لهم ظهور وشوكة أو كانوا متحزبين
على أنفسهم كحال الروافض والصوفية في زماننا لما اختلف إثنان في تعيينهم ، قال
الإمام الذهبي في السير (11/82) " فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة
على المنابر، ولئن خطب خاطبٌ من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة
وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،
فنعوذ بالله من الخذلان" .
وقد مر معنا بعض القواعد التي
كان يميز بها السلف أهل البدع ، وما نلاقيه نحن طلبة العلم الخائضين في مثل هذه
المسائل من صدود و رد لكلامنا ممن ليس لهم نصيب من العلم ، يجب أن لا يثنينا عن
هذه الوظيفة العظيمة التي سار عليها الأنبياء والعلماء قبلنا ، قال ابن القيم رحمه
الله في إعلام الموقعين (3/396) " لا يوحشنك من قد أقر على نفسه هو وجميع أهل
العلم أنه ليس من أولي العلم ، فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم ، طالب للدليل ،
محكم له ، متبع للحق حيث كان وأين كان ، ومع من كان ، زالت الوحشة وحصلت الألفة
ولو خالفك ، فإنه يخالفك ويعذرك والجاهل
الظالم يخالفك بلا حجة ويكفرك ، أو يبدعك بلا حجة ، وذنبك رغبتك عن طريقته
الوخيمة ، وسيرته الذميمة فلا تغتر بكثرة
هذا الضرب فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم ، والواحد من
أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم أ.هـ
قال شيخ الإسلام كما في (نقض
المنطق)(ص 12)" الرادّ على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب
عن السنّة أفضل الجهاد ".
وقال كثير بن أبي سهل: " أهل الأهواء ليس لهم حرمه " .
وفي الصحيحين :
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّىاللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ
الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ
فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي
الْقَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ *
وعند البخاري :
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىاللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ فُلَانًا
وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا قَالَ الّلَيْثُ كَانَا رَجُلَيْنِ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
بِهَذَا وَقَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّىاللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ
يَوْمًا وَقَالَ يَا عَائِشَةُ مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ
دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ *
وفي شرح العلل لابن رجب ص59:
كان شعبة يقول : تعالوا حتى
نغتاب في الله ساعة - يعني نذكر الجرح والتعديل . وذكر ابن المبارك رجلاً فقال :
يكذب فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن تغتاب قال اسكت إذا لم نبين كيف يعرف الحق من
الباطل .
وكذا روي عن ابن علية أنه قال
في الجرح إن هذا أمانة ليس بغيبة .
وقال محمد بن بندار السباك
الجرجاني قلت لأحمد بن حنبل إنه ليشتد عليّ أن أقول فلان ضعيف فلان كذاب قال أحمد
إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل
الصحيح من السقيم .
وقال إسماعيل الخطببي : ثنا
عبد الله بن أحمد قلت لأبي ما تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون
مرجئاً أو شيعياً أو فيه شيء من خلاف السنة أيسعني أن أسكت عنه أم أحذر عنه فقال
أبي إذا كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها و يدعو إليها ؟ قال : نعم تحذر عنه .
وذكر الخلال عن الحسن بن علي
الأسكافي قال سأل أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن معنى الغيبة قال : إذا لم ترد
عيب الرجل .
وفي
كتاب الروح لابن القيم الفرق بين الغيبة والنصيحة قصد المتكلم .
القدح ليس بغيبة في ستـةٍ متظلمٍ
ومـــعرفٍ ومـحذرِ
ومجاهرٍ فسقاً ومستفــتٍ
ومن طلب الإعانةَ في إزالة منكرٍ
لكن ينبغي لمن أراد أن يحذر من
شخص أو قوم أن يكون حكمه مستنداً إلى بينة
فإذا لم ير أو لم يسمع فينبغي له أن يستعمل " ما بال أقوام " إلا أن
ينقل عن إمام تقي متثبت ، كما مر معنا في موقف الإمام أحمد من داود الظاهري ،
وموقف أبي زرعة وأبي حاتم من الإمام البخاري .
وللأسف فإن داء التعصب
والتقليد قد انتشر في أهل العصر كانتشار النار في الهشيم ، وهذا أمر غير مستغرب
فقد قال الإمام السجزي في القرن الرابع " والناس في زماننا أسراب كالطير يتبع
بعضهم بعضاً حتى لو خرج فيهم رجل يدعي النبوة وهم يعلمون أنه لا نبي بعد محمدe لوجد على ذلك أتباعاً " فماذا نقول نحن اليوم ، فاللهم لطفك
.
ونحن قد نعذر بعض أهل العلم
ممن لم يجزم بوصف بعض طوائف أهل البدع في هذا العصر بأنهم خوارج ، فإذا كان
الخوارج الأولون قد شك بعض الصحابة في تعيينهم وقد كانوا أهل شوكة وسلاح ، فمن شك
الآن فيعتذر له إذا كان من أهل السنَّة.
ففي صحيح البخاري :
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلَاهُ عَنِ
الْحَرُورِيَّةِ أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَا أَدْرِي مَا الْحَرُورِيَّةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا قَوْمٌ
تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ
حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ
الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ
فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ *
فهذا أبو سعيد لم يجزم بتعيين
الحرورية و الظاهر أن هذا كان في أول أمرهم وإلا فقد جزم أبو سعيد بتعينهم لا حقاً
.
فقد جاء عند البخاري :
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ
اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ
أَعْدِلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ دَعْهُ
فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ
وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنَ الرَّمِيَّةِ يُنْظَرُ فِي قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ
يُنْظَرُ فِي نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي رِصَافِهِ
فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ
شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ أَوْ
قَالَ ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَالَ مِثْلُ الْبَضْعَةِ
تَدَرْدَرُ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
أَشْهَدُ سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ
أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ
الَّذِي نَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَنَزَلَتْ
فِيهِ ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ) *
وفي مصنف ابن أبي شيبة (
7/559) : " فقال علي اطلبوا الرجل فيهم قال فطلب الناس فلم يجدوه حتى قال
بعضهم غرَّنا ابن أبي طالب من اخواننا حتى قتلناهم فدمعت عين علي قال فدعا بدابته
فركبها فانطلق حتى أتى وهدة فيها قتلى بعضهم على بعض فجعل يجر بأرجلهم حتى وجد
الرجل تحتهم فأخبروه فقال علي الله أكبر وفرح الناس ورجعوا وقال علي لا أغزو العام
ورجع إلى الكوفة وقتل واستخلف حسن فساروا بسيرة أبيه بالبيعة إلى معاوية "
فهولاء أصحاب على قد شكوا في
أمرهم رغم أنهم قاتلوهم ولم يتيقنوا حتى رأوا ذا الثدية .
وفي صحيح مسلم :
عن زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ
الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِي
اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِي
اللَّهُ عَنْهُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى
صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ
صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ
مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ
لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ
بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ
يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو
أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ
وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَالَ سَلَمَةُ
بْنُ كُهَيْلٍ فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلًا حَتَّى قَالَ مَرَرْنَا
عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فَقَالَ لَهُمْ أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا
سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا
نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا
السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ قَالَ وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ فَقَالَ عَلِيٌّ
رَضِي اللَّهُ عَنْهُ الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ
فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ
فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ
عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلِلَّهَ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِي وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ *
وسبب قول علي هذا ، أنهم لم
يظهروا عقيدتهم في أول أمرهم ، ومع ذلك قاتلهم رضي الله عنه فكان فعله هو الصواب
وليس ذلك غريباً عليه فقد كان أفقه أهل زمانه وطائفته هي أولى الطائفتين إلى الحق
كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
.
ففي صحيح مسلم :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى
الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ *
وفي الصحيحين :
" وَيْحَ عَمَّارٍ
تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ
إِلَى النَّارِ *
وعمار إنما قتله أصحاب معاوية
رضي الله عنه .
فلا يغررك أيها الطالب للحق
قول بعضهم إن الخوارج قد مضى زمانهم .
نبذ التفرق والحث على الاجتماع :
لقد وجدت من آثار الخطأ في تعيين أهل البدع كما ألمحنا سابقاً نشوب
الخلاف بين أهل الحق بسبب ذلك ، فينبغي لأهل العلم أن يحذروا أسباب الفرقة لأن
الاتفاق على كل مسألة أمر متعذر ، وأن يحرصوا على
الاجتماع على الخير ، والاجتماع الذي نعنيه هو الاجتماع على ما كان عليه السلف
الصالح . فإذا قيل لك عليك بالجماعة فلا يخطر ببالك جماعة بعينها في هذا الزمان ، بل المعنَى : عليك بما كان
عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فالمقصود بالجماعة ، هي ما
كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولو كنت وحدك . يقول الإمام البربهاري رحمه الله تعالى (شرح
السنَّة 105) " والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " ا.هـ
● لكن مفهوم الجماعة قد ضل فيه أقوام ، فبعضهم نزل النصوص
الواردة في الجماعة على جماعته فضلل الخارجين عنها كما فعل صاحب المدخل إلى جماعة
الإخوان المسلمين ، وبعضهم كفرهم كما فعل أصحاب الهجرة والتكفير وقد سموا جماعتهم
(جماعة المسلمين ) ، والحق وسط بين طرفين
.
● وقد جاء في السنَّة ما يدل على ضرورة
الاجتماع وعدم التفرق ، بل من حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك أنه حث أيضا على اجتماع الأجساد حتى
يكون الظاهر عنواناً للباطن .
ففي سن أبي داود والدارمي ومسند الإمام أحمد
بإسناد على شرط الشيخين:
عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ : ( كَانَ
النَّاسُ إذا نَزَلُوا مَنْزِلا - قَالَ عَمْرٌو كَانَ النَّاسُ إذا نَزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم
مَنْزِلا
- تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأوْديَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وآله وسلم إن تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ
وَالأوْدِيَةِ إنما ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ
مَنْزِلا إلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَو بُسِطَ
عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ )
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : ( خَرَجَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ
كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُنُوا فِي الصَّلاةِ قَالَ ثُمَّ خَرَجَ
عَلَيْنَا فَرَآنَا حلَقًا فَقَالَ مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ قَالَ ثُمَّ خَرَجَ
عَلَيْنَا فَقَالَ ألا تَصُفّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا
فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ
يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأول وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ )
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : ( دَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم
الْمَسْجِدَ
وَهُمْ حِلَقٌ فَقَال مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ ) حَدَّثَنا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ
الأعْلَى عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا قَالَ كَأَنَّهُ يُحِبُّ
الْجَمَاعَةَ .
لكن الذي يهمنا هنا هو التفريق بين الخلاف الذي يكون في دائرة أهل
السنة والجماعة فقد يكون اختلاف تنوع وقد يكون اختلاف في الأساليب بل قد يكون
اختلاف تضاد ، فما دام في هذه الدائرة فالخطب يسير ، لكن الخلاف الذي يضلل به
صاحبه ويكون خارج هذه الدائرة هو الذي يجب أن نجتمع على رده والإنكار على صاحبه
وهذا هو الذي سرت عليه في هذه الرسالة فما أصبت فمن الله وما أخطأت فيه فمن نفسي
والشيطان .
تنبيه بشأن الحكم على بعض المعاصرين
:
عندما نصف بعض الدعاة
المعاصرين أنهم من الخوارج لا يعني ذلك أنهم قد وافقوا الخوارج من كل وجه ، وسيأتي
توضيح ذلك عند الكلام عن مسألة الخروج على الحكام ، فذِكرنا للخلاف في تكفير
الخوارج أو ما جاء في قتالهم لا ينطبق على كل هؤلاء المعنيين ، لأن الأسماء لها
مراتب كما أن الأحكام لها مراتب ، وسأذكر هذا عند الكلام على أصول الخوارج والرد
على غلاتهم ، وهذه المسألة لها علاقة بمسألة التبديع ومتى يحكم على المعين بأنه
مبتدع خارج عن أهل السنة والجماعة منسوب إلى بعض الفرق المبتدعة ، فالضابط في هذا
والله أعلم أن يتخذ ما خالف فيه قولاً يفارق به الجماعة والمسألة تحتاج إلى زيادة
بسط ، فتنبه .
رؤوس
الجماعات الحزبية المنبع الذي خرجت منه الفرق :
لقد ارتبط ظهور الفرق بالفتن المذكورة خلال التاريخ الإسلامي ، ففي
الصحيحين (خ1435):
عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفِتْنَةِ قَالَ قُلْتُ أَنَا
أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ قَالَ إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ فَكَيْفَ قَالَ قُلْتُ
فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ
وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ قَالَ سُلَيْمَانُ قَدْ كَانَ يَقُولُ الصَّلَاةُ
وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ
لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ
قَالَ قُلْتُ لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ بَيْنَكَ
وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ قَالَ فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ قَالَ قُلْتُ
لَا بَلْ يُكْسَرُ قَالَ فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا قَالَ
قُلْتُ أَجَلْ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ
سَلْهُ قَالَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْنَا
فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي قَالَ نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً
وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ *
قلت : قتل عمر رضي الله عنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنه الله ففتح
الباب ثم توالت بعد ذلك الفتن .
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعَى بِزِينَتِهَا
لِكُلِّ جَهُولِ حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا وَلَّتْ عَجُوزًا
غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ مَكْرُوهَةً
لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ *
وفي صحيح البخاري :
بَاب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَقَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ
يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ .
فكانت أول فتنة بعد قتل عمر خروج الثوار على عثمان رضي الله عنه
وكان ذلك أول ظهور الخوارج ، قال الإمام البربهاري – رحمه الله - : " واعلم
أن الدين العتيق ما كان من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتل عثمان بن
عفان رضي الله عنه وكان قتله أول الفرقة وأول الاختلاف فتحاربت الأمة وافترقت
واتبعت الطمع والهوى والميل إلى الدنيا ".
وهذه الطائفة التي خرجت على عثمان لم تكن تريد الإمامة ولكن كانت
تظهر النقمة على عثمان رضي الله عنه ، وكان ذلك سنه 35هـ.
قال أبو الحسن الأشعري في المقالات ( 1/3) : " ولم يحدث خلاف
في حياة أبي بكر رضوان الله عليه ، وأيام عمر ، إلى أن ولي عثمان بن عفان رضوان
الله عليه ، وأنكر قوم عليه في آخر أيامه أفعالاً كانوا فيما نقموا عليه من ذلك
مخطئين وعن سنن المحجة خارجين " .
وكان أول قرن خرج من هذه الطائفة ذو الخويصرة التميمي ، وكان ذلك
في حياة النبي ،
فكما في الصحيحين :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ قِسْمًا فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ
رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ قَالَ وَيْلَكَ مَنْ
يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَقَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ
قَالَ لَا إِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ
وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمُرُوقِ السَّهْمِ مِنَ
الرَّمِيَّةِ يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ
إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلَا
يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ
قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ
آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ
الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنِّي كُنْتُ مَعَ
عَلِيٍّ حِينَ قَاتَلَهُمْ فَالْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى فَأُتِيَ بِهِ عَلَى
النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
وقد خرج أصحاب ذي الخويصرة كما اخبر النبي على حين فرقة وذلك بعد الفتنة التي وقعت بين
الصحابة ، وذلك بعد وقعة الجمل وصفين بشكل واضح وبعقيدة فارقوا فيها الجماعة سنة
37هـ .
قال شيخ الإسلام في العقيدة الأصفهانية (1 / 184 ) : " وكان
ظهور البدع والنفاق بحسب البعد عن السنن والإيمان وكلما كانت البدعة أشد ، تأخر
ظهورها وكلما كانت أخف كانت إلى الحدوث أقرب فلهذا حدث أولاً بدعة الخوارج والشيعة
ثم بدعة القدرية والمرجئة وكان آخر ما حدث بدعة الجهمية . "
وقال ابن القيم في حاشيته على مختصر سنن أبي داود (12/ 298 ) :
" والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم من طوائف أهل البدع هم الخوارج
فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح لأن مقالتهم حدثت في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم وكلمة رئيسهم ، وأما الإرجاء والرفض والقدر والتجهم والحلول وغيرها
من البدع فإنها حدثت بعد انقراض عصر الصحابة ، وبدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة
فأنكرها من كان منهم حياً كعبد الله بن عمر وابن عباس وأمثالهما رضي الله عنهم ،
وأكثر ما يجئ من ذمهم فإنما هو موقوف على الصحابة من قولهم فيه ، ثم حدثت بدعة
الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة فتكلم فيها كبار التابعين الذين أدركوها كما
حكيناه عنهم ، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين واستفحل أمرها واستطار
شرها في زمن الأئمة كالإمام أحمد وذويه ، ثم حدثت بعد ذلك بدعة الحلول وظهر أمرها
في زمن الحسين الحلاج وكلما أظهر الشيطان
بدعة من هذه البدع وغيرها أقام الله لها من حزبه وجنده من يردها ويحذر المسلمين
منها نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأهل الإسلام
وجعله ميراثاً يعرف به حزب رسول الله صلى الله عليه وسلم وولى سننه من حزب
البدعة وناصرها " اهـ .
وقال ابن كثير في التفسير [45]:
" أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم
النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل
في القسمة ففاجئوه بهذه المقالة فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة بقر الله خاصرته اعدل فإنك لم تعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل أيأمنني على أهل
الأرض ولا تأمنوني ، فلما قفا الرجل
استأذن عمر بن الخطاب وفي رواية خالد بن الوليد في قتله فقال دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا ـ أي من جنسه ـ قوم
يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم ، ثم كان ظهورهم
أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل
وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ثم انبعث القدرية ثم المعتزلة ثم الجهمية
وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها
في النار إلا واحدة قالوا وما هم يا رسول
الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي أخرجه الحاكم في مستدركه " .
فينبغي للدارس للحركات والجماعات الإسلامية السرية أن يلاحظ
التسلسل التاريخي لهذه الجماعات والأصول التي بنت عليها ، قال شيخ الإسلام كما في
مجموع الفتاوى ( 28 / 479 ): " وقد اتفق أهل العلم بالأحوال أن أعظم السيوف
التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن
ينتسب إلى أهل القبلة ، إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم فهم أشد ضرراً على
الدين وأهله " .
وفي هذا رد على بعض الجهلة ممن يقول : سلم منكم اليهود والنصارى
ولم يسلم منكم المسلمون ، وقد درج السلف على بيان ضرر أهل البدع بل قد نص بعضهم على
أن أهل البدع أضر علينا من اليهود والنصارى كما ذكر ذلك الإمام البربهاري في شرح
السنَّة .
وقال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 169) : " وقد تكون مفسدة
اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن
المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه ،
وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من
بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ويخرجونه منه ،
وهو يظن أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم
" .
وقد سبق أن ذكرنا ، أن حال أهل البدع اليوم قد خفي على كثير من
طلبة العلم والسبب في ذلك اختلاطهم بأهل السنَّة وإلا لو كان لهم ظهور وشوكة أو
كانوا متحزبين على أنفسهم كحال الروافض والصوفية في زماننا لما اختلف إثنان في
تعيينهم كما أنه قد شاع عن كثير من الناس أن السنِّي يقابله الرافضي أو الشيعي
فهؤلاء هم المبتدعة وما عداهم فهم أهل سنَّة ، كما هو عند بعض الجماعات المعاصرة ،
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 28/482):
" شاع فى العرف العام أن أهل البدع هم الرافضة فالعامة شاع عندها
أن ضد السنِّى هو الرافضى فقط لأنهم أظهر معاندة لسنَّة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء "
والمقرر عند أهل العلم أن أصول الفرق أربعة الخوارج و المرجئة
والقدرية والشيعة .
ففي درء التعارض ( 7/110 ):
" وقال يوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك أصول الثنتين
وسبعين فرقة أربع الخوارج والشيعة
والمرجئة والقدرية فقيل لابن المبارك فالجهمية فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة
محمد "
ومن هذه الأصول تتفرع باقي الفرق لكن هل يمكن أن يقال إن الجماعات
الحزبية المعاصرة ، المنتسبة إلى أهل السنة والجماعة من الفرق .
إن كل منصف يقول إن الحق واحد لا يتعدد وكذلك السبيل الموصلة إليه
كما جاء ذلك في حديث ابن مسعود ففي مسند الإمام أحمد :
عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ
خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ
قَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ
شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ هَذِهِ سُبُلٌ قَالَ يَزِيدُ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ
سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ " [46]
قال تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " .
وحيث الأمر كذلك فإننا نجزم أن هذا المنهج وهذا السبيل الذي تسير
عليه هذه الجماعات ليس سبيل الحق الذي كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة .
وحيث الأمر كذلك أيضاً فإن هذا السبيل الذي هم عليه لابد أن يكون
أحد سبل الشيطان المذكورة في حديث ابن مسعود ولا يعني هذا كما يظن بعض الجهلة أنه
لا خير عندهم فكما نعلم أن النبي قال
في الشيطان " صدقك وهو كذوب " .
قال شيخ الإسلام (الفتاوى 4/57):
" السنَّة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم الذي يوصل
العباد إلى الله والرسول هو الدليل الهادي الخريت في هذا الصراط كما قال تعالى إنا
أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وقال تعالى
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا
إلى الله تصير الأمور ) وقال تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا
السبل فتفرق بكم عن سبيله) وقال عبدالله بن مسعود خط رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان
يدعو إليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء
الله هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من
الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية
والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية
وغيرهم وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعى أن سبيله
هو الصواب وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى "
فيظهر لنا أن الحكم الذي ينطبق على هذه الحزبيات بل وعلى كل من حاد
عن طريق السلف الصالح أنهم أهل بدعة لكن لا يلزم من هذا أن يكونوا من الفرق
الهالكة بمعنى أنهم في النار - إلا من وضح أمره - لأنه كما هو مقرر في موضعه ، أنه
لا يلزم من تلبس المكلف بالبدعة أن يكون خارجا عن أهل السنة والجماعة .
ولأن هذا الحكم ينبغي أن يصدر من العلماء المعروفين فلا أريد أن
أرِد هذا الباب ، مع أننا نعرف أن بعض العلماء المشهورين والمشهود لهم بالعلم
والفضل قد حكموا عليهم بأنهم ليسوا من أهل السنة بل قالوا إنهم من الذين يحاربون
السنة ، ومحاربتهم للسنة أمر واضح لا شك فيه.
وسبب الإشكال عند كثير من طلبة العلم أمام هذه الفتاوى في الحكم
على هذه الجماعات بأنها من الفرق أننا قد شاهدنا بعضاً ممن ينتسبون إلى هذه
الجماعات ممن ظاهرهم التلبس بالسلفية والله أعلم بحقيقة أمرهم فإذا رأى بعض صغار
طلبة العلم مثل هذه النماذج يستنكر وصفهم بأنهم أهل بدعة ، وأمر آخر أن هذه التجمعات الحزبية يبدوا للبعض
أنها تجمعات دعوية وليست عقيدية بحيث أنه يمكن أن يلجها كل أحد ولو كان في حقيقة
الأمر مخالفاً لهم لكن مع مرور الأيام يتلقن عقيدتهم ومنهجهم ، فيقال إن المقرر أن
الحكم إذا كان على المجموع فإنه قد يتخلف في بعض الأفراد لبعض الأسباب لكن العبرة
بالمنهج كما أن العبرة بالغالب .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 3/346) " وأما تعيين هذه
الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات لكن الجزم بأن هذه
الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل ".
فإذاً التعيين ممكن لكن لابد من الدليل فالأدلة التي ستأتي عند
الكلام عن رؤوس هذه الجماعات تكفي على الأقل في الحكم عليهم أنهم على ضلال وبدعة ،
أما كونهم إحدى الفرق الهالكة فهذا الأمر لا يمكن الجزم به في العموم لأنه لا يوصف
بهذا الوصف إلا من فارق الجماعة قال شيخ الإسلام " ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا
ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة
المسلمين يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ
والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك . " ( المرجع السابق )
أما إذا وصل بهم الحال إلى ذلك والعياذ بالله وكان الغالب عليهم ،
فكما قال الإمام الشاطبي فلا إشكال في جواز تعيينهم كما عين النبي الخوارج
، وقال رحمه الله (الموافقات 4/182) " ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى
أوصافهم ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ولعل عدم
تعيينهم هو الأولى " .
وقد بدأت الدعوات الثورية في العصر الحديث على يد جمال الدين
الأفغاني ثم تلميذه محمد عبده ثم توالت بعد ذلك فمن أقدم الجماعات الحزبية الثورية
في العصر الحديث وأشهرها جماعة الإخوان المسلمين التي تم تأسيسها على يد حسن البنا
عام 1928م ومن هذه الجماعة تولدت أكثر الجماعات وقد كان لها قصب السبق في إحياء
العاطفة الإسلامية غير المنضبطة والتي لازلنا نعاني من ويلاتها ، كما كان لها دور
في التصدي لكثير من حركات التغريب ، و هم مع هذا قد جعلوا من أهم أهدافهم إقامة
الدولة الاسلامية! ، قال صاحب كتاب "
للدعاة فقط " وهو يتحدث عن رفض الجماعة لكل من لم يتقيد بخططها " إلا أن
يقبلوا التقيد بخطط الجماعة والسعي لإقامة أهدافها وهي إقامة دولة إسلامية "
، ولهم منهج خاص للوصول إلى هذا الهدف ، لكن الواقع يكشف أن هنالك بون شاسع بين
التنظير والواقع العملي عند هذه الجماعة ، ولذلك نجد أن الحكومات لازالت تخاف من
تسلطهم على كراسي الحكم رغم ضعف الجماعة في الآونة الأخيرة حيث لم يعد لها دور في
كثير من الأحداث بل أصبح دورها محصوراً في التنظيم العالمي وهو اسم على غير مسمى ،
وكذلك التنافس على بعض الكراسي في بعض المؤسسات التعليمية و الخيرية ، ويمثل أحد
أعضائها وهو سيد قطب الفكر التكفيري في هذا العصر قال القرضاوي في كتابه "
أولويات الحركة الإسلامية " (ص110) " في هذه المرحلة ظهرت كتب سيد قطب
التي تمثل المرحلة الأخيرة من فكره والتي تنضح بتكفير المجتمع "
يقول سيد قطب في الظلال (3/1642) عند تفسير قوله تعالى { اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } " من النص القرآني ! الواضح الدلالة
ومن تفسير رسول الله وهو
فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين تخلص لنا حقائق في
العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار : إن العبادة هي
الإتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله
فاليهود
والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم
الشعائر التعبديه إليهم ومع هذا فقد حكم الله – سبحانه – عليهم بالشرك في هذه
الآية وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها
واتبعوها فهذا وحده – دون الاعتقاد والشعائر – يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله
الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين . " ا.هـ
وبالرجوع إلى تفسير النبي للآية وإلى تفسير العلماء أتباع السلف الصالح
الذين عرفوا شبهة الخوارج وأبطلوها نجد خلاف ما قرره سيد فقد جاء في سنن الترمذي :
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ يَا عَدِيُّ
اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قَالَ
أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا
أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا
حَرَّمُوهُ *
فلا بد إذاً - في هذه المسألة - من شرط الاستحلال ولا يحكم بالكفر
المخرج من الملة بمجرد الطاعة كما قرر ذلك سيد ، حيث قال " فهذا وحده – دون
الاعتقاد والشعائر – يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله الشرك الذي يخرجه من عداد
المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين " .
فكما ترى أن الحديث نص قاطع في اشتراط الاعتقاد وفي الأصل زيادة
بيان لهذه المسألة التي ضل فيها طائفتان ، الخوارج والمرجئة .
وفي الظلال (3/1197) يقول سيد " وأمام هذا التقرير الأخير نقف
لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع ……. أن من أطاع
بشراً في شريعة من عند نفسه ولو في جزئية صغيرة فإنما هو مشرك . وإن كان في الأصل
مسلماً ثم فعلها ، فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضاً مهما بقي بعد ذلك
يقول : أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه بينما هو يتلقى من غير الله ويطيع غير الله
. وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم – في ضوء هذه التقريرات الحاسمة – فإننا نرى
الجاهلية والشرك ولا شيء غير الجاهلية والشرك ، إلا من عصم الله ، فأنكر على
الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ولم يقبل منها شرعاً ولا حكماً إلا في
حدود الإكراه ."
وهذا تصريح منه بتكفير السواد الأعظم من المسلمين اتباعاً للعواطف
التي لم يبرع الإخوان المسلمون في غيرها فهل تنبه سيد لهذا الأمر الجلل ولم يتنبه
له علماء الأمة الذين عرفوا حقيقة الشرك وحقيقة التوحيد ، حتى يتجرأ ويصرح بهذا
التصريح الخطير.
وقد فصلت في الأصل وفي رسالة مستقلة بعنوان " حقيقة الإخوان
المسلمين " ، انحراف هذه الجماعة عن منهج أهل السنة والجماعة وسأذكر هنا بعض
الشواهد على ذلك وفي مسألة واحدة هي من أهم مسائل الدين .
ولبيان هذا الأمر سوف أنقل كلاماً لرجل يعد أكثرهم معرفة بالتوحيد
بل إنه من المنادين بتغيير خط سير الجماعة وبضرورة التربية على العقيدة ، (انظر
كتاب لماذا أعدموني) .
هذا الرجل هو سيد قطب الذي يقول في كتابه المسمى بالظلال (3/1492 )
" فأما تلك الأصنام التي عُرف أنهم
يعبدونها فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهية لها كألوهية الله – سبحانه – ولقد صرح
القرآن الكريم ! بحقيقة تصورهم الاعتقادي
فيها وبسبب تقديمهم الشعائر لها في قوله تعالى { والذين اتخذوا من دونه
أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفاً } فهذا كان مبلغ تصورهم لها مجرد
شفعاء عند الله ، وما كان شركهم الحقيقي من هذه الجهة !!! ولا كان إسلام من أسلم
منهم متمثلاً في مجرد التخلي عن الاستشفاع بهذه الأصنام !! ، وإلا فإن الحنفاء
الذين اعتزلوا عبادة الأصنام هذه وقدموا الشعائر لله وحده ما اعتبروا مسلمين !! ،
إنما تمثل الإسلام في الاعتقاد والشعائر وإفراد الله سبحانه بالحاكمية – في أي
زمان وفي أي مكان – هم مشركون لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله
إلا الله – مجرد اعتقاد – ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده فإلى هنا يكونون
كالحنفاء الذين لم يعتبرهم أحد مسلمين ، إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات
السلسلة أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر إفراد الله سبحانه بالحاكمية ، ورفضهم
الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده وهذا
وحده هو الإسلام لأنه وحده مدلول شهادة : أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
، كما عرف هذا المدلول في الاعتقاد الإسلامي وفي الواقع الإسلامي سواء ، ثم أن
يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو وبهذا المدلول في تجمع
حركي بقيادة مسلمة وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية" أ.هـ
والأحناف الذين لم يحكم سيد
بإسلامهم في كلامه السابق ،منهم زَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْلٍ قال الحافظ "
وَكَانَ مِمَّنْ طَلَبَ التَّوْحِيد وَخَلَعَ الْأَوْثَان وَجَانَبَ الشِّرْك ,
لَكِنَّهُ مَاتَ قَبْل الْمَبْعَث , وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ النبي , وقَالَ : "
وَلَقَدْ رَأَيْته فِي الْجَنَّة يَسْحَب ذُيُولًا " وفي حديث آخر ذكره
الحافظ ، قَالَ : " غَفَرَ اللَّه لَهُ وَرَحِمه , فَإِنَّهُ مَاتَ عَلَى
دِين إِبْرَاهِيم ".
فهذا هو سيد قطب الذي قيل فيه زوراً و بهتاناً إنه أحسن من تكلم عن
معنى لا إله إلا الله وليس هذا مكان الكلام عن ابن قطب وما عنده من طامات فإن لذلك
مكاناً آخر، لكن الذي يهمنا هنا أن نبين خطورة هذا الكلام وأنه بعينه حجة
القبوريين في هذا الزمان الذين يبررون أعمالهم ، وأنها لا تبلغ بهم الشرك الأكبر
بقولهم : إن المشركين الذين بعث إليهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يعبدون الأصنام وأما الذين يدعون الأولياء
ويطوفون بالقبور فهم لا يعبدون الأولياء وإنما يريدون شفاعتهم . والمشركون الأولون
لم يحكم النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بكفرهم بسبب هذا الأمر كما قرر سيد قطب لكن القبوريين يجعلون السبب
، أنها أصنام وسيد يجعل السبب عدم التحاكم إلى شرع الله !.
وهذا خلاف ما عليه العلماء المحققون ، لذلك نجد أن ابن قطب ومن على
شاكلته لا يأبهون بشرك القبوريين ،لأن حقيقة الشرك الأكبر عندهم في مسألة الحاكمية
وليس في مسألة الشفاعة وهذا ضلال وأي ضلال .
يقول الشيخ العلاّمة سليمان بن
عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مبيناً حقيقة شرك المشركين خلاف ما ذكره ابن قطب (
تيسير العزيز الحميد ص274) " أراد المصنف في هذا الباب – أي باب الشفاعة –
إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله
ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى "
وفي (ص 282 ) قال " فعرفت
أن الفارق بينهم وبين الرسول e
هي مسألة الشفاعة "
ومما يبين ذلك للأسف الشديد
قول المرشد العام للإخوان المسلمين عمر التلمساني في كتابه ( شهيد المحراب ص231)
قال " لقد أثبت القرآن صراحة لا تلميحاً ولا مجازاً أن بقايا الصالحين
وآثارهم يمكن التوسل بها في استجلاب الخير ودفع الضر مهما تقادم بها العهد ".
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم ،
وفي نفس الصفحة قال " فما لنا والحملة على أولياء الله وزوارهم والداعين عند
قبورهم ومقاماتهم "
قلت : ما رأينا عند تلك القبور
إلا تقديم النذور والطواف بها ودعاء أصحابها فهل يظن التلمساني أن إنكار الشرك فيه
إساءة إلى الأولياء أم أنه وصل إلى مرتبة المرشد العام وهو لا يعلم ما يحصل عند
تلك القبور ، لكن الظاهر كما سيأتي أنه يعلم لكن الطامة أنه لا يعلم أن هذا هو
الشرك الذي توعد الله صاحبه بالخلود في النار .
وفي (ص 233) قال " ويتغالى بعض الناس في منع زيارة
المساجد التي فيها مدافن بعض أولياء الله مستندين إلى حديث رسول الله e
"
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد "" أ.هـ
وفي (ص 227 ) قال " فلا
داعي إذاً للتشديد في النكير على من يعتقد في كرامة الأولياء واللجوء إليهم في
قبورهم الطاهرة والدعاء فيها عند الشدائد وكرامة الأولياء من أدلة معجزات الأنبياء
"
فماذا أبقى هذا المرشد لأهل
الشرك والضلال بعد دعوته هذه إلى اللجوء إلى القبور لتفريج الشدائد كما قال سلفه
" إذا ضاقت عليكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور " وقول الآخر " يا
خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر " والله سبحانه يقول { أمَّن يجيب المضطر
إذا دعاه ويكشف السوء } . أم أن ذلك على طريقة صاحب البردة إذ يقول :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ
به سواك عند حدوث الحادث العمم .
فهاهم الإخوان قد تركوا منهج الأنبياء
في الدعوة إلى التوحيد بل أصبحوا ينكرون على سالكي هذا الطريق ، وأنا أعلم أن
أصحابه سيتأولون كلامه ، وهذا ديدن أهل البدع ، يتأول بعضهم كلام بعض ، وهذا خلاف
الاجماع ، فإنه لا يتأول إلا كلام المعصوم ، لكن ينبغي أن يلاحظ أن هنالك فرقاً
بين أن نتأول كلاماً خطأ ، فنجعله حقاً ، وبين أن نعتذر لصاحبه إذا كان يعد من أهل
السنة بكلام له يخالف ما أخطأ فيه .
ويقول التلمساني في كتابه " ذكريات لا مذكرات " ص250 :
ناقلاً عن البنا قوله " اعلموا أن
أهل السنة والشيعة مسلمون تجمعهم كلمة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهذا أصل العقيدة ، والسنة
والشيعة فيه سواء وعلى النقاء أما الخلاف
بينهما فهو في أمور من الممكن التقريب فيها بينهما "
يقول جابر رزق في كتابه " حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه
"ص 185 تحت عنوان تهمة التعصب من مقالة نشرتها " مجلة الأمة" إن
حسن البنا عندما تقدم مرشحاً لانتخابات البرلمان كان وكيله الذي يمثله في مقر إحدى
اللجان الانتخابية رجلا قبطياً " ، أي نصرانياً .
وفي كتاب " تصور الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية "
قال المؤلف عبد الفتاح العويس ص 23 .
" ولكي يدلل الإخوان المسلمون على عدم تعصبهم أشركوا معهم في
عضوية اللجنة السياسية التابعة للإخوان
المسلمين والتي أنشئت عام 1948م اثنين من النصارى هم : وهيب دوس واخنوخ لويس
اخنوخ " وفي مجلة لواء الإسلام العدد الأول السنة الخامسة والأربعون رمضان
1410 ص 39 قالت المجلة " والإمام حسن
البنا عندما شكل اللجنة السياسية العليا
للإخوان المسلمين كان ضمن أعضائها ثلاثة من المسيحيين هم الأساتذة : لويس اخنوخ ، وهيب دوس ، ثابت كريم
."
وفي كتاب الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (1/409) ألقى حسن
البنا كلمة في اجتماع لجنة إمريكية
بريطانية مشتركة من اجل قضية فلسطين .
قال: ..الناحية التي سأتحدث عنها نقطة بسيطة من الوجهة الدينية لان
هذه النقطة قد لا تكون مفهومة في العالم
الغربي ولهذا فإني أحب أن أوضحها باختصار
:
فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية !! لان القران الكريم حض
على مصافاتهم ومصادقتهم !!! والإسلام
شريعة إنسانية قبل إن يكون شريعة قومية !
وقد أثنى عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقا (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي
أحسن ) وحيثما أراد القران أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية !
فقال تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا
عليهم طيبات أحلت لهم .. ) .
يقول هذا وهو يقرأ قوله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ
عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ](82) سورة المائدة [، وقوله تعالى {وَلَن تَرْضَى عَنكَ
الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى
اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} ](120) سورة البقرة [ .
الإخوان المسلمون من أبعد الناس
عن تحقيق معنى الشمولية في الإسلام فالشمولية عندهم تابعة لأهواء الناس ورغباتهم
فهم كثيراً ما يقولون لأفرادهم لا تحسبوا أن الإسلام مجرد دروس ومواعظ بل لابد أن لا نغفل دور الترويح
والمزاح والطرف فهذا جانب يقره الإسلام ولا يمنعه . ثم تراهم يقضون أوقاتهم في ذلك
اللهو وكأن مشكلة الشباب تكمن في قلة وسائل اللهو والترويح وأنهم لايجدون من
يطربهم ويمثل لهم فترى المربين زعموا يحثون الشباب على سماع الأناشيد وإقامة
المسرحيات والفكاهات !!! .
أما التدرج فحقيقته عندهم
السكوت عن المنكر واقتناص الفرص المناسبة في المستقبل لإنكار ذلك المنكر يقولون
لأنه لابد من تقديم الأهم على المهم ثم تجدهم لا فعلوا الأهم ولا المهم . وربما ما
عرفوا الأهم ولا المهم .
لقد اتخذت أكثر الجماعات المنشقة عن الجماعة الأم أصلا تفارق به
الجماعة الأم ومن أول الجماعات التي تسمى بجماعات العنف والتي اتخذت التغيير باليد
والسلاح منهجاً لها ، جماعة شباب محمد بقيادة صالح سرية وعرفت إعلامياً باسم
" الفنية العسكرية " بسبب قيامها عام 1974هـ بالهجوم على كلية الفنية العسكرية التي كانت
تستضيف اجتماعاً للقيادات السياسية بوجود الرئيس أنور السادات ، وكان الهدف من هذا
الهجوم قلب نظام الحكم .
ثم توالت بعدها باقي التيارات التي تسمى بالجماعات الجهادية والتي
تهدف إلى إعلان الجهاد ضد السلطات السياسية المحلية ، وليس كما يتبادر من الاسم ،
وهذا الذي يسمى عند بعض الباحثين بالجهاد التقليدي .
فكان أن تكونت جماعة " المسلمون " والتي عرفت إعلاميا
باسم "التكفير و الهجرة " التي أسسها شكري مصطفى بعد خروجه من السجن عام
1971م .
والتي نفذت حادث اغتيال حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري ، وكانوا يكفرون
بالمعاصي كالزنا وشرب الخمر ويأمرون بالعزلة ولا يرون جهاد الحكام والخروج عليهم
لأنه لا طاقة لهم بذلك وأنه يجب الانتظار حتى يهلك الكفار بعضهم بعضاً ثم يستولون
هم على السلطة .
وهذه من المفارقات التي يقع فيها مبتدعة العصر ، ومثل ذلك ما ذكر
عن جماعة ( الإخوان[47]
) أنهم كانوا يرون أن الخروج على الحكام المعاصرين باختلاف صورهم
وقتالهم في عقر دارهم دون هجرة إلى مكان ما، يعدّ خلافاً للسنّة…
ومن ذلك ما ذكره صاحب كتاب الجهاد والقتال في السياسة الشرعية ،
قال : حيث أن دار الكفر هي التي يغلب عليها أحكام الكفر فوجوب إشهار السلاح على
الحاكم ومقاتلته إذا أظهر الكفر البواح إلا أن ذلك يكون إذا كانت الدار دار إسلام،
وكانت أحكام الإسلام هي المطبقة، ثم ظهر من الحاكم الحكم بالكفر البواح، لأن حديث
عبادة بن الصامت يقول:" إلا أن تروا كفراً بواحاً "، ورواية الطبري تقول:"
إلا أن تروا كفراً صراحاً " أي إن رأيتم الكفر البواح والكفر الصراح بعد أن
لم تكونوا ترونه، أي كان الإسلام مطبقاً ثم أظهر الحاكم الحكم بأحكام الكفر البواح
والكفر الصراح . أما إذا كانت الدار دار كفر وكانت أحكام الإسلام غير موضوعة موضع
التطبيق فإن القتال حينئذ غير مشروع!! ".
ثم تكون تنظيم الجهاد عام 1977م ومر بمراحل وكان من أبرز قياداته
محمد عبد السلام فرج صاحب كتاب " الفريضة الغائبة " وفيه يقول "
فإن حكم إقامة حكم الله على هذه الأرض فرض على المسلمين، وتكون أحكام الله فرضاً
على المسلمين وبالتالي قيام الدولة الإسلامية فرض على المسلمين، لأن ما لم يتم
الواجب إلا به فهو واجب، وأيضاً إذا كانت الدولة لن تقوم إلا بقتال فواجب علينا
القتال، ولقد أجمع المسلمون على فرضية إقامة الخلافة الإسلامية ، وإعلان الخلافة
يعتمد على وجود النواة وهي الدولة الإسلامية " ويقول أيضاً " وحكام العصر
قد تعددت أبواب الكفر التي خرجوا بها من ملة الإسلام بحيث أصبح الأمر لا يشتبه على
كل من تابع سيرتهم " ويقول أيضاً " وقد استقرت السنّة بأن عقوبة المرتد
أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة .... وإذا كانت الردة عن أصل الدين
أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه
.. إذن فما موقف المسلمين من هؤلاء "
وهم يركزون في كتاباتهم على مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ومسألة
الطائفة الممتنعة عن أداء الشرائع ، ويحتجون بقول شيخ الإسلام " كل طائفة
خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة
المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين " وكذلك مسألة الترس والولاء والبراء ومواجهة
العدو الصائل وسيأتي بحث هذه المسائل لا حقاً .
وتنظيم الجهاد بالتعاون مع الجماعة الإسلامية هو الذي نفذ حادث
اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981م وهو الذي يعرف الآن بجماعة الجهاد التي كان
يرأسها أيمن الظواهري .
والجدير بالذكر أن القيادات التي تولت إمارة هذه الجماعات البدعية
كانوا من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والعشرين وأكثرهم
كانوا مهندسين وأطباء ، فاللهم رحمتك!! .
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في سيرها الخلل .
أما " الجماعة الإسلامية " فقد برزت بشكل واضح عام 1979م
بعد أن رفضت معاهدة السلام مع اليهود كما أنها أعلنت تأييدها مع بعض الجماعات
الأخرى للثورة الإيرانية التي قادها الخميني عليه لعنة الله باعتبارها حركة ثورية
على أنظمة الحكم ! ، ثم تعرض بعض أفرادها للإعتقال ثم اتحدت مع جماعة الجهاد لفترة
من الزمن ولا يزال يرأسها عمر عبد الرحمن .
وهذه الجماعات تسعى إلى إنشاء حكم إسلامي في مصر بالقوة ، ويتلخص
الهدف الأساسي للجماعة في الإطاحة بالحكومة المصرية وإقامة دولة إسلامية تحكم
بالشريعة الإسلامية !!.
لكن الجماعة الإسلامية أعلنت عن تغيير منهجها في الفترة الأخيرة ،
وقد شهد عاما 1997، 1998 ازدياد شقة الخلاف بين جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية
بسبب إعلان قادة الجماعة الإسلامية في مصر مبادرة وقف العنف، والتي تم تبنيها
رسمياً في 25 مارس 1999 من قبل الجماعة، وبسبب موقفها من توحيد تنظيمات الأفغان
العرب تحت مظلة "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" أو
" القاعدة " ، كما سيأتي لاحقاً.
و منذ 1985 أدركت الجماعات الجهادية أهمية أفغانستان كقاعدة للعمل
والتدريب العسكري، فبدأت كوادر هذه التنظيمات من أفراد وقياديين في التدفق عليها، ويمكن القول إنه حتى عام 1996
لم يكن هناك أي حديث بين قادة الجماعات المصرية عن توحدها تحت مظلة "الجبهة
الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، ولكن تركزت الجهود على توحيد
الصفوف على أساس وحدة الأهداف خاصة أن
أكثر الخلافات بينها غير جوهرية .
وقد احتدم الخلاف بين الجماعة الإسلامية وباقي الجماعات الجهادية
بصدور تصريحات واضحة من الشيخ عمر عبد الرحمن وعشرة من قياداتها في شهر أكتوبر
1998 يهاجمون فيها "الجبهة الإسلامية
العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، ويدعون إلى تشكيل جبهة أخرى مضادة لها
تعتمد الأساليب السلمية في الدعوة للإسلام والدفاع عنه .
فحتى فصائل الأفغان العرب
وهم العرب الذين جاهدوا في إفغانستان أيام
الإحتلال السوفيتي تختلف في تحديد العدو الرئيسي، فبينما ترى بعض الفصائل أن الأنظمة
الحاكمة في بلدانها هي العدو الحقيقي ، وذلك امتدادًا للخط الجهادي التقليدي في أن
قتال العدو المباشر والقريب وهو المرتد أولى من قتال البعيد وغير المباشر وهو
الكافر الأصلي ، بينما تراه فصائل أخرى في اليهود والنصارى أي إسرائيل والولايات
المتحدة الأمريكية، باعتبارهما العدو الأساسي والأخطر، في حين تراه فصائل ثالثة في
العدو الحالّ في أية منطقة تتم فيها عملية محاربة للمسلمين أو الأقليات الإسلامية،
كالوضع في كشمير، أو البوسنة، أو الشيشان .
والإتجاه الآخر هو الاتجاه الذي تتبناه " الجبهة الإسلامية
العالمية لقتال اليهود والصليبيين " أو " القاعدة " والتي ظهرت في
فبراير 1998م وقد حمل البيان التأسيسي توقيع أسامة بن لادن ، وزعيم جماعة الجهاد المصرية أيمن الظواهري
وجماعتين من باكستان وأخرى من بنجلاديش ومسؤول شورى "الجماعة الإسلامية"
رفاعي أحمد طه الذي انسحب بعد ذلك، وتضمن البيان فتوى "توجب على المسلمين قتل
الأمريكيين ونهب أموالهم أينما كانوا"، وتختلف التقديرات حول قوة هذا التنظيم
وعدد أتباعه المنتشرين في جميع أنحاء العالم من الأفغان العرب .
والجدير بالذكر أن ليس كل العائدين من أفغانستان يحملون الفكر
الجهادي التقليدي أو الفكر الجهادي الذي تتبناه القاعدة [48]
.
كانت بداية ظاهرة الأفغان العرب مع انتهاء الحرب الأفغانية 1992م،
حيث كان على المتطوعين العرب الذين اشتركوا في الجهاد الأفغاني ضد الروس، والذين
قدرت بعض المصادر أعدادهم بحوالي ستة آلاف - ليسوا كلهم ممن تحولوا فيما بعد
أفغانًا عربًا بالطبع - أن يبحثوا عن ساحات أخرى غير أفغانستان؛ لتصريف الرصيد
المعنوي والديني، ولتوظيف الطاقات والخبرات الجهادية والقتالية فيها.
أما المفهوم أو المصطلح المعبِّر عن الظاهرة فقد كان أسبق ظهورًا؛
إذ ظهر في سياق الأحداث الجزائرية 1990م، حيث تناقلت أجهزة الإعلام أخبارًا عن
أحداث عنف سياسي قامت بها مجموعات من الشباب الجزائري تدرَّب في أفغانستان، وأطلقت
عليهم "الأفغان الجزائريون"، ثم تردَّد المفهوم في بلاد أخرى مرتبطًا
بأحداث عنف سياسي مماثلة، ومنذ ذلك الوقت والظاهرة مُثارة يرتفع الاهتمام بها مع
كل حادثة من حوادث العنف السياسي، ثم يخبو مرة أخرى، غير أنها موجودة؛ ولذلك هي
محل دراسة وموضع اهتمام من جهات متنوعة . والجدير بالذكر أن هذا المفهوم والاصطلاح
فيما يبدو مقبول أو على الأقل لم يَسْعَ الأفغان العرب لنفي إطلاقه عليهم أو
استخدامه في التعبير عنهم، وهو ما يعطي للباحث المشروعية العلمية في استخدامه بوجه
عام، دون تحميله بالضرورة بكل دلالات السياق الذي ظهر فيه.
ونقصد بالأفغان العرب مجموعات من المجاهدين العرب من غير الأفغان الذين
شاركوا في الجهاد ضد السوفييت والحكم الشيوعي في كابول، والذين اتجهوا لمقاتلة
حكومات بلادهم أو حكومات دول أجنبية، بعد أن انتهت مبررات الجهاد الأفغاني، ويمكن
تسميتهم "مجاهدون بلا حدود" أو "مقاتلون عبر الدول" أو
"المقاتلون متعدِّدوا الجنسيات"، وهم من الظواهر التي برزت بعد انتهاء
الحرب، وكانوا أحد المتغيرات المهمة التي ساعدت على انهيار الاتحاد السوفييتي،
وتطوَّرت في إطار المتغيرات المتعلقة بما يطلق عليه ظاهرة العولمة؛ ولذلك فلم
يقيموا اعتبارًا يُذكر لظاهرة السيادة المرتبطة بفكرة الدولة القومية، ومن ثَم لا يعتبرون
الحدود السياسية بين بلاد العالم الإسلامي أو حتى على المستوى العالمي حائلاً عن
نصرة القضايا العادلة من وجهة نظرهم، ومن ثَم يتجهون لنصرة إخوانهم المسلمين عامة،
ومن تيارات العنف خاصة الذين يتصورنهم يتعرضون للإبادة، أو واقعين تحت ضغوط خارجية
أو داخلية، ويتجهون لمحاربة ما يرونه قوى الظلم والشر على المستوى العالمي.
فالأفغان العرب بالأساس خلاصة ما تبقَّى من المجاهدين غير الأفغان
الذين احتضنتهم معسكرات بيشاور، وجلال آباد، وقندهار، ومعسكرات الحدود الباكستانية
- الأفغانية ما بين 1979 - 1992م، ووفقًا لما يذهب إليه البعض فإن الأفغان العرب -
رغم اختلاف جنسياتهم - يشكِّلون نوعًا من التنسيق فيما بينهم، وبالتالي أصبح لهم
وجود مستقل عن دولهم .
وتأسيسًا على ما سبق يمكننا أن نحدد مفهوم وظاهرة الأفغان العرب
وفق المؤشرات الثمانية التالية:
1- الأفغان العرب ليسوا من المواطنين الأفغان بل من الشباب العربي
والمسلم الذي التحق بالمجاهدين الأفغان، وبعد عودتهم إلى بلادهم – أو بلاد أخرى –
اتجهوا إلى ممارسة أعمال العنف السياسي والقتال، مستفيدين من خبرتهم ومهاراتهم
العسكرية التي اكتسبوها أثناء الحرب وبعدها في أفغانستان، وبالتالي لا مجال للخلط
بينهم وبين حركة طالبان أو أية مجموعة من مجموعات الأفغان..
2- ينتمي معظم الأفغان العرب إلى أجيال شابة، أي من فئة عمرية
غالبًا ما تتراوح بين 20 - 35 عامًا، وهذا يعني أنهم عندما ذهبوا إلى أفغانستان
ربما كانت أعمارهم تتراوح بين 15 - 20 عامًا، وهي مرحلة تكوين فكري، حيث عاشوا
سنوات عدة في المعسكرات الأفغانية في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وتدرَّبوا على
الأسلحة الخفيفة والثقيلة، إلى جانب الخبرات العملية المتنوعة، إضافة إلى تلقينهم
جرعات مكثَّفة من الأفكار التي تركز على استخدام القوة لإحداث التغيير المطلوب،
وهذه إحدى الإستراتيجيات التي تستند إليها فلسفة الجماعات الإسلامية التي تتبنى
العنف . ويرى بعض علماء النفس أن هؤلاء الشباب عندما يقدمون على تنفيذ عملياتهم لا
يراودهم أدنى شك في شرعية عملهم، وأنه مبرر دينيًّا؛ بسبب عمليات "غسيل
الدماغ"، والتلقين الفكري الذي تعرضوا له في هذه السن المبكرة في معسكرات
التدريب الأفغانية وسط أجواء الحرب، فقد تشكَّلت عقولهم، ووجهت سلوكياتهم بناء على
هذه العمليات التي قام بها بعض قادة حركتي الجهاد والجماعة الإسلامية المصريتين
خاصة .
3- تأسَّست البنية التنظيمية المنتجة لظاهرة الأفغان العرب على
جانبين الأول: الجانب الإغاثي، فالمتطوعون العرب في إطار الإغاثة
"الإسلامية" شكَّلوا القطاع الأكبر، وقدَّموا العون للاجئين الأفغان
المقيمين على الحدود الباكستانية - الأفغانية، أو داخل أفغانستان ذاتها، ويقدَّر
عددهم في بداية التسعينات بـ13 ألف متطوع من الأطباء والمهندسين والمدرسين وغيرهم،
والثاني: الجانب القتالي يمثِّله مجموعات المتطوعين المقاتلين الذين دعَّموا
الفصائل الأفغانية الذين جاءوا من معظم البلاد العربية، إضافة إلى متطوعين من
أقليات إسلامية في بلدان أوربية وآسيوية، وقد تلقُّوا تدريبهم على أيدي عناصر
تنتمي إلى الجماعات التي تتبنى العنف في
بلدانها، وطبقًا لأحد التقديرات حول أعدادهم فإنها قد تصل إلى نحو 6 آلاف شخص.
4- تلقَّت عناصر الأفغان العرب المقاتلة ثلاثة أنواع من الإعداد
خلال سنوات الحرب الأفغانية وما تلاها، تتمثل في إعداد عسكري واستخباراتي
وأيديولوجي، فعلى صعيد الإعداد العسكري تلقّوا تدريبات تتصِّل بخوض حرب استنزاف،
وما يتطلبه ذلك على مستوى العمليات العسكرية من القدرة على القيام بأعمال حرب
العصابات، والمدن، والتفجيرات بمختلف مستوياتها، والقنص، والاغتيال، وغير ذلك، أما
الإعداد الاستخباراتي فيتصِّل باستكمال الجوانب السابقة من استطلاع، ورصد،
ومراقبة، واتصال، وتبادل معلومات، وتلقِّي التكليفات. أما الإعداد الفكري فيركِّز
على توصيل مفاهيم ومضامين معينة، تتعلق بالتعامل مع الحكومات، والمجتمعات، والقوى
السياسية والدينية المختلفة.
5- أسفرت خبرة الحرب الأفغانية عن آثار متعددة ترجمت الملامح
الهيكلية للوليد الجديد – الأفغان العرب - من أهمها: من ناحية أولى: إقامة علاقات
واسعة مع الجماعات الإسلامية التي تتبنى العنف
على مستوى عالمي، ومن ناحية ثانية: إقامة شبكة علاقات واسعة بأثرياء العرب
الذين قاموا بتمويل عمليات القتال في أفغانستان، ومن ناحية ثالثة: استخدام البيئة
الأفغانية كفرصة للتدريب العسكري، ومن ناحية رابعة: تطوير علاقات واسعة مع الحركات
والأحزاب الأفغانية الذين وفَّر بعضهم مظلَّة الحماية على هذه العناصر، وحال دون
تسليمهم لحكوماتهم ، مثلما فعل الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار، وحركة
طالبان التي كانت تحكم أفغانستان .
6- انعكست الخبرات السابقة للجماعات الإسلامية التي تتبنى
العنف على ملامح أداء الأفغان العرب بعد
ذلك خاصة في تقويته، وتكامل أبعاده، وتتمثل الخبرة في خمسة عناصر: الأول: إعداد
"الطليعة المجاهدة" أو الكادر القتالي ذي المهارات العالية. والثاني:
القدرة على التخطيط المحكم، وجمع المعلومات عن الأهداف، ومسرح العمليات وعناصره
الثابتة والمتغيرة، والقدرة على متابعة الهدف. والثالث: تطوير القدرات الاتصالية
الداخلية والخارجية. والرابع: تطوير نظام الأمن التنظيمي الصارم، والربط بين
القيادات في الداخل والخارج. والخامس: استخدام الكادر "الجهادي الطليعي"
المدرَّب في أفغانستان وإعادة زرعه داخل الدولة المستهدفة، سواء لتولي قيادة بعض
العمليات أو المشاركة فيها مع عناصر أخرى بما لديها من خبرات واسعة، الأمر الذي
ظهر في عملياتهم الإرهابية ضد حكومات بعض الدول العربية وضد أهداف أمريكية.
7- لا يدخل في نطاق ظاهرة الأفغان العرب كل من شارك في الجهاد
الأفغاني من "المجاهدين العرب"، فكثير من المجاهدين العرب المشاركين في
القتال ضد السوفييت عاد إلى بلاده، واندمج بعضهم في الحياة السياسية العامة، وقد
نجحت حكومات عربية عدة، مثل: اليمن، والأردن، ودول خليجية في استيعاب معظم
مواطنيها الذين شاركوا في الجهاد ، لذلك
ينبغي على الحكومات العربية أن تسعى إلى استقطاب هذه النوعيات وإزالة الشبه العالقة
بأذهانهم وذلك بترتيب لقاءات لهم مع العلماء وأهل الخبرة .
8- يدخل ضمن الأفغان العرب قادة الحركات الإسلامية التي تتبنى
العنف الذين مكثوا في أفغانستان لفترات ممتدة، والكثير من المتطوعين العرب حتى وإن
لم يشاركوا في القتال، فالذي يجمعهم مع وجودهم بداية في أفغانستان تقارب رؤاهم
الفكرية والحركية، ودعوتهم لاستخدام العنف لتغيير الحكومات، ولمحاربة قوى الكفر
العالمي وفق تصورهم، حتى وإن لم يمارسوا أنفسهم القتال. ويرى بعض المهتمين أنه لا
ينبغي المبالغة في حجمهم؛ إذ يعتقد أن نسبة الجماعات الجهادية المنظمة التي شاركت
في الجهاد الأفغاني من العرب الذين توجهوا إلى أفغانستان ضئيلة من حيث العدد، وإن
كانت مرتفعة المهارة من الناحية النوعية، و بعضهم الآخر يشير إلى النجاح الواسع
الذي تلاقيه هذه الظاهرة في الانتشار، والتعمق الأفقي والرأسي، أي من حيث الكمية
والعدد، أو من حيث النوعية، والكفاءة، والعدة ، فلا يظن أن كل الأفغان العرب قد تم تنظيمهم في جماعات سرية ، بل
الواقع يشير إلى أن أكثرهم لم يتم تنظيمة وإنما يقومون ببعض العنف من ذات أنفسهم
تجاوبا مع الوضع العام والشعور بالظلم والكبت والاضطهاد الذي تم إقناعهم بوجوده
وهم في معسكرات التدريب ، انتهى .
قلت : وهذا هو سر خطورة تنظيم القاعدة فهو تنظيم عنقودي أو كما
يقال تنظيم هلامي أو زئبقي حيث أنه لا يرتبط بمكان أو قيادة محددة ، وتنبع خطورته
في أن أهدافة المتمثلة في مواجهة القوة الأمريكية الظالمة لقيت قبولاً عند كثير من
المتحمسين ، وقد دأب بعض المحللين إلى ربط تحركات هذا التنظيم بقوى صهيونية
وأمريكية لما رأوا بعض انجازات هذا التنظيم التخريبية والتي تفوق الخيال ، وفي
الحقيقة أن هذا الصنف من المحللين لم يتنبهوا إلى أن تنظيم القاعدة أو قيادته
المتمثلة في ابن لادن إنما هو فكرة تحررية حسب المنظور الغربي ولا يمكن لأمريكا أو
الصهيونية العالمية أن تزرع مثل هذه الفكرة في قلب العالم الإسلامي ولو جنت من
ورائها المكاسب الجمة ، وما يذكره هؤلاء المحللون من أدلة تؤيد وجة نظرهم ، إنما
هي جزء من عناصر مسرحية قديمة قام على إخراجها أمثال صاحب كتاب أحجار على رقعة
الشطرنج ، وإنما الدور الحقيقي للصهيونية العالمية هو استغلال الأحداث بشكل بارع ،
والله أعلم .
هذا ملخص الحصاد المر الذي جنيناه من وراء التنظيمات السرية ، فلا
زال المدعو يَنْضم في أول أمره إلى إحدى النشاطات التي يديرها مجموعة من الإخوان
المسلمين أو السروريين القطبيين ثم يتدرج معهم في الحلق التى ظاهرها الرحمة ، كتاب
وسنَّة ، وباطنها العذاب ، تربية على أصول تلك الجماعات ، التي وإن اختلفت في بعض
الجزئيات لكنها جميعها اتفقت على تربية الشباب على عدم الرضا عن الحكام وعدم الرضا
عن العلماء .
وقد ذكرت في الأصل أبرز الجماعات التي تعتبر محاضن للشباب والتي
بيدها إدارة النشاطات التربوية ومنها تخرج علينا تلك النماذج المنحرفة التي تدمر
الأخضر واليابس .
قال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان وفقه الله :
" ومن آخر ذلك ما نعايشه الآن من وفود أفكار غريبة مشبوهة إلى
بلادنا باسم الدعوة على أيدي جماعات تتسمَّى بأسماء مختلفة مثل: جماعة الإخوان
المسلمين ، وجماعة التبليغ ، وجماعة كذا وكذا ، وهدفها واحد ، وهو أن تزيح دعوة
التوحيد، وتحل محلَّها ، وفي الواقع أنَّ مقصود هذه الجماعات لا يختلف عن مقصود من
سبقهم من أعداء هذه الدعوة المباركة كلهم ، يريدون القضاء عليها لكن الاختلاف
اختلاف خطط فقط ، وإلا لو كانت هذه الجماعات حقاً تريد الدعوة إلى الله فلماذا
تتعدى بلادها التي وفدت إلينا منها؟ وهي أحوج ما تكون إلى الدعوة والإصلاح ،
تتعداها وتغزوا بلاد التوحيد تريد تغيير مسارها الإصلاحي الصحيح إلى مسارٍ معوجٍّ
، وتريد التغرير بشبابها ، وإيقاع الفتنة والعداوة بينهم .
لأنهم رأوا ما تعيشه بلادنا من الوحدة والتلاحم بين قادتها ، وبين
أفرادها وجماعتها ، رأوا في بلادنا دولة إسلامية في عقيدتها ومنهجها ، تحكم
بالشريعة وتقيم الحدود ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر.
فأرادوا أن يسلبوها هذه النعمة ، ويجعلوها كالبلاد الأخرى تعيش
الفوضى ، وفساد العقيدة ، وإلا فما هو هدفها من غزو بلادنا بالذات ، و التركيز
عليها ، وترك البلاد الفاسدة .
وإذا كانت هذه الجماعات قد غررت ببعض شبابنا فتأثروا بأفكارها
وتَنَكَّروا لمجتمعهم وتشكَّكوا في قادتهم وعلمائهم وانطفأت الغيرة على العقيدة
فيهم ، فتركوا الاهتمام بها ، وصاروا يهرفون بما لا يعرفون ، وينعقون بما يسمعون .
فإن في هذه البلاد – ولله الحمد- رجالاً يغارون لدينهم ، ويدافعون
عن عقيدتهم ، ويردون كيد الأعداء في نحورهم ، ولا ينخدعون بالأسماء البَرَّاقة ،
ولا يتأثرون بالحماس الكاذب " [50].
من الظواهر التي بدأت تبرز مؤخراً ما يسمى بالتراجعات والتي بدأتها
الجماعة الإسلامية بمصر ، وها نحن نراها عندنا من طرف بعض مشايخ التكفير ، لكن
المتأمل في تصريحات القوم وما كتبوه يجد
أن التراجعات لم تكن تراجعات عقدية وإنما هي تراجعات تتعلق بالأسلوب يحكمها مبدأ
المصالح والمفاسد والمرحلية .
لذلك تراهم في خطاباتهم يؤكدون على ثلاثة أمور :
1)
عدم مناسبة الأسلوب
المطبق ، ومن ذلك المواجهة بالسلاح .
2)
مراعاة المصالح والمفاسد
.
3)
مراعاة المرحلية في
الدعوة ومن ذلك تأخير القتال .
وقد جاءت الأبحاث التي أعدها وأقرها قادة مجلس شوري الجماعة
الإسلامية من داخل السجون [51]
وهم: كرم زهدي وناجح إبراهيم وأسامة حافظ وعاصم عبدالماجد وفؤاد الدواليبي وعلي
الشريف وحمدي عبدالرحمن وعصام دربالة لتؤكد توصل قادة الجماعة إلي قناعة تامة
دفعتهم إلي تغيير أسلوبهم وحوت الأبحاث الأربعة الصادرة في نحو600 صفحة أربعة
عناوين:
-
مبادرة وقف
العنف.. رؤية واقعية ونظرة شرعية .
-
تسليط الأضواء علي
ما وقع في الجهاد من أخطاء .
-
حرمة الغلو في
الدين وتكفير المسلمين .
-
النصح والتبيين في
تصحيح مفاهيم المحتسبين.
وقد كان من أبرز ما حوته هذه الأبحاث ما تضمنته من الاعتراف الصريح
بالأخطاء التي وقعت الجماعة فيها في الماضي, واستناد قادة الجماعة في موقفهم
التاريخي الجديد والمهم إلي اقتناعهم وكل شركائهم في الداخل والخارج بهذه الخطوة
للمواءمة مع ظروف الحياة.
وفي بيان لقادة الجماعة قالوا : إن المبادرة التي أطلقناها ليست
مقايضة بين دين وعرض زائل من الدنيا.. وليست مقايضة بين السعي لإعلان دين الله
وشرعته وبين دنيا رخيصة ألقيناها خلف ظهورنا, ولكن موقف اقتتال منعته الشريعة
الغراء لمفاسده العظيمة, وواجب شرعي تصدينا له بكل شجاعة.. وهو لا يتنافي مع
واجب آخر يلزمنا جميعاً, وهو السعي لإعلاء دين الله وإقامة شريعته.
وتطرق البحث الشرعي إلي قضية المصلحة والمفسدة, وذكر أن كثيراً
من الفقهاء منعوا من إقامة الحد في دار الحرب لما خشوا مفسدة انضمام المحدود
للأعداء, فراراً من الحد, فرجحوا مصلحة الحفاظ علي المؤمنين علي مصلحة الزجر
التي في الحد .
أصول الخوارج التي بنوا عليها :
الدارس للفرق يجد أن كل فرقة انحرفت عن السنَّة لابد لها من أصول تبني
عليها حتى أن الناظر في بعض أقوالهم يتعجب من مخالفتها لنصوص واضحة في الكتاب
والسنة يعرفها العامي قبل المتعلم فيظن أن القوم أصحاب أطماع دنيوية ، لكن الدارس
لهذه الفرق يعلم حقيقة الأمر وأن البدعة توصل صاحبها إلى ما هو أبعد من ذلك ، نسأل
الله العافية .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 13/30) :
"وكانت البدع الأولى مثل بدعة الخوارج إنما هى من سوء فهمهم
للقرآن لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه"
ومن أبرز صفات الخوارج الغلو في التكفير ونحن لا ننكر التكفير فهو
حكم الله ورسوله ولكن ننكر الغلو فيه:
فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه : بَاب قَتْلِ الْخَوَارِجِ
وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ
اللَّهِ وَقَالَ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ
فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *
فينبغي أن نعرف أن أهل البدع سواء كانوا من الخوارج أو المرجئة قد
جاء في وصفهم كما عند مسلم من حديث يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ فَقُلْتُ أَبَا
عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ "
وفي الصحيحين من حديث علي رَضِي اللَّه عَنْه " يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ
حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قوْلِ
الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وهذا الوصف لاشك أنه ينطبق على خوارج العصر .
قال شيخ الإسلام كمافي مجموع الفتاوى (13/210) :
" ثم حدث فى آخر عصر الصحابة القدرية فكانت الخوارج تتكلم فى
حكم الله الشرعى ، أمره ونهيه وما يتبع ذلك من وعده ووعيده وحكم من وافق ذلك ومن
خالفه ومن يكون مؤمناً وكافراً وهى مسائل الأسماء والأحكام وسموا محكمه لخوضهم فى
التحكيم بالباطل وكان الرجل اذا قال لا حكم الا لله قالوا هو محكم أى خائض فى حكم
الله فخاض أولئك فى شرع الله بالباطل" .
والمطلع على كتاباتهم يجد أنهم يبنون على أصول لهم ، وأكثر ما
يدندنون عليه عدة مسائل منها :
الحكم بغير ما أنزل الله وهي أم المسائل عندهم – صفة دار الكفر أو
دار الحرب – الولاء والبراء – عدم العذر
بالجهل – الجهاد ودفع الصائل و يعنون به الخروج على الأئمة – الإمامة وصفات الإمام الأعظم - الطائفة
المنصورة – حكم الطائفة الممتنعة عن أداء بعض الشعائر – مسألة الترس وغيرها .
وفي مجموع الفتاوى (28/496 ) قال رحمه الله:
" فهؤلاء أصل ضلالهم إعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين
أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم
ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً ثم يرتبون على الكفر أحكاماً إبتدعوها ،
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم فى كل مقام تركوا بعض أصول
دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية "
ومما رتبوا على ذلك قولهم إن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر قولاً
واحداً ويعنون به تحكيم القوانين ، فالحاكم بغير ما أنزل الله ولو في مسألة واحدة
كافر ، وحيث إنه لا يوجد في هذا العصر من يحكم بالشريعة في جميع أموره ، فالنتيجة
أن جميع الحكام كفَّار خارجون من ملة الإسلام ، وبلادهم دار حرب أو دار كفر بلا
استثناء .
والتحقيق أن مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فيها تفصيل عند العلماء
وأن تحكيم القوانين الخلاف فيه على أربعة أقسام ، قسمان منهما ليسا من أقوال أهل
السنة بل من أقوال الخوارج والقسمان الآخران من أقوال أهل السنة كما مر معنا
وسيأتي زيادة بيان لهذه المسألة.
وهم في كثير من تقريراتهم يعتمدون على العمومات والإطلاقات ، يقول
ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية مبيناً خطورة العمومات وترك
التفصيل:
فعليك بالتـفصيل والتمييز
فالـ إطلاق والإجمال
دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمـان .
قال الشوكاني في (نيل الوطار 7/186) " وقد استدل القائلون
بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال بعمومات من الكتاب
والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا شك ولا ريب أن الأحاديث التي
ذكرها المصنف في هذا الباب ( أي أحاديث السمع والطاعة للحاكم ولو كان جائراً )
وذكرناها أخص من تلك العمومات مطلقاً وهي متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة
بعلم السنَّة " .
وقال الإمام الشاطبي في الاعتصام (1/245) " من اتباع المتشابهات
الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها ، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم
لا وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق "
و الخلط في هذا الأمر ، أتى من
عدم تنـزيل النص العام على الوجه الصحيح. فالنص العام ينـزَّل على جميع صوره التي يشملها ، بعد بذل
الجهد في البحث عن ما يمنع من الأخذ بذلك العموم
.
ولا يظن أحد أنه يلزم أن يكون ذلك المخصص أو المقيد نصاً آخر . ليس الأمر كذلك ، فهذا
المخصص أو المقيد قد يكون السنَّة العملية التي سار عليها النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في حياته ، أو جريان عمل السلف من بعده .
قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 7/392) " ولهذا قال أحمد :
يحذر المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس وقال : أكثر ما يخطيء الناس من
جهة التأويل والقياس ، يريد بذلك ألا يحكم بما يدل عليه العام والمطلق قبل
النظر فيما يخصه ويقيده ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه
، فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس ، فالأمور
الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثاً يطمئن القلب إليه وإلا أخطأ من لم
يفعل ذلك ، وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وأصحابه طريق أهل البدع وله في ذلك مصنف كبير "
فخوارج العصر يتوصلون بالأخذ بالعمومات إلى تكفير الحكام ثم الخروج
عليهم ، فإن لم يكن ، فتزيين الخروج ،
باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق ، وكذلك إلى تكفير
المسلمين باسم الولاء والبراء وتحقيق التوحيد ، وأخيراً تفجير وتخريب وقتل
للمعصومين باسم الجهاد !! .
وانظر رعاك الله ما أعظم شرك عندهم وتأمل كيف يغفلون عن مراتب الأحكام
وكيف يحكمون بالعمومات ، ولهذا أمثلة كثيرة ، وقد اخترت لك هذا المثال :
قال بعضهم في كتابه (الطريق إلى استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة
راشدة على ضوء الكتاب والسنة ) :
" إن استفحال أمر الشرك والإلحاد في الأمة وضعف نور التوحيد
فيها رغم إن كثيراً من الدعاة والأحزاب والتجمعات الإسلامية المعاصرة قد غفلت عن
التوحيد؛ غفلت عن أصل الأصول الذي لا يصح أصل ولا بناء من دونه، وشُغلت عنه بالدون
وبالفروع، وبأمورٍ لا ترقى درجة المباح أو المندوب ..!!
بل كثيراً منها وجدناها تمارس الشرك وتقع بما يضاد التوحيد، بصورة
تبني الديمقراطية وإفرازاتها وغيرها من الشعارات الشركية والوثنية التي يترتب
عليها مزالق وانحرافات عقدية خطيرة لا تُحمد عقباها ..! .أ.هـ
والتكفير بالديمقراطية قال به كبيرهم والمنظر لهم صاحب كتاب الجامع
والعمدة ، فقد كفر الأمة بالتسلسل من أجل الديمقراطية :
فهو يكفر الحاكم وحاشيته ووزراءه وأعوانه وشرطه وأعضاء برلمانه ومن
رشح الأعضاء من الشعب بل ومن زين لهم ذلك ولو لم يفعله.
وخلاصة قوله بلفظه " كل هذا كفر أكبر ممن فعله أو دعا إليه
وزيَّنه للناس أو رضي به وإن لم يفعله " .
قال " وبكل أسف فقد تابع الشيخ ابن باز في إجازته المشاركة في
البرلمانات الشركية بعض أهل العلم بدعوى إنها ضرورة، وهذا هو التقليد المحرم
المذموم، والذي سنبسط فيه القول في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله.
"
ثم قال " ولتعلموا يا إخواني أن الديمقراطية هي دين أمريكا
التي تعتبر نفسها حامية الديمقراطية في العالم "
إذاً فالنتيجة الفاسدة عند هؤلاء الخوارج ، أن الديمقراطية دين ،
وحينئذ فكل ديمقراطي يدين بغير الإسلام، إذاً كل ديمقراطي كافر.
وقد كفر بعضهم صراحةً الإخوان المسلمين وحركة حماس والحركة
الإسلامية في كردستان وغيرهم لمشاركاتهم البرلمانية .
وحقيقة الحال كما وصفها بعضهم عند الكلام على العلمانية فقال
" وجدير بنا أن نقف قليلاً عند قول شيخ الإسلام إن الردة عن شرائع الدين أعظم
من خروج الخارج الأصلي عنها، لنقول: إن هذا هو ماأدركه المخطط اليهودي الصليبي كما
سبق في وصية زويمر فقد يئس المخطط من إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب
الإلحادية والمادية فلجأ ــ بعد التفكير والتدبير ــ إلى ماهو أخبث وأخطر: لجأ إلى
اصطناع أنظمة تحكم بغير ماأنزل الله وفي الوقت نفسه هى تدعي الإسلام وتظهر احترام
العقيدة، فقتلوا إحساس الجماهير وضمنوا ولاءها وخَدّروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون
شريعة الله في مأمن من انتفاضتها، ولذلك لايجرؤ أرباب هذه الأنظمة على التصريح
بأنهم ملحدون أو لا دينيون بينما يصرحون ــ مفتخرين ــ بأنهم «ديموقراطيون»
مثلاً."
لذلك التبس حال هذه البرلمانات على كثير من الناس ، خاصة أنهم يرون
من يرفعون شعارات "الإسلام هو الحل" ونحوه، فيندفعوا لانتخابهم وهو لا
يعرفون حقيقة هذه البرلمانات وواقعها ووظيفة نوابها وما يمارسونه فيها، فمنهم من
يتعامل معهم وينتخبهم على أساس أنهم يقدمون خدمات لمناطقهم كبناء مستشفيات أو
مطالبة بشق طرق أو رفع المظالم ونحو هذا ،
فهل يجوز مع هذا التكفير بالعموم أو التكفير بالتسلسل .
فبني حروراء خوارج العصر في حقيقة الأمر لم يتعلموا أصول العلم
لأنهم لم يتلقوا العلم على أهله وكما قيل من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من
صوابه .
قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام ( 1/220) : " إلا أن أهل
البدع لم يبلغوا مبلغ الناظرين في الأدلة
بإطلاق ، إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها ، وإما لعدم
الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ، وإما لعدم
الأمرين جميعاً."
وقد قيل إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب وإن
كان قد أصبح العلم في هذه العصور المتأخرة في بطون الكتب لكن مفاتيحه في صدور
الرجال .
فالمقرر عند العلماء أن الألفاظ لها مراتب وهذه المسألة نبه عليها
العلماء المتقدمون عند كلامهم عن الفرق ، فهذا شيخ الإسلام يذكر أن التشيع على
مراتب والتجهم على مراتب ، وكذلك التصوف .
قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله: "لا يلزم الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى" .
فجعل الأحكام على مرتبة واحدة خطأ فادح ومزلة مهلكة والقوم قد أتوا
من هذا الباب فهم يقررون أن الحكم بغير ما أنزل الله تشريع والتشريع لا يكون إلا
لله فمن حكم بغير ما أنزل فقد أعطى حق التشريع لغير الله وهذا كفر ، فالحكم بغير
ما أنزل الله كفر ، والولاء للكفار كله كفر ولو بكلمة فهم يحملون الموالاة على
معنى واحد فقط ، وهو الكفر الذي يضاد الإيمان من كل وجه ، والديمقراطية كفر وهكذا
، مثلهم في ذلك من كفر صاحب المعصية محتجاً بقوله تعالى: " أفرأيت من اتخذ
إلهه هواه وأضلَّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن
يهديه من بعد الله ". وقوله تعالى " ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاَّ
تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " والعاصي متبع للشيطان عابد له ، فالجاهل
يظن أن كل من اتبع هواه، في أي عمل على خلاف الشريعة، كالسارق والزاني فهو مشرك
لأنه اتخذ هواه إلهاً ، وأن ذلك من عبادة الشيطان التي يكفر صاحبها .
وتفصيل القول إن علماء العصر يذكرون أن الداعين إلى الديمقراطية
على مراتب ، فاعتقاد أن الديمقراطية هي سيادة الشعب في جميع سلطاته التشريعية
والتنفيذية والقضائية، وأنها سلطة عليا لا سلطة فوقها حتى لو كان الشرع المنزل ،
لاشك أن من أقر بهذا القول فقد كفر.
أما من قال :
إن الديمقراطية وسيلة لاختيار الحاكم الصالح ، ولا أقول إن الشعب
له الحرية في أن يقبل من الأحكام مايراه بحسب رأي الأكثرية دون مراعاةٍ للحكم
الشرعي المنزل .
فمثل هذا القول رغم فساده ، إلا أن حكمه يختلف عن حكم سابقه ومن
سوى بينهما فقد افترى على دين الله تعالى وسلك سبيل الخوارج.
ولكن القوم هذه صفتهم في كل عصر فهم لايقرون بهذه المراتب والشعب ،
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ يخاطب بعض أهل الغلو في مجموعة
الرسائل والمسائل النجدية (3/1)، وهي كذلك في الدرر السنية (1/466):
"وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء
قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفَّرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس
حجتكم يقولون:
أهل الإحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر
بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها.
قالا: ولم يصرح بكفره فهو
كافرٌ بالله، لم يكفر بالطاغوت ومن جالسه فهو مثله . ورتبوا على هاتين المقدمتين
الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد
السَّلام، فرفع إليّ أمرهم وأحضرتهم وهددتهم ، وأغلظت لهم القول.
فزعموا أولاً : أنهم على عقيدة
الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم [52]
فكشفت لهم شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم بما حضرني في المجلس وأخبرتهم ببراءة الشيخ من
هذا المعتقد والمذهب وإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك
الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر،
كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً فيما يستحقه على خلقه من
العبادات والألوهية.
وهذا مجمع عليه عند أهل العلم
والإيمان ….. وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم وزعما أن الحق ظهر
لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين،
بمكاتبة الملوك المصريين ([53])
؛ بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشائخ
المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور .
وقد بلغنا عنكم نحو من هذا
وخضتم في مسائل من هذا الباب كالكلام في الموالاة، والمعاداة والمصالحة والمكاتبات
وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات والحكم بغير
ما انزل الله عند البوادى، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي
الألباب ومن رُزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب ([54]).
والكلام في هذا يتوقف على
معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة، كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفى غيره
لمن جهلها و أعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال ،والإطلاق ،وعدم العلم،بمعرفة
مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد
الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن ؛ قال ابن القيم، في
كافيته، رحمه الله تعالى :
فعـليك بالتفصيـل والتبيين
فالـ إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا
الـ أذهان والآراء كل زمـان
وأما التكفير بهذه الأمور،
التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين
على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم : أنكروا عليه،
تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص،
في الفتنة التي وقعت، بينه وبين معاوية، وأهل الشام ؛ فأنكرت الخوارج عليه
ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة، والبصرة، وقالوا : حكّمت الرجال في
دين الله، وواليت معاوية، وعمراً، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى : ( إن الحكم إلا
لله) [يوسف:40] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة،
منذ أنزلت براءة .
وطال بينهما النزاع، والخصام،
حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي
الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الإعذار والإنذار، والتمس " المخدج " المنعوت في الحديث
الصحيح، الذي رواه مسلم، وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكراً
على توفيقه، وقال : لو يعلم الذين يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله
عليه وسلم، لنكلوا عن العمل ([55])،
هذا وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوماً .
ثم قال: فصل ولفظ الظلم
والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ
الواردة في الكتاب والسُّنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد
بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه
إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النَّبوي وتفسير السُّنة ، قال
تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) الآية [ إبراهيم :4]
وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
ولعلهم يتفكرون ) [ النحل :43-44] . وكذلك : اسم المؤمن، والبر، والتقي، يراد بها
عند الإطلاق، والثناء، غير المعنى المراد، في مقام الأمر، والنهي ؛ ألا ترى : أن
الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم، يدخلون في عموم قوله تعالى : ( يا أيها الذين
آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) الآية [ المائدة :6] وقوله تعالى : ( يا أيها الذين
آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) الآية [ الأحزاب :69]
وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا شهادة
بينكم ) [ المائدة :106] ولا يدخلون في مثل قوله : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا
بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) [الحجرات:15] وقوله (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك
هم الصديقون ) الآية [ الحديد :19] . وهذا : هو الذي أوجب للسلف، ترك تسمية
الفاسق، باسم الإيمان، والبر ؛ وفي الحديث : " لا يزني الزاني حين يزني، وهو
مؤمن، ولا يشرب الخمر، حين يشربها، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم
فيها، وهو مؤمن " وقوله : " لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه " لكن
نفى الإيمان هنا، لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر
بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد، على الخوارج،
والمرجئة، ونحوهم، من أهل الأهواء ؛ فافهم هذا، فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام.
وأما : إلحاق الوعيد المرتب،
على بعض الذنوب، والكبائر، فقد يمنع منه مانع، في حق المعين، كحب الله ورسوله،
والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب
المكفرة، في الدور الثلاثة، ولذلك، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة ولا نار،
وإن أطلقوا الوعيد، كما أطلقه القرآن، والسنة، فهم يفرقون، بين العام المطلق،
والخاص المقيد ؛ وكان عبد الله حمار، يشرب الخمر، فأتى به إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلعنه رجل، وقال ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " مع
: أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه.
ثم قال: وأصل : الموالاة، هو
الحب والنصرة، والصداقة ودون ذلك مراتب متعددة ؛ ولكل ذنب حظه وقسطه، من الوعيد
والذم ؛ وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا
الباب وفى غيره وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعانى، والتبست الأحكام على خلوف من
العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا مممارسة لهم بمعاني السنة
والقرآن . ولهذا قال الحسن رضى الله من العجمة أتوا وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن
عبيد، لما ناظرة في مسألة خلود أهل الكبائر في النار احتج ابن عبيد أن هذا وعد والله لا يخلف وعده يشير إلى ما في
القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود فقال له ابن العلا : من
العجمة أتيت ؛ هذا وعيد لا وعد وأنشد قول الشاعر :
وإنني وإن أوعدته أو
وعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعد .
وقال بعض الأئمة فيما نقل
البخاري أو غيره : إن من سعادة الأعجمي، والعربي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة
وأن من شقاوتهما أن يمتحنا ويسرا لصاحب هوى وبدعة .
ونضرب لك مثلاً وهو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما
خارجي والآخر مرجىء [56].
قال الخارجي: إن قول الله تعالى "إنما يتقبل الله من
المتقين" دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها إذ لا قائل أنهم من
عباد الله المتقين.
قال المرجىء: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل عمله ، لقوله
تعالى "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"
قال الخارجي: قوله تعالى "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار
جهنم خالدين فيها أبدا" يرد ما ذهبت إليه.
قال المرجىء: المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد معه لقوله :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ]
.واتخاذ الأنداد معه لقوله "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء".
قال الخارجي: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً" دليل على
أن الفساق من أهل النار خالدين فيها .
قال المرجىء :في آخر الآية "وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي
كنتم به تكذبون" دليل على أن المراد من كذَّب الله ورسوله، والفاسق من أهل
القبلة كامل الإيمان.
ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية
المقصودة، وعض عليها بالنواجذ ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل
العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله ، لأن الرجوع إلى
السُّنة المبينة للناس ما نزل إليهم ، وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها
بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم.
وقد بلغني أنكم تأولتم قول الله تعالى في سورة محمد ( ذلك بأنهم
قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) . على بعض ما يجري من أمراء
الوقت: من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض الرؤساء الضالين والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: "إن
الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى" ولم تفقهوا المراد من
الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة
، وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون واشترطوه وأجابهم إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم.
فصل : وهنا أصول، أحدها :
أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص،
الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما انزل الله كمعرفة المؤمن والكافر
والمشرك والموحد والفاجر والبر والظالم والتقي وما يراد بالموالاة والتولي ونحو
ذلك من الحدود كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في
عددها وأركانها وشروطها وواجبها وكذلك الزكاة فإن لم يظهر المراد من الآيات
الموجبة ومعرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت
الوجوب واشترط الحول في بعضها ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا ببيان السنة
وتفسيرها .
وكذلك الصوم، والحج، جاءت
السنة بيانهما وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على
السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه ونوعه،
وما يجرى فيه، وما لا يجرى والفرق بينه، وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية
الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه، باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنزيل
والقرآن .
الأصل الثاني : أن الإيمان
أصل، له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيماناً فأعلاها شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادتين
ومنها ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك
إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبين، شعب متفاوتة، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب ومنها
ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب والتسوية بين هذه الشعب في
اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها . وكذلك الكفر أيضاً، ذو
أصل، وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر والمعاصي كلها من شعب الكفر،
كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام، وفرق
بين من ترك الصلاة، أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف ؛ وبين
من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب فمن سوى بين
شعب الإيمان في الأسماء والأحكام ،أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب
والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء ([57]).
الأصل الثالث: أن الإيمان مركب
من قول وعمل والقول قسمان قول القلب، وهو اعتقاده وقول اللسان وهو التكلم بكلمة
الإسلام ؛ والعمل قسمان : عمل القلب، وهو : قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه
وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال
الظاهرة فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية
وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة، والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا
: محل خلاف هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج
والزكاة والصيام أو لا يزول ؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر ؟ وهل : يفرق بين الصلاة،
وغيرها أو لا يفرق . فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو محبته،
ورضاه وانقياده والمرجئة تقول يكفى التصديق فقط ، ويكون به مؤمناً والخلاف في
أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر واقع بين أهل السنة ([58])
والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام
والحج والقول الثاني : أنه لا يكفر إلا من جحدها . والثالث : الفرق بين الصلاة
وغيرها وهذه الأقوال معروفة ؛ وكذلك المعاصي، والذنوب التي هي فعل المحظورات،
فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك وبين ما سماه الشارع
كفراً وما لم يسمه هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها .
الأصل الرابع : أن الكفر نوعان
كفر عمل وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء
به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها
توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه وأما كفر العمل فمنه
ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي صلى الله عليه وسلم
وسبه وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا
ترجعوا بعدى كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض " وقوله : " من أتى كاهناً
فصدقه، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "
فهذا : من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي صلى
الله عليه وسلم وسبه وإن كان الكل يطلق عليه : الكفر .
وقد سمى الله سبحانه : من عمل
ببعض كتابه وترك العمل ببعضه، مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به قال
تعالى : (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) إلى
قوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) الآية [ البقرة 84-85] فأخبر تعالى
أنهم أقروا بميثاقه، الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به ؛ وأخبر :
أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ
عليهم ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في
الكتاب وكانوا مؤمنين، بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه .
فالإيمان العملي يضاده الكفر
العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح " سباب
المسلم فسوق، وقتاله كفر " ففرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسوق لا يكفر
به، والآخر كفراً ومعلوم أنه إنما أراد
الكفر العملي لا الاعتقادى وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة
بالكلية كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب، من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان .
وهذا التفصيل، قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر
ولوازمهما، فلا تُتلقى هذه المسائل إلا عنهم والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا
فريقين ؛ فريق أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريق
جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة
للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل فها هنا كفر
دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس رضي الله عنه،
في قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44]
قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه رواه عنه سفيان وعبد الرازق ([59]).
وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة وعن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون
فسق ([60]).
وهذا بين في القرآن، لمن تأمله
فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً وسمى الجاحد لما أنزل الله
على رسوله كافراً، وليس الكفران على حد سواء وسمى الكافر ظالماً، وفى قوله (
والكافرون هم الظالمون ) [ البقرة : 254] وسمى من يتعد حدوده في النكاح، والطلاق
والرجعة والخلع، ظالماً وقال ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) [ الطلاق :1]
وقال يونس عليه السلام ( إنى كنت من الظالمين ) [ الأنبياء :87] وقال آدم عليه
السلام ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] وقال موسى : ( رب إني ظلمت نفسي )
[ القصص : 16 ] وليس هذا الظلم مثل ذلك
الظلم ؛ وسمى الكافر فاسقاً، في قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ البقرة : 26
] وقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) [ البقرة :
99 ] وسمى العاصي فاسقاً، في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا ) [ الحجرات :6] وقال في الذين يرمون المحصنات : ( وأولئك هم الفاسقون ) [
النور:4] وقال : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) [ البقرة :197 ] وليس الفسوق،
كالفسوق . وكذلك الشرك، شركان ؛ شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر ؛ وشرك لا
ينقل عن الملة، وهو الشرك الأصغر ، كشرك الرياء ؛ وقال تعالى، في الشرك الأكبر : (
إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )
[ المائدة :72] وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير )
الآية [ الحج:31] وقال تعالى، في شرك الرياء : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل
عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف :110] وفي الحديث : " أخوف
ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " وفي الحديث : " من حلف بغير الله، فقد
أشرك " ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار
؛ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب
النمل " فانظر كيف انقسم الشرك، والكفر، والفسوق، والظلم، إلى ما هو كفر ينقل
عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة . وكذلك النفاق، نفاقان ؛ نفاق اعتقادي ؛
ونفاق عملي ؛ والنفاق الاعتقادي مذكور في القرآن، في غير موضع، أوجب لهم تعالى به
الدرك الأسفل من النار ؛ والنفاق العملي، جاء في قوله صلى الله عليه وسلم "
أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من
النفاق، حتى يدعها ؛ إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان
" وكقوله صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث " إذا حدث كذب،
وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " قال بعض الأفاضل : وهذا النفاق قد يجتمع مع
أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية وإن صلى
وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان، ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له
ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً .
الأصل الخامس : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد،
أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما
قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من
أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيها ؛ وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها
اسم الكفر كما في الحديث :" اثنتان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب،
والنياحة على الميت " وحديث : " من حلف بغير الله فقد كفر " ولكنه
لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق . فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة
تكلفهم ؛ قال ابن مسعود : من كان متأسياً، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً ؛ قوم اختارهم
الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ؛ وقد كاد
الشيطان بنى آدم، بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأبيهما ظفر أحدهما الغلو ومجاوزة
الحد والإفراط والثاني هو الإعراض، والترك والتفريط . قال ابن القيم : لما ذكر
شيئاً من مكائد الشيطان قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه
نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير وأما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأبها ظفر ([61])
وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل، في هذين الواديين وادي التقصير ووادي المجاوزة
والتعدي والقليل منهم الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه وعد رحمه الله كثيراً من هذا النوع إلى أن قال وقصر بقوم حتى
قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان
جبريل وميكائيل فضلاً عن أبى بكر وعمر وتجاوز بأخرين حتى أخرجوا من الإسلام
بالكبيرة الواحدة " ، انتهى .
ولقد بلغ الأمر ببعضهم بسبب انحرافه في تنزيله للأحكام في مسألة
الحكم بغير ما أنزل الله والديمقراطية وغيرهما أن طبق قواعده البدعية حتى على أهل
العلم حتى كفر العلماء قال " ونحن نرى في زماننا هذا الحكام المرتدين في شتى
البلدان قد اصطنع كل منهم طائفة من المشايخ هو يخلع عليهم الألقاب الفضفاضة كأصحاب
الفضيلة والسماحة تلبيساً على العامة لترويج باطلهم، وهم يخلعون عليه خِلعة
الإيمان والشرعية الإسلامية تضليلاً للعامة، فهؤلاء المشايخ وأمثالهم لاشك في
كفرهم وردتهم لقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51، ولرضاهم
بالكفر، ولعدم تكفيرهم للحكام الكافرين الذين دَلّ الدليل على كفرهم ، قال عبدالله
بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسَدَ الدينَ إلا الملوك ُ
.. وأحبارُ سوء ٍ
ورهبانُها"
وتأمل قوله " أصحاب الفضيلة والسماحة " خاصة وأنه قال عن
الشيخ ابن باز " وهذا الشيخ ــ أعني ابن باز ــ من الذين أسرفوا على أنفسهم
وتقلّبت فتاواه لتتفق مع السياسة حيث دارت، ومن هنا اختلفت فتاواه وتناقضت في
المسألة الواحدة بين عام ٍ وآخر، انظر على سبيل المثال ماقاله في مسألة الاستعانة
بالمشركين في كتابه (نقد القومية العربية) وماقاله في نفس المسألة في حرب الخليج
الثانية 1990م، أسأل الله أن يوفقه للتوبة
النصوح قبل موته، فإنما الأعمال بالخواتيم."
ولا أدري ما ذا يعني بالتوبة هنا ، ولمحبيه أن يحملوا كلامه على
التوبة مما دون الكفر !!! ولكن أستبعد ذلك .
أما ما يتعلق بمسألة الولاء والبراء فسأفرد لها مبحثاً خاصاً لكن
سأذكر هنا أقوال بعض الأئمة في هذه المسألة فيما يتعلق بما نحن بصدده وهو دلالات
الألفاظ ومراتبها ، و تعدد مراتب الولاء والبراء :
قال شيخ الإسلام في بيان مراتب الموالاة، وأنها ليست مرتبة واحدة:
"إن شُعَب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف،
فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم
أوجب بغض أعداء الله كما قال تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه
ما اتخذوهم أولياء) وقال: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد
الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في
قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه)، وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون
ذنباً ينقص إيمانه به، ولا يكون به كافراً ، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة
لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه: (يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) " ( مجموع
الفتاوى 7/522-523).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ : " أن الذي
وقع في هذه الإعصار , وكلامنا بصدده ، أمر يجل عن الوصف ، وقد اشتمل مع السفر على
منكرات عظيمة ؛ منها : موالاة المشركين , وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية ,
والأحاديث النبوية , وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ؛ منها
ما يوجب الردة , وذهاب الإسلام بالكلية ؛ ومنها ما هو دون ذلك , من الكبائر
والمحرمات . وعرفتم قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
أولياء} [ الممتحنة : 1 ] وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله
عليه وسلم , وقد جعل ذلك من رأى : أن في ولايتهم مصلحة للناس , أو للحضر , وهذا
واقع مشاهد , تعرفونه من حال أكثر هؤلاء , الذين يسافرون إلى تلك البلاد , وربما
نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام , ما يستفزونهم به , ويدعونهم إلى طاعتهم
وصحبتهم , والانحياز إلى ولايتهم ." ( الدرر السنية 8/341).
والعجيب أن كل من تكلم في هذه المسألة من أهل الغلو نسب قوله لأئمة
الدعوة وأكثر الذي وقفنا عليه من كلامهم يخالف ما ذهب إليه هؤلاء الخوارج .
لاشك أن كل فرقة فيها الغالي
ومن هو دون ذلك ، والخوارج من أوضح سماتهم الغلو في الدين فمنهم طائفة يكفرون
بجميع المعاصي الصغائر والكبائر ، ومنهم طائفة يكفرون بالكبائر دون الصغائر ،
وهاتان الطائفتان هما المقصودتان بالرد في هذا المبحث.
والجدير بالذكر أن جل الكتب
المؤلفة في الرد على الخوارج يعنون بهم هاتين الطائفتين ولذلك تجد أصحاب هذه الكتب
يعنونون لها مرة بـ " .... أهل الغلو " ومرة بعنوان " الغلو في
الدين " ومرة بعنوان " الخوارج " وغير ذلك ، وينزلون أحكامهم في
الواقع على جماعة شكري مصطفى المسماه بجماعة التكفير والهجرة ، وهذا من التدليس
والتلبيس على الناس وكأن هؤلاء فقط ، هم الخوارج.
والواقع كما أنه يوجد جماعات
تكفر بكل المعاصي فكذلك يوجد آخرون يكفرون ببعض المعاصي كالحكم بغير ما أنزل الله
على الاطلاق والولاء للكفار وعدم البراء منهم مطلقاً وكذلك بالاستحلال العملي
للمعاصي ولو كان يعتقد الواقع فيها حرمتها وقد سبق الكلام عن هذه الطائفة لكن الذي
يهمنا هنا الإشارة إلى أن هذه الطائفة التي تكفر ببعض المعاصي قد ساهمت في الرد
على غلاة الخوارج وكأنهم بريئون من هذه البدعة ، وقد تلبسوا بها ، والمتأمل في
الواقع يجد أن غلاة الخوارج لهم سمات يعرفون بها عن باقي الخوارج ومن أهم تلك
السمات :
العزلة : فهم يعتقدون أن الناس
قد ارتدوا وعادوا إلى الجاهلية الأولى ، ولذلك تراهم يتعاملون مع هذه المجتمعات
الإسلامية بإسلوبين :
الأول ) العزلة الشعورية :
ويعنون بها التعامل مع المجتمع على أنه مسلم في الظاهر مع اعتقاد كفره في الباطن .
الثاني ) العزلة الكاملة :
ويعنون بها التعامل مع المجتمع ظاهرا ً وباطناً على أنه كافر ، ولذلك يلزمون أفراد
جماعتهم بالهجرة ويحكمون على المقيم بالكفر قال أحدهم وهو يتحدث عن الهجرة "
إن المستضعف في الأرض وهو قادر على أن يفر بدينه وينخلع عن هذا الاستضعاف ، يقف
حينذاك على قاعدة الكفر وليس له نصيب من الإيمان فهو كافر وليس مومناً ، هذا حكم
الله صريح وبين " .
لكنهم رغم ذلك يأخذون بمبدأ
التدرج في الانفصال عن المجتمع ، وقد صرحوا بذلك ، لعدم قدرتهم على العزلة الكاملة
في هذا الزمان.
ومن آثار هذه العقيدة التي أول
من نادى بها في هذ ا العصر سيد قطب أنك تجدهم يسمون المساجد ، بمعابد الجاهلية أو
مساجد الضرار ، ويتحينون الفرص للهجرة إلى الجبال والبراري .
أولاً ) من حججهم قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا} (23) سورة الجن
فالعاصي عندهم مخلد في النار ولو كانت معصية واحدة ، وهذه هي علة أهل
البدع أنهم لايفقهون كلام الشارع لعدم معرفتهم للنصوص ومراتب الأحكام ولا يفرقون
بين الوعد والوعيد ولا بين المطلقات والمقيدات كما سبق قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لا يلزم
الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى" .
و من حججهم في هذا الباب أيضاً
قوله تعالى {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ
نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (14) سورة النساء ، وقوله تعالى
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب
فيجاب عن هذا الاستدلال بقوله
تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} (13) سورة النساء ، وكما هو معلوم إن اسم المعصية والطاعة يقع على
المرة الواحدة فلو قلنا بقولهم لوقع التناقض بين الآيتين وهذا يدل على بطلان
مذهبهم .
ومثل الآية السابقة في جوابنا
قوله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}
(69) سورة النساء ، وقوله تعالى {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
(71) سورة الأحزاب ، وقوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن
يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (17) سورة الفتح .
والخوارج يتأولون قوله تعالى {
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا} (23) سورة الجن ، في غير الصغائر
ونحن نتأولها في غير المسلم فهذه بتلك ،
وإن كان قد ظهر لي أن بعضهم لا يفرق كما فرق سلفهم الذين كانوا أفهم منهم
فأراد بعضهم أن يهرب من هذا المأزق فوقع فيما هو أشد دون أن يشعر ، لأنه يلزم من
عدم تفريقه تكفير الأنبياء بل تكفير نفسه .
كما يقال في الجواب أن المعصية
تأتي بمعنى الكفر المخرج من الملة كما في الآيات السابقة يدل على ذلك قوله
تعالى {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (59)
سورة هود ، ومعلوم أنهم لم يؤمنوا بالرسول الذي بعث إليهم فدل ذلك على أن العصيان
هنا بمعنى الكفر .
ثانياً ) ومن حججهم قوله تعالى
: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له
بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " (الحجرات:2).
قالوا : فمن حبط عمله فهو مشرك
وليس ذلك إلا بسبب معصية واحدة ! .
قلت : ليست المعصية هنا مجرد
رفع الصوت لمن جبل على هذا ، لحديث ثابت بن قيس عند البخاري فقد كان جهوري الصوت
فاعتزل بعد نزول الآية فلما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هو
من أهل الجنة .
وليس لمن تعمد ذلك دون أن
يصاحب ذلك التنقص والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء
عند البخاري أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
هذا يقول أمر فلان والآخر يقول أمر فلان وفيه " كاد الخيران أن يهلكا
" .
فبطل بذلك مذهب هذا الحروري
لأن التنقص والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر لذاته عند أهل
السنة وفي المسألة زيادة تفصيل لأن الإحباط لا يلزم منه الكفر .
ثالثاً ) ومن حججهم قوله تعالى
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة :4) .
قالوا : فمن عصى الله فقد حكم
بغير ما أنزل الله .
قلت : وهذا من معاني الحكم
بغير ما أنزل الله وفيه رد على خوارج العصر الذين يحصرون الحكم بغير ما أنزل الله
في القضاء فقط! .
- والجواب عن استدلالهم بما
ثبت عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية السابقة " كفر دون كفر " وقد
نقل ابن عبد البر اجماع أهل العلم على هذا المعنى وقد حاول بعضهم تضعيف هذا الأثر
معتمداً على منهج المتقدمين في زعمه ودون ذلك خرط القتاد ، وسيأتي الرد على من ضعف
أثر ابن عباس ، والله المستعان .
رابعاً ) من حججهم قوله تعالى
:" وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون
" .
قالوا : فمن عصى الله فقد أطاع
الشيطان ، وبذلك يكون كافراً.
قلت : وفي هذا رد على خوارج
العصر الذين يحملون الآية فقط على طاعة الحكام في الحكم بغير ما أنزل الله ! ،
ومثل الآية السابقة قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن
لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يــس
والجواب عن استدلالهم ، بما
ثبت في حديث عدي بن حاتم أن ذلك في الاستحلال ، وهو تحريم الحلال وتحليل الحرام
فمن أطاع مخلوقاً في ذلك فقد كفر وهذا إجماع أهل السنة .
قال القرطبي في التفسير (7/77)
" الخامسة قوله تعالى وإن أطعمتموهم أي تحليل الميتة إنكم لمشركون فدلت الآية
على أن من استحل شيئاً مما حرم الله تعالى صار به مشركاً وقد حرم الله سبحانه
الميتة نصاً فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك قال ابن العربي إنما يكون المؤمن
بطاعة لمشرك مشركاً إذا أطاعه في الأعتقاد فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم
مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص فأفهموه "
وقال الطبري في التفسير ( 8/21
) " وأما قوله إنكم لمشركون يعني إنكم إذا مثلهم إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة
استحلالاً فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين " .
ولا أدري ماذا يقول خوارج
العصر في معنى الاستحلال هنا ، فهم قد قرروا أن الواقع في المعصية يكفر بالاستحلال
العملي كما يكفر بالاستحلال الاعتقادي .
خامساً ) من حججهم قوله تعالى
: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه
وأعد له عذاباً عظيماً " (النساء:93) .
قالوا : القتل معصية وقد توعد
الله عليها بالخلود في جهنم .
قلت : وهذه الآية من أقوى حجج
الخوارج كما ذكر العلماء ، والخلاف بين أهل السنة واقع في قبول توبة القاتل
و الصحيح قبولها ، وأقوى دليل في هذا الباب ما جاء في الصحيحين :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا
ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ
تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ
قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ
تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ
بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ * و إن كان هذا شرع من قبلنا إلا أن ذكر النبي e للقصة إقرار منه لها ، والله أعلم .
والجواب عن استدلالهم بالآية ،
أن يقال الآية عامة يدل على ذلك سبب النزول فإن مقيس بن صبابة ارتد وقتل رجلاً
وفيه نزلت الآية .
فهذا الحكم في حق الكافرين وهي
من آيات الوعيد ، وقد حملها العلماء على من استحل القتل يدل على ذلك حديث عبادة في
الصحيحين : وفيه ذكر البيعة التي أخذها عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال " ولا تقتلوا أولادكم " وفي آخره قال " ومن أصاب من ذلك
شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " وهذه البيعه
بعد نزول سورة النساء كما في صحيح البخاري وليست هي بيعة العقبة كما تتابع على ذلك
أهل السير ! .
فهذا دليل على أن القاتل أمره
إلى الله وهو من أقوى الحجج على عدم كفر القاتل ، وبهذا تعرف الجواب على من استدل
بما جاء في الصحيحين أن رجلا سأل عن قتل الكافر بعد أن يقول لا إله إلا الله فقال
له النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إنه بمنزلتك قبل أن تقتله و إنك
بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " .
فالجواب : أي إنك بمنزلته من
جهة عدم عصمة دمك لقتلك من قال لا إله إلا الله وقد جاء المقتول بالإيمان الواجب
عليه في هذا الموقف.
سادساً ) من حججهم ما جاء في
الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من قتل
نفسه بحديدة فحديدته بيده في نار جهنم يتوجأ بها خالداً مخلدا فيها أبداً "
الحديث .
قالوا : قتل النفس معصية وقد
توعد الله عليها بالخلود في جهنم .
والجواب عن استدلالهم بما رواه
مسلم في صحيحه :
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ
قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ
فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ
مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ
لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ
الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ
مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ فَقَالَ غَفَرَ لِي
بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي
أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ قَالَ قِيلَ لِي لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ
فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ
فَاغْفِرْ "
فهذا الرجل قتل نفسه ومع ذلك
غفر الله له ، وهذا الحديث من أقوى الحجج على الخوارج وهو كذلك حجة على المرجئة
الذين يقولون لا يضر مع الإيمان معصية .
سابعاً ) من حججهم النصوص
الواردة في التولي عن طاعة الله ورسوله كقوله تعالى " قل أطيعوا الله والرسول
فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين " (آل عمران:32).
قالوا : فالعاصي متولٍ عن طاعة
الله والمتولي كافر .
والجواب عن استدلالهم أن يقال
، هنالك فرق بين التولي المطلق ومطلق التولي فالمقصود في الآية هنا الأول وهو كفر
بالإجماع وقد حررت هذه المسألة في ردي على بعض من حمل راية الدعوة إلى الإرجاء في
هذا العصر ، كما في الأصل .
ثامناً ) من حججهم النصوص
الواردة في موالاة الكافرين مثل قوله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم
" ( المائدة : 51) .
قالوا : فقد حكم الله على من
تولى الكافرين أنه منهم .
قلت : والآية على ظاهرها إذا
أحسنا التفريق بين الموالاة والتولي وقد حاول بعض خوارج العصر في فتوى لهم التمويه
على الناس فقالوا الموالاة لذاتها كفر مخرج من الملة ونقلوا على ذلك الإجماع ،
وهذا كذب وقد زيفت قولهم في رسالة لي علقت فيها على رسالة للإمام عبد اللطيف بن
عبد الرحمن تجد أصلها في الدرر السنية وهي من أحسن ما كتب في هذا الباب ، وسيأتي
ذكرها ، وهذا هو مذهب أئمة الدعوة في نجد وهو مذهب السلف.
وحجتنا على التفريق ما جاء في
الصحيحين في قصة الكتاب الذي أرسله حاطب رضي الله عنه إلى قريش قبل الفتح فقال له
النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ما حملك ياحاطب على ذلك " .
فلو كانت الموالاة كفر لذاتها
دون النظر إلى القصد لما سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا السؤال ، قال الشيخ عبد اللطيف فظهر بذلك أن الحامل له
على فعله الذي يعد موالاة بنص القرآن هو الدنيا .
فمن والى الكافرين من أجل
دينهم كفر ومن والاهم من أجل دنياهم لم يكفر والله أعلم ، وسيأتي تفصيل المسألة .
وبعضهم احتج بحجج أخرى نوردها
هنا ثم نذكر الجواب على استدلالهم بها :
فمن ذلك :
قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ}] الجاثية
: 23 [
فاستدلوا بهذه الآية على أن كل من عصى الله فقد اتخذ هواه إله من دون الله .
والجواب : أن الآية السابقة في
الكفار ، قال ابن عباس في قوله أفرأيت من
اتخذ إلهه هواه قال " ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان " [62]
ويفسرها قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ÇÍÊÈإِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا
عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًاÇÍËÈ
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلًا ÇÍÌÈ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}] الفرقان :41 -44[ .
قال الإمام الطبري " القول في تأويل قوله تعالى ( أفرأيت من اتخذ
إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من
بعد الله أفلا تذكرون ) . اختلف أهل التأويل في تأويل قوله أفرأيت من اتخذ إلهه
هواه فقال بعضهم معنى ذلك أفرأيت من اتخذ دينه بهواه فلا يهوى شيئا إلا ركبه لأنه
لا يؤمن بالله ولا يحرم ما حرم ولا يحلل ما حلل إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به
... وقال آخرون بل معنى ذلك أفرأيت من
اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء
... عن سعيد قال كانت قريش تعبد العزى وهو حجر أبيض حينا من الدهر فإذا
وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر فأنزل الله أفرأيت من اتخذ إلهه
هواه ، وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك أفرأيت يا محمد من
اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له الألوهية من كل شيء
لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره
وقوله وأضله الله على علم يقول تعالى ذكره وخذله عن محجة الطريق وسبيل
الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
" .
فإن قيل العبرة بعموم اللفظ ،
قلنا الآية فيها إخبار عن من عبد هواه وليس فيها بيان لحكم من اتبع هواه وفرق بين
عبادة الهوى واتخاذه إله ، وبين موافقة الهوى في معصية الله ، فموافقتك للمخلوق في
شيء لا تسمى عبادة ، ولا يقال إنك اتخذته إله .
وهذه الأية من أشهر حجج
الخوارج الغلاة والعمل بمعناها من القواعد التي سار عليها خوارج العصر كما سبق
بيانه ويحتجون بحديث في نفس المعنى وهو حديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه
تبعا لما جئت به "
قال الشيخ الألباني في ظلال
الجنة " إسناده ضعيف رجاله ثقات غير نعيم بن حماد ضعيف لكثرة خطئه وقد اتهمه
بعضهم والحديث أخرجه الحسن بن سفيان في الأربعين له ، وعنه السلفي في الأربعين البلدانية ، وفي معجم
السفر ، والهروي في ذم الكلام وابن بطة في الإيانة والقاسم بن عساكر في طرق الأربعين
، كلهم عن نعيم به قال ابن عساكر وهو حديث غريب يعني ضعيف وقد كشفنا لك عن علته
وذكر له الحافظ ابن رجب عللا أخرى في شرح الأربعين النووية فراجعه مع تعليقنا على
المشكاة " .
وقد رد الحافظ ابن رجب على من
صحح إسناده .
ومن حججهم قوله تعالى {بَلَى
مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (81) سورة البقرة ، قالوا فمن عصى الله فقد كسب
سيئة وأحاطت به خطيئته وهو في النار من الخالدين .
والجواب : أن القول هنا كما
سبق في المعاصي أنها تطلق على الكفر وعلى ما
هو دون ذلك وكذلك السيئة هنا يراد بها الكفر ودليل ذلك قوله تعالى {إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (31) سورة النساء ، فذُكر هنا أن السيئة
يكفرها الله إذا اجتنبت الكبائر والمقصود بالسيئة هنا صغائر الذنوب فظهر أن المراد
بالسيئة التي عقابها الخلود في النار هي ما كان كفراً مخرجاً من الملة ، وهي ليست
كالسيئة المذكورة في آية النساء فظهر بذلك أن ليس كل سيئة تخرج من الملة وكذلك
القول في الخطيئة لقوله تعالى {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ } (82) سورة الشعراء.
وقد احتج بعضهم بنصوص كثيرة
على كفر تارك الصلاة وبنى على ذلك أن ترك أي واجب يكون كفراً مخرجاً من الملة .
قلت : أما تارك الصلاة فهو
كافر بإجماع أهل العلم ولو لم يكن جاحداً لوجوبها وفي المسألة تفصيل ذكرته في
رسالة لي بعنوان " حكم تارك الصلاة وخلاصة البحث مذكور في كتابي اجتماع
الأئمة " .
كما احتج بعضهم على مذهبه
الباطل بنصوص كثيرة فيها ذكر اللعن أو الضلال أو الكذب أو أن صاحبها ليس له صرف
ولا عدل عند الله وهذا يدل على جهله ومبلغ علمه ، لأن هذه الألفاظ لا تفيد التكفير
.
وكذلك احتج بعضهم بنصوص غير
ماذكر ، جاء فيها ذكر الكفر وقد علمنا من نصوص أخرى أن المراد به الكفر الأصغر.
مثل قوله صلى الله عليه وآله
وسلم " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " فقد جاء ما يدل على أن
المراد بالكفر والشرك هنا الأصغر وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من حلف
باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " ومعلوم أن الكافر لا يرجع إلى الإسلام
بمجرد قوله لا إله إلا الله حتى يضم إلى ذلك الشهادة بأن محمداً رسول الله .
وقد أشار بعض أئمة الدعوة إلى
أن الشرك هنا من النوع الذي ينافي توحيد الربوبية وإلا فإن الشرك في الألوهية لا
يكون إلا شركاً أكبر (انظر اجتماع الأئمة ) .
ومن ذلك أيضاً ما جاء في
الصحيحين : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "
وهذا الحديث يعرف معناه من
قوله تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما "
فوصفهم الله بالإيمان مع وجود المقاتلة فالحديث أريد به الوعيد ، وسيأتي ذكر قاعدة
أهل السنة في أحاديث الوعيد ومثله ما جاء في الصحيحين " سباب المسلم فسوق
وقتاله كفر " فالمغايرة لا تعنى اختلاف الحكم وإنما ذلك من باب الوعيد أيضاً
، فيقال " كفر " إلا أن يمنع مانع من ذلك .
وعلى كل حال فهذا النص من نصوص
الوعيد وفهم نصوص الوعيد وتوجيهها الذي يتفق مع نصوص الشرع مما اختص به أهل السنة
عن الخوارج الذين عظموا الوعيد والمرجئة الذين عظموا الوعد وهي مسألة كبيرة طويلة
الذيول وخلاصة ما قرره أهل العلم فيها أن نصوص الوعيد يجوز فيها الخُلف وهذا من
رحمة الله وإحسانه وأما قوله تعالى " ما يبدل القول لدي " فهي في حق
الكافرين وقد نص شيخ الإسلام أن هذه الآية من حجج الخوارج وقد قال تعالى "
وإذا بدلنا آية مكان آية " وقال " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
" فالآية السابقة لا عموم لها ، فالقاعدة أن نصوص الوعد و الوعيد في حق
المعين متوقفه على توفر شروط وامتناع موانع ، والله أعلم .
قال شيخ الإسلام في بغية
المرتاد (1/353) " ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه
وانتفاء موانعه "
وقال ابن القيم في المدارج (
1/395 ) " وقد اختلف الناس في هذه النصوص على طرق أحدها القول بظاهرها وتخيلد أرباب هذه الجرائم
في النار وهو قول الخوارج والمعتزلة ثم اختلفوا
فقالت الخوارج هم كفار لأنه لا يخلد في النار إلا كافر وقالت المعتزلة
ليسوا بكفار بل فساق مخلدون في النار هذا كله إذا لم يتوبوا وقالت فرقة بل هذا الوعيد في حق المستحل لها
لأنه كافر وأما من فعلها معتقدا تحريمها فلا يلحقه هذا الوعيد وعيدالخلود وإن لحقه
وعيد الدخول وقد أنكر الإمام أحمد هذا
القول وقال لو استحل ذلك ولم يفعله كان كافرا والنبي إنما قال من فعل كذا
وكذا وقالت فرقة ثالثة الاستدلال بهذه
النصوص مبني على ثبوت العموم وليس في اللغة ألفاظ عامة ومن ههنا أنكر العموم من
أنكره وقصدهم تعطيل هذه الأدلة عن استدلال المعتزلة والخوارج بها لكن ذلك يستلزم
تعطيل الشرع جملة بل تعطيل عامة الأخبار فهؤلاء ردوا باطلا بأبطل منه وبدعة بأقبح
منها وكانوا كمن رام أن يبني قصرا فهدم مصرا
وقالت فرقة رابعة في الكلام إضمار
قالوا والإضمار في كلامهم كثير معروف ثم اختلفوا في هذا المضمر فقالت طائفة
بإضمار الشرط والتقدير فجزاؤه كذا إن جازاه أو إن شاء وقالت فرقة خامسة بإضمار الإستثناء والتقدير
فجزاؤه كذا إلا أن يعفو وهذه دعوى لا دليل في الكلام عليها ألبتة ولكن إثباتها
بأمر خارج عن اللفظ وقالت فرقة سادسة هذا
وعيد وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد ولا يجوز عليه خلف الوعد والفرق بينهما أن
الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط وذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه والوعد حق عليه
أوجبه على نفسه والله لا يخلف الميعاد
قالوا ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول الله حيث يقول نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول
الله مأمول وتناظر في هذه المسألة أبو
عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد فقال عمرو بن عبيد يا أبا عمرو لا يخلف الله وعده
وقد قال ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية فقال له أبو عمرو ويحك يا عمرو من العجمة
أتيت إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذما بل جودا وكرما أما سمعت قول الشاعر :
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ولا يختشى من سطوة المتهدد
وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز
موعدي .
وقالت فرقة سابعة هذه النصوص
وأمثالها مما ذكر فيه المقتضى للعقوبة ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده فإن
الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب
للعقوبة ومقتض لها وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع وبعضها بالنص
فالتوبة مانع بالإجماع والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها والحسنات
العظيمة الماحية مانعة والمصائب الكبار المكفرة مانعة وإقامة الحدود في الدنيا
مانع بالنص ولا سبيل إلى تعطيل لهذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين
" .
وبعض الأقوال التي نقل إنكارها
عن بعض الأئمة ، أقرها في موضع آخر فالمذهب الحق التوفيق بين نصوص الوعد والوعيد ،
والأقوال المذكورة في كلام ابن القيم رحمه الله بعضها يرجع إلى قول واحد فقد ذكر
رحمه الله في الصواعق المرسلة (2/691) " والصواب غير المذهبين وأن هذه
الأفعال سبب لما علق عليها من الوعيد والسبب قد يتخلف عن مسببه لفوات شرط أو وجود
مانع والموانع متعددة منها ما هو متفق عليه بين الأمة كالتوبة النصوح ومنها
الحسنات الماحية والمصائب المكفرة وما يلحق العبد بعد موته من ثواب تسبب إلى تحصيله
أو دعاء أو استغفار له أو صدقة عنه ومنها شفاعة بإذن الله فيها لمن أراد أن يشفع
فيه ومنها رحمة تدركه من أرحم الراحمين يترك بها حقه قبله ويعفو عنه وهذا لا يخرج
العموم عن مقتضاه وعمومه ولا يحجر على الرب تعالى حجر الوعيدية والقدرية " ،
فذكر من الأسباب العفو و الرحمة .
وفي إعلام الموقعين (2/304)
قال ابن القيم وهو يذكر وجه الشبه بين الرافضة والخوارج " كفعل إخوانهم من
الخوارج حين ردوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم وإن ارتكبوا
بعض الذنوب التي تقع المكفرة بالتوبة النصوح والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب
المكفرة ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم وبالامتحان في البرزخ وفي موقف
القيامة وبشفاعة من يأذن الله له في الشفاعة وبصدق التوحيد وبرحمة أرحم الرحمين
فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنوب فإن عجزت هذه الأسباب عنها فلابد من دخول النار
ثم يخرجون منها فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد "
ومن مجموع هذه القواعد والنصوص
قرر أهل العلم في كتبهم مذهب أهل السنة والجماعة فقالوا : " ولا نكفر أحداً
بذنب ما لم يستحله".
وأرادوا بهذا الرد على الخوارج
كما ذكر ذلك ابن أبي العز وغيره وقد نبه جمع من العلماء إلى أن هذا الإطلاق لا
يراد به إلا الرد على الخوارج وإلا فإن أهل السنة يكفرون ببعض الذنوب كترك الصلاة
ولذلك قال شيخ الإسلام لم يريدوا بذلك المباني فالخلاف فيها مشهور وإنما أرادوا
المعاصي .
وقد بينت في كتابي "
اجتماع الأئمة " أن المعنى الموافق لمذهب أهل السنة أن يقال " ولا نكفر
أحداً بذنب دون الكفر إلا أن يستحله " .
وأهل السنة يفرقون بين الذنب
الذي يكفر به صاحبه والذي يفسق به ولا يخرج من ملة الإسلام وهذه أول مسألة وقع
فيها الخلاف في الأمة وهي مشهورة عند العلماء بمسألة الفاسق الملي وقد جاءت نصوص
كثيرة تدل على هذا التفريق منها قوله تعالى " وكره إليكم الكفر والفسوق
والعصيان"
وقوله تعالى : " يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين
" الآية .
ومن السنة ما جاء في صحيح
البخاري من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "
أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا .. " الحديث .
وليس هذا من باب ذكر الخاص بعد
العام كما يدعي الخوارج وليس هذا محل التفصيل في مسألة أجمع عليها العلماء وهي من
أصول أهل السنة ومن المعلوم من الدين بالضرورة لمجرد مخالفة بعض الناشئة الأغمار
وقد فصلت في كتابي " إغاثة الطالب " القواعد التي تعين طالب العلم على
فهم هذه القواعد ومعرفة مستندها من الشرع بما يغني عن الإعادة ، وقد دأب كثير من
الناشئة في هذا العصر الخوض في المسائل الكبار التي حررها العلماء ويريدون من أهل
السنة الجواب عن شبههم في كلمة أو كلمتين وربما يطالب بعضهم بنص صريح ولا يلتفتون
إلى كلام العلماء بحجة إتباع الدليل ، وإن كان الأصل عدم العمل بقول أحد إلا بحجة
إلا أن الناس في مسألة إتباع الدليل وقعوا بين إفراط وتفريط فنسأل الله العافية (
انظر إغاثة الطالب ) .
ومما سبق تعرف معنى الأحاديث
التي جاء فيها وصف من ادعى لغير أبيه بالكفر إذا علمت أن الذنب المقصود هو الكذب
ولا يكفّر بالكذب إلا الخوارج لأنه جاء في نصوص الشرع أن الكذب يجوز في حالات فهو
من الذنوب المحرمة لغيره لا لذاته .
وكذلك معنى ليس منا الذي جاء في
بعض الأحاديث فالخوارج فسرته بمعنى " ليس من المسلمين " والمرجئة كما
قال الإمام أحمد قالوا " ليس على طريقتنا .
وبعضهم بسبب جهله ، احتج ببعض
الأحاديث التي ليس فيها ذكر الكفر أو التخليد في النار أو أنه ذكر التخليد مقيداً
كما في حديث على في الصحيحين في قصة الأمير الذي أمر أصحابه بدخول النار قال صلى
الله عليه وآله وسلم : " لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة "
والمقصود هنا نار الدنيا .
وأما الأحاديث التي فيها نفي
دخول الجنة أو تحريمها على مرتكب ذلك الذنب فيعرف معناها من الأحاديث الأخرى التي
تبين ذلك فإن دخول الجنة إما أن يكون ابتداءً وإما بعد عذاب .
وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث
: " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " هي مثل قوله تعالى " وما
كان الله ليضيع إيمانكم " أي صلاتكم ، فالمقصود وليس وراء ذلك من العمل حبة
خردل لأن الإنكار بالقلب أقل درجات إنكار المنكر .
وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث
أن " مدمن الخمر إذا مات على ذلك لقي الله كعابد وثن " ، فالمعنى أنه في
تعلقه بالخمر وقد مات عليها كتعلق المشرك بالوثن لأن المقرر عند العلماء أن
التشبيه لا يلزم منه الموافقة من كل وجه ولم ينص الحديث على أن مدمن الخمر كافر بل
جاء في النصوص الأخرى ما يخالف هذا الحكم ، من ذلك الأحاديث التي فيها الأمر
بإقامة الحد عليه وأيضاً ما جاء في صحيح البخاري في قصة الصحابي الذي كان يؤتى به
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجلد في الخمر فلعنه بعض الصحابة وقال
ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا تقولوا
ذلك فإنه يحب الله ورسوله " وكذلك حديث عبادة وهو العمدة في هذا الباب وقد
مضى .
وغلاة الخوارج ينكرون الشفاعة
المجمع عليها وبعضهم عمد إلى تضعيف أحاديثها وبعضها في الصحيحين وقد بلغت حد
التواتر فلا نكلف أنفسنا بالرد عليهم في هذه المسألة الظاهر أمرها لكن سأذكر بعض
الأمور التي تعين القارئ على رد شبههم في هذه المسألة :
1) الشفاعة
شفاعتان ، مثبته ومنفية فالنصوص التي فيها نفي للشفاعة وعظمها الخوارج تحمل على
الشفاعة المنفية وهي الشفاعة التي لم تتوفر فيها شروط ثلاثة .
2) شروط الشفاعة
المثبتة ثلاثة :
-
الإذن من الله
-
الرضى عن الشافع .
-
الرضى عن المشفوع له ، وليس الرضى عن كل عمله فتنبه .
2) الشفاعة أقسام
أوصلها بعض العلماء إلى تسعة أقسام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم خُص
ببعضها ومنها العظمى فقول بعضهم ، النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخص نفسه
بالشفاعة وينفيها عن النبيين وفي النصوص
الأخرى " شفع النبيون " قال وهذا تناقض .
فنقول : إنما هي شنشنة نعرفها
من أخزم ، والغريب أن أكثر الخوارج يثبتون قسماً واحداً منها .
4) أما كلام بعضهم
عن الأحاديث وأسانيدها فنقول لهم كما قال الشاعر :
دع عنك الكتابة فلست منها ولو
سودت وجهك بالمداد .
لاشك في حاجة الأمة إلى إحياء فريضة الجهاد ولن يعود للأمة تمكنها
وعزها إلا بالعودة إلى الدين العتيق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه
ففي سنن أبي داود :
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ
وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ
الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا
إِلَى دِينِكُمْ " .
لكن قد بليت الأمة في هذا العصر بقوم يدْعون إلى قتال الكفار في
عقر دارهم دون اعتبار لحال الأمة وعدم
قدرتها على هذا الأمر في الوقت الحاضر ودون النظر إلى المصالح والمفاسد ، بل بلغ
بهم الأمر إلى معاداة العلماء الذين يفتون بغير ما يحب هؤلاء القوم ، نسأل الله
العافية.
قال علي الأزدي سألت ابن
عباس عن الجهاد فقال هل أدلك على ما هو خير من الجهاد قلت نعم قال تبني مسجداً
لتعلم فيه القرآن والفقه في الدين !![63]
.
فحري بنا أن نقف عند هذه المقولة لحبر الأمة .. ولو تفوه بها أحد
في هذا العصر لأقام طائفة من المتعالمين الدنيا ولم يقعدوها .
فهذا ابن عباس يقول للسائل هل أدلك على ما هو خير من الجهاد وهو
يعلم أن الجهاد من أفضل الأعمال وقد جاءت النصوص الكثيرة تبين فضله ومرتبته
العظيمة بين الأعمال ففي الصحيحين :
عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي
عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ لَا أَجِدُهُ قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ
إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ
وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ
"
فهل يقول قائل إن ابن عباس كان يجهل هذا الفضل .... بالطبع لا ،
والظاهر أن ابن عباس ما قال هذا القول ، إلا وقد علم من السائل أنه لا يقدر على
الجهاد ، أو أن جهاده يترتب عليه مفسدة أعظم من المصلحة التي تأتي من وراء جهاده ،
وليس في هذا تعطيل لشعيرة من شعائر الدين كما يدعي بعضهم !.
لكن العلة في عصرنا هذا تكمن في أن كثيراً من الحركات الإسلامية
ومنها الجهادية !! ، تعاني من نقص في فهم توحيد الشرع والقدر فالأمر الشـرعي لا
يكون سبباً قدرياّ للوعد الإلهي ، إلا إذا تحققت الشروط وامتنعت الموانع ، كما أنه
لا بدّ من التوافق الشرعي والقدري بين السبب والمسبّب ، وهذا الأمر الأخير لا
يحتاج إلى تفصيل لوضوحه .
وبيان ذلك أن قتال الكفار أمر شرعي كما قال تعالى {قَاتِلُواْ
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
(29) سورة التوبة
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ
الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (123) سورة التوبة
وهو سبب قدري للوعد الإلهي وهو التمكين في الأرض وإقامة حكم الله ،
لكن لابد من تحقق شروط وامتناع موانع ومن ذلك ، القدرة وهي تشمل المادية
والإيمانية ، فلو ذهبت طائفة تقاتل الكفار ولم تتهيأ لها القدرة المادية
والإيمانية فهل سيتحقق لها النصر ، ربما يتحقق لها النصر في حال دون حال ، فلو كان
الجهاد من نوع دفع الصائل فإن هذا النوع لا يشترط له شرط فقد يتحقق النصر ، قال
شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (4/608) " فالعدو الصائل الذي يفسد الدين
والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان
وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر
وبين طلبه في بلاده ".
وتأمل قوله " يفسد الدين والدنيا " تعرف المقصود .
أما طلبه في بلاده فلا شك أن تحقق النصر مستبعد والحال كما نرى بل
يعد هذا العمل من باب التغرير بالنفس الذي لا يترتب عليه مصلحة بل تحقق المفسدة
فيه ظاهر ، وبعضهم ألف في هذا الباب واستشهد بالقتال الأفغاني للروس وما حصل فيه
من كرامات ، ولم يفرق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب .
قال الشيخ الألباني (شريط رقم 830 من سلسلة الهدى والنور ) " إن
الدور الذي يمر به المسلمون اليوم من تحكم بعض الحكام وعلى افتراض أنهم أو أن
كفرهم كفر جلي واضح ككفر المشركين تماماً ، إذا افترضنا هذه الفرضية فنقول : إن
الوضع الذي يعيشه المسلمون بأن يكونوا محكومين من هؤلاء الحكام – ولنقل الكفار
مجاراة لجماعة التكفير لفظاً لا معنى لأن لنا في ذلك التفصيل المعروف – فنقول إن
الحياة التي يحياها المسلمون اليوم تحت حكم هؤلاء الحكام لا يخرج عن الحياة التي
حييها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام فيما يسمى في عرف أهل
العلم بالعصر المكي " .
أي من حيث وجوب الصبر فالشيخ هنا يصف حال الأمة ولا يدعو إلى الأخذ
بأحكام العهد المكي كما فهم بعض الجهلة وقد أنكر الشيخ هذا الفهم في مواضع أخرى .
ومن الشروط ، أن تكون المصلحة التي سيحققها المجاهدون – على فرض
توفر القدرة - أعظم من أي مفسدة أخرى يمكن أن تحدث من وراء ذلك القتال .
قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 28/126) :
" وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يجب على كل أحد
بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان
الجهاد أيضا كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته إذ هو
واجب على كل إنسان بحسب قدرته كما قال النبي ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده
فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وإذا كان كذلك
فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف
الذي أمرنا به ولهذا قيل ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر وإذا كان هو
من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها
راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما
أمر الله به فهو صلاح وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا
الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته
لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد تُرك واجب وفُعِلَ محرم إذ المؤمن عليه أن يتقى
الله في عباده وليس عليه هداهم وهذا معنى قوله تعالى (يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم
لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب "
فالفقه في الدين أن نضع الأسباب في مواضعها ، قال شيخ الإسلام (
مجموع الفتاوى 1/131) " فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب
أن تكون أسباباً نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع " .
وكذلك الأمر في باب التصفية
والتربية ، صحيح أنه لا بد لنا أن نحدد ما نريد لكن لا يمكن لنا أن نتجاوز الخطوات
المرحلية التي تتفق مع الأوامر الشرعية والأسباب القدرية التي لا تتحقق إلا بتحقق
الشروط وامتناع الموانع ، وليس في هذا إبطال للأوامر الشرعية ولا للأسباب القدرية
حتى يدعي بعضهم أن المرحلية سمة لتآخي عقيدة الإرجاء مع عقيدة الجبر .
قال ابن عون رحمه الله :
" رحم الله امرءاً لزم هذا الأثر وعمل به ورضي به وإن استثقله واستبطأه
".
فالاستعجال و التجاوب مع
العواطف معول هدم لا يشعر به العاملون في الدعوة إلا بعد الفشل ، وهانحن نسمع أن
كثيراً من الدعاة قد تراجع واقتنع بعد زمن بهذا الأسلوب الذي ننعته كما قال شيخنا
ناصر الدين بالتصفية والتربية بعد أن كان هؤلاء المتعجلون يقولون " لحساب من
يراد من السلفيّة أن تقبع في القبور، ولحساب من يراد من السلفية أن تتحول إلى دار
نشر توظّف مجموعة من الكتبة الذيـن يحترفون تحقيق رسائل، جهلها لا يضر، وعلمها لا
ينفع، رسائل لا يخرج تداولها - عند التدقيق - عن كونه تجارة ورق، لحساب من يراد
للسلفية أن تبقى محصورة في تصفية الأحاديث ، وإلى متى ، لحساب من توضع الأيدي على
آيات توحيد الإلهية، ويهمل شرك الحاكمية، ويسكت عن الطاغوت، بل ويوالى ويحبّ
ويمدح".
وهذا الوصف وإن كان فيه تجني
وعدم إنصاف إلا أنه يصور حالة الاستعجال و الثورة عند كثير من الدعاة .
قال شيخ الإسلام ( منهاج السنة
4/527) : " ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان
كما قال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم
) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، ويعلمون أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله
عليه وسلم بصلاح العباد في المعاش والمعاد وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد فإذا
كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا
فعله وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله
عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها " .
وفي مجموع الفتاوى (28/ 396 )
"ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه من
النصيحة بقلبه والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل مايقدر عليه من الخير، لم
يُكَلَّف مايعجز عنه ".
وفي الجواب الصحيح (1 / 74 )
قال :
" كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أول الأمر مأموراً أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده،فيدعوهم ويعظهم
ويجادلهم بالتي هي أحسن ، وكان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن
ذلك ، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان، أُذن له في الجهاد، ثم لماقووا
كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم، لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال
جميع الكفار".
قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النــور
قال الطبري (18/158) "
يقول تعالى ذكره وعد الله الذين آمنوا بالله ورسوله منكم أيها الناس وعملوا الصالحات
، يقول وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه ،
ليستخلفنهم في الأرض يقول ليورثنهم
الله أرض المشركين من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وساستها كما استخلف الذين من
قبلهم ، يقول كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بالشأم وجعلهم
ملوكها وسكانها "
قال ابن كثير (3/302) "
فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر
الله عز وجل وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم ، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب
وأيدهم تأيداً عظيماً وحكموا في سائر العباد والبلاد ولما قصر الناس بعدهم في بعض
الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم " .
فكما نرى أن التمكين في الأرض
لابد له من تحقق شروط وامتناع موانع ، وما ضرنا إلا العواطف غير المنضبطة بالكتاب
والسنة ، حتى تجرأ بعضهم ونعت أهل هذا المذهب الحق بأنهم ممن ينتظر معجزة تنزل من
السماء ، وكأننا ممن يعتقد أن السماء ستمطر علينا ذهباً ونحن قابعون في قعر بيوتنا
.
قال الشيخ الألباني وهو يتحدث
عن التصفية والتربية ( الضعيفة 2/المقدمة) " ومما لا ريب فيه أن تحقيق هذين
الواجبين يتطلب جهوداً جبارة متعاونة من الجماعات الإسلامية المخلصة التي يهمها
إقامة المجتمع الإسلامي المنشود كل في مجاله واختصاصه ، وأما بقاؤنا راضين عن
أوضاعنا ، متفاخرين بكثرة عددنا ، متواكلين على فضل ربنا ، أو خروج المهدي ونزول
عيسى ، صائحين بأن الإسلام دستورنا ، جازمين بأننا سنقيم دولتنا ، فذلك محال ، بل
وضلال ، لمخالفته لسنة الله الكونية والشرعية معاً "
وعلى كل حال فإن المقرر عند العلماء أن الجهاد فرض كفاية، والدليل
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
[التوبة:122] .
ولما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ لِيَخْرُجْ
مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ أَيُّكُمْ خَلَفَ
الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ
الْخَارِجِ *
وكذلك مارواه البخاري :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ
الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ
الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ
فِيهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ إِنَّ فِي
الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا
سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ
وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ
أَنْهَارُ الْجَنَّةِ *
ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات :
1) عند الاستنفار من ولي الأمر : وذلك إذا عيَّن الإمام فئـة أو طائفة، وطلب منهم النفير، فيجب على من
عيَّنه الإمام أن يخرج؛ لما جاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال
: "وإذا استنفرتم فانفروا" .
2) إذا حضر المكلف القتال،
وتلاحم الصفان، فلا يجوز الفرار حينئذ؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ
فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
[الأنفال:16] .
3) إذا هاجم العدو بلدًا وجب على أهل ذلك البلد دفعه، وهذا بإجماع أهل العلم ، ولا يشترط في ذلك شرط ، قال شيخ
الإسلام في الفتاوى الكبرى (4/608) " وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع
الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا
شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على
ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه
في بلاده ".
ففي هذه الحالات الثلاث يصبح الجهاد فرض عين على من تعيَّن عليه،
وليس على جميع الناس ، فهذا لا يقع في حال من الأحوال، والله تعالى أعلم .
وبعضهم يبرر دعوته إلى إيجاب الجهاد على كل أحد في هذا العصر أن
العدو قد دخل بلاد المسلمين كما في فلسطين والعراق وإفغانستان وغيرها ، وما درى
هذا المسكين أن الأمر يختلف من بلد إلى آخر فالواجب في حق أهل فلسطين ليس كالواجب
في حق غيرهم ممن يعيشون في سجن كبير بحيث لا يسمح لهم أن يتجاوزوا حدود بلادهم ،
ولو أرادوا لترتب على ذلك مفاسد عظيمة [64]،
و إن كانت الفتوى توجب على القادرين الذهاب لنصرة إخوانهم كما قال القرطبي ( أحكام
القرآن 8/151) " إذا تعين الجهاد
بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر ، فإذا كان ذلك وجب على جميع
أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالاً ، شبابًا وشيوخًا ، كل على
قدر طاقته ، من كان له أب بغير إذنه ، ومن لا أب له ، ولا يتخلف أحد يقدر على
الخروج من مقاتل أو مكثر ، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من
قاربهم و جاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ، حتى يعلموا أن فيهم
طاقة على القيام بهم ومدافعتهم ، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم ، وعلم أنه
يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضًا الخروج إليهم ، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم ،
حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها ، سقط الفرض
عن الآخرين ، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه حتى
يظهر دين الله وتحمى البيضة ، وتحفظ الحوزة ، ويخزى العدو ولا خلاف في هذا
" .
إلا أن الواقع المر يمنع من ذلك ، بل حتى إن الكلام في هذا الباب
يعد من الأمور التي تجلب مفاسداً على بعض العلماء دون أن يحققوا أدنى مصلحة ، و
على كل حال فإن الأمر مرتبط بالقدرة وليس بالعواطف التي جنت على الأمة .
وقد كان كبار العلماء كالشيخ الألباني رحمه الله وغيره يصرحون أيام
دخول الروس أفغانستان بأن الجهد فرض عين وعلى كل قادر أن يهب لنصرة إخوانه ، وفي
نفس الوقت كان يفتي بوجوب الهجرة من فلسطين على كل من كان العدو يحول بينه وبين
إقامة دينه .
والجهاد بمعنى القتال والدعوة إليه من أعظم الأعمال وأشقها على
النفس البشرية الضعيفة ، وقد يتمنى المرء القتال في ساحة الجهاد لكن عند القدوم
على الأعداء لا يصمد إلا المؤمنون الأقوياء ، فلا تغتر بكثرة المنادين للجهاد فإن
حال كثير منهم كحال قوم طالوت ، وتأمل في حال الصحابة رضي الله عنهم مع الأمر
بالجهاد يتبين لك ضعفنا .
ففي سنن الترمذي [65]:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ قَعَدْنَا نَفَرٌ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرْنَا
فَقُلْنَا لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وقد أخبرنا الله عن قوم طالوت ، وكيف أنهم تمنوا القتال فلما كتب
عليهم تولى كثير منهم .
قال تعالى :{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ} (246) سورة البقرة
و أكثر المسلمين اليوم قد وصل بهم الحال إلى الضعف والذلة والهوان
وغلبة العدو كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود [66]:
عن ثوبان رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ
إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ
أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ
وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ
وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ "
فالجهاد لا يقوم بمن كان يتصف بهذه الصفات التي ذمها الشارع ، أضف
إلى ذلك أن أكثر الناس اليوم قد دب فيهم داء الأمم قبلهم فكما في سنن الترمذي [67]:
عن الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ
قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ
الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ
بَيْنَكُمْ *
فهذه ثالثة الأثافي وأعظمها ، فالعلماء بحاجة إلى أن يستنهضوا
الهمم ويربوا الناس على العلم ويدفعوهم نحو العمل ، فإن مشاغل الناس واهتمامهم
بزينة الحياة الدنيا ، أيضاً من أكبر الصوارف عن الجهاد .
ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: " غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ
لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ
بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا
وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا
فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ
فَقَالَ لِلشَّمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا
عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ [68]
حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ
لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا
فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ
فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ
رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ فَجَاءُوا
بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتِ النَّارُ
فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا
وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا".
والشاهد من هذه القصة ومافي معناها ، وما سبقها من أحاديث أن الذي
يستجيب لنداء الجهاد يحتاج أن يجعل الدنيا وراء ظهره ، وأما من كانت الدنيا تملأ
قلبه فبينه وبين الجهاد والدعوة إليه مفاوز ، والله المستعان .
والجهاد نوعان جهاد طلب وجهاد دفع ، فجهاد الطلب لا يكون إلا بعد
توفر القدرة ومنها قوة الرمي لأن شرط الجهاد القدرة والواقع يشهد إن قوة الكفار
المادية تفوق قوة المسلمين بآلاف المرات ، ولا يعني هذا أن نلغي جهاد الطلب من
قاموس المسلمين كما يظن بعضهم ، ولكن يجب علينا ألا نستعجل المواجهة حتى نستيقن من
قوتنا المادية وقبل ذلك الإيمانية .
فإذا كان غاية ما أوجبه الشارع مصابرة الواحد مقابل الاثنين ، فكيف يوجب دعاة الفتنة
مصابرة الواحد مقـابل الألف بل الآلاف المؤلفة ، هذا لا شك يتنافى مع أصول الشريعة
وسهولة التكليف .
وقد ذكر الفقهاء في كتبهم متى يجوز للمسلم الفرار من الأعداء خوفاً
على نفسه قال ابن عباس " من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد
فر"[69]
والله سبحانه وتعالى يقول : {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ
بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (66) سورة الأنفال
وفي صيح البخاري :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا
نَزَلَتْ ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ )
شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ
وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) قَالَ فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ
الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ *
قال ابن كثير (2/235) :
" عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين
وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومائة ألفاً فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى
فقال ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا ) الآية
فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم وإذا كانوا دون
ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم ".
وفي المغني (9/254) :
مسألة : قال ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرَيْن ومباح له أن يهرب
من ثلاثة فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل ، وجملته أنه إذا التقى المسلمون والكفار
وجب الثبات وحرم الفرار بدليل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين
كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ) الأنفال
، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
كثيرا لعلكم تفلحون )الأنفال 45 وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف
فعده من الكبائر وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها
والأمر مطلق وخبر النبي صلى الله عليه وسلم عام فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا
بدليل وإنما يجب الثبات بشرطين أحدهما أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين
فإن زادوا عليه جاز الفرار لقول الله تعالى ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا ) الأنفال 66
"
قال الشوكاني في السيل الجرار (4/530) : " فإذا كان المسلمون
مثل نصف المشركين حرم عليهم الفرار وإلا كان جائزاً "
وقال (4/529) : " وأما إذا علموا بالقرائن القوية أن الكفار
غالبون لهم ، مستظهرون عليهم فعليهم أن يتنكبوا عن قتالهم"
فهذا كلام أهل العلم ، وفيه أن من خاف من العدو فله أن يهرب إذا
كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فكيف نوجب على المسلمين مواجهة العدو وهم أضعاف
المسلمين عدداً وعدةً ، والمسلمون قد بلغوا من الضعف الإيماني والمادي ما الله به
عليم ، فاللهم لطفك .
والمتأمل في السنة يجد أنه لا تثريب على من ترك الجهاد في حال
الضعف و عدم القدرة على المواجهة ولو كان معه أفضل الخلق وأكثرهم إيماناً .
ففي صحيح مسلم :
في سياق الحديث عن قتل عيسى عليه السلام للدجال : "
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ
أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي
إِلَى الطُّورِ وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ
فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ
مَرَّةً مَاءٌ وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ
رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ
الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ
فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ
وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ
فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ
حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ........ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ فَإِنِّي قَدْ
أَنْزَلْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَيْ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ *
وفي هذا رد على كثير من المتحمسين الذين يريدون أن يوجبوا على
الأمة أمراً لا طاقة لهم به إلا أن يشاء الله .
إذا تقرر ماسبق فإن المسلمين اليوم مع بعض حكامهم يعيشون في حالة
من القهر فلا يجدون سبيلاً إلى الجهاد لو كانوا أهلاً له ، فلا سبيل لهم إلا الصبر
والانشغال بالتصفية و التربية وهذا هو التحقيق الصحيح لتوحيد الشرع والقدر لا كما
زعم بعضهم .
والمتأمل لما أحدثه خوارج العصر في الأمة يستيقن فساد منهجهم ، بل
إنهم قد جلبوا للأمة ويلات وخسائر وتضييق كان الناس في مهلة منها ، بل قد صرفوا
الأمة عن العلم والتربية بعد أن قطعت في ذلك شوطاً لا بأس به ، بسبب ما أحدثه
أعداء الإسلام من تضييق وملاحقة للدعاة إلى الله ولو كانوا ينكرون أعمال العنف
التي يقوم بها أولئك .
وعلى كل حال فإن الدارس للسنَّة يجد أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أمرنا بترك أقوام ما تركونا .
ففي سنن النسائي وأبي داود:
عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ رَجُلٌ مِنَ الْمُحَرَّرِينَ عَنْ رَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا
وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ *
وفي سنن أبي داود [70]:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا
يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ *
وفي حاشية السندي:
دعوا الحبشة ألخ أي اتركوا الحبشة والترك ما داموا تاركين لكم وذلك
لأن بلاد الحبشة وعرة وبين المسلمين وبينهم مفاوز وقفار وبحار فلم يكلف المسلمين
بدخول ديارهم لكثرة التعب وأما الترك فبأسهم شديد وبلادهم باردة والعرب ، وهم جند
الإسلام كانوا من البلاد الحارة فلم يكلفهم دخول بلادهم وأما إذا دخلوا بلاد
الإسلام والعياذ بالله فلا يباح ترك القتال كما يدل عليه ما ودعوكم وأما الجمع بين
الحديث وبين قوله تعالى (قاتلوا المشركين كافة ) فبالتخصيص ، أما عند من يجوز
تخصيص الكتاب بخبر الآحاد فواضح وأما عند غيره فلأن الكتاب مخصوص لخروج الذمي وقيل
يحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث لضعف الإسلام ثم قوته ، قلت وعليه العمل والله
تعالى أعلم ".
وليس المقصود ترك قتالهم بالمرة بل إلى أجل ، قال مالك ( لم يزل
الناس يتحاشون غزوهم ).
وقد ادعى بعض خوارج العصر أن قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ } (216) سورة البقرة، كقوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }
(183) سورة البقرة .
وهذا من الجهل بكلام الله وأحكام الشريعة وقد مر معنا ما يبين
الفرق بين الآيتين في العموم ، وأزيد المسألة هنا بياناً مبتدئاً بهذا النقل عن من
اتخذه خوارج العصر إماماً في هذا العصر وهو يتحدث عن آية السيف التي فيها الأمر
بالقتال وأنها لا تمثل الحكم النهائي في هذه المسألة بل يجوز للمسلمين الأخذ
بمراحل تشريع الجهاد الأخرى من كف اليد وغيره .
قال ابن قطب : " إن تلك
الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة
المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة
، ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي
التي تحدد عن طريق الاجتهاد المطلق أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف
في زمان من الأزمنة في مكان من الأمكنة مع عدم نسيان المرحلة الأخيرة التي يجب أن
يصار إليها متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام
كما كان حالها عند نزول سورة التوبة " [71].
وهذا القول الذي نطق به هو
الحق ، فما لهؤلاء القوم لا يفقهون ، وبيان ذلك فيما يأتي .
والجهاد مر بأربع مراحل :
المرحلة
الأولى: الأمر بكف الأيدي عن القتال لقوله تعالى : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)
[النساء:77].
قال شيخ
الإسلام (الصارم المسلول 2/210) : " كان دم الكافر في أول الإسلام معصوماً
بالعصمة الأصلية وبمنع الله المؤمنين من قتاله "
المرحلة
الثانية: الإذن بقتال من قاتل المسلمين ، قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)[الحج:39] ، قال الحافظ في الفتح " وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : أَوَّل
آيَة نَزَلَتْ فِي الْقِتَال كَمَا أَخْبَرَنِي عُرْوَة عَنْ عَائِشَة ( أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَإِسْنَاده صَحِيح , وَأَخْرَجَ هُوَ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم مِنْ
طَرِيق سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ " لَمَّا خَرَجَ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّة قَالَ أَبُو بَكْر :
أَخْرَجُوا نَبِيّهمْ , لَيُهْلَكُنَّ . فَنَزَلَتْ ( أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ ) الْآيَة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَهِيَ أَوَّل آيَة أُنْزِلَتْ
فِي الْقِتَال [72]،وَذَكَرَ
غَيْره أَنَّهُمْ أُذِنَ لَهُمْ فِي قِتَال مَنْ قَاتَلَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ثُمَّ أُمِرُوا
بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا
وَجَاهِدُوا ) الْآيَة .
المرحلة
الثالثة: الأمر بقتال من ابتدأ المسلمين بالقتال لقوله تعالى :
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ
إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة
وهي المرحلة التي قال الله فيها : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم
عليهم سبيلاً } إلى قوله تعالى { فإن
لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم
وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} (النساء : 90- 91).
المرحلة الرابعة:
الأمر بقتال المشركين عامة من قاتَلَ المسلمين منهم ومن لم يقاتل ، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة:36].
، وهي المرحلة النهائية التي أمرنا فيها بغزوهم في بلادهم حتى لا تكون
فتنة ويكون الدين كله لله ، وهذه المرحلة هي التي استقر عندها حكم الجهاد ، وفي
هذه المرحلة نزلت آية السيف وهي قوله تعالى : {
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا
لهم كل مرصد } (التوبة:5) ، وقال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون } (التوبة : 29) .
ويدل عليها من السنة ما في
الصحيحين من حديث ابن عمر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني
دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) .
وقد نص أهل العلم من السلف ومن بعدهم على أن المرحلة الأخيرة ناسخة
لما قبلها من المراحل ، قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} (البقرة:109) : " فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض
قتالهم حتى تكون كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة أو يؤدوا الجزية عن يد صغاراً
" . وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع
بن أنس .
وكذا نقل القول بالنسخ ابن كثير في تفسير قوله تعالى {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره }. ( البقرة : 109) ، عن ابن عباس وغيره .
وقال ابن عطية في تفسيره
" وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو ما جرى مجرى ذلك ، وهي على ما ذكر
مائة آية وأربع عشرة آية " (3).
وقد نُقل الإجماع على القول
بالنسخ ، قال ابن جرير في تفسير قوله
تعالى { قل للذين آمنوا يغفروا للذين
لا يرجون أيام الله } . (الجاثية: 14) : " وهذه الآية
منسوخة بأمر الله بقتال المشركين ،وإنما قلنا هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن
ذلك كذلك"(10) .
والقول بالنسخ هنا يقصد به
أمران :
الأول ) إما معنى الإبطال على
اصطلاح المتأخرين ويحمل على المرحلة التي جاء فيها الأمر بكف اليد و حضر القتال
كما في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ
أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا
الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا
قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (77)
سورة النساء ، فالمنسوخ هو النهي عن القتال .
قال الجصاص في قوله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم
يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعلنا لكم عليهم سبيلاً } ( النساء:90) : "
ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين،وإنما الخلاف في
جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الاتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان
وصفه ما ذكرنا " (11).
ومن أخذ بالمعنى العام للنسخ
فقد ناقض نفسه ، لأنه يلزم من ذلك أنه يبطل الجهاد بالدعوة ، وكذلك يبطل تقسيم
العلماء للجهاد إلى جهاد دفع وجهاد طلب فلا يكون حينئذ إلا جهاد الطلب .
قال شيخ الإسلام ( الجواب
الصحيح 1/218) " فإن من الناس من يقول آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات
بآية السيف لاعتقاده ان الامر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط فإن
النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر
باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام ومناقضة الأمر
بصيام رمضان للمقيم للتخيير بين الصيام وبين إطعام كل يوم مسكيناً ومناقضة نهيه عن
تعدي الحدود التي فرضها للورثة للأمر بالوصية للوالدين والأقربين ومناقضة قوله لهم
(كفوا أيديكم ) عن القتال لقوله قاتلوهم كما قال تعالى : } ألم
تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم
القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } .(النساء: 77) ،فأمره
لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم ،فأما قوله تعالى : } ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة } ( النحل :125) ،وقوله: } ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم }
.(العنكبوت :46) ،فهذا لا يناقض الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم ،ولكن الأمر
بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة "
الثاني ) أن يراد به التخصيص أو التقييد أو البيان قال شيخ الإسلام
(مجموع الفتاوى 13/29) مبيناً هذا المسلك عند السلف " كانوا يسمون ما عارض
الآية ناسخاً لها ، فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل
وان كان ذلك المعنى لم يرد بها وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية بل قد لا يفهم منها
وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخاً و هذه التسمية لا
تؤخذ عن كل واحد منهم "
فمراحل
القتال يعمل بها في الظروف المشابهة للظروف التي شرعت فيها ، ومن ذلك الأمر بالقتال كما
في آية السيف .
وقد ذهب الزركشي في البرهان
إلى أن الصواب في هذه المسألة القول بالنسيء وليس النسخ وأن للمسلم حال الضعف أن
يأخذ نفسه بالصفح والعفو والكف عن القتال ، وشنع على من قال بالنسخ .
والأولى الجمع بين أقوال
العلماء بما ذكرناه آنفاً و لما هو مقرر حتى عند المخالف من أن القدرة شرط في وجوب
القتال .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل
بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين
،وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية
قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (19).
وبهذا نعرف بطلان قول بعضهم ،
إن قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } (216) سورة البقرة ، هو تماما
كقوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (183) سورة البقرة .
قال شيخنا الإمام عبد العزيز
بن باز - رحمه الله - في الفتاوى (3/192):" وذكر بعض أهل العلم أن آية السيف
وهي قوله جل وعلا : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) الآية ليست ناسخة ولكن الأحوال تختلف ،
وهكذا قوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ )الآية ، وقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )وهكذا قوله
سبحانه (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )وهكذا قوله سبحانه :
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )
، فهذه الآيات وما في معناها قال بعض أهل العلم : ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف
عنا وقتال من قاتلنا وليست ناسخة لقوله : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ولكن
الأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية
السيف وما جاء في معناها وعملوا بها وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله
أو يؤدوا الجزية إما مطلقا كما هو قول مالك رحمة الله وجماعة ، وإما من اليهود
والنصارى والمجوس على القول الآخر ، وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع
فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم ويكفوا عمن كف عنهم إذا لم يستطيعوا ذلك فيكون
الأمر إلى ولي الأمر إن شاء قاتل، وإن شاء كف، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب
القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهوته ولكن ينظر للمسلمين ،
وينظر لحالهم وقوتهم ، فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية ، لما في الآيات
المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف ، وإذا قوي المسلمون
قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقَصَدهم في بلادهم ويكفون عمن كف
عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين
والنظر في العواقب كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة أول ما
هاجر ، وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال
جميع الكفار أعلنوها حربا شعواء للجميع ، وأعلنوا الجهاد للجميع كما أعلن الصحابة
ذلك في زمن الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكما أعلن ذلك الرسول صلى الله عليه
وسلم في حياته بعد نزول آية السيف ، وتوجه إلى تبوك لقتال الروم ، وأرسل قبل ذلك
جيش مؤتة لقتال الروم عام 8 من الهجرة وجهز جيش أسامة في آخر حياته صلى الله عليه
وسلم ، وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واختاره وقال
: إنه ليس هناك نسخ ولكنه اختلاف في الأحوال ؛ لأن أمر المسلمين في أول الأمر ليس
بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة أذن لهم بالقتال فقط ، ولما كان عندهم من القدرة بعد
الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم ، فلما
قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا أمروا بقتال
جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس
إذا بذلوها عن يد وهم صاغرون . وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم واختاره الحافظ
ابن كثير رحمه الله عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم : (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ ) وهذا القول أظهر وأبين في الدليل؛ لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار
إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة ، والجمع هنا غير متعذر ، كما تقدم بيانه
والله ولي التوفيق ."
وهذا المعنى يمكن أن يعمل به
المسلمون جميعاً حتى يأتي الله بأمر من عنده ، فلسنا من الذين يدعون إلى تعطيل
الجهاد من أجل التربية ، فقد كان أئمة الدعوة السلفية يفتون بأن الجهاد فرض عين
يوم كانت الثغور والجبهات تستقبل المجاهدين وكان في الأمر مصلحة راجحة للمسلمين ،
بينما كان رموز التيار التربوي يخذلون عنه ، كما أنّا لسنا أيضاً من الذين يوجبون
على الأمة أمراً لا طاقة لها به إلا أن يشاء الله ، وهذا لا يعارض قول النبي
" لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ
ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ، كما موه بعضهم ، لأن الانقطاع
لفترة وهو مطلق الانقطاع لا ينافي الديمومة التي يراد بها عدم الانقطاع بالمرة وهو
الانقطاع المطلق ، وهذا لا ينافي بقاء الطائفة المنصورة كما موه بعضهم ، وسيأتي
زيادة بيان لذلك عند الكلام عن الطائفة المنصورة .
المقرر عن أهل العلم أنه ليس لأحد من آحاد الرعية أن يدعو الناس
إلى الجهاد وأن ذلك راجع إلى ولي الأمر المسلم .
فالأمر في إعلان الجهاد العام راجع إلى ما يراه ولي الأمر المسلم
بعد أن يحدد المصالح والمفاسد كما قال تعالى :
{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة
النساء
والمقصود بولاة الأمر العلماء والأمراء والواجب أن تتحد كلمة
الأمراء والعلماء في تحديد المصالح والمفاسد .
قال شيخ الإسلام عند كلامه عن بعض أنواع القتال (منهاج السنة
4/504) : " وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم "
ويدل على ذلك من السنة ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة :
" إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ
وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَلَ كَانَ
لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ "
قال النووي رحمه الله : " ومعنى يقاتل من ورائه : أي يقاتل
معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم "
وقد نص العلماء في كتب العقائد فقالوا " والحج والجهاد ماضيان
مع أولي الأمر من المسلمين ، برهم وفاجرهم ، إلى قيام الساعة ، لايبطلهما شيء
ولاينقضهما "
وأجمع أهل السنة على أن الجهاد ماض مع كل إمام .
قال ابنُ قُدامةَ في المغني( 9/166) :
« فصلٌ : وأَمْرُ الجِهادِ مَوْكُولٌ إلى الإمامِ واجتهادهِ ويلزمُ
الرعيّةَ طاعتُهُ فيما يراهُ من ذلك .. » .
فالأمر مبناه على المصالح والمفاسد و إلا فإن الأصل أن الطاعة في
المعروف .
وقد جاء عن ابن المبارك أنه قال ليس العالم الذي يعرف الحلال
والحرام فهذا يعرفه كل أحد ولكن العالم الذي يعرف المصالح والمفاسد .
وأما الذهاب إلى الثغور والقتال مع إمام بحيث لا يترتب على ذلك
مفسدة عظمى أو أن يكون الجهاد جهاد دفع ، فهذه مسألة أخرى وليس في ذلك محذور إلا
التغرير بالنفس لبعض آحاد الرعية ، والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد ، وعلى هذا يحمل
كلام بعض العلماء : " ويكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير من قبله لأن
الغزو على حسب الحاجة والأمير أعرف بذلك ، ولا يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير
بالنفس والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد " .
فإذا كان الجهاد فرض عين زالت الكراهة التي أشار إليها ، وليس عند
المانعين دليل يدل على التحريم و أقوى ما يستدلون به ما جاء في الصحيحين :
عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ *
لكن هذا في الجهاد الذي حكمه فرض كفاية ، وأما ما كان حكمه فرض عين
فقد سبق الكلام عنه.
فمما سبق يتقرر أنه لا جهاد إلا مع إمام وأما مايحتج به الخصوم في
رد هذا الشرط ، فهو إما أن يكون في جهاد الدفع كما في قصة سلمة بن الأكوع ، ففي
الصحيحين :
" لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ
أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَنْ
أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ قَالَ فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ يَا صَبَاحَاهْ
قَالَ فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى
وَجْهِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْتَقُونَ مِنَ الْمَاءِ
فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِي وَكُنْتُ رَامِيًا وَأَقُولُ أَنَا ابْنُ
الْأَكْوَعْ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ وَأَرْتَجِزُ حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ
اللِّقَاحَ مِنْهُمْ وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً " .
وإما أن يكون لمن لم يكن عليه إمرة أصلاً كما في قصة أبي بصير ،
قال ابن القيم في الزاد (3/308) : " فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين
بذي الحليفة وهي من حكم المدينة ولكن كان قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه
" .
وقد وقفت على رسالة لبعضهم يلمز فيها أهل هذا المذهب الحق
بالإمامية وقد رأيته يحشد النصوص في غير محل النزاع هذا بالإضافة إلى تدليسه على
القراء و مثال ذلك أنه نقل عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في رده على ابن
نبهان حيث قال ابن نبهان لا جهاد إلا بإمام فرد عليه عبد الرحمن بن حسن وقال كما
في الدرر السنية( 8/199) : "بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع
إمام متبع ؟! هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين والأدلة على إبطال
هذا القول أشهر من أن تذكر من ذلك عموم الجهاد والترغيب فيه "
قلت : وهذا القول ذكره الشيخ رحمه الله في وقت لم يكن فيه إمام ،
يريد به الرد على من أبطل الجهاد بحجة أنه لا جهاد إلا بعد ظهور الإمام كقول
الإمامية الرافضة! ولم يقصد به مخالفة ولي الأمر كما زعم صاحب الرسالة هداه الله .
ومثل ما حدث في عصر الشيخ ما حدث بعد قتل المستعصم وهو آخر خليفة
عباسي في بغداد على يد التتار بقي الناس مدة طويلة لا خليفة لهم ومع ذلك بقي الناس
يقيمون الجهاد والشعائر الظاهرة والحقوق والواجبات الشرعية كما كانوا من قبل ولم
يعطلوها بحجة عدم وجود خليفة ، فالله المستعان !
وكيف يمكن أن يفتي أئمة الدعوة عليهم رحمة الله بمخالفة ولي الأمر
في مثل هذه المسألة وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة :
" إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ
وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَلَ كَانَ
لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ "
وغير ذلك من الأدلة التي سبق بيانها ، وسيأتي كلام أئمة الدعوة في
تقرير هذه المسألة .
فليس لأحد من آحاد الرعية أن يدعو الناس إلى الجهاد بل ذلك موكول
إلى ولي الأمر ، بعد أن يحدد المصالح
والمفاسد .
قال البهوتي في كشاف القناع ( 3/41) : " وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده
، لأنه أعرف بحال الناس وبحال العدو ونكايتهم وقربهم وبعدهم ، ويلزم الرعية طاعته
فيما يراه من ذلك " .
وبعد فإن خوارج العصر بعد أن تقام عليهم الحجَّة ولا يجدون مهرباً
من الموافقة والإقرار ، يتنصلون بقولهم : " إن من اغتصب السلطة أو أخذها على
أساس الحكم بغير ما أنزل الله فسلطته غير شرعية ، أي معدومة بحكم الشرع والمعدوم
شرعاً كالمعدوم حساً ، أي في الواقع المحسوس كما سبق ، وما دامت الأدلة جاءت تنص
على وجوب الجهاد مع كل أمير ، أي مع كل صاحب سلطة ولو كان فاجراً أو جائراً فإنها
إنما تصدق وتنطبق فقط على كل من يملك سلطة الإمارة شرعاً ".
فنقول : قاتل الله التأويل والهوى ، ونحن هنا لا نتكلف الرد على
هذا الهراء فحكايته تكفي عن تكلف الرد عليه وقد سبق رد مثل هذه الشبه التي لا
تعتمد على دليل إلا الهوى ! ، وسيأتي بيان صور انعقاد الإمامة في الشرع .
وقد كتب الشيخ عبد الله بن عبد
اللطيف بن عبد الرحمن وحسن بن حسين و سعد بن حمد بن عتيق ومحمد بن عبد اللطيف
رسالة إلى الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل ( الدرر7/277الطبعة
الثانية) وفيها قالوا : " رأينا أمراً
يوجب الخلل على أهل الإسلام ودخول التفرق في دولتهم وهو الاستبداد من دون إمامهم
بزعمهم أنه بنية الجهاد ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو وبذل الذمة
للعامة وإقامة الحدود أنها مختصة بالإمام ومتعلقة به ، ولا لأحد من الرعية دخل في
ذلك إلا بولايته " إلى أن قالوا " والذي يعقد له راية ويمضي في أمر من
دون إذن الإمام ونيابته ، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله ، وقد علمت حفظك الله
أنه لما صدر من ...... جهلاً منه ، واستفتيت عالماً من علماء المسلمين وأفتاكم
بالحق والدين الذي يدان به لم يلتفت إليه ، وهذا من أعظم الوهن في دين الله أن
العالم يفتي بالحق ويعارض بالهوى والجهل ، مع أن الذي وقع الأمر عليهم لم ينبذ
إليهم على سواء واستباحوا غنائمهم من غير أمر شرعي ، فالواجب عليك حفظ ثغر الإسلام
عن التلاعب به وأنه لا يغزو أحد من أهل الهجر إلا بإذن منك و أمير منك لو صاحب
مطية ، وتسد الباب عنهم جملة لئلا يتمادوا في الأمر ويقع بسبب تماديهم وتغافلكم
خلل كبير ، وذكرنا هذا قياماً بالواجب من النصيحة لك وخروجاً من كتمان العلم ،
والله يمدك بمدد من عنده ويعينك على ما حملك وصلى الله على محمد سنة 1338" .
وفي رسالة كتبها الشيخ محمد بن
عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ عبد الله بن عبد
العزيز العنقري والشيخ عمر بن محمد بن سليم ، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد
اللطيف رحمهم الله قالوا [73]"
إن الخروج عن طاعة ولي الأمر و الافتئات عليه بغزو أو غيره معصية ومشاقة لله ورسوله
ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة " .
وفي الدرر ( 7/303 الطبعة
الثانية 1385) من سعد بن حمد بن عتيق إلى من نظر في هذا الكتاب ، قال فيه : "
من أعظم أسباب التفرق والاختلاف والعدول عن طريق الحق والإنصاف ما وقع من كثير من
الناس من الإفتاء في دين الله بغير علم ، والخوض في مسائل العلم بغير دراية ولا
فهم ..... ومما انتحله بعض هؤلاء الجهلة المغرورين الاستخفاف بولاية المسلمين
والتساهل بمخالفة إمام المسلمين ، والخروج عن طاعته ، والافتيات عليه بالغزو وغيره
، وهذا من الجهل والسعي في الأرض بالفساد بمكان ، يعرف ذلك كل ذي عقل وإيمان ، وقد
علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمامة ، ولا
إمامة إلا بسمع وطاعة ، وإن الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين من أعظم أسباب الفساد
في البلاد والعباد والعدول عن سبيل الهدى والرشاد ا . هـ .
وقال الشيخ عمر بن محمد بن
سليم في رسالة كتبها أيضاً (الدرر7/315 الطبعة الثانية) ، قال: " ومن كيد
الشيطان أيضاً إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له وهو من دين أهل الجاهلية
الذين لا يرون السمع والطاعة ديناً بل كل منهم يستبد برأيه وهواه ، وقد تظاهرت
الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في العسر واليسر
والمنشط والمكره حتى قال " اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " فتحرم
معصية ولي الأمر والاعتراض عليه في ولايته وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته
ومصالحته الكفار ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حارب وسالم وصالح قريشاًصلح
الحديبية وهادن اليهود وعاملهم على خيبر وصالح نصارى نجران ، وكذلك الخلفاء
الراشدون من بعده ، ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك لأنه نائب
المسلمين والناظر في مصالحهم ، ولا يجوز الافتيات عليه بالغزو وغيره وعقد الذمة
والمعاهدة إلا بإذنه ، فإنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا
بسمع وطاعة ، فإن الخروج عن طاعة ولي الأمر من أعظم أسباب الفساد في البلاد
والعباد " ا . هـ .
والشواهد من كلام أئمة الدعوة
كثيرة .
من القواعد المقررة عند أهل العلم والتي يجهلها كثير من مدعي
الجهاد ، أن أحكام الحرب مع الكفار تختلف عن أحكام السلم معهم ولنضرب على ذلك
أمثلة حتى تتضح الصورة :
الأول : أن المعاقبة
بالمثل كما في قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو
خير للصابرين ، واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }وقوله تعالى { فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } يجب
ألا تتنافي مع قوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فإذا اعتدى عليك مسلم أو كافر مستأمن – ما دام
عقده باقٍ - فلا يجوز لك أن تقتص من قريبه أو قبيلته ، هذا في حالة السلم وأما في
حالة الحرب مع الكفار فالأمر يختلف فقد روى الترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي بن
كعب رضي الله عنه قال لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ، ومن
المهاجرين ستة ، منهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، فمثلوا بهم ، فقالت
الأنصار ، لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم في التمثيل ، فلما كان يوم
فتح مكة أنزل الله { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير
للصابرين } فقال رجل : لا قريش بعد اليوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفوا
عن القوم إلا أربعة " ، ومعلوم أن المعاقبة بالمثل هنا لا تقع على من اعتدوا
بأعيانهم بل على قومهم .
قال ابن القيم في حاشيته
(12/180) " وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يمثلوا بالكفار إذا مثلوا بهم
وإن كانت المثلة منهياً عنها فقال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }
وهذا دليل على جدع الأنف وقطع الأذن وبقر البطن ونحو ذلك هي عقوبة بالمثل ليست
بعدوان والمثل هو العدل ، وأما كون المثلة منهياً عنها فلما روى أحمد في مسنده من
حديث سمرة بن جندب وعمران بن حصين قال ما خطبنا رسول الله خطبة ( إلا أمرنا
بالصدقة ونهانا عن المثلة ) ."
قلت : وقد جاء في الصحيحين
النهي عن المثلة ففي صحيح البخاري عن عبد الله ين يزيد رضي الله عنه ( أنه نهى عن
النهبى والمثلة )
قال ابن حجر في الفتح (
5/120 ) " المثلة : تشويه خلقة القتيل ، كجدع أطرافه ، وجب مذاكره ونحو ذلك
" .
وفي صحيح مسلم من حديث
بريدة أن النبي r كان يوصي قادة جيوشه
وسراياه بقوله ( اغزوا باسم الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ، ولا تغلوا ولا
تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً .. ) .
وفي صحيح مسلم [74]:
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِى عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ
رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا
مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ قَالَ يَا
مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ فَقَالَ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ بِمَ أَخَذْتَنِي وَبِمَ
أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ فَقَالَ إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ
حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ " .
ومن ذلك مسألة قتل الردء
ومن مالأ العدو ، قال ابن القيم في زاد المعاد ( 3/421) " أجلى عمر يهود خيبر لما عدا بعضهم على
ابنه ورموه من ظهر دار ففدعوا يده بل قد قتل رسول الله جميع مقاتلة بني قريظة ولم يسأل عن كل رجل منهم هل نقض العهد أم لا
وكذلك أجلى بني النضير كلهم وإنما كان الذي هم بالقتل رجلان وكذلك فعل ببني قينقاع
حتى استوهبهم منه عبدالله بن أبي فهذه سيرته وهديه الذي لا شك فيه وقد أجمع
المسلمون على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد ولا يشترط في قسمة الغنيمة ولا
في الثواب مباشرة كل واحد القتال وهذا حكم قطاع الطريق حكم ردئهم حكم مباشرهم لأن
المباشر إنما باشر الإفساد بقوة الباقين ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه وهذا هو
الصواب الذي لا شك فيه وهو مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم " .
المثال الثاني : قتل الترس
من نساء وأطفال المشركين ومن المسلمين في الحرب ، فكما هو مقرر في موضعه أن الأصل
عدم عصمة دماء الكافرين المحاربين ، ويسثنى من هذا الأصل النساء غير المحاربات
والأطفال وكبير السن الذي لا يقاتل لا بنفسه ولا بمشورته .
قال ابن قدامة في المغني (
9/233 ) " فصل : وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم ويقصد
المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء
والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى علموا ذلك تترسوا
بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد وسواء كانت الحرب ملتحمة أو لا ، لأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب " .
فيجوز قتل الترس من ذراري
المشركين ونسائهم في الحرب مع أن الأصل عدم الجواز كما يجوز قتلهم في الحرب في غير
مسألة الترس كما في التبييت كما في حديث الصعب بن جثامة في الصحيحين .
هذا بالنسبة للمشركين أما
بالنسبة للمسلمين فكما هو معلوم أن الأصل حرمة دم المسلم في الحرب والسلم لكن ذكر
العلماء حالة يجوز فيها قتل المسلمين في الحرب إذا تترس بهم الكفار بشروط سيأتي
ذكرها .
قال ابن تيمية في الفتاوى
(28/ 546) " وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من
أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك
إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم " .
أما الشروط فهي على النحو
التالي :
- أن لا يتمكن المسلمون من
قتل الكفار وصدهم إلا بإهلاك الترس .
- أن يغلب على الظن أن ترك
الكفار وعدم قتالهم لأجل الترس فيه هلاك حقيقي للمسلمين وللترس أيضاً.
- أن لا يقتل المسلمون من
الترس إلا ما اضطروا حقيقة إلى قتله .
فكما ترى أن هذه الأحكام تتعلق بحالة الحرب لا السلم فتنبه .
المثال الثالث : ما جاء في حديث المغيرة كما في صحيح البخاري وله تعلق بمسألتنا .
ففي صحيح البخاري [75]" وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا
الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ "
فرد النبي المال مع أنه مال كفار لأن المغيرة لم يأخذه عن طريق
المحاربة والمغالبة .
قال الحافظ :
"وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال
الْكُفَّار فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى
الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة تُؤَدَّى إِلَى أَهْلهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا
, وَأَنَّ أَمْوَال الْكُفَّار إِنَّمَا تَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَة
"
وقد جاء عند أبي داود [76]:
" أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة
لنا فيه "
وفيه من الفوائد أن من أعطى عهداً لا يجوز له الغدر ولو لم يكن
عهده لفظاً لأن المقرر عند العلماء أن المشروط عرفاً كالمشروط لفظاً وصحبة السفر
الأصل فيها أنها تقوم على الأمان بينهم ، وسيأتي زيادة بسط لهذه المسألة التي ضل
في فهمها خوارج العصر .
وأما في الحرب فتجوز الخدعه لما رواه البخاري " الحرب خدعة
" وعلى هذا تحمل قصة عبد الله بن أنيس كما سيأتي وقصة قتل محمد بن مسلمة لكعب
بن الأشرف وقصة قتل عبد الله بن عتيك لأبي رافع ، وبهذا تعلم بطلان استدلال خوارج
العصر بمثل هذه الأحاديث على ما زعموه من إحياء سنَّة الاغتيالات .
وقد بوب البخاري على قصة كعب ، باب : الفتك في الحرب .
قال الحافظ :
الْحَدِيث طَرَف مِنْ حَدِيث جَابِر فِي قِصَّة قَتْل كَعْب اِبْن
الْأَشْرَف , وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي الْبَاب الَّذِي قَبْله ,
وَإِنَّمَا فَتَكُوا بِهِ لِأَنَّهُ نَقَضَ الْعَهْد , وَأَعَانَ عَلَى حَرْب
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَجَاهُ , وَلَمْ يَقَع لِأَحَد
مِمَّنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ تَأْمِين لَهُ بِالتَّصْرِيحِ , وَإِنَّمَا
أَوْهَمُوهُ ذَلِكَ وَآنَسُوهُ حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْله .
قال النووي :
ذَكَرَ مُسْلِم فِيهِ قِصَّة مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ مَعَ كَعْب
بْن الْأَشْرَف بِالْحِيلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ مُخَادَعَته , وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاء فِي سَبَب ذَلِكَ وَجَوَابه , فَقَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ :
إِنَّمَا قَتَلَهُ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ نَقَضَ عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَجَاهُ وَسَبَّهُ , وَكَانَ عَاهَدَهُ أَلَّا يُعِين
عَلَيْهِ أَحَدًا , ثُمَّ جَاءَ مَعَ أَهْل الْحَرْب مُعِينًا عَلَيْهِ , قَالَ :
وَقَدْ أَشْكَلَ قَتْله عَلَى هَذَا الْوَجْه عَلَى بَعْضهمْ , وَلَمْ يَعْرِف
الْجَوَاب الَّذِي ذَكَرْنَاهُ , قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ هَذَا الْجَوَاب ,
وَقِيلَ : لِأَنَّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ لَمْ يُصَرِّح لَهُ بِأَمَانٍ فِي
شَيْء مِنْ كَلَامه , وَإِنَّمَا كَلَّمَهُ فِي أَمْر الْبَيْع وَالشِّرَاء ,
وَاشْتَكَى إِلَيْهِ , وَلَيْسَ فِي كَلَامه عَهْد وَلَا أَمَان , قَالَ : وَلَا
يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول إِنَّ قَتْله كَانَ غَدْرًا , وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ
إِنْسَان فِي مَجْلِس عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - فَأَمَرَ
بِهِ عَلِيّ فَضُرِبَ عُنُقه , وَإِنَّمَا يَكُون الْغَدْر بَعْد أَمَان مَوْجُود
, وَكَانَ كَعْب قَدْ نَقَضَ عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُؤَمِّنهُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ وَرُفْقَته , وَلَكِنَّهُ اِسْتَأْنَسَ
بِهِمْ فَتَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْر عَهْد وَلَا أَمَان " .
ومثله ما جاء في قصة عبد الله بن أنيس وقتله لطاغية هذيل خالد
الهذلي إن صح الخبر ففي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد :
عَنْ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَالِدِ بْنِ
سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ وَعَرَفَاتٍ فَقَالَ اذْهَبْ
فَاقْتُلْهُ قَالَ فَرَأَيْتُهُ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقُلْتُ إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا إِنْ أُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ
فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إِيمَاءً نَحْوَهُ فَلَمَّا
دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ لِي مَنْ أَنْتَ قُلْتُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بَلَغَنِي
أَنَّكَ تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ فَجِئْتُكَ فِي ذَاكَ قَالَ إِنِّي لَفِي
ذَاكَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي
حَتَّى بَرَدَ "
وفيها من الفوائد أن التعريض بالكفر يجوز في الحرب .
ومن قال " لا يجوز الغدر بالأمان سواء كان صاحبه مسلماً أم
كافراً، إلا مَن تظاهر بالكفر وعلى أنه من القوم ، يجوز له أن يتقصد المحاربين من
أئمة وزعماء الكفر والطغيان فيغتالهم وإن أعطاهم العبارات التي تفيد الأمان ؛
فأمانه لهم ليس بأمان ، واغتياله لهم لا يجوز أن يسمى غدراً بالأمان لحديث عبد
الله بن أُنيس، وكعب ابن الأشرف "
فلم يصب لأن الأمر كما ذكرنا آنفاً يتعلق بالحرب والسلم وهو أراد
بقوله حكام المسلمين وفي وضع لا يوصف - على التحقيق حتى عند المخالف - بأنه وضع
حرب ، ودليل ذلك ما جاء عند النسائي وأحمد في قصة الحجَّاج بن علاط واستئذانه من
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول من أجل أن يأخذ أمواله
التي بمكة فمن أجل ذلك ترخص لأن حالة الحرب ليست كحالة السلم وليس في القصة قتل
طاغية كما زعم صاحب القول السابق أن الترخص يكون من أجل ذلك ، وفي القصة دليل على
إسلام العباس ، ففي مسند الإمام أحمد [77] بإسناد صحيح :
عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلًا وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ
آتِيَهُمْ فَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا
فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ
مَا شَاءَ فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ اجْمَعِي لِي مَا كَانَ
عِنْدَكِ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ اسْتُبِيحُوا
وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ قَالَ فَفَشَا ذَلِكَ فِي مَكَّةَ وَانْقَمَعَ
الْمُسْلِمُونَ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا وَسُرُورًا قَالَ وَبَلَغَ
الْخَبَرُ الْعَبَّاسَ فَعَقِرَ وَجَعَلَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ قَالَ
مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ فَأَخَذَ
ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ فَاسْتَلْقَى فَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ
يَقُولُ حَيَّ قُثَمْ حَيَّ قُثَمْ شَبِيهَ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمْ بَنِي ذِي
النَّعَمْ يَرْغَمْ مَنْ رَغَمْ قَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ أَرْسَلَ
غُلَامًا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ وَيْلَكَ مَا جِئْتَ بِهِ وَمَاذَا
تَقُولُ فَمَا وَعَدَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ
عِلَاطٍ لِغُلَامِهِ اقْرَأْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ
فَلْيَخْلُ لِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ لِآتِيَهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ
فَجَاءَ غُلَامُهُ فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ قَالَ أَبْشِرْ يَا أَبَا
الْفَضْلِ قَالَ فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا حَتَّى قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ
فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْحَجَّاجُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ جَاءَهُ الْحَجَّاجُ
فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي أَمْوَالِهِمْ وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ فَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ وَخَيَّرَهَا أَنْ
يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا فَاخْتَارَتْ أَنْ
يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ وَلَكِنِّي جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ لِي هَاهُنَا
أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْتُ فَأَخْفِ عَنِّي
ثَلَاثًا ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ قَالَ فَجَمَعَتْ امْرَأَتُهُ مَا كَانَ
عِنْدَهَا مِنْ حُلِيٍّ وَمَتَاعٍ فَجَمَعَتْهُ فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ ثُمَّ
اسْتَمَرَّ بِهِ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ
الْحَجَّاجِ فَقَالَ مَا فَعَلَ زَوْجُكِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ
يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَقَالَتْ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ
شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ قَالَ أَجَلْ لَا يُخْزِنِي اللَّهُ وَلَمْ
يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَحْبَبْنَا فَتَحَ اللَّهُ خَيْبَرَ عَلَى
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ
وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ
حُيَيٍّ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ فِي زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ
قَالَتْ أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا قَالَ فَإِنِّي صَادِقٌ الْأَمْرُ عَلَى مَا
أَخْبَرْتُكِ فَذَهَبَ حَتَّى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَقُولُونَ إِذَا
مَرَّ بِهِمْ لَا يُصِيبُكَ إِلَّا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ قَالَ لَهُمْ لَمْ
يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ
عِلَاطٍ أَنَّ خَيْبَرَ قَدْ فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَجَرَتْ فِيهَا
سِهَامُ اللَّهِ وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِيَ
عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ
شَيْءٍ هَاهُنَا ثُمَّ يَذْهَبَ قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ الْكَآبَةَ الَّتِي كَانَتْ
بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ كَانَ
دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا حَتَّى أَتَوْا الْعَبَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ
فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ وَرَدَّ اللَّهُ يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ كَآبَةٍ أَوْ
غَيْظٍ أَوْ حُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ"
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/322) " وسأله الحجاج بن
علاط فقال إن لى بمكة مالا وإن لي بها أهلا وأريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت
منك أوقلت شيئاً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء ، ذَكره
أحمد "
وأما ما جاء في قصة أبي السرح كما عند أبي داود والنسائي [78]:
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ
فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ وَابْنُ أَبِي
سَرْحٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ
عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا
كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا
حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ فَقَالُوا مَا نَدْرِي
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ
قَالَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ.
فهذا خاص بالنبي كما قرر
الحافظ .
فينبغي لطالب العلم أن يفرق
بين الحالتين حالة الحرب فلها أحكامها ورخصها وحالة السلم فلها أحكامها ورخصها ومن
خلط بين الأمرين فقد أتي من جهله أو من جهة هواه نسأل الله العافية .
أو دار الإسلام ودار الكفر ، هذه المسألة من المسائل المهمة
والخطيرة في نفس الوقت ، وقد رتب عليها الخوارج أحكاماً تدل على جهلهم وضلالهم
فالأزارقة أصحاب (نافع بن الأزرق) قالوا : ( إن من أقام في دار الكفر فهو كافر ،
لا يسعه إلا الخروج ، فكانوا يقولون : نحن
مشركون ما دمنا في دار الشرك ، فإذا خرجنا فنحن مسلمون ) ، والبيهسية والعوفية [79]
قالوا : ( إذا كفر الإمام كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد ) .
وقد وجدت أن أكثر من تكلم في هذه المسألة من المتقدمين يضعون
ضابطاً ينطبق على حالهم وزمانهم فجاء بعض المتأخرين وطبق ذلك الضابط على الواقع
الذي نعيشه فخرج بالنتيجة التالية :
إن كل البلاد التي تسمى ببلاد الإسلام في عصرنا الحاضر هي دار كفر
لأن كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر – ويقصدون بها القوانين الوضعية - دون
أحكام الإسلام فهي دار كفر .
- وحيث أن الأحكام الوضعية يعمل بها في كل البلاد - فالنتيجة عندهم
أن كل البلاد دار كفر وحرب . وهذه العقيدة هي المعتمدة عند كثير من الخوارج في هذا
العصر وأحسنهم حالا من يتوقف في مكة والمدينة ! .
وبعضهم رتب على هذه النتيجة أن الإقامة في بلاد النصارى أولى من
الإقامة في غيرها .
وقبل أن نحرر هذه المسألة أريد أن أبين الأحكام التي تترتب عليها
عند أهل السنَّة . قال الشوكاني في السيل الجرار(4/576) : ( اعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر
قليل الفائدة جداً ، لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب ، وأن الكافر الحربي
مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمّن من المسلمين ، وأن مال المسلم ودمه
معصومان بعصمة الإسلام في دار الحرب وغيرها) أهـ.
لكن نجد في كتب الفقه بعض الأحكام تتغير بتغير الدار وقد ذكر بعض
الفقهاء هذه المسألة في باب اللقيط ، كما أن لهذه المسألة تعلق بالهجرة والإقامة
كما سيأتي ، والمقصود بتحرير هذه المسألة ابتداءً عند العلماء تحديد الدار التي
يشرع غزوها ، ولذلك تجد أن خوارج العصر ممن ينتسب إلى الجهاد لا يفرقون في
عملياتهم التخريبية بين بلاد المسلمين وبلاد الكفار فالكل عندهم دار حرب ، والله
المستعان .
وعند مراجعة كلام العلماء نجد أنهم يرجعون حكم الدار إلى ظهور
الكلمة ولو كان الشرك ظاهراً فالحكم
للغالب على الدار ، فلو كان أهلها نصارى وتولى عليهم مسلم فهي دار إسلام ما داموا يؤدون الجزية ولو كانوا
يتقاضون بغير أحكام الإسلام كما كان حال يهود خيبر في عهد النبي صلى الله عليه
وآله وسلم .
ولو كان أهل الدار يحكمون بأحكام الشريعة وقد نصبوا القضاة لذلك
فهي دار حرب ما دام أن الكلمة لأهل الشرك والكفر كما هو حال العبيديين .
قال الإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب[80] : "ولو ذهبنا
نُعَدِّد من كفَّره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام،
ولكن من آخر ماجرى قصة بني عبيد ملوك مصر وطائفتهم وهم يدّعون أنهم من أهل البيت،
ويصلون الجمعة والجماعة ونصبوا القضاة والمفتين، أجمع العلماء على كفرهم وردتهم
وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين مبغضين لهم"
وقال ابن حزم في المحلى (11/200): (وقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم " أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين " إنما عنى بذلك دار
الحرب ، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر وهم كلهم يهود ، وإذا كان أهل
الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم أو لتجارة
بينهم كافراً ولا مسيئاً بل هو مسلم محسن ، ودارهم دار إسلام لا دار شرك ، لأن الدار
إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها ) أهـ.
وقال الشوكاني في السيل الجرار (4/575) : (الاعتبار بظهور الكلمة
فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام ؛ فهذه الدار دار إسلام ولا يضر
ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم ، كما هو مشاهد
في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية ، وإذا
كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس ) أهـ.
قال أبو بكر الإسماعيلي في (اعتقاد أئمة أهل الحديث ) : "
ويرون الدار دار إسلام لا دار كفر – كما رأته المعتزلة – ما دام النداء بالصلاة
والإقامة ظاهرين وأهلها ممكنين منها آمنين " .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وقد سئل عن الهجرة من الجزائر إلى
بلاد الكفر فقال : " الواجب الصبر لأن البلاد بلاد إسلام ينادى بها للصلوات
وتقام فيها الجمعة والجماعات " . ( فتاوى العلماء الأكابر ص 138)
وفي الدرر السنية ( 7/257 الطبعة الثانية 1385) سئل الشيخ عبد
الرحمن بن حسن ، إذا كان في البلدة وثن يدعى من دون الله ولم ينكر هل يقال هذه
بلدة كفر أو بلدة إسلام .
فأجاب رحمه الله : " لا ينبغي الجزم بأحد الأمرين لاحتمال أن
يكون في البلد جماعة على الإسلام مظهرين ذلك " .
وفي الدرر (7/356 ) سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين عن
البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك ، والشرك فيها ظاهر مع كونهم يشهدون أن لا
إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مع عدم القيام بحقيقتها ويؤذنون ويصلون الجمعة
والجماعة مع التقصير في ذلك هل تسمى دار كفر أو دار إسلام .
فأجاب رحمه الله : " فهذه المسألة يؤخذ جوابها مما ذكره
الفقهاء في بلدة كل أهلها يهود أو نصارى ، أنهم إذا بذلوا الجزية صارت بلادهم بلاد
إسلام وتسمى دار إسلام فإذا كان أهل بلدة نصارى يقولون المسيح أنه الله أو ابن
الله أو ثالث ثلاثة أنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلاد إسلام فبالأولى فيما
أرى أن البلاد التي سألتم عنها وذكرتم حال أهلها أولى بهذا الاسم ، ومع هذا
يقاتلون لإزالة مشاهد الشرك والإقرار بالتوحيد والعمل به "
مما سبق نعرف معنى قول بعض العلماء: ( كل دار كانت الغلبة فيها
لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر ) أهـ. ، وقولهم : ( ما لم تجر عليه
أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها ، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جداً ولم
تصر دار إسلام بفتح مكة ) أهـ ، فالمقصود بذلك ظهور الكلمة لأن ديار الإسلام في
العهود المتقدمة لم يكن يحكم فيها بالقانون الوضعي كما هو الحال الآن في كثير من
بلاد الإسلام .
وقد يتوقف بعض العلماء في الحكم على الدار إذا اشتبه أمرها كما في
فتوى شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/135) عندما سئل عن بلدة ماردين قال :
" وأما كونها دار حرب أو سلم ، فهي مركبة : فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار
السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون
جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم
فيه بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه " أهـ ..
وقد نقل عن الشيخ سليمان
بن سحمان أنه قال " إن ماردين التي أفتى فيها شيخ الإسلام تقي الدين ابن
تيمية لم تجر عليها أحكام الكفار وإنما استولى عليها الكفار استيلاءً ناقصاً
" .
مدى
مشروعية العمليات الفدائية :
اختلف المعاصرون في حكم العمليات الفدائية التي يحدث فيها أن يقتل
المنفذ للعملية نفسه من أجل قتل مجموعة من الكفار المحاربين أو إلحاق الضرر بهم ،
ولم أجد للقائلين بمشروعية هذه العمليات دليلاً صريحاً من الكتاب أو السنة وإنما
هو القياس .
وقد أقر كثير ممن يرى مشروعية هذه العمليات إلى أن الدليل هو
القياس :
قال الشعيبي " إن مثل هذه العمليات المذكورة من النوازل
المعاصرة التي لم تكن معروفة في السابق بنفس طريقتها اليوم ، ولكل عصر نوازله التي
تحدث فيه ".
وقال العودة " إن مسألة ما يسمى بـ ( العمليات الاستشهادية )
من المسائل الحديثة التى لا تكاد تجد نصاً عليها في كتب الفقهاء المتقدمين ، وذلك
لأنها من أنماط المقاومة الحديثة التى طرأت بعد ظهور المتفجرات وتقدم تقنيتها .
".
بل أكد أن هذه العمليات لا يعرفها المسلمون بعامة وإنما أخذها
بعضهم من الكفار ، قال " وقد برزت أهمية مثل هذا اللون من المقاومة في الحرب
الأهلية الأمريكية ، وفي الحرب العالمية الثانية وما بعدها ، وصارت جزءاً من نظام
الحروب الذي يدرس في المعاهد والأكاديميات الحربية . "
فكان قياسهم إما على نصوص ليس فيها محل الشاهد كقصة البراء بن مالك
رضي الله عنه فقد ثبت أنه لم يقتل نفسه !! في تلك الحادثة بل حتى لم يقتله أحد من
الأعداء بل قد عاش بعد معركة الحديقة بزمن ، وكقصة الغلام الذي اختار لنفسه طريقة
الموت الذي فيه مصلحة للدين ولم يكن بيده الاختيار بين الموت أو الحياة كما في
حالة منفذ العمليات الانتحارية بل ما كان بيده إلا أن يختار بين موتة وموتة فاختار
الأصلح ، فكان فعله ذاك جهاد في سبيل اللّه، آمَنَت بسببه أمَّة وهو لم يفقد شيئاً
؛ لأنَّه محكوم عليه بالموت ، وسيموت آجلاً أو عاجلاً .
كما أن القائلين بمشروعية هذه العمليات قاسوا على نصوص هي من شرع
من قبلنا التي يقال فيها إنه قد ورد في شرعنا ما يخالفه كما في قصة الغلام لو كان
فيها متمسك للمخالف ، لأنه كما هو مقرر في موضعه أن قتل النفس كان قربة يتقرب بها
إلى الله عند الأمم السابقة وأما في شرعنا فهو محرم .
وإما أنهم قاسوا على أصل مقرر في الشرع لكن بين الأصل الذي قاسوا
عليه والمقيس مفاوز كما سيأتي .
و المتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي احتج بها من يرى مشروعية هذه
العمليات يجد أنها لا تعدوا أن تكون مبينه لمشروعية الانغماس في العدو بل لبيان
فضله وأنه من الجهاد الذي شرعه الله لعباده المؤمنين ولا يوجد في هذه المسألة خلاف
معتبر ، وإليك بيان ذلك من كلام المخالفين قالوا:
أولاً: الأدلة من القرآن .
من ذلك قوله تعالى ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله
والله رؤف بالعباد ) .
قالوا " فإن الصحابة رضي الله عنهم أنزلوها على من حمل على
العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك ، والمتسبب في قتل النفس بقصد القتل مثل
المباشر لقتلها ، كما أن المتسبب في قتل غيره بقصد القتل مساو لقتله في أحكام
الدنيا واستشهدوا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قصة أصحاب الأخدود وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين
ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم
يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع
آخرأ.هـ
فنقول : صحيح إن المتسبب في قتل النفس بقصد القتل مثل المباشر
لقتلها لكن الأمر في حالة الانغماس في العدو مبني على غلبة الظن في كونه سيقتل
وهذا ليس مثل من تسبب في قتل نفسه وشتان بينهما فالأول مشروع مستحب فعله والثاني
ممنوع محرم فعله ، ولايظن أن الانتحار هو قتل النفس فقط بسبب جزع أو تسخط أو متاع
دنيوي بل هو كل قتل للنفس بغير دافع شرعي تقره الشريعة .
قال تعالى ( ولا تقتلوا
أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً
وكان ذلك على الله يسيرا ) .
قال القرطبي في تفسيره (5/156) " ( ولا تقتلوا ) أنفسكم فيه مسألة واحدة قرأ
الحسن تقَّتلوا على التكثير ، وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي
أن يقتل بعض الناس بعضا ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه ، بقصد منه للقتل في
الحرص على الدنيا وطلب المال أن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف ، ويحتمل أن
يقال ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو
بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات
السلاسل خوفاً على نفسه منه فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم
يقل شيئا . انتهى.
وأكثر النصوص التي جاءت في تحريم قتل النفس جاءت غير مقيدة ، ويؤيد
هذا فهم الصحابة ، ففي الصحيحين في قصة مقتل عامر بن الأكوع " فلما تصاف
القوم كان سيف عامر فيه قصر فتناول به يهودياً ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة
عامر فمات منه فلما قفلوا قال سلمة رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شاحباً فقال
لي ما لك فقلت فدى لك أبي وأمي زعموا أن عامراً حبط عمله قال من قاله قلت قاله
فلان وفلان وفلان وأسيد بن الحضير الأنصاري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب
من قاله إن له لأجرين وجمع بين إصبعيه إنه لجاهد مجاهد قل عربي نشأ بها مثله
" ، وفي رواية " فَقَالَ الْقَوْمُ حَبِطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ
" ، مع أنه لم يتعمد ذلك ، إلا أن النبي عذره لأنه لم يتعمد قتل نفسه .
قالوا و الأدلة من السنة :
حديث الغلام وقصته معروفة وهي في صحيح مسلم ، وقد سبق بيان ما فيها
.
ومما استدلوا به فعل البراء بن مالك في معركة اليمامة ، فإنه حمل في
تُرس على الرماح وألقوه على العدو فقاتل حتى فتح الباب ، ولم ينكر عليه أحد من
الصحابة .
وفي نفس المعنى حمل سلمة بن الأكوع والأخرم الأسدي وأبو قتادة
لوحدهم على عيينة بن حصن ومن معه ، وحمل أبو حدرد الأسلمي وصاحباه على عسكر عظيم
ليس معهم رابع فنصرهم الله ، وفعل عبدالله بن حنظلة الغسيل حيث قاتل حاسراً في
إحدى المعارك ، و الرجل الذي سمع من أبي موسى يذكر الحديث المرفوع : الجنة تحت
ظلال السيوف ، فقام الرجل وكسر جفن سيفه وشد على العدو ثم قاتل حتى قتل ، و قصة
أنس بن النضر في وقعة أحد قال : واهاً لريح الجنة ، ثم انغمس في المشركين حتى قتل
، و ما فعله هشام بن عامر الأنصاري لما حمل بنفسه بين الصفين على العدو الكثير .
&قلت : وفي هذا الأخير رد على من قاس العمليات الانتحارية على
التغرير بالنفس في صفوف العدو .
لأنه قد جاء فيه :
فأنكر عليه بعض الناس وقالوا : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فرد عليهم
عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما وتليا قوله تعالى ( ومن الناس من يشرى
نفسه ابتغاء مرضات الله .. ) الآية ، (انظر مصنف ابن أبي شيبة ( 5 / 303 ، 322 )
سنن البيهقي ( 9 / 46 )) .
قلت :ومثله ما جاء في الصحيحين في قصة مقتل عامر بن الأكوع ،
المذكورة سابقاً .
فهذا الانكار وذاك الحكم في قصة هشام بن عامر لم يأتيا من فراغ وإن
لم يكن أصحابهما محقين فيهما في تلك الواقعتين ، والسبب أنهم استحضروا الوعيد الذي
جاء فيمن قتل نفسه ولم يشفع له عندهم أنه فعل ذلك من أجل مصلحة الجهاد كما يزعم
أهل العصر ، فبُين لهم خطأهم في القياس وأنه لا معارضة بين النصوص.
وإن لم تحدث تلك الصورة التي تصورها المنكرون في عهد عمر رضي الله
عنه وهي قتل النفس إلا أنها وقعت اليوم حقيقة فما
ترى سيقول من أراد أن ينكر كما أنكر النبي وعمر رضي الله عنه .
أما الإجماع الذي ذكره بعضهم فهو في " التغرير بالنفس في
الجهاد " وقد قدمت لك أن مسألتنا لم تكن معروفة فكيف نحتج بالإجماع على
مشروعيتها .
وربما لا أكون مبالغاً إذا قلت : لو كانت هذه العمليات معروفة عند
المتقدمين فإن القائلين بمشروعية هذه العمليات الانتحارية الآن لم يكن ليسبقهم في
حكمهم هذا أحد ، ذلك أن السلف قد استنكروا ماهو دون قتل النفس كما مر معنا.
وبعض القائلين بمشروعية هذه العمليات الانتحارية قالوا أصل هذه
المسألة هو الانغماس منفرداً أو مع جماعة قليلة في جيش العدو ، رغم التيقن بالموت
المحقق ، إلا أن الفارق بين الانغماس والعملية الاستشهادية هو أن المنغمس في صف
العدو يقتل بيد العدو والفدائي يقتل بيده هكذا قالوا!!
وأكثر ما احتجوا به ، يصلح في بيان مشروعية الأمر الأول وهو
الانغماس في العدو وهذا حق لكنه لا يصلح حجة في التغاضي عن الأمر الثاني وهو الذي
عبروا عنه بقولهم " إن المنغمس في صف العدو يقتل بيد العدو والفدائي يقتل
بيده ." لذلك لجأوا إلى القياس.
وبعضهم غض الطرف عن الأمر الثاني مع أنه فارق حقيقي مؤثر كيف لا
وقد جاء في الشرع أن من قتله العدو فهو في الجنة ومن قتل نفسه فهو في النار فالذي
قتل نفسه يقول فيه الله " بادرني عبدي بنفسه " فليس بالضرورة أن المنتحر
هو من قتل نفسة ساخطاً على تقدير الله ، والله أعلم .
بقي أن يقال إن هناك من يقول بجواز هذه العمليات تحت ظروف خاصة
وبشروط معينة ولا يقولون بالمشروعية .
وحجتهم في ذلك أيضاً القياس ، لكنه قياس صحيح موافق للنصوص
والقواعد , قالوا حيث أنه يجوز قتل المسلمين إذا تترس بهم الأعداء بالشروط
المعروفة عند أهل العلم ، فقتل المسلم نفسه أولى بالجواز لأن قتل النفس من غير
تسخط أهون من قتل الآخرين من المسلمين فلا بد من القول بجواز قتل النفس من أجل
مصلحة الجهاد ومصلحة المسلمين اللتان لا تتحققا إلا به وينشأ عن عدم الفعل ضرر
محقق ، قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 20
/ 52 ) ".. كذلك مسأله التترس التى ذكرها الفقهاء فان الجهاد هو دفع فتنه
الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن
دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي الى قتل اولئك المتترس بهم جاز ذلك "، وقد مر معنا شروط قتل الترس
فراجعها .
قلت : فالقول بجواز هذه العمليات يكون بالقدر الذي تتحقق به
المصلحة وهذه المصلحة يحددها العلماء الموثوق في علمهم ودينهم ، لكن لا يقال
بالمشروعية واعتبار أن هذه الطريقة من طرق الجهاد ، والله أعلم .
قال شيخ الإسلام في (اجتماع الجيوش 1/86):
"ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج واللصوص من المسلمين وأهل
الذمة عن نفسك ومالك"
فهذا هو الصائل الذي يدفع لكن يجب أن يدفع بالأخف فالأخف كما ذكر
العلماء .
ففي صحيح مسلم:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ
جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي قَالَ فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ قَالَ
أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي قَالَ قَاتِلْهُ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي
قَالَ فَأَنْتَ شَهِيدٌ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ هُوَ فِي النَّارِ
*
لكن خوارج العصر يحملون هذا الحديث وما في معناه على العموم
اعتماداً على قاعدتهم في الأخذ بالعمومات والإطلاقات كما سبق ، ولذلك تجدهم
يستحلون قتل جنود السلطان اعتماداً على فهمهم لهذا الحديث ، قال بعضهم "
وكانت الجماعة الإسلامية قد أصدرت في حوالي العام 1408 كتيباً بعنوان (تقرير خطير)
بينت فيه – بالأسماء والأرقام – ما يوقعه النظام المصري على أبنائها من تعذيب وقتل
و اعتقال للنساء و إجهاض الحوامل ، ثم تساءلت في نهاية التقرير : هل إذا قمنا بعد
ذلك كله نحمل السلاح دفاعاً عن أنفسنا يقال عنا إننا دعاة عنف وإرهاب ؟ ومن هنا
رأت الجماعة الإسلامية أنها في حالة دفع لا تحتمل التأخير ، ولا شك أنه لا يشترط
في حالة الدفع ما يشترط في حالة الطلب ! ، فكان لا بد من الدفاع بما تيسر من وسائل
الدفاع .... يضعون نصب أعينهم مثل قول الإمام أحمد في مثل تلك الحالات ( ما يعجبني
أن يستأسر ) .."
و الحديث السابق وما في معناه ليس على عمومه بل جاء تخصيصه بما جاء
في أحاديث الفتن من الأمر بأن يكون أحدنا عبد الله المقتول ولا يكون عبد الله القاتل
ولو دخل عليه بيته ، فعند الترمذي [81]:
عن سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ
وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي قَالَ
أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي
قَالَ كُنْ كَابْنِ آدَمَ *
ومثله ماجاء في صحيح مسلم [82]:
عن عُثْمَانُ الشَّحَّامُ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ
السَّبَخِيُّ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ فِي أَرْضِهِ فَدَخَلْنَا
عَلَيْهِ فَقُلْنَا هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ فِي الْفِتَنِ حَدِيثًا قَالَ
نَعَمْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدِّثُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ
الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ
السَّاعِي إِلَيْهَا أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ
إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ
بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ
رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ
وَلَا أَرْضٌ قَالَ يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ
ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ
هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ
الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ
يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي قَالَ يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ "
ففي وقت الفتن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون أحدنا
عبد لله المقتول .
واستثنى كذلك السلطان من مسألة
دفع الصائل للأمر بالصبر ، ذكر ذلك ابن سيرين وغيره (انظر ( المحلى11/98،209) بل
نقل ابن المنذر الاجماع على ذلك [83].
واحتج القائلون باستثناء السلطان
بأحاديث الصبر على جور السلطان ومن ذلك حديث حذيفة في الصحيحين ولفظه عند
مسلم :
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فَجَاءَ اللَّهُ
بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فِيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ نَعَمْ
قُلْتُ هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ وَرَاءَ
ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ كَيْفَ قَالَ يَكُونُ بَعْدِي
أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ
فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ قَالَ
قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ
تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ
فَاسْمَعْ وَأَطِعْ *
وبهذا تعرف الجواب عن قصة عبد الله بن عمرو مع عنبسة بن معاوية و
أن ذلك اجتهاد من عبد الله بن عمرو خالف فيه ما جاء في حديث حذيفة والله أعلم .
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/870) :
" الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد وأهل العهد ثلاثة أصناف :
1) أهل ذمة 2) وأهل هدنة 3) وأهل أمان ".
قلت : ويؤيد هذا ما رواه البخاري [84]
:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى
مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ
وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ " .
فهم على أقسام :
الأول : من أذن له أن يستوطن ديار أهل الإسلام – عدا الجزيرة –
وهؤلاء هم الذين يدفعون الجزية ، وعقد عهدهم منوط بإمام المسلمين ، ولهم أحكام
خاصة في الشريعة من حيث الملبس والتعامل وغير ذلك ، ويسمون أهل ذمة وكذلك أهل عهد
.
الثاني : من أذن له أن يبقى في دياره ويدفع الجزية بعد غلبة ،
وهؤلاء عقد عهدهم منوط كذلك بإمام المسلمين وليس لهم أحكام خاصة كما في أصحاب
القسم الأول ويسمون أهل عهد أو أهل صلح ومثلهم من عقد معهم المسلمون عهداً بدون
غلبة ولا جزية لحاجة فيها مصلحة للمسلمين .
الثالث : المستأمنون وهم الذين يقدمون بلاد الإسلام من غير استيطان
كالرسل والتجار .
قال ابن القيم " وقد عقد الفقهاء لكل صنف باباً فقالوا باب
الهدنة ، باب الأمان ، باب عقد الذمة ، ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في
الأصل ، وكذلك لفظ الصلح فإن الذمة من جنس لفظ العهد .... ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة
عبارة عمن يؤدي الجزية وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن
يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله
بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على
مال أو غير مال ، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم
الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة ، وأما
المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها وهؤلاء أربعة أقسام :
1) رسل و 2) تجار و 3) مستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن
فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم و 4)طالبوا حاجة من زيارة أو
غيرها .
وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية وأن يعرض
على المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق
به ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان ".
والمستأمنون هم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم
" وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ
أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ " متفق عليه .
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (ص95) " فإن الأمان يجوز
عقده لكل كافر ويعقده كل مسلم "
فإذا دخلوا بلاد المسلمين من
غير استيطان ، يجب الوفاء لهم بعهدهم ولو في جزيرة العرب المذكورة في الحديث ، كما
سيأتي ، ولا يطالبون بدفع الجزية كما توهم بعضهم ، وأما من قال من خوارج العصر أن
العهد والأمان الذي أعطي لهم باطل ، فهذا قول مردود مهما كانت مبرراته ولو ادَّعوا
إن الحاكم الذي أعطى العهد كافر ، لأن العبرة بما يعتقده المستأمن فإذا ظن أنهم
أمنوه فقد لزم المسلمين ذلك ، وقد مر معنا بعض أقوال أهل العلم في ذلك والمسألة
مبناها على العرف ، كما مر معنا في قصة المغيرة مع رفقته في السفر ففي صحيح
البخاري[85]
:
" وَكَانَ الْمُغِيرَةُ
صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ
جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا
الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ "
قال الحافظ :
"وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال الْكُفَّار
فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى الْأَمَانَة
"
قلت : ومعلوم أن رفقة السفر لا يتعاهدون قبل السفر على عدم الغدر
بل يجري ذلك على العرف وقد قال العلماء المشروط عرفاً كالمشروط لفظاً ، وبهذا تعرف
أن الإجراءات التى تقوم بها الدولة عند الحدود أو إعطاء التاشيرة كافية في عقد
الأمان ، وسيأتي زيادة بيان لذلك .
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: " ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيل –
والده – قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده، ما
نريد إلا المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل
معه، فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر، فقال:" انصرفا، نفي لهم بعهدهم
ونستعين الله عليهم " ، فتأمل رعاك الله كيف يكون الوفاء بالعهد ، وتأمل ما
عليه أهل العصر .
قال النووي في الشرح ( 12/144) : " وفيه الوفاء بالعهد وقد
اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار أن لا يهرب منهم، فقال الشافعي وأبو حنيفة
والكوفيون لا يلزمه ذلك بل متى أمكنه الهرب هرب، وقال مالك: يلزمه " .
هل
تجوز الهدنة المطلقة دون تحديد مدة :
لا بد أن نفرق بين الهدنة المؤبدة التي تؤدي إلى إلغاء حقيقة
الجهاد وبين الهدنة المطلقة التي قد تدعو إليها الحاجة فقد وادع النبي في أول
الأمر وفي أثنائه وفي آخره ولم ينسخ من ذلك شيء كما مر معنا عند ذكر مراحل تشريع
القتال .
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (ص 224) " أن رسول الله
لما قدم المدينة كان بها يهود كثير ومشركون وكان أهل الأرض إذ ذاك صنفين مشركاً أو
صاحب كتاب ، فهادن رسول الله من بها من اليهود وغيرهم "
كما هادن النبي بعد ذلك قريشاً سنة ست من الهجرة بعد أن قويت شوكة
المسلمين وكان آخر ذلك ما كان مع يهود خيبر وتوفي وذلك العهد قائم ، والعجيب أنه
بعد أن قضى خوارج العصر زمناً يتنكرون فيه على حكام المسلمين مهادنتهم للكفار ،
إذا بكبيرهم المتخفي يعلنها هدنة شاملة مع دول أوربا !! .
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/874) " إذا عرف هذا فهل يجوز لولي الأمر أن
يعقد الهدنة مع الكفار عقداً مطلقاً لا يقدره بمدة بل يقول نكون على العهد ما شئنا
ومن أراد فسخ ..... الصواب أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة فإذا كانت مؤقتة جاز أن
تجعل لازمة ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة والوكالة
والمضاربة ونحوها جاز ذلك لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء ويجوز عقدها مطلقة وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن
تكون لازمة التأبيد بل متى شاء نقضها وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة
كانت فيها المصلحة ، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا...... وعامة عهود النبي مع
المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة ، جائزة غير لازمة منها عهده مع أهل خيبر مع
أن خيبر فتحت وصارت للمسلمين لكن سكانها كانوا هم اليهود ولم يكن عندهم مسلم ولم
تكن بعد نزلت آية الجزية إنما نزلت في براءة عام تبوك سنة تسع من الهجرة وخيبر
فتحت قبل مكة بعد الحديبية سنة سبع ومع هذا فاليهود كانوا تحت حكم النبي فإن العقار
ملك المسلمين دونهم وقد ثبت في الصحيحين
أنه قال لهم نقركم ما شئنا أو ما أقركم الله وقوله ما أقركم الله يفسره اللفظ
الآخر وأن المراد أنا متى شئنا أخرجناكم منها
ولهذا أمر عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأنفذ ذلك عمر
رضي الله عنه في خلافته .
وقد ذكر طائفة منهم محمد بن جرير أن كل ذمة عقدت للكفار في دار
الإسلام فهي على هذا الحكم يقرهم المسلمون ما احتاجوا إليهم فإذا استغنوا عنهم
أخرجوهم من ديار المسلمين وهذا قول قوي له حظ من الفقه وقوله نقركم ما أقركم الله
أراد به ما شاء الله إقراركم وقدر ذلك وقضى به أي فإذا قدر إخراجكم بأن يريد
إخراجكم فنخرجكم لم نكن ظالمين لكم ....
والمقصود أن الله سبحانه قسم المشركين في هذه السورة – أي براءة - إلى
ثلاثة أقسام :
الأول : أهل عهد مؤقت لهم مدة وهم مقيمون على الوفاء بعهدهم لم
ينقصوا المسلمين شيئاً مما شرطوا لهم ولم يظاهروا عليهم أحداً فأمرهم بأن يوفوا
لهم بعهدهم ما داموا كذلك .
الثاني : قوم لهم عهود مطلقة غير مؤقتة فأمرهم أن ينبذوا إليهم
عهدهم وأن يؤجلوهم أربعة أشهر فإذا انقضت الأشهر المذكورة حلت لهم دماؤهم وأموالهم
.
القسم الثالث : قوم لا عهود لهم فمن استأمن منهم حتى يسمع كلام
الله أمنه ثم رده إلى مأمنه فهؤلاء يقاتلون من غير تأجيل .انتهى
قال شيخ الإسلام في الاختيارات (ص: 455): "ويجوز عقدها -أي
الهدنة- مطلقاً ومؤقتاً، والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به ما لم ينقضه
العدو، ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة في أظهر قولي العلماء، وأما المطلق فهو عقد
جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة".
قال تعالى( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة:1.
وقال تعالى:( وأوفوا بالعهد إن
العهد كان مسؤولاً) الإسراء:34.
قال ابن كثير في التفسير: أي الذين تعاهدون عليه الناس،والعقود التي تعاملونهم بها،فإن العهد
والعقد كل منهما يُسأل صاحبه عنه ا-هـ.
وهؤلاء الخوارج لم يتفقهوا في الدين وإلا فإن المقرر عند أهل العلم
أن من دخل بلاد المسلمين وهو يظن أنهم أمنوه فإنه لا يجوز نقض هذا الأمان ولو كان
في حكم المسلمين ليس أماناً ، فقد قال الإمام أحمد : " إذا أشير إليه - أي
الحربي - بشيء غير الأمان، فظنه أماناً، فهو أمان، وكل شيء يرى العلج أنه أمانٌ
فهو أمان ، وقال : إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله؛ لأنه إذا اشتراه فقد أمّنه "
ذكره المرداوي في الإنصاف (10/348-352) (مع المقنع والشرح الكبير) .
وقال: " قال الشيخ تقي الدين - يعني ابن تيمية - : فهذا يقتضي
انعقاده بما يعتقده العلج، وإن لم يقصده المسلم، ولا صدر منه ما يدل عليه"
(انظر أيضاًحاشية ابن قاسم4/297).
وفي سنن النسائي [86]"
من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً "
.
وفي رواية [87]:"
مَن أمّن رجلاً على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدرٍ يوم القيامة ".
وفي صحيح البخاري :
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ
يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ
عَامًا*
وفي سنن أبي داود [88]
:" أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ".
وفي زاد المعاد (3/568) :
" أهل العهد والذمة إذا أحدث أحد منهم حدثاً فيه ضرر على الإسلام
انتقض عهده في ماله ونفسه وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام فدمه وماله هدر وهو لمن
أخذه كما قال في صلح أهل أيلة ( فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه
وهو لمن أخذه من الناس) وهذا لأنه بالإحداث صار محارباً حكمه حكم أهل الحرب "
لكن هل ينتقض عهد من حدث منه الضرر فقط ، أم أن الحكم يتعدى إلى
قومه أو دولته .
قال الشوكاني في السيل الجرار ( 4/573) :
" وينتقض عهدهم بالنكث من جميعهم ، أو بعضهم إن لم يباينهم
الباقون قولاً وفعلاً " .
قال ابن القيم في زاد المعاد ( 3/421) " أجلى عمر يهود خيبر لما عدا بعضهم على
ابنه ورموه من ظهر دار ففدعوا يده بل قد قتل رسول الله جميع مقاتلة بني قريظة
ولم يسأل عن كل رجل منهم هل نقض العهد أم لا وكذلك أجلى بني النضير كلهم
وإنما كان الذي هم بالقتل رجلان وكذلك فعل ببني قينقاع حتى استوهبهم منه عبدالله
بن أبي فهذه سيرته وهديه الذي لا شك فيه وقد أجمع المسلمون على أن حكم الردء حكم
المباشر في الجهاد ولا يشترط في قسمة الغنيمة ولا في الثواب مباشرة كل واحد القتال
وهذا حكم قطاع الطريق حكم ردئهم حكم مباشرهم لأن المباشر إنما باشر الإفساد بقوة
الباقين ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه وهو مذهب
أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم " .
فهذا حكم الردء ولو لم يباشر القتال ، وأما غيرهم من أصحاب التجارة
والمهن التي لا تعلق لها بالقتال فيختلف .
قال ابن القيم في زاد المعاد ( 3/144) عند كلامه عن يهود خيبر
" ولم يعمهم بالقتل كما عم قريظة لاشتراك أولئك في نقض العهد وأما هؤلاء
فالذين علموا بالمسك وغيبوه وشرطوا له إن ظهر فلا ذمة لهم ولا عهد فإنه قتلهم
بشرطهم على أنفسهم ولم يتعد ذلك إلى سائر أهل خيبر فإنه معلوم قطعاً أن جميعهم لم
يعلموا بمسك حيي وأنه مدفون في خربة فهذا نظير الذمي والمعاهد إذا نقض العهد ولم
يمالئه عليه غيره " .
وعلى كل حال فإن إخراجهم من بلاد المسلمين أمره بيد الإمام ، وقد
ذهب بعض خوارج العصر إلى أن نقض العهد ليس للإمام خاصة وإنما يشاركه فيه آحاد
الرعية ، واحتج بقول ابن القيم في أحكام أهل الذمة ( 3/1355) وهو ينقل كلام شيخ
الإسلام ، قال :
" وعقد الذمة ليس هو حقاً للإمام بل هو حق لله ولعامة
المسلمين فإذا خالفوا شيئاً مما شرط عليهم فقد قيل يجب على الإمام أن يفسخ العقد
وفسخه أن يلحقه بمأمنه ويخرجه من دار الإسلام ظناً أن العقد لا ينفسخ بمجرد
المخالفة بل يجب فسخه ، قال – أي شيخ الإسلام - وهذا ضعيف لأن الشروط إذا كانت حقا
لله لا للعاقد انفسخ العقد بفواته من غير فسخ وهذه الشروط على أهل الذمة حق لله لا
يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويمكنهم من المقام بدار الإسلام إلا
إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن "
قلت : الكلام هنا في صدد بيان أن الإمام إذا أقرهم على العهد بعد
فسخه فقد وقع في مخالفة ، ولا يعني ذلك أن يأتي بعض أفراد الرعية فيفسخ العقد ،
لأن العقد قد انفسخ ، ويبقى إقرار الإمام لهم من الأمور التي تتعلق بالولاية
العامة ، فإن المقرر كما قال ابن القيم أن " المسلم يقتل بسب الله ورسوله
والزنى مع الإحصان ولا يقتل بالقذف فكذلك الذمي " فإذا لم يقم الوالي الحد
على المسلم فليس لآحاد الرعية أن يقيموه لما يترتب على ذلك من المفاسد ، فكذلك
الحكم بالنسبة للمعاهد .
ومسألتنا
هذه مثل مسألة إقامة الحدود فلا يجوز لآحاد الرعية الافتئات على ولي الأمر فيها فقد نص العلماء في كتبهم على عدم جواز إقامة الحدود
بغير إذن الوالي قال ابن مفلح في كتابه الفروع (6 / 53) : (تحرم إقامة حدّ إلا
لإمام أو نائبه) ونقل بعضهم الإجماع على التحريم ومن ذلك ، قول ابن قدامة في كتابه
المغني (المغني مع الشرح الكبير10/ 80) (وقتل المرتد إلى الإمام حُراً كان أو
عبداً، وهذا قول عامة أهل العلم، إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد فإن لسيده
قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم
" ).
لكن عند التأمل في الأحاديث والآثار الواردة في ذلك
نجد أن الأمر فيه تفصيل ، والضابط في كل ذلك القدرة ، ولذلك منع غير السلطان من
إقامة الحدود ، لأنه يترتب على إقامة الحدود من غير السلطان مفسدة راجحة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى
34 / 175): " خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقــوق
خطــابا مطلقــا، كقوله تعالى (والسـارق والسارقـة فاقطعــوا أيديهما) المائدة،
وقال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
مِئَةَ جَلْدَةٍ } (2) سورة النــور. وكذلك قوله: (ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا)، لكن
قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد
عُلِمَ أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله (كتب
عليكم القتال)، وقوله:(وقاتلوا في سبيل الله) وقوله:(إلا تنفروا يعذبكم) ونحو ذلك
هو فرض على الكفاية من القادرين ، و القدرة هي السلطان، فلهذا: وجب إقامة الحدود
على ذي السلطان ونوابه ".
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب :
لقد اتخذ الخوارج في هذا العصر قول النبي " أخرجوا اليهود
والنصارى من جزيرة العرب " متفق عليه ، شعاراً يرددوه في كل مناسبة ، ولا
ندري ما حقيقة الأمر ، فبعض من خاض في هذه المسألة يؤكد أنهم اتخذوا هذا الشعار
لتبرير أعمالهم الإرهابية ، وإلا فإنه قد جاء الحديث بلفظ " أخرجوا المشركين
من جزيرة العرب " ومع ذلك لم نر لهم أعمالاً موجهة ضد البوذيين وأشباههم ،
وهذا يدل على مسلك خطير عند أهل الأهواء حمانا الله من شرهم ، مع العلم أنه لم يأت
في الروايتين الأمر بقتلهم أو تفجيرهم .
وأما مسألة إخراج المشركين من جزيرة العرب عند التحقيق ففيها تفصيل
لا تبلغه أحلام السفاء أهل الأهواء ، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة ( 2/877)
" وقد ذكر طائفة منهم محمد بن جرير أن كل ذمة عقدت للكفار في دار الإسلام فهي
على هذا الحكم يقرهم المسلمون ما احتاجوا إليهم فإذا استغنوا عنهم أخرجوهم من ديار
المسلمين وهذا قول قوي له حظ من الفقه ، وقوله نقركم ما أقركم الله أراد به ما شاء
الله إقراركم وقدر ذلك وقضى به أي فإذا قدر إخراجكم بأن يريد إخراجكم فنخرجكم لم
نكن ظالمين لكم " .
وقال أيضاً في أحكام أهل الذمة (1/490) " ولما اتسعت رقعة
الإسلام ودخل فيه الخاص والعام وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسقي النخيل
أجلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه اليهود من خيبر ممتثلاً أمر رسول الله ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) " .
فالثابت أن أبا بكر وعمر أبقيا اليهود بالمدينة حتى إذا لم يكن
للمسلمين فيهم حاجة أخرجهم عمر رضي الله عنه .
يضاف إلى ذلك ، أن الخلفاء أقروا بقاء بعض الأعاجم ممن هم على غير
ملة الإسلام لحاجة المسلمين إلى ذلك ، كما سيأتي .
وأما قول بعضهم أن هؤلاء أرقاء والرقيق له أحكام تختلف عن أحكام
الحر ، فنقول أن ذلك الاختلاف ثبت بدليل ، ودون الإتيان بدليل في مسألتنا هذه خرط
القتاد بل الأمر كما قررنا مبني على المصالح والمفاسد وحاجة الناس ، وسيأتي ما
يبين خلاف هذه الدعوى .
وقد ادعى بعضهم أن " إبقاء الصحابة لمن أُبقي من المشركين كان
من جنس جهاد الطلب ، فإنَّ جهاد الطلب لا يجب على الفور كما يجب جهاد الدفع ، بل
يجوز تأخيره لمصلحة أو خوفِ مفسدةٍ يُرجى أن تزول قريبًا ، كما يجوز تأخيره
لانشغال عسكر المسلمين بفتوحٍ ، أو لانشغال إمام المسلمين بأمرٍ نزل به ، أو
نازلةٍ حلَّت بالمسلمين دون تعطيلٍ له " .
قلت : وهذا من تناقضاتهم فمرة يوجبون جهاد الطلب على الفور ومرة
على التراخي ، ولو صح أن ذلك من جهاد الطلب الذي يمكن تأخيره لكان جهاد العدو
القريب أولى من جهاد البعيد فكيف يقول "
كما يجوز تأخيره لانشغال عسكر المسلمين بالفتوحٍ " .
وقد بين شيخ الإسلام أن انشغال عساكر المسلمين بالقتال جعلهم
محتاجين إلى من يقوم بأمور معاشهم ، ولذلك أبقوا اليهود ولم يخرجوهم ، لا كما قال
هذا الخارجي جعلهم ينشغلون عن جهاد الطلب ، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط
المستقيم (1/277) " وإنما لم ينفذه
أبو بكر رضي الله عنه – أي أمر النبي بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب -
لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه
فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم " .
وفي مجموع الفتاوى (28/89) قال " فلو أقام طائفة من هؤلاء
فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التى لا يقوم بها غيرهم فلما كان فى زمن عمر بن
الخطاب رضى الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم "
.
وهذا حكم عام لذلك قال عقب هذا " ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد
بن جرير الطبرى الى ان الكفار لا يقرون فى بلاد المسلمين بالجزية الا اذا كان
المسلمون محتاجين اليهم فاذا استغنوا عنهم اجلوهم كأهل خيبر وفى هذه المسألة نزاع
ليس هذا موضعه " .
وأما حديث عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ
الْعَرَبِ دِينَانِ " رواه أحمد ( رقم 25820)
فالمقصود به الاستيطان
وليس الإقامة إلى أمد محدد ، يدل على ذلك أن عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم
قال إنَّهُ سَمِعَ [89]
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَأُخْرِجَنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا
مُسْلِمًا "
وقد أخرجهم عمر في آخر خلافته ، ومع ذلك سمح للصنَّاع في أول
خلافته ، ففي صحيح البخاري [90]:
في قصة مقتل عمر قَالَ
" يَا ابْنَ عَبَّاسٍ انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ
فَقَالَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ قَالَ الصَّنَعُ قَالَ نَعَمْ قَالَ قَاتَلَهُ
اللَّهُ لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ
مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ
تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْعَبَّاسُ
أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ أَيْ إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا
قَالَ كَذَبْتَ بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ
وَحَجُّوا حَجَّكُمْ "
قال الحافظ : " رَوَى اِبْن سَعْد بِإِسْنَادٍ صَحِيح إِلَى
الزُّهْرِيّ قَالَ " كَانَ عُمَر لَا يَأْذَن لِسَبْيٍ قَدْ اِحْتَلَمَ فِي
دُخُول الْمَدِينَة , حَتَّى كَتَبَ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَهُوَ عَلَى
الْكُوفَة يَذْكُر لَهُ غُلَامًا عِنْده صَانِعًا وَيَسْتَأْذِنهُ أَنْ يُدْخِلهُ
الْمَدِينَة وَيَقُول : إِنَّ عِنْده أَعْمَالًا تَنْفَع النَّاس , إِنَّهُ
حَدَّاد نَقَّاش نَجَّار , فَأَذِنَ لَهُ " ، قلت وفيه رد على من فرق بين
الرقيق وغيره .
ويدل أيضاً على أن المقصود الاستيطان ما رواه ابن خزيمة في صحيحه [91]
عن جابر -رضي الله عنه - في قوله تعالى: "إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا
المسجد الحرام بعد عامهم هذا" الآية، [التوبة: 28] قال: "إلا أن يكون
عبداً أو أحداً من أهل الذمة " ، ولايمكن حمل أهل الذمة هنا على من كانوا
مستوطنين يؤدون الجزية ، فهذا اصطلاح عند المتأخرين ، بل المقصود أهل العهد المؤقت
، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/870) " صار في اصطلاح كثير من الفقهاء
أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية " .
وفي هذا يقول شيخنا ابن عثيمين رحمه الله - شرح صحيح مسلم (مخطوط):
- عندما سئل: هل يجوز استخدام العمال من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؟ فقال: " نعم يجوز ذلك ، لكن لا يجوز أن
يسكنوا ويكونوا مواطنين، هذا ممنوع في جزيرة العرب لكن إذا دخلوا في تجارة أو عمل
غير مقيمين دائماً فلا بأس"أهـ.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (28/634) " وقد أتفق المسلمون على ان ما بناه المسلمون من المدائن لم
يكن لأهل الذمة ان يحدثوا فيها كنيسة مثل ما فتحة المسلمون صلحاً وأبقوا لهم
كنائسهم القديمة بعد ان شرط عليهم فيها عمر بن الحطاب رضى الله عنة ان لايحدثوا
كنيسة فى أرض الصلح فكيف فى مدائن المسلمين بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق
ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها فان لهم أخذ تلك الكنيسة لئلا تترك فى
مدائن المسلمين كنيسة بغير عهد فان فى سنن أبى داود بإسناد جيد عن ابن عباس رضى
الله عنهما عن النبى صلى الله علية وسلم أنه قال (لا تصلح قبلتان بأرض ولا جزية
على مسلم ) والمدينة التى يسكنها المسلمون والقرية التى يسكنها المسلمون وفيه
مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها إلا
أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها
لكان للمسلمين أخذها لأن الأرض عنوة فكيف وهذه الكنائس محدثة أحدثها النصارى
"
وعلى كل حال فإن هذا الأمر من مهام ولي الأمر ولا يجوز الافتئات
عليه فيه كما سيأتي تحقيق ذلك ، وعلى ولي الأمر أن يراعي المصالح والمفاسد في ذلك
.
قال شيخنا ابن باز ( 3/285) " صح أن الرسول صلى الله عليه
وسلم قال : " لا يجتمع في الجزيرة
دينان " وصح عنه أيضا أنه أمر بإخراج
اليهود والنصارى من الجزيرة ، وأمر أن لا يبقى فيها إلا مسلم ، وأوصى عند موته صلى
الله عليه وسلم بإخراج المشركين من الجزيرة ، فهذا أمر ثابت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وليس فيه شك ، والواجب على الحكام أن ينفذوا هذه الوصية كما نفذها خليفة
المسلمين عمر رضي الله عنه بإخراج اليهود من خيبر وإجلائهم ، فعلى الحكام في
السعودية وفي الخليج وفي جميع أجزاء الجزيرة ، عليهم جميعا أن يجتهدوا كثيرا في
إخراج النصارى والبوذيين والوثنيين والهندوس وغيرهم من الكفرة وألا يستقدموا إلا
المسلمين ، هذا هو الواجب وهو مبين بيانا جليا في قواعد الشرع الحنيف . فالمقصود
والواجب إخراج الكفار من الجزيرة وأن لا يستعمل فيها إلا المسلمون من بلاد الله ،
ثم إن عليهم أيضا أن يختاروا من المسلمين ، فالمسلمون فيهم من هو مسلم بالادعاء لا
بالحقيقة ، وعنده من الشر ما عنده ، فيجب على من يحتاج إلى مسلمين ليستأجرهم أن
يسأل أهل المعرفة حتى لا يستقدم إلا المسلمين الطيبين المعروفين بالمحافظة على
الصلاة والاستقامة ، أما الكفار فلا يستخدمهم أبدا إلا عند الضرورة الشرعية ، أي :
التي يقدرها ولاة الأمر ، وفق شرع الإسلام وحده " .
فصل
في بيان حكم بعض نوازل العصر
لاشك إن نوازل العصر تطلق - عند أكثر الكتَّاب – على الأمور
المستجدة في حياة الناس والتي لم يذكر العلماء السابقون حكمها بعينها في كتبهم ،
ولكنني أردت هنا التنبيه على أن من نوازل العصر اضطراب الأقوال في هذه المسائل
التي سأذكرها وإن كانت أعيانها قد بحثت قديماً.
هذه المسألة من المسائل التي وقع
الناس فيها بين إفراط وتفريط ، إفراط الخوارج الذين لا يعذرون بالجهل
وتفريط المرجئة الذين يعذرون بالجهل مطلقاً ، فالمتفق عليه عند أهل السنة أنه لا
بد من إقامة الحجَّة ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة ، لذلك فمن الأمور المهمة في
بيان حقيقة الخلاف في مسألة أحكام الإيمان والكفر أن نعلم أن هنالك من يقرر هذه
الأحكام في العموم دون تقييد وبعضهم يقررها في حالة المعين فلا كفر عنده إلا بعد
بلوغ الحجة ولا كفر عنده إلا كفر الجحود . وهذا قول باطل إذا علمنا أن الحجة قد
تقوم ولو لم يجحدها المكلف كأن يقول ما فهمت أو يعرض عن سماعها كما سيأتي بيان ذلك
. بل نقول إن الحجة قد تقوم ولو لم تبلغ المكلف لأن شرط الرسالة كما في قوله تعالى
" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " هو التمكن وليس البلوغ كما سيأتي.
●وعلى كل حال فإن مسألة إقامة الحجة والعذر بالجهل من
المسائل التي كثر فيها الخلاف عند كثير من أهل العصر حتى إن من الباحثين في هذه
المسألة من حمَّل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب مالا
يحتمل فتجد بعضهم يقول إنهما يعذران بالجهل وآخرون يقولون إنهما لا يعذران بالجهل
والذي يظهر والله أعلم أن المسألة فيها دقة وذلك أنه لابد من التفريق بين إقامة
الحجة وبلوغ الحجة وكذلك فهم الحجة كما أنه ينبغي أن يلاحظ أن بعض العلماء ومنهم
أئمة الدعوة في نجد يفرقون بين الجهل و عدم إقامة الحجَّة ، لأنه ليس كل جاهل لم
تقم عليه الحجَّة كما أنهم يفرقون بين الأمور الظاهرة وأصول الدين ، فالظاهر عندهم
كل ما قامت عليه الحجَّة ويكفي في ذلك بلوغ القرآن وأما أصول الدين فمنها ما قامت
به الحجَّة على فئة معينة ومنها ما لم تقم ، فبينهما عموم وخصوص وجهي فالأمور الظاهرة
ما قامت عليه الحجَّة من أصول الدين وفروعه - إن صح التعبير - وهي التي تعلم
العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين الإسلام ، وهذا ملحظ مهم لا بد من التنبه
له حتى نفهم كلام أئمة الدعوة على الوجه الصحيح .
●فقول الله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً
" لا يعني ذلك أن من شرط الرسالة بلوغها إلى كل مكلف بل شرطها أن يتمكن
المكلف من العلم بها كما نبه على ذلك شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم (انظر
مجموع الفتاوى 28/125، تهذيب المدارج ص139) قال تعالى {فمالهم عن التّذكرة معرضين
، كأنّهم حُمُرٌ مستنفرة ، فرَّت من قسورة ، بل يريد كل امرئٍ منهم أن يؤتى
صُحُفاً منشّرة} فالأمر مبناه على التمكن ، قال تعالى {قل فلله الحجّة البالغة} أي
لمن أرادها وبحث عنها .
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب (الدرر 8/90) "
وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فان حجَّة الله هو القرآن فمن
بلغة القرآن فقد بلغته الحجَّة ، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام
الحجَّة وبين فهم الحجَّة فإن أكثر الكفار
والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجَّة الله مع
قيامها عليهم كما قال تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ
يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)
سورة الفرقان " (انظر أيضاً فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/73 , 12/ 190)
وفي الدرر (8/79) قال الإمام
في رد له على رجل يدعى ابن عبد الكريم " وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها
عليك فهي أغلظ من هذا كله ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم فإنه
صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجَّة فإن كان المعين لا يكفر
إلا إذا قامت عليه الحجَّة فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله
ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من
شيء يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجَّة بالقرآن مع قول الله
{ وجعلنا على قلوبه أكنة أن يفقهوه } "
●الأمر الآخر الذي يتعلق بهذه المسألة كون المسألة التي وقع
فيها الجهل من مسائل الدين الظاهرة كالتوحيد وغيره التي تعرف لكل من قرأ القرآن أم
من المسائل الخفية التي لا تعرف إلا بعد السؤال .
ويمكن تقسيم المسائل التي يقع فيها الجهل على النحو التالي :
القسم الأول : مسائل ظاهرة ودليلها ظاهر .
القسم الثاني : مسائل ظاهرة ودليلها خفي .
القسم الثالث : مسائل خفية ودليلها خفي .
القسم الرابع : المعلوم من الدين بالضرورة .
فأما القسم الأول والرابع وهو الذي يهمنا هنا ، ومنه أكثر الأحكام
المتعلقة بالتوحيد والشرك فإنه لا يعذر فيه أحد مادام أنه تمكن من قراءة القرآن
والأحاديث المتعلقة بتلك المسألة بلسان عربي مبين ولم يكن عنده معارض يعذر به كما
سيأتي (وانظر مجموع الفتاوى 3/231 )
وأما ما ذكره العلماء من اشتراط بلوغ الحجَّة للمكلف نفسه ، فهذا
يحمل على المسائل التي دليلها خفي وهي فروع الشريعة ( انظر مجموع الفتاوى 22/ 11)
.
يقول ابن القيم (تهذيب المدارج ص139) " حجة الله قامت على
العبد بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلوغ ذلك إليه وتمكنه من العلم به سواء علم أم
جهل فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه ، فقصر عنه ولم يعرفه
فقد قامت عليه الحجة فالله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجَّة "
وهذا النوع من مسائل العلم المذكور في القسمين السابقين قد قامت
علي المكلفين الحجَّة الرسالية فيه ، ولا عذر للمكلف في جهله لكونه لم يقرأ القرآن
أو الأحاديث المتعلقة بما جهله كما بيَّنا سابقاً ،ولا يقال هنا إنه ما وجد من
يحثه على البحث عن الحق لأننا نقول إن دافع الفطرة عنده الذي هو أثر الميثاق الذي
أخذه الله على بني آدم بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً كفيل بأن يدفعه إلى معرفة
الحق ولكن اتباع الهوى وحظوظ الدنيا ربما تغلب على دافع الفطرة .
قال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص412) :
" نعم لابد في هذا المقام من تفصيل يزول به الإشكال وهو الفرق
بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه .
والقسمان واقعان في الوجود فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند
الله وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً:
أحدهما : مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه
لعدم من يرشده فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة .
الثاني : معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه . فالأول
يقول يارب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ، ولكن
لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي .
والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ،
ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما
بينهما من الفرق ، فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد
استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان
لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض."
وأما فهم الحجَّة كفهم أبي بكر وعمر فانه ليس شرطاً في قيام الحجة
مادام لا يوجد مانع من جهة اللغة يمنعه من الفهم وما دام أنها واضحة لمن هو مثله .
ولبيان ذلك أقول إن الفهم نوعان :
نوع يحدث به استيعاب الألفاظ والمعاني وهذا شرط في إقامة الحجة ،
ونوع يحدث به اليقين ورد الشبه التي علقت بالقلب فهذا غير معتبر لأن الله أخبر عن المشركين
أنهم لم يبلغوا هذا الفهم كما قال تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ
يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ
الأَوَّلِينَ} (25) سورة الأنعام.
● وبمعرفة هذا القيد وهو التمكن من العلم يظهر لنا سبب حكم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبويه بالنار ، ومن ذلك مارواه مسلم [92]:
عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيْنَ أَبِي قَالَ فِي النَّارِ فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ إِنَّ أَبِي
وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " .
مع أنّهم ممن قال الله فيهم {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ
آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (6) سورة يــس.
فهؤلاء القوم الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان
منهم موحدون يدل على ذلك قصة زيد بن عمرو بن نُفيل وقد سبق ذكرها ، فدعوة التوحيد
كانت موجودة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى {وَجَعَلَهَا
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (28) سورة الزخرف.
وبهذا يظهر لك خطأ من عذر بالجهل مطلقاً أو لم يعذر به مطلقاً أو
من فرق بين أصل التوحيد وفرعه دون أن يلتفت إلى الضابط المذكور سابقاً والله أعلم
.
● والذي ينبغي التنبيه عليه أن الكافر إمّا أن يكون
كافراً معانداً كالمغضوب عليهم، الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه ، أو يكون كافراً
جاهلاً معرضاً أو مضلّلاً كالضالِّين الذي لبّس عليهم علماء السوء ، فليس كل كافر
يكون كفره عن علم وجحود للحق بل أكثر الكفار جُهّال ضلاّل، وإنما أوردهم النار
كفرهم بتقليد ساداتهم وكبرائهم ويحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً، كما قال تعالى {ربّنا
إنّنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ربّنا ءاتهم ضِعفين من العذاب
والعنهم لعناً كبيراً } فتأمل قولهم {فأضلّونا السبيلا} فهل عذرهم الله بذلك ،
الجواب : لا بل كثير من الكفار كما قال الله عنهم {يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً}
{ويحسبون أنّهم مهتدون} و{يحسبون أنّهم على شيء} . وهذا يؤيد قول بعض العلماء أنه لا
يشترط في التكفير أن يكون الواقع فيه عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو نحوه
. ( انظر شرح كشف الشبهات لشيخنا ابن عثيمين – رحمه الله - ، الدرر 8/105)
تنبيه :
ذهب بعضهم إلى أن الجاهل يعذر
في فروع الشريعة دون الأصول هكذا على الإطلاق واحتج بأخذ الميثاق على بني آدم قبل
خلقهم فلا يعذر عنده أحد في مسائل التوحيد والشرك لقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ
أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ }.
وهذه الآية قد أضطرب الناس في
تفسيرها وفي بيان المقصود بالميثاق وهل هو حجَّة أم لا ، وإذا كان حجَّة هل يترتب
على ذلك عذاب لمن خالف ولم يُرسل إليه رسول أو لم تبلغه دعوة رسول .
والصحيح من أقوال أهل العلم
كما جاء في التمهيد لابن عبد البر ، قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل
الأجساد، استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى}. فقال: انظروا
ألاَّ: {تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من
قبل وكنا ذرية من بعدهم} [93].
ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد في
مسنده والنسائي في كتاب التفسير من سننه، وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في
مستدركه ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه [94]،
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة
فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً قال؟ ألست
بربكم قالوا بلى شهدنا» .
وقد روى هذا الحديث موقوفاً
على ابن عباس. والصحيح رفعه وقد مال ابن كثير وابن أبي العز إلى القول بالوقف وقد
تكلفوا في حمل معنى الميثاق في الآية على الفطرة وأنه يؤخذ من ظهور آبائهم جيل بعد
جيل وليس وهم في ظهر آدم ، ولذلك قيل أن قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذريتهم} بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار .
والصحيح كما قال المباركفوري
في التحفة " أنه بدل بعض
{ذريتهم} بأن أخرج بعضهم من صلب
بعض من صلب آدم، نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم عرفة، ونصب لهم
دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً
وأشهدهم على أنفسهم) قال (ألست بربكم قالوا بلى) أنت ربنا
(شهدنا) بذلك (أن تقولوا)
أي لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا
كنا عن هذا) أي التوحيد (غافلين) " .
والمقصود إقرارهم بتوحيد
الربوبية ، وإلى المعنى الأول ذهب المعتزلة قال الرازي: أطبقت المعتزلة على أنه لا
يجوز تفسير هذه الآية بهذا الحديث لأن قوله من ظهورهم بدل من بني آدم. قالوا
فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، ولو كان
المراد الأخذ من ظهر آدم لقيل من ظهره .
● والجواب أن معنى الآية
أن الله أخذ بعض الذرية وهم كالذر من ظهر بعض ، والكل من ظهر آدم وبهذا تتفق الآية
والحديث الذي جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ
لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ
أَهْوَن مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ
إِلَّا الشِّرْك *
فالميثاق ثابت وهو من الحجج
التي يحتج بها الله على بني آدم لكن هذه الحجَّة لا يترتب عليها عذاب وعقاب لمن
خالف ،لأن الله يقول " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " وبهذه الآية قد
استدل ابن عباس وأبيّ على ذلك بعد أن ذكرا الميثاق . وليس المقصود بالعذاب في
الآية عذاب الدنيا فقط كما يظن بعضهم وإلا لكان معنى ذلك ، أن مخالفة الرسول الذي
أرسل بالبينات والحجج التي لا عذر لأحد في مخالفتها والإعراض عنها يكون عذابها
وعقابها دنيوياً وأما مخالفة الميثاق الذي لا يتذكره أحد كما قال تعالى { هو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون
شيئاً } يكون عقابه أخروياً في نار
جهنم ، هذا لا يقول به أحد يحتج بقوله ، لكن من رحمة الله أنه لم يجعل العقاب
الدنيوي وهو الاستئصال في الدنيا إلا بعد إقامة الحجة ببعث رسول كما قال تعالى {وما كان ربُّك مهلِكُ القرى حتى يبعث في أُمِّها
رسولاً يتلو عليهم ءاياتِنا} والله أعلم .
هذه أم المسائل التي يبني عليها خوارج العصر ، فسلفهم قال "
لا حكم إلا لله " أرادوا أن يبطلوا حكم العبد ولو لم يخالف حكم الله فرد
عليهم علي رضي الله عنه بقوله " كلمة حق أريد بها باطل " ، قال شيخ
الإسلام في وصف الخوارج الأولين (مجموع الفتاوى 13/208) " قالوا إن عثمان
وعلياً ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون فكفروا المسلمين بهذا وبغيره " ، وفي هذا العصر قالوا بكفر من
حكم بغير ما أنزل الله على الإطلاق فلما تنبهوا أن مذهبهم هذا يلتقي مع مذهب
الخوارج الأولين ، حصروا الحكم في القضاء .
والصحيح أن من عصى الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيلزم من كفر
الحاكم بغير ما أنزل الله في القضاء بدون قيد أو شرط أن يكفر مرتكب الكبيرة بدون
استحلال وهذا مذهب غلاة الخوارج ، وقد سبق الرد عليهم .
فالمعصية حكم بغير ما أنزل الله ، كما أن البدعة حكم بغير ما أنزل
الله ، كما قال الامام الشاطبي رحمه الله
تعالى في الاعتصام والإمام ابن حزم رحمه الله في الفصل فمن كفَّر بالحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً
لزمه التكفير بالبدعة ومعاصي الشهوات التي هي دون الكفر بالاتفاق وخوارج العصر على
صنفين : صنف التزم بهذا وكفر بجميع الذنوب وقد سبق الرد عليهم ، وصنف راوغ وأوّل ،
ومهما يكن فهذا لازم مذهبه شاء أم أبى ، ولولا أن لازم المذهب ليس بلازم اعتقاداً
لألحقناه بالصنف الأول ، وعلى كل حال فإن كلامي في هذه المسألة والذي أعتقده منذ
زمن واستفدته من إمامي العصر شيخنا ناصر الدين الألباني وشيخنا عبد العزيز بن باز
رحمهما الله قد عرضته على شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله فوافقني عليه وعليه خطه
ولم أكن أرغب في نشره إلا بعد أن رأيت بعض إخواننا من طلبة العلم السلفيين قد
افترقوا إلى قسمين قسم تأولوا كلام المشايخ المذكور قولهم في القسم الثالث مما يلي
، وأرادوا أن يوفقوا بينه وبين قول الشيخ الألباني والشيخ ابن باز فانتُقدوا من
العلماء بل واتُهموا ، وقسم وقعوا في هؤلاء المشايخ وظنوا أنهم على مذهب الخوارج
بل بلغ بهم الخيال - والحمد لله على العافية – أن هؤلاء العلماء أرادوا بفتواهم الأخيرة الطعن في الدعوة التي
يتبناها بعض رموزهم .
والذي ينبغي أن أشير إليه أنني لم أقرر " إجماع أهل السنة على
عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي كسائر
المعاصي التي دون الكفر " كما قرر غيري وقد انتقدت اللجنة الدائمة هذا الأمر
عليه ، وإن كان في حقيقة الأمر أنه توصل إلى هذه النتيجة باللازم .
ولم أتهم علماء اللجنة الدائمة بأنهم على قول الخوارج – والعياذ
بالله - كما فعل غيري .
بل الجديد في الموضوع إن صح أن أسميه جديداً :
أنني قسمت الخلاف في هذه المسألة إلى أربعة أقسام ، فالقسمان
الأولان جعلتهما من أقوال الخوارج وإن أحمرت أنوف .
والقسمان الأخيران جعلتهما من أقوال أهل السنة وإن غالط مغالط ،
فهما في اعتقادي بعد تحرير الفرق بينهما بين راجح نعتقده و نفتي به ومرجوح نعتذر
لصاحبه ، وهنالك حاله لم أذكرها لوضوح أمرها وهي الحكم بالكفر على من نحى الشريعة
الإسلامية بالكامل حتى أنه لم يذكرها في مصادر التشريع فهذا في حقيقة الأمر نحى
الإسلام والعياذ بالله .
وبينت حقيقة الإجماع المنقول عن ابن كثير وشيخه شيخ الإسلام في
الياسق و لم أرد هذا الإجماع بقولي ، إن التتار عندهم مكفرات غير الحكم بالياسق
كما فعل غيري ، وقد أنكر عليه العلماء .
كما أنني رددت على شبهتين لخوارج العصر ممن حشرتهم في القسم الثاني
، الأولى تتعلق بمدى منافاة الحكم بغير ما أنزل الله للتوحيد بأقسامه الثلاثة أوحى
بها إليهم صاحب كتاب الجامع في طلب العلم والثانية تتعلق بالإجماع الذي نقله
العلماء الأثبات في مسألة التشريع العام .
وألخص كلامي في النقاط التالية :
أولاً) قوله تعالى "
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، المقصود بالكفر هنا الكفر
الأصغر كما ذهب إلى ذلك ابن عباس وطاوس ومجاهد وأحمد وجمع من السلف وليس لهم مخالف
عند التحقيق ، كما سيأتي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (3/268) في تفسير
قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة
44): " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " أ.هـ
وفي مجموع الفتاوى (7/329) ذكر شيخ الإسلام : عن الشالنجى إسماعيل
بن سعيد أنه سأل أحمد بن حنبل عن قوله تعالى (
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : فقلت له ما هذا
الكفر فقال "كفر لا ينقل عن الملَّة مثل الإيمان بعضه دون بعض وكذلك الكفر
حتى يجئ من ذلك أمر لا يختلف فيه ".
قال ابن عبد البر كما في
التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر" وأجمع العلماء على أن الجور في
الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال
الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( الظالمون ) و (
الفاسقون ) نزلت في أهل الكتاب ، قال حذيفة و ابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا
ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر " .
فهذا إجماع أهل العلم على أن الحكم بغير ما أنزل الله من الكبائر[95]
، والمتأمل في كلام السلف في هذه المسألة لا يجد ما يخالف هذا الاجماع بل قد صرح
جمع من المفسرين ، بأنه لم يخالف في ذلك إلا الخوارج .
وابن القيم رحمه الله بعد أن عرض أقوال الناس في هذه المسألة قال
" والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم
" .
قلت : وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة بل في جميع
الكبائر ، واشتراط الاستحلال في الكفر الأصغر يمضي على جادة طريقة أهل السنة
والجماعة ، فتنبه [96].
وبهذا تعلم أن ما أثر في هذه المسألة من أقوال للسلف فإن مرده إلى
قول واحد وإنما الاختلاف حسب حال الحاكم .
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ( 1 / 336):
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
المائده 44
1- قال ابن عباس ليس بكفر
ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكذلك قال طاووس
وقال عطاء هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق .
2- ومنهم من تأول الآية
على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن نفس
جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم .
3- ومنهم من تأولها على
ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا
تأويل عبد العزيز الكناني وهو أيضاً بعيد إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل وهو
يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه .
4- ومنهم من تأولها على
الحكم بمخالفة النص تعمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن
العلماء عموماً .
5- ومنهم من تأولها على
أهل الكتاب وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما وهو بعيد وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يصار
إليه .
6- ومنهم من جعله كفراً
ينقل عن الملة .
والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر
بحسب حال الحاكم…" ا.هـ
فالأقوال السابقة كما ترى لا تنافي القول بأن الحكم بغير ما أنزل
الله كفر أصغر وقد يكون كفراً أكبر بحسب حال الحاكم مثله مثل باقي الكبائر ، ومثله
قول شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 3/267) " والإنسان متى حلل الحرام المجمع
عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً
باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله - على أحد القولين [97]
– (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) أي هو المستحل للحكم بغير ما
أنزل الله " فهذا المذكور في كلامه أحدهما والآخر أنه كفر دون كفر وهو المروي
عن ابن عباس رضي الله عنهما [98]
.
وأما جعل الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر الأكبر مطلقاً فهو قول
الخوارج يدل على ذلك سبب نزول الآية فقد جاء عند مسلم [99]
مايبين حال من نزلت فيهم الذين قالوا " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن
أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ( ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) " :
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا فَدَعَاهُمْ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي
كِتَابِكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ
أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا
تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ قَالَ لَا وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي
بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ نَجِدُهُ الرَّجْمَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا
فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ
أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ قُلْنَا تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ
نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ
مَكَانَ الرَّجْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ فَأَمَرَ بِهِ
فَرُجِمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ أُوتِيتُمْ
هَذَا فَخُذُوهُ يَقُولُ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ
فَاحْذَرُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا .
فتأمل قولهم " نَعَمْ " وقول الحبر " وَلَوْلَا
أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ " فقد جعلوه عند أتباعهم ديناً
كباقي الشرائع المنصوص عليها في كتابهم ، وبهذا النص وغيره تفهم معنى التبديل الذي
أراده العلماء ويظهر لك ضابط الحكم بالخروج من الملة لمن حكم بغير ما أنزل الله .
قال الإمام إسماعيل بن
اسحاق القاضي " فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي اليهود ) واقترح حكماً يخالف به
حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان
أو غيره " [100].
وأما ما جاء في سنن النسائي عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : "
الْقَاضِي إِذَا أَكَلَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ وَإِذَا قَبِلَ
الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ".
وفي سنن الدارمي عَنْ طَاوُسٍ وَسَعِيدٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ
وَيَقُولُونَ هُوَ الْكُفْرُ *
فالمقصود بالكفر هنا أي الأصغر أو أنها تؤدي إلى الكفر الأكبر ،
وعلى هذا يحمل الأثر السابق عن مسروق ، وما جاء في معناه كالذي أخرجه ابن جرير عن
ابن مسعود أنه سئل عن الرشوة " قال هي سحت فقيل له الرشوة في الحكم قال ذاك
الكفر " .
وكثيراً ما رأينا خوارج العصر يدندنون حول هذا الأثر لورود لفظ
الكفر فيه ومع أنهم يقرون بأن لفظ الكفر قد يأتي في كلام الشارع بمعنى الكفر
الأصغر إلا أنهم هنا يأبون ، وهذا شيخ الإسلام عندما ذكر أثر ابن مسعود فهم منه
أنه قصد الأصغر ، قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 31/286) " وسئل ابن مسعود
عن السحت فقال هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدى لك هدية فتقبلها فقال له أرأيت إن
كانت هدية فى باطل فقال ذلك كفر (ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون)
ولهذا قال العلماء إن من أهدى هدية لولى أمر ليفعل معه ما لا يجوز كان حراماً على
المهدى والمهدى إليه وهذه من الرشوة التى قال فيها النبى لعن الله الراشى والمرتشى
والرشوة "
وبهذا يظهر خطأ من عدَّ
هذا قولاً آخر للسلف في تفسير الكفر المذكور في الآية ، وإنما هو من باب التغليظ ،
و إلا نكون قد نسبنا إلى هذا الصحابي الجليل القول بكفر من حكم بغير ما أنزل الله
في الواقعة المعينة ، ونكون قد خالفنا الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر ، وليس في
هذا الأثر اشكال إذا عرفنا مذهب أهل السنة في نصوص الوعيد وأن الخوارج خالفوهم
فعظموا الوعيد وبنوا على الاطلاقات كما سبق تفصيل ذلك .
ثانياً) تخريج أثر ابن عباس في تفسير آية الحكم .
فقد جاء من طريق سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس قال
" إنه ليس الكفر الذي يذهبون إليه ( أي الخوارج ) إنه ليس كفراً ينقل عن
الملة ، كفر دون كفر "
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين كما قال شيخنا الألباني (انظر السلسلة الصحيحة 6/113)
وهشام بن حجير وإن كان قد ضُعف إلا أنه من رجال الصحيحين وقد وثقه
ابن حبان والعجلي وابن سعد والذهبي وكفى بتوثيق ابن حبان فإنه إمام في هذا الشأن
وقد يظن بعضهم أن ابن حبان لا يعتمد على توثيقة لأنه رمي بالتساهل والصحيح أن ابن
حبان أخذ عليه تساهله في توثيق المجاهيل فتنبه ، وفي المسألة تفصيل ليس هذا محله
وإلا فهو من الأئمة المتقدمين المعتمد كلامهم في هذا الشأن .
وقد روى الطبري بإسناد صحيح عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه
عن ابن عباس " هي به كفر - وليس
كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله " وقد جاءت الزيادة الأخيرة من كلام طاوس
رواها عبد الرزاق عن معمر به .
ولا يعد هذا اختلافاً فقد رواها معمر مرة من كلام ابن عباس ومرة من
كلام طاوس وطاوس تلميذ ابن عباس ولو لم تثبت إلا عن طاوس لكفى ، ويؤيد هذا أنها
جاءت أيضاً من طريق عبد الرزاق عن ابن عباس قال شيخ الإسلام (7/327) " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبدالرزاق عن سفيان
عن رجل عن طاووس عن ابن عباس قال كفر لا ينقل عن الملة " ولو أعللنا رواية سفيان برواية عبد
الرزاق لم يبق لنا حديث سالم من العلة إلا القليل فلا تلتفت إلى كلام بعض المتعالمين
من الطاعنين في السنة باسم منهج المتقدمين ومنهج المتقدمين منهم براء ، ( راجع
كتاب النصيحة لشيخنا الإمام الألباني رحمه الله ) .
ثالثاً) الاختلاف في هذه المسألة يمكن تقسيمه إلى أربعة أقسام كما
سيأتي ، لكن أحب أن أذكِّر قبل ذلك ، أن الحاكم بغير ما أنزل الله قد يقع في بعض
المكفرات التي تخرجه من الملة غير الحكم بغير ما أنزل الله فينبغي أن يتنبه لذلك
لأن بعض الكتاب يتخذ ذلك ذريعة لتحريك العواطف في إثبات أن الحكم بغير ما أنزل
الله كفر أكبر على الإطلاق ، فيقول هؤلاء الحكام يحاربون الدين ، و يزينون الكفر
والشرك للناس ويبنون على الأضرحة و يشجعون زيارة الأولياء والطواف بقبورهم وطلب
الحوائج منهم وغير ذلك من الكفر الأكبر الذي لا خلاف فيه . فهذا شيء ومسألة الحكم
بغير ما أنزل الله شيء آخر فتنبه ، وليس بخاف أن هذا دأب أهل الأهواء ، كما يقال
" الصيد في الماء العكر ." ، والعجيب أن بعض الذين كتبوا في هذه المسألة
من أهل الأهواء يستشهدون بأقوال من كتب في هذه المسألة ووافق رأيه رأيهم فيعدون
هذا اتفاقاً أو إجماعاً وهذه طريقة جديدة في دعم الحجة اخترعها أهل هذا العصر وإن
شئت فقل خوارج العصر ، وإلا كما هو معروف فإنه يمكن أن يقتنع بفكرة ما ، عدد من
الكتاب فهل يقال إنه كلما زاد عدد الكتاب في تقرير مسألة ما ، كان ذلك علامة على
إصابة الحق ، هذا لا يقول به عالم وإنما الذي يستأنس به هو أقوال المجتهدين
المشهود لهم بالعلم والسير على منهج السلف الصالح ، كما أن الغرض من ذكر هذه
المسألة الرد على الخوارج الطاعنين في علماء أهل السنة ورميهم لهم بالإرجاء لكونهم
لم يوافقوهم في تكفير الحكام على الإطلاق ، وليس المقصود بحال من الأحوال الدفاع
عن الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، هذا المنكر العظيم الذي بلي به كثير
من الحكام في هذا الزمان ، فإن الظن بكثير منهم أنهم يقاتلون في سبيل ياسقهم كما
أشار إلى ذلك شيخنا الإمام ابن باز كما سبق في المناظرة ، فنسأل الله أن يردهم إلى
الحق رداً جميلاً وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل
معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما لا يفوتني أن أنبه أن بعض من كتب
عن هذه المسألة بنى أحكامه على صور الحكم بغير ما أنزل الله وبعضهم بناها على صور
من تحاكم إلى الطاغوت ، وإنما أردنا هنا بيان صور الخلاف في هذه المسألة بين أهل
العصر ، وإليك أقسام الخلاف في هذه المسألة .
فالقسم الأول) هل قوله
تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " يراد به الكفر
الأصغر أم الأكبر .
والصحيح وهو الذي عليه اتفاق السلف ، أن المراد بالكفر هنا الأصغر
، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج ، وقد أشار إلى ذلك جماعة من العلماء منهم الإمام
الآجري في الشريعة والإمام ابن عبد البر في التمهيد والجصاص في أحكام القرآن
والقاضي أبو يعلى في مسائل الإيمان وأبو حيان في تفسيره البحر المحيط والقرطبي في
كتابه الجامع ، ونقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك وقد سبق تفصيل ذلك .
القسم الثاني ) هل هناك
فرق من جهة الحكم بين القضية المعينة والتشريع العام ، ولاحظ أنني قلت فرق من جهة
الحكم وإلا فإنه لا شك أن هنالك فرقاً ، لكن ليس كل فرق معتبراً .
فقد ذهبت طائفة إلى أن
القول السابق الذي قال به أهل السنة ومنهم ابن عباس إنما يقال في الواقعة المعينة
وأما التشريع العام فهو كفر أكبر بذاته وهذا قول مخترع ، وافق فيه أصحابه الخوارج
، وسيأتي بيان أن حجَّة أصحاب هذا القول بعض النصوص والقواعد العامة والرد عليهم
وعلى شبههم يحتاج إلى مؤلف وسيأتي ملخص الرد ، وقد تولى كبر هذا القول صاحب كتاب
ضوابط التكفير وكتاب الحكم بغير ما أنزل الله .
القسم الثالث) وهو من أقوال أهل السنَّة المعاصرين حيث قالوا ، إن
تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً قرينة على الاستحلال القلبي ولو قال حكم الشرع
أحسن ، وهم لا يجعلون هذا قاعدة مطردة كما في بعض المكفرات الأخرى بل إن حقيقة
قولهم أن هذه قاعدة أغلبية ، أن مجرد
تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً يعد قرينة على الاستحلال القلبي ولذلك تجدهم
عند التعيين يتوقفون في إطلاق الكفر مع علمهم بتوفر الشروط وامتناع الموانع ، ومن
ذلك قول بعض العلماء " من نحَّى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي
بديلاً عنها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن من الشريعة " ، ومثله
" وفي ظني أنه لا يمكن لأحدٍ أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد
الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي " .
القسم الرابع ) الذين لا
يفرقون بين القضية المعينة ووضع قانون أو مجموعة من القوانين المخالفة لما أنزل الله
من جهة الحكم وإلا فالفرق حاصل ، لكن ليس كل فرق معتبراً ، فيشترطون في كل ذلك
الجحود أو الاستحلال وفي مقدمتهم شيخنا ناصر الدين الألباني وشيخنا عبد العزيز بن
باز ، وهو قول أئمة الدعوة وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه فدعني من بنيات الطريق .
قلت : وأما مايتعلق بدلالة بعض الأفعال على الاستحلال الاعتقادي
فهي فيما أرى مسألة اجتهادية ، وقد قال بها بعض مشايخنا ، ولا ينكرها على الإطلاق
إلا من تأثر بلوثة الإرجاء ، قال شيخ الإسلام (35/388) " فإن الحاكم إذا كان
ديِّناً لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق
الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل
النار وهذا إذا حكم فى قضية معينة لشخص وأما إذا حكم حكما عاما فى دين المسلمين
فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر
معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر
يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين" ، مع أن شيخ الإسلام
يقيد الحكم بسوالف البادية بالاستحلال ، قال رحمه الله في منهاج السنة (5/130)
" ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن
استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر
فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل في دينها ما رآه
أكابرهم بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله
سبحانه وتعالى كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أن هذا هو الذي ينبغي
الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا
لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون فهؤلاء إذا عرفوا
أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف
ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا " .
لكن الذي ننكره جعل ذلك قاعدة مطردة حتى قال بعضهم " كلمة
(الاستحلال) لا تدل على اعتقاد حل محرم ، إلا بحسب الاصطلاح أما فى اللغة بل وفى
كلام الشرع فإن المستحل هو المستمرئ للحرام الذى لا يعبؤ بالتحريم ولا يبالى به
" ، ثم رتب على ذلك أن كفَّر بالاستحلال العملي كالاعتقادي .
وبعضهم قوَّل شيخ الإسلام أنه
يكفر بمجرد الاستحلال العملي حيث قال "
ليعلم أن شيخ الإسلام – رحمه الله – يطلق الاستحلال ويعني به: تارة اعتقاد
حل المحرم وتارة يعني به عدم التزام التحريم ، وإن كان يعتقد التحريم
حيث قال – رحمه الله – في "الصارم المسلول" ص522 :
( وبيان هذا أن من فعل المحارم
مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق ، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ، وكذلك لو
استحلها من غير فعل ، والاستحلال اعتقاد [101]
أن الله لم يحرمها ، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها ، وهذا يكون لخلل في الإيمان
بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة ، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة ، وتارة
يعلم أن الله حرمها ، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ، ثم يمتنع عن التزام
هذا التحريم ، ويعاند المُحَّرِّم ، فهذا أشد كفراً ممن قبله ، وقد يكون هذا مع
علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذَّبه. ثم إن هذا الامتناع والإباء
إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته ،
وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس ، وحقيقته كفر ؛
][102] هذا لانه يعترف لله ورسوله بكل ما اخبر به ويصدق بكل ما يصدق به
المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ويقول انا
لااقر بذلك ولا التزمه وابغض هذا الحق وانفر عنه [ ، فهذا [103]
(أي الامتناع عن التزام التحريم ) نوع غير النوع الأول ( أي : اعتقاد حل المحرم )
وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع
؛ بل عقوبته أشد ) انتهى كلامه رحمه الله ، فقوله – رحمه الله – ( وتارة يعلم أن
الله حرمها ، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرم الله ، ثم يمتنع عن التزام هذا
التحريم ، ويعاند المحرم ، فهذا أشد كفراً ممن قبله .. الخ كلامه – رحمه الله –
يدل دلالة قاطعة على أن هذا – اعني الامتناع عن التزام التحريم – من معاني
الاستحلال عند شيخ الإسلام ، فجَعْلُ الاستحلال في كلام شيخ الإسلام منصرفاً
بإطلاق إلى اعتقاد حل الحرام تحكم بلا دليل ويعرف مقصود شيخ الإسلام بالاستحلال من
سياق الكلام ، فإذا عرفت هذا زال عنك أشكال كبير في فهم كلام شيخ الإسلام
- رحمه الله – في هذا الموضع وفي غيره إن
شاء الله ، انتهى كلام الكاتب .
قلت : المفهوم من السياق والسباق أن شيخ الإسلام قصد بقوله "
فهذا نوع غير النوع الأول " أي فهذا الامتناع عن التزام التحريم نوع غير
الاستحلال ، لا كما فهم الكاتب هداه الله .
يدل على ذلك قوله في أول المبحث " الوجه الثالث إن العبد إذا
فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا
ليس بكافر فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا
التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحدا أو معاند " فسماه جاحداً أو
معانداً ثم ذكر أن معاندته تلك تنافي تصديقه بالربوبية ، ثم قال " وبيان هذا
أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق ، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل
محارمه ، وكذلك لو استحلها من غير فعل ، والاستحلال اعتقاد انها حلال له وذلك يكون
تارة باعتقاد ان الله احلها وتارة باعتقاد ان الله لم يحرمها ، وتارة بعدم اعتقاد
أن الله حرمها " فكلامه السابق عن
الاستحلال بجميع صوره ثم بين أن ذلك إنما يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في
الإيمان بالرسالة ، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة ، ثم شرع يذكر نوعاً آخر
من أنواع الكفر غير الاستحلال ، وهو عدم الالتزام ، فقال " وتارة يعلم أن الله حرمها ، ويعلم أن الرسول
إنما حرم ما حرمه الله ، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ، ويعاند المُحَّرِّم ،
فهذا أشد كفراً ممن قبله " ثم شرع يبين أن هذه المعاندة وعدم الإقرار
والالتزام إنما حصل " لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم
التصديق بصفة من صفاته ، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً
لغرض النفس ، وحقيقته كفر ؛ هذا لانه يعترف لله ورسوله بكل ما اخبر به ويصدق بكل
ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه
ويقول انا لااقر بذلك ولا التزمه وابغض هذا الحق وانفر عنه " ثم قال رحمه
الله " وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير
مثل هذا النوع " .
فهل هذا الذي يكون معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن
مملوء من تكفير مثله يحتاج إلى استنباط وتكلف من الكاتب حتى يقنعنا أن شيخ الإسلام
إنما أراد به الاستحلال العملي ! .
وهل هذا الذي يكون معلوماً
بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير مثله هو مجرد التزام الترك
لآحاد الواجبات حتى يحتج به بعضهم على كفر تارك الزكاة ، وغيرها من الفرائض .
قلت : والصحيح أن هنالك فرقاً بين عدم الانقياد أوالتزام الترك لجنس العمل وبين التزامه لآحاد
الواجبات فأهل السنة يكفرون بالأول خلافاً للمرجئة ، دون الثاني خلافاً للخوارج ، إلا الصلاة فقد
جاءت النصوص الصريحة الدالة على كفر تاركها ونقل الإجماع في ذلك .
رابعاً) معنى التبديل في كلام شيخ الإسلام وغيره من العلماء .
قال شيخ الإسلام ( 3/267) " والإنسان متى حلل الحرام المجمع
عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً
باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله - على أحد القولين – (ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون ) أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ، ولفظ الشرع
يقال في عرف الناس على ثلاثة معان :
1)
الشرع المنزل وهو ما جاء به الرسول وهذا يجب اتباعه ومن
خالفه وجبت عقوبته .
2)
والثاني الشرع المؤول وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب
مالك ونحوه فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به
ولا يمنع عموم الناس منه .
3)
والثالث الشرع المبدل وهو الكذب على الله ورسوله أو
على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين ، فمن قال إن هذا من شرع الله فقد
كفر بلا نزاع كمن قال إن الدم والميتة حلال ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك "
أ.هـ
فتأمل قوله " فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع
" ، يظهر لك الجواب على خوارج العصر حينما يجادلون أهل السنة بقولهم : كيف
نعرف أن الحاكم قد استحل على قولكم !!.
خامسا) قول أئمة العصر :
أولاً ) قول شيخنا إمام العصر عبد العزيز ابن باز –رحمه الله-
وأقواله في هذا الباب كثيرة مشهورة منها [104]:
سئل سماحته : هل تبديل القوانين يعتبر كفراً مخرجاً من الملة ؟
فأجاب –رحمه الله-: [إذا استباحه . إذا استباحها يعتبر كافراً كفراً أكبر ، أما
إذا فعل ذلك لأسباب خاصة من أجل الرشوة ، أو من أجل إرضاء أشخاص ، ويعلم أنها
محرمة فإنه يكفر كفراً دون كفر . أما إذا فعلها مستبيحاً يكون كفراً أكبر . أي إذا
استحل الحكم بقانون بغير الشريعة فإنه يكون كافراً ، أما إذا فعلها لأسباب مثل
الرشوة أو العداوة ، أو من أجل إرضاء بعض
الناس ، و ما أشبه فإن ذلك يكون كفراً دون كفر ، وهذا الحكم يشمل جميع الصور ،
وسواء التبديل و غير التبديل ، ويجب على ولي الأمر أن يمنع ذلك وأن يحكم بشرع الله
.
ثم سئل سماحته : هل هناك فرق بين التبديل وبين الحكم في قضية واحدة
؟! يعني فيه فرق في هذا الحكم بين التبديل ككل والحكم في قضية واحدة ؟ التبديل يا
شيخ ؟
فقال سماحتة – رحمه الله - : [إذا كان لم يقصد بذلك الاستحلال ،
وإنما حكم بذلك لأجل أسباب أخرى يكون كفراً دون كفر ، أما إذا قال : لا حرج بالحكم
بغير ما أنزل الله ، وإن قال الشريعة أفضل ، لكن إذا قال ما في حرج مباح يكفّرُ
بذلك كفراً أكبر سواءٌ قال إن الشريعة أفضل ، أو مساوية ، أو رأى أفضل من الشريعة
كله كفر . ].
ثم سئل: يعني هذا الحكم يشمل التبديل وعدم التبديل يعني يشمل كل
الأنواع ؟فقال سماحتة – رحمه الله- : جميع الصور في جميع الصور . لكن يجب أن يمنع
، ويجب منع ذلك ، وهو كفر دون كفر ولو قال ما قصدت ولو قال ما استحليته بيني وبين
فلان عداوة أو رشوة يجب أن يمنع ، فلا يجوز لأحد أن يحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً
، ولو كان بينه وبين المحكوم عليه عداوة أو لأسباب أخرى يجب المنع من ذلك يجب على
ولي أمره أن يمنعه من ذلك ، وأن يحكم بشرع الله . ].
ومن ذلك قوله [105]" لا إيمان لمن اعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير
من حكم الله ورسوله ، أو تماثلها وتشابهها ، أو أجاز أن يحل محلها الأحكام الوضعية
والأنظمة البشرية ، وإن كان معتقداً بأن أحكام الله خير و أكمل و أعدل "
فكلام الشيخ ابن باز –رحمه الله- ظاهر في أنه لا يرى الحكم
بالقوانين الوضعية كفراً مخرجاً من الملة على الإطلاق ، بل لابد من الاستحلال ،
ومثله ما صدر عن الشيخ الألباني ووافقه عليه الشيخ ابن باز رحمهما الله .
ثانياً ) قول أئمة الدعوة المتقدمين :
قال الشيخ العلاّمة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله –
وهو يتحدث عن شبه الخوارج : " أن جميع الأحكام الشرعية إذا صدرت عما في
الكتاب والسنة فهما الحاكمان، ولا ينسب الحكم إلى الرجال إلا بقيد ، وجاءت السنة
بأن الطاعة في المعروف، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات والمستحبات. وإنما
يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام
اليونان والافرنج والتتر قوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف
البادية وعاداتهم الجارية، فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو
كافر، قال - تعالى -: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وهذه الآية
ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا
أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك ، ولكنهم لا
ينازعون في عمومها للمستحل ، وأن كفره مخرج عن الملة.." ا. ه (منهاج التأسيس
والتقديس، ص: 70 طبعة الهداية 1407 ، ص53 طبعة 1366 بتصحيح الفقي).
قال الشيخ سليمان بن سحمان في إرشاد الطالب (ص9 ، مطبعة المنار
1340هـ) " ينبغي أن يعلم أن من تحاكم إلى الطواغيت أو حكم بغير ما أنزل الله
واعتقد أن حكمهم أكمل و
أحسن من حكم الله ورسوله فهذا ملحق بالكفر الاعتقادي المخرج من الملة كما هو مذكور
في نواقض الإسلام العشرة ، وأما من لم يعتقد ذلك لكن تحاكم إلى الطاغوت وهو يعتقد
أن حكمه باطل فهذا من الكفر العملي " .
قلت : والتحاكم إلى الطاغوت في عصر الشيخ كان متمثلاً في التحاكم
إلى سوالف الجاهلية وهي قوانين وضعيه اتفق عليها بعض البدو وفرضوها على قبائلهم .
قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله في منهاج أهل الحق والاتباع ( ص9 ،
مطبعة المنار 1340هـ) : " ثم بعد ذلك أنثلت ولاية آل سعود ثم صار الأمر بعد
ذلك لآل الرشيد وحصل من أهل نجد إعراض عن الدين وضعف أمر الإسلام منهم حتى غلب على
أكثرهم الجهل ونسيان ما كانوا عليه أولاً فنبذوا شرع الله وراء ظهورهم وصاروا
يتحاكمون إلى الطواغيت وسوالف الآباء والأجداد " .
سادساً) تعلق مسألة الحكم بأقسام التوحيد الثلاثة :
قال بعضهم في كتاب له بعنوان الحكم بغير ما أنزل الله [106]:
إن التشريع حق لله وحده وأن من شرَّع فإنه يلزمه أمران : رفض شريعة
الله إذ لو لم يرفضها لما استبدل بها غيرها والثاني أنه تعدى على حق من حقوق الله
وأن ذلك ينافي التوحيد بأقسامه الثلاثة .أ.هـ
وهذه الشبهة ليست جديدة
وفيما يظهر أنه قد تلقفها عن غيره - يدل على ذلك مواضع في رسالته ليس هذا محل
بسطها ولا محل بيان ما في تلك الرسالة من تناقض وتدليس واضح .
وقبل الجواب عن هذه الشبة أحب أن أنبه على أن كلامنا هنا منصب على
مسألة وضع حكم مخالف لما أنزل الله –كما في بعض القوانين التجارية مثلاً – لأننا
نعرف من الواقع أن بعض الحكام قد يقننون أو يتحاكمون إلى فقرات في قانونهم الوضعي
لا يختلف إثنان أنها من الكفر الأكبر فهذه مكفرات أجنبية عن مسألتنا التي نريد أن
نبحثها.
فنقول رداً على أصل تلك
الشبهة : لا شك أن الحكم بما أنزل الله له تعلق بأقسام التوحيد الثلاثة ،
فكون الله هو الحاكم وله الحكم فهذا يدل
على توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية وكون أن العبد مأمور بالتحاكم إلى
شريعة الله فهذا يدل على توحيد العبادة وهو توحيد الألوهية لكن الذي ينبغي التنبيه
عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله
ليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر لأمرين:
الأول ) ليس كل تشريع
يخالف أحكام الشريعة ، فإذا كان المقصود بالتشريع ما يتعبد به بحيث يكون فيه
تحليلٌ للحرام وتحريمٌ للحلال ، فهذا لا يكون إلا لله فمن أعطى هذا الحق لغير الله
فقد أشرك مع الله ، وشركه هذا متعلق بالربوبية والأسماء والصفات وهو من الأكبر
بالإجماع . أما من شرع قانوناً - كبعض قوانين المرور مثلاً - تدعو إليه المصلحة
فهل يقال أنه قد شارك الله في صفة وفعل اختص الله به وهل يقال لمن قبل مثل هذا
القانون وعمل به أنه قد أعطى مخلوقاً حق التشريع من دون الله . ولا يقال هنا أن
هذا ليس فيه مخالفة لحكم الله كما قرر الكاتب لأننا سنقول أن الخلاف حول التشريع
ذاته وليس حول كونه مخالفاً أم موافقاً ولكن نقول تنزلاً مع الخصم ما الدليل على
أنه إذا كان مخالفاً فإنه كفر و إذا لم يكن مخالفاً فإنه ليس كفراً ، لن يستطيع
المخالف أن يجد دليلاً على ذلك إلا وفيه القيد السابق، إذاً المسألة فيها تقييد
لابد من التنبه له فرجع الأمر حينئذ إلى التحليل والتحريم أو الجحود كما جاء في
كلام من عاصروا مثل هذه الوقائع من أئمة العصر .
وأقوى ما استدل به الكاتب على قوله ، أنه زعم أن المسألة مجمع عليها فحينئذ
كل من وضع تشريعاً عاماً مخالفاً لما أنزل الله أو حكَّمه فهو كافر خارج من الملة
بمجرد الفعل .
وسيأتي بيان حقيقة هذا
الإجماع المدعى وأنه في حق المستحل مثله مثل باقي المعاصي التي دون الكفر، والغريب
أن الكاتب قد نص على أن هذه المسألة لم تعرف قبل زمن شيخ الإسلام وابن كثير فلا
أدري كيف تجرأ على نقل الإجماع على ما تصوره وفرَّق بين حكم هذه المسألة وما يذكره
علماء أهل السنة في اشتراط الاستحلال في باقي المعاصي ، إلا أن يقصد إجماع العلماء
في عهد شيخ الإسلام فدون إثبات ذلك خرط القتاد .
فقد ذكر شيخ الإسلام أن التتار الذين حكموا بالياسق وهو كتاب مأخوذ
من الشرائع المنسوخة والإسلام ، أنهم يعتقدون أن اليهودية والنصرانية والإسلام
بمنزلة المذاهب الأربعة فتأمل ، ففي مجموع الفتاوى ( 28/ 523) قال : " وكذلك
الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وأن هذه كلها
طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين " .
الثاني ) أن الشرك في الربوبية منه ما هو شرك أكبر ومنه ما هو شرك
أصغر ، حسب اعتقاد الواقع فيه ، ولا يقال أن من اتبع حكم القانونيين وهو يعلم أنه
على ذنب أنه قد أعطى المخلوق حق التشريع من دون الله لأن هذا الأمر يتعلق
بالاعتقاد كما قررنا وهو بهذه العقيدة الباطلة كافر ولو كان في مسألة يوافق حكمها
حكم الله.
أما بدون هذه العقيدة كأن
يفعل ذلك إتباعاً للهوى أو تحقيقاً لمصلحة دنيوية فليس عندنا ما نكفره به .
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في مقال:(السمع والطاعة ص 10) وهو
من الذين يشددون في مسألة تحكيم القوانين وممن يستشهد بكلامه خوارج العصر قال :
" نرى بعض القوانين تأذن بالعمل
الحرام الذي لا شك في حرمته ، كالزنا وبيع الخمر ونحو ذلك ، وتشترط للإذن بذلك
رخصة تصدر من جهة مختصة معينة في القوانين ، فهذا الموظف الذي أمرته القوانين أن
يعطي الرخصة بهذا العمل إذا تحققت الشروط المطلوبة فيمن طلب الرخصة لا يجوز له أن
يطيع ما أمر به ، وإعطاؤه الرخصة المطلوبة حرام قطعاً ، وإن أمره بها القانون ،
فقد أمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة ، أما إذا رأى أن إعطاء الرخصة في ذلك حلال ،
فقد كفر وخرج عن الإسلام ، لأنه أحل الحرام القطعي المعلوم حرمته من الدين
بالضرورة "
أما ما يتعلق بالشرك في توحيد الألوهية فلا شك أنه لا يكون إلا
شركاً أكبر لكن هل يقال لمن حكم بغير ما أنزل الله أنه صرف العبادة لغير الله ،
ليس الأمر كذلك لأنه في حقيقة الأمر خالف حكم الله ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير
الله .
وختاماً فإنني أرى أن نشر
مثل هذا الكتاب في بلاد التوحيد سوف يجر
علينا فتناً لا يعلمها إلا الله فنحن نعلم أنه ما من دولة إلا ويطبق فيها القانون
الوضعي ولو كان في بعض النواحي دون بعضها الآخر فما عسى سيكون جواب هذا الكاتب ومن
سلك مسلكه إذا قال له بعض الجهلة ، إن الحكام بهذا التقعيد الذي قرره يكونون
كفاراً . لا شك أنه سيقول كما نبه على ذلك في آخر كتابه أن هذه دراسة نظرية وأما
تطبيقها على الواقع فلابد من توفر شروط وامتناع موانع ، فواعجباً ما عسى تلك
الشروط وتلك الموانع فهل يمكن أن يكون من وقع في هذا الأمر من أهل هذا العصر
مجتهداً حتى يعذر أم متأولاً تأويلاً
سائغاً، أم جاهلاً لم تقم عليه الحجة أم أنه غير مكلف أم مكرهاً إكراهاً يعذر به ،
نترك الجواب للكاتب ولمن هو على رأيه ، نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق
بإذنه .
سابعاً) رد دعوى الإجماع المفترى وعكسه على صاحبه :
يحتج بعضهم على أن تحكيم
القوانين وجعلها نظاماً عاماً يعد كفراً أكبر بالإجماع ، فما هو حقيقة الإجماع
الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن كثير رحمهما الله .
يفهم المقصود بالإجماع
وعلى أي شيء كان من النقل التالي عن شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/267) :
قال رحمه الله تعالى " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال
المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء "
فالمقصود هنا التحليل
والتحريم وهذا منقول فيه الإجماع في كل المعاصي وليس فقط الحكم بغير ما أنزل الله.
وأما التبديل فقد بين
معناه عقب هذا النص بقوله " الشرع المبدل هو الكذب على الله ورسوله أو على
الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال : إن هذا من شرع الله فقد كفر
بلا نزاع كمن قال إن الدم والميته حرام " ، وقد سبق الكلام في مسألة التبديل
.
وفي البداية والنهاية (13/119) قال ابن كثير رحمه الله وهو يتحدث
عن الياسا (الياسق) " وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم
الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسا
وقدمها عليه من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين".
وهذا القياس الذي قال به
ابن كثير وهو عمدته في نقل الإجماع قياس صحيح وهو الذي يسميه العلماء القياس
الأولوي ، لأن الحكمان مبنيان على نسبتهما إلى الشرع كما سبق ، وأما قياس خوارج
العصر وهو قولهم إذا كان تحكيم شرع الله المنسوخ كفر فتحكيم قانون اليونان ولو في
مسألة واحدة أشد كفراً فهذا من جنس قياس المشركين الذي أبطله القرآن عندما أحلوا
به الميتة .
وفي التفسير قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى " أفحكم
الجاهلية يبغون " المائدة 50 " وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية
المأخوذه عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من
أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها
وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً
يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو
كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله"
وهذا هو واقع التتار فقد
بين شيخ الإسلام أن التتار كانوا يعدون الياسق الذي اقتبسوه من شرائع شتى ، بمنزلة
المذاهب الأربعة عند المسلمين .
ففي مجموع الفتاوى ( 28/
523) " وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود
والنصارى وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين " .
بل ذكر شيخ الإسلام أن أتباع جنكيزخان كانوا يعتقدون فيه صفات
الألوهية وبعضهم يعتقد أنه يوحى إليه .
فليس المقصود أنهم جمعوا
أموراً أخرى مكفرة إلى جانب الحكم بغير ما أنزل الله كما ظن بعضهم فهذا أمر آخر لا
يعنينا هنا فتنبه !! .
فالتحاكم إلى قانون لا
يقره الشرع ، ونسبة ذلك إلى الشرع أو أن الشرع يقره أو القول بجواز الحكم به كفر
بالإجماع قال الإمام اسماعيل بن اسحاق القاضي " فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي
اليهود ) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما
لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره " [107]
هذه المسألة الثانية التي يبني عليها خوارج العصر ليتوصلوا بها إلى
مذهبهم في التكفير وأحسن من تكلم في هذه المسألة وبينها على الوجه الموافق لنصوص
الشرع ، أئمة الدعوة في نجد ورغم أن مذهبهم في هذه المسألة هو المذهب الحق إلا
أننا نجد خصومهم ينسبونهم إلى التكفير وهذا ليس بمطعن فيهم ، لأنهم يكفرون من كفره
الله ورسوله ، والتكفير حكم شرعي يجب أن يقر به كل مسلم ، وفي المقابل نجد خوارج
العصر ينسبونهم إلى مذهب باطل في التكفير فيظنون أنهم يكفرون بكل موالاة للكفار و
أنهم لا يفرقون بين ما كان منها من أجل الدين وما كان من أجل الدنيا وسأورد في هذا
الفصل رسالة لإمام من أئمة الدعوة يرد على سلف هذه الطائفة التي ظهرت في هذا العصر
وصرح كبارهم بأن المسلم يكفر بموالاة الكفار ولو بكلمة على الإطلاق وهو الشيخ الإمام عبد اللطيف[108]
بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع وهي من أحسن الرسائل
التي جاء فيها بيان الفرق بين الموالاة والتولي[109] ، وقد مضى بعضها [110]:
قال – رحمه الله - " وتأمل : قصة حاطب بن أبي بلتعه، وما فيها
من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين
من أهل مكة ([111])،
يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم ، ليتخذ بذلك يداً عندهم
، تحمي أهله ، وماله بمكة ، فنزل الوحي بخبره ، وكان قد أعطى الكتاب : ظعينة،
جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، والزبير، في طلب
الظعينة، وأخبرهما، أنهما يجدانها في روضة : خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت
الكتاب من صفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعا حاطب بن أبي
بلتعة، فقال له : " ما هذا " ([112])
؟ فقال : يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام،
وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد، أحمي بها أهلي، ومالي، فقال صلى الله عليه
وسلم : " صدقكم، خلوا سبيله " واستأذن عمر، في قتله، فقال : دعني أضرب
عنق هذا المنافق، قال : " وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال :
اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " وأنزل الله في ذلك، صدر سورة الممتحنة، فقال
: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) الآيات .
فدخل حاطب في المخاطبة، باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي
بعمومه، وله خصوص السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة، ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم
بالمودة، وأن فاعل ذلك، قد ضل سواء السبيل، لكن قوله : " صدقكم، خلوا سبيله
" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، وإذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب
؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي ، ولو كفر لما قال : خلوا سبيله .
ولا يقال قوله صلى الله عليه وسلم :" ما يدريك لعل الله اطلع
على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا
نقول : لو كفر لما بقي من حسناته، ما يمنع من لحاق الكفر، وأحكامه ؛ فإن الكفر :
يهدم ما قبله، لقوله تعالى : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ المائدة :5]
وقوله : ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [الأنعام:88] والكفر، محبط
للحسنات والإيمان، بالإجماع ؛ فلا يظن هذا . وأما قوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم
فإنه منهم ) [ المائدة : 51] وقوله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر
يوادون من حاد الله ورسوله ) [ المجادلة : 22] وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار
أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) [ المائدة : 57 ] فقد فسرته السنة، وقيدته
وخصته بالموالاة المطلقة العامة .
وأصل : الموالاة، هو الحب
والنصرة، والصداقة ودون ذلك مراتب متعددة ؛ ولكل ذنب حظه وقسطه، من الوعيد والذم ؛
وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفى
غيره وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعانى، والتبست الأحكام على خلوف من العجم
والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن .
ولهذا قال الحسن رضى الله من العجمة أتوا وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد، لما
ناظرة في مسألة خلود أهل الكبائر في النار احتج ابن عبيد أن هذا وعد والله لا يخلف وعده يشير إلى ما في
القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود فقال له ابن العلا : من
العجمة أتيت ؛ هذا وعيد لا وعد وأنشد قول الشاعر :
وإنني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز
موعدي .
وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره : إن من سعادة الأعجمي،
والعربي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة وأن من شقاوتهما أن يمتحنا ويسرا لصاحب
هوى وبدعة. "
ثم قال " وقد بلغني أنكم
تأولتم، قوله تعالى في سورة محمد : ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله
سنطيعكم في بعض الأمر ) [ محمد : 26 ] على بعض ما يجرى من أمراء الوقت من مكاتبة أو
مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين والملوك المشركين ([113])
ولم تنظر لأول الآية وهى قوله : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم
الهدى ) ([114])
[ محمد : 25 ] ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة ولا المراد من الأمر المعروف
المذكور في هذه الآية الكريمة ([115])
وفي قصة صلح الحديبية، وما طلب المشركين واشترطوه وأجابهم إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما يكفى في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم ([116])
، ]انتهى المقصود من الرسالة [.
قلت : فقصة حاطب عندما أرسل
كتاباً إلى مشركي مكة يخبرهم فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم على
قتالهم نص قاطع للنزاع في المسألة ، والخلاف فيها على أربعة أقسام كما سبق الإشارة
إلى ذلك ثلاثة منها من الأقوال الباطلة كمن قال إن فعل حاطب ليس كفراً ، وبنى عليه
أن الواقع فيه لا يكفر مطلقاً ،
والقول الثاني : من قال إن فعل
حاطب كفر لكنه لم يكفر لسابقته في بدر ، وقد مضى الجواب عن هذين القولين في ما مضى
من كلام الإمام .
والقول الثالث : من قال أن فعل
حاطب كفر لكنه لم يكفر لأنه كان متأولاً وهذا أيضاً قول باطل وإن كان قد قال به
بعض أهل السنة ، لكنهم لم يبنوا عليه كما يفعل خوارج العصر ، ولكن كان غرضهم من
ذلك تبرئة حاطب من الوقوع في الكفر ، والله أعلم .
وقد حاول كثير ممن كتب في هذا
الباب أن يتنصلوا من دلالة حديث حاطب ، فبعضهم لم يلتفت إلى سؤال النبي وقال إن
فعل حاطب كفر ، وإنما عُذر لأنه كان متأولاً ، وهذا قول مردود لأنه ليس من شرط
الموالاة أن ينتفعوا بفعله ، وإنما عذره كما قال ابن كثير رحمه الله ( التفسير
4/348) " ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لَمّا ذكر أنه
إنما فعل ذلك مصانعةً لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد"ا.هـ .
وأما إيراد البخاري للحديث في
باب المتأولين فإنما أراد فعل عمر عندما كفر حاطباً ، وقد أشار الحافظ في شرح
الترجمة عند قَوْله ( بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُتَأَوِّلِينَ ) أن ذلك بمعنى قوله
" بَاب كُلّ مَنْ أَكْفَرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيل " .
وحقيقة الأمر أن فعل حاطب رضي الله عنه موالاة للكفار ، يدل على
ذلك الآية التي نزلت بسبب تلك الواقعة وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ
خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن
يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة .
لكن هذا الفعل من حاطب رضي الله عنه يحتمل الكفر ويحتمل أنه كبيرة
من كبائر الذنوب ولذلك استفصل النبي من حاطب ، فسؤال النبي يدل على أن من كان غرضه
دنيوياً محضاً كما فعل حاطب فإنه لا يكفر وإن كان قد وقع في ذنب عظيم وجواب حاطب
الذي أقره النبي بقوله " صَدَقَ لَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا " يدل على أن من أعان الكفار على
المسلمين خوفاً من سطوتهم وظلمهم فإنه لا يكفر وأما إذا كان غرضه من الموالاة
يتعلق بالدين كأن يريد ظهور الكافرين على المسلمين ، ولو كان كارهاً للكافرين فهذا
هو الكفر البواح ، والنفاق الصراح ، وفاعله مرتكب لناقض من نواقض الإسلام – كما نص
علي ذلك أئمة الدعوة وغيرهم – والواقع فيه غير مؤمن بعقيدة الولاء والبراء !!.
وأما موقف عمر رضي الله فيتفق تماماً مع ما عرف عنه من شدة في الحق
وغيرة على الدين كما هو عادته فقد ظن أن حاطباً قد كفر فقال " يَا رَسُول
اللَّه أَمْكِنِّي مِنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَفَرَ
" [117]
، ولم يقره النبي على حكمه فقد قال " لَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا
" وعمر رضي الله عنه كان في هذا الحكم متأولاً ولذلك أورد البخاري الحديث في
باب المتأولين قال الحافظ " وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَلْزَم مِنْهُ أَنْ
يَكُون عُمَر يَرَى تَكْفِير مَنْ اِرْتَكَبَ مَعْصِيَة وَلَوْ كَبُرَتْ كَمَا
يَقُولهُ الْمُبْتَدِعَة وَلَكِنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنّه ذَلِكَ فِي حَقّ حَاطِب ,
فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُذْرَ حَاطِبٍ
رَجَعَ " ، فلما قال حاطب " مَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا
وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ "[118]
علم النبي صدق حاطب وأن غرضه كان دنيوياً محضاً فقال " صَدَقَ لَا تَقُولُوا
لَهُ إِلَّا خَيْرًا " ، فبقي حينئذ
إقامة الحد على من ارتكب فعلاً ظهر من قصد فاعله أنه دون الكفر لذلك قال عمر رضي
الله عنه " يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ دَعْنِي فَلِأَضْرِبْ عُنُقَهُ " قال الحافظ " فَفِي إِعَادَةِ عُمَرَ
الْكَلَامَ إِشْكَالٌ ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صِدْقه فِي عُذْره
لَا يَدْفَع مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَتْل " عند ذلك قال النبي " أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمْ الْجَنَّةَ " .
وفي كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله (4/249) " قيل
للشافعي أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين
من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم أو بالعورة من عوراتهم هل يحل ذلك دمه ويكون في ذلك دلالة
على ممالأة المشركين .
قال الشافعي رحمه الله تعالى :لا يحل دم من ثبتت له حرمة
الإسلام إلا أن يقتل أو يزني بعد إحصان أو
يكفر كفرا بينا بعد إيمان ثم يثبت على
الكفر وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في
نكاية المسلمين بكفر بيِّن فقلت للشافعي
أقلت هذا خبرا أم قياسا قال قلته بما لا يسع مسلما علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال
بالكتاب فقيل للشافعي فاذكر السنة فيه قال
أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن
الحسن بن محمد عن عبيد الله بن أبي رافع قال سمعت عليا يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والمقداد
والزبير فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ
فإن بها ظعينة معها كتاب فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها أخرجي الكتاب فقالت ما
معي كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين
الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من
حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة يخبر ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال ما هذا يا
حاطب قال لا تعجل علي يا رسول الله إني
كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان
من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم ولم يكن لي بمكة قرابة فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم
يدا والله ما فعلته شكا في ديني ولا رضا
بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنه قد صدق فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد
شهد بدرا وما يدريك لعل الله عز وجل قد
اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال فنزلت يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء قال الشافعي رحمه الله
تعالى في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما
قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكا في
الإسلام وأنه فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون
زلة لا رغبة عن الإسلام واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله فيما احتمل
فعله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الأغلب ولا أحد أتى في مثل هذا
أعظم في الظاهر من هذا لأن أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه
الأغلب مما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولا كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه قيل
للشافعي أفرأيت إن قال قائل إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال قد صدق إنما تركه لمعرفته بصدقه لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره فقال له قد
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر فلو كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه
كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم
بكذبهم ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر وتولى الله عز وجل منهم السرائر ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع
حكما له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية
وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصا أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجهلوا له سنة
أو يكون ذلك موجودا في كتاب الله عز وجل
ا.هـ ."
فتأمل قوله " لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما
قال من أنه لم يفعله شاكا في الإسلام وأنه
فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلة لا
رغبة عن الإسلام واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله "
وقوله " وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر
أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو
يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيِّن
"
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
(الفتاوى7/522):
" وقد تحصل للرجل موادتهم
لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص إيمانه به، ولا يكون به كافراً ، كما حصل من حاطب
بن أبي بلتعة "
وفي اقتضاء الصراط المستقيم قال شيخ الإسلام بعد
حديث ابن عمر رضي الله عنهما:(من تشبه بقومٍ فهو منهم) " وهذا الحديث أقل
أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في
قوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن
عمر أنه قال: "من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى
يموت حشر معهم يوم القيامة" فقد يحمل هذا على التشبه المطلق ، فإنه يوجب
الكفر ، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك ، وقد يحمل على أنه منهم في القدر الذي شابههم فيه
، فإنه كان كفراً أو معصية أو شعاراً لها كان حكمه كذلك. " .
قلت : والتشبه المطلق أعم من
التولي فتنبه ، فيكفر إذا كان قد أعانهم لأجل دينهم ، وهذه هي الموالاة المطلقة أو
التولي كما يسميها أئمة الدعوة في نجد ، قال الإمام الطبري (التفسير 6/277) " فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو
من أهل دينهم وملتهم فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض
وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه " وذكر قبل ذلك
" لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك وذلك قوله (فترى الذين في قلوبهم مرض
يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) .... فتأويل الكلام إذن فترى يا محمد
الذين في قلوبهم مرض وشك إيمان بنبوتك وتصديق ما جئتهم به من عند ربك يسارعون فيهم
يعني في اليهود والنصارى ويعني بمسارعتهم فيهم مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم
يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة يقول هؤلاء المنافقون إنما نسارع في موالاة هؤلاء
اليهود والنصارى خوفا من دائرة تدور علينا من عدونا .... لذلك فقال الله تعالى
ذكره لهم فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم
نادمين .... من مخالة اليهود والنصارى ومودتهم وبغضة المؤمنين ومحادتهم نادمين
" .
وعند تفسير قوله تعالى {لاَّ
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ
مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}
(28) سورة آل عمران ، قال " ومعنى
ذلك لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم
على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء يعني
بذلك فقد برىء من الله وبرىء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر "
وهذا القول قد نقله الشيخ حمد بن عتيق في رسالة " الدفاع عن أهل السنة
والإتباع " [119]
وأقره .
قلت : وهذا هو الأصل في معنى
الموالاة كما سبق في كلام الإمام عبد اللطيف ، وبهذا يظهر لك معنى ما نقل عن بعض
العلماء من القول بكفر من والى الكفار كما نقل بعضهم!! فقالوا " قال الشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله ( الدرر8/326) : " فيمن
أعان الكفار أو جرّهم إلى بلاد أهل الإسلام أنها ردة صريحة بالاتفاق.اهـ "
وهذا من التدليس على المسلمين
، وبالرجوع إلى المصدر المذكور وجدنا أن كلامه رحمه الله في الموالاة المطلقة وهي
التي يسميها أئمة الدعوة في نجد بالتولي حيث أنهم يفرقون بين الموالاة والتولي
فتنبه ، قال رحمه الله " فكيف بمن
أعانهم أو جرهم إلى بلاد أهل الإسلام أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل
الإسلام واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم وأحب ظهورهم فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق
قال الله تعالى ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين )
"
ومذهب الشيخ كما هو مقرر في
الرسالة المذكورة آنفاً أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب
الرِّدة كذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات وهذا
هو مذهب عامة أئمة الدعوة في نجد فإنهم يفرقون بين التولي الذي يخرج صاحبه من
الملة والموالاة التي هي دون ذلك .
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد
الرحمن في الدرر( 8/342): " وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ،
منها ما يوجب الردّة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر
والمحرمات ، وعرفتم قوله تعالي ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
أولياء ) وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جعل
ذلك من الموالاة المحرمة وإن اطمئن قلبه
بالإيمان وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس أو للحضر ".
وقد يجد القارئ في بعض مؤلفات
أئمة الدعوة شيئاً من التشديد في هذا الباب فحينئذ لا بد من النظر في سبب التأليف
حتى لا ينسب لهم ما لا يعتقدونه ، وقد بين هذا الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري
، في رسالة كتبها لبعض أهل الغلو في عصره ، وهو من أئمة الدعوة قال رحمه الله [120]:
" وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم بمصالحة
ونحوها وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك ؛ أنها هي موالاة المشركين المنهي عنها في
الآيات والأحاديث ، وربما فهمتم ذلك من الدلائل التي صنف الشيخ سليمان بن عبدالله
بن الشيخ، ومن سبيل النجاة للشيخ حمد بن عتيق ، فأولاً : نبين لكم سبب تصنيف
الدلائل فإن الشيخ سليمان صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته وأرادوا
اجتثاث الدين من أصله ، وساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة وأحبوا
ظهورهم ، وكذلك سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق سبيل النجاة هو لما هجمت العساكر
التركية على بلاد المسلمين وساعدهم من ساعدهم حتى استولوا على كثير من بلاد نجد ،
فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء ، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى
فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم ، وإظهار مودتهم ومعاونتهم على المسلمين ،
وتحسين أفعالهم وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم " .
ثم قال " والمشايخ رحمهم
الله كالشيخ سليمان بن عبد الله والشيخ عبد اللطيف والشيخ والشيخ حمد بن عتيق إذا
ذكروا موالاة المشركين فسروها بالموافقة والنصرة والمعاونة والرضى بأفعالهم فأنتم
وفقكم الله راجعوا كلامهم تجدوا ذلك كما ذكرنا ، قال الشيخ حمد بن عتيق فيما ذكره
عن الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمهم الله وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم
" من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " على ظاهره وهو أنه الذي يدعي
الإسلام ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل بحيث يعده المشركون منهم
فهو كافر مثلهم وإن ادعى الإسلام ، إلا أن يكون يظهر دينه ولا يتولى المشركين ،
انتهى ، فانظر وفقك الله إلى قوله في هذه العبارة وكون المشركين يعدونه منهم يتبين
لك أن هذا هو الذي أوجب كفره ، وأما مجرد الاجتماع معهم في المنزل فإن ذلك بدون
إظهار الدين معصية ، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
(144) سورة النساء ، يعني معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالموده ويقولون
لهم إذا خلوا بهم إنا معكم ، فهذا الذي أوجب كفرهم لا مجرد الطاعة ، فأنتم وفقكم
الله الواجب عليكم التبصر وأخذ العلم عن أهله ، وأما أخذكم العلم من مجرد أفهامكم
أو من الكتب فهذا غير نافع ، ولأن العلم لا يتلقى إلا من مظانه وأهله " .
وقد زعم بعضهم أن الإجماع قد
انعقد على كفر من وقع في الموالاة دون النظر إلى قصده أو اعتقاده واحتج بقول ابن
حزم رحمه الله في المحلى (11/ 138) : (صح أن قوله تعالى "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم" إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار ،
وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ) .
قلت : وهذا من التدليس ، فتمام
كلامه رحمه الله " فإن ادعوا أن المرتد لا تقبل منه جزية ولا تؤكل ذبيحته ولا
يسترق إجماعاً دل ذلك على جهل من ادعى ذلك أو كذبه " فكلامه رحمه الله عمن
ثبتت ردته فإنه من الكافرين في الأحكام لقوله تعالى "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم" فانظر رحمك إلى هذا التدليس الواضح .
ونقلوا عن شيخنا الإمام ابن
باز رحمه الله أنه قال: (وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على
المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم ) مجموع فتاوى ومقالات
متنوعة (1/274 ) وليس فيه جديد فهذا نفس كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في نواقض
الأسلام والمقصود به التولي بضابطه المذكور سابقاً .
ومما يدل على تدليسهم أنهم لم
يذكروا أول كلامه رحمه الله وهو قوله " إن الذين يدعون إلى الاشتراكيـة أو
الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام، كُفَّار ضُلاّل
أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم ملاحدة لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولايجوز
أن يُجعل أحدٌُ منهم خطيباً وإماماً في مسجد من مساجد المسلمين، ولاتصح الصلاة
خلفهم ، وكـل من ساعـدهم على ضـلالهم وحَسَّن مايدعـون إليـه، وذَمَّ دعاة
الإسـلام ولَمزَهم فهو كافـر ضال حُكْمه حُكم الطائفة الملحدة التي سار في ركابها
وأيّدها في طلبها ، وقد أجمع علماء الإسلام ..... "
فلا تغتر أيها الطالب للعلم
بشنشنة هؤلاء القوم فإنما هي شنشنة نعرفها من أخزم فينبغي أن تعرف أن أهل البدع
سواء كانوا من الخوارج أو المرجئة قد جاء في وصفهم كما عند مسلم من حديث يَحْيَى
بْنِ يَعْمَرَ قَالَ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ
قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ
شَأْنِهِمْ " فاللهم لطفك .
وكل من كتب في هذا الموضوع من
خوارج العصر لم يضع ظابطاً يعرف به الموالاة التي قصدوها والتي على زعمهم تخرج من
الملة مطلقاً ، وإنما كان قصدهم الرد على التفصيل الذي يذكره أهل السنة ، فنشأ عن
ذلك تجرؤ على التكفير ليس له نظير والعياذ بالله ، وكما هو معلوم أن من صور
الموالاة المذكورة في كتب أهل العم ولاء الطاعة وولاء المحبة والمداراة للمشركين
ومن ذلك البشــاشــة لهم والطلاقــة واستعمالهـم في أمـر من أمور المسلمين
وعيادتهم والدخول عليهم ومن ذلك مصاحبتهــم ومعاشرتهــم ، و استئمانهم وقد خوّنهم
الله ، و معاونتهـم في أمورهم ولو بشيء قليل ، والتشبه بهم في الملبس والمأكل وغير
ذلك من أمور الدنيا ، فبعض هذه الصور دلت الأدلة على جوازها ، وبعضها حكم العلماء
بحرمتها ، لكن لم يقل أحد من العلماء بكفر من وقع فيها ، فما هو جواب خوارج العصر
وقد قرر بعضهم أن الموالاة مكفرة بجميع صورها و قد علقوا مناط الحكم بالمعنى
اللغوي لها وهو الدنو والقرب !! .
ولا يفوتني أن أنبه إلى أن بعض
من تأثر بالإرجاء قد علق حكم الموالاة بالاعتقاد مطلقاً ، وهذا قول باطل فإن ما
سبق تفصيله إنما هو في الأفعال المحتملة ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد
بن عبد الوهاب في أول رسالته الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك " فإن
الانسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفاً منهم ومداراة لهم ، ومداهنة
لدفع شرهم ، فإنه كافر مثلهم وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ، ويحب الإسلام والمسلمين
" .
وفي رسالة كشف الشبهات قال
الإمام المجدد " قوله تعالى : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على
الآخره) فصرّح أن الكفر والعذاب لم يكن
بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين ومحبة الكفر ، وإنَّما سببه أن له في ذلك حظاً
من حظوظ الدنيا فآثره على الدين " .
ومثل هذا قوله " ولكنهــم
يجادلونكم اليوم بشبهة واحدة فاصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون كل هذا حق نشهد أنه
دين الله ورسوله إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا إذا أقروا أن
هذا دين الله ورسوله كيف لا يكفر من أنكره وقَتَل من أَمَر به وحَبَسَهم؟ كيف
لايكفر من أمر بحبسهم؟ كيف لايكفر من جاء إلى أهل الشرك يحثهم على لزوم دينهم
وتزينه لهم ويحثهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم؟ كيف لايكفر وهو يشهد أن الذي يحث
عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكره؟ ونهى عنه وسماه الشرك بالله ويشهد أن
الذي يبغضه ويبغض أهله ويأمر المشركين بقتلهم هو دين الله ورسوله ، واعلموا أن
الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين
ولو لم يشرك ، أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم
كلهم." أهـ (الرسائل الشخصية) صـ 272، وهى القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد
بن عبدالوهاب، ط جامعة الإمام محمد بن سعود.
وبهذا يظهر لك ضلال بعضهم في نقله عن الإمام بقوله " قال الشيخ إن
من صار مع المشركين على الموحدين كَفَر بذلك ولو لم يُشرك " واستنبط من ذلك
" أن أنصار الحكام في هذا العصر يكفرون بنصرتهم لهم على الاطلاق " ،
فهذا هو غلو الخوارج الذي ننكره وأنكره قبلنا أئمة الدعوة كما سيأتي في مبحث خاص .
هل يجوزالخروج على
الحاكم المسلم الجائر :
وهذه من المسائل التي يحتج بها خوارج العصر على أهل السنة الذين
يخالفونهم في مذهبهم في تكفير الحكام ، فيقولون لأهل السنة ، وإن كان الحاكم عندكم
مسلم إلا أنه يجب الخروج عليه إذا جار وظلم وهذا مذهب قديم للسلف كما قال بعض أهل
العلم .
فنقول : قد انعقد إجماع أهل السنة كما سيأتي بيانه ، على عدم جواز
الخروج على الحاكم الجائر ، نقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر
ونص الأئمة على ذلك في كتبهم وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
ففي صحيح البخاري 7139:
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ
قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ
مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ
ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ
يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فَإِيَّاكُمْ
وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ
لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا
أَقَامُوا الدِّينَ *
قال الحافظ في الفتح (13/15) :
" قوله : ما أقاموا الدين . أي مدة أقامتهم أمور الدين ، قيل
يحتمل ان يكون مفهومه فإذا لم يقيمه لا يسمع لهم وقيل يحتمل ان لا يقام عليهم وإن
كان لا يجوز إبقاؤهم على ذلك ذكرهما ابن التين ثم قال وقد أجمعوا انه أي الخليفة
إذا دعى الى كفر أو بدعة أنه يقام عليه واختلفوا إذا غصب الأموال وسفك الدماء
وانتهك هل يقام عليه أو لا انتهى . وما أدعاه من الإجماع على القيام فيما إذا دعى
الخليفة الى البدعة مردود إلا إن حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر وإلا فقد دعا
المأمون والمعتصم والواثق الى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها
بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك
ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة
"
والإمام أحمد رغم أنه
يُكفِّر من يقول بخلق القرآن ، لكن لَمَّا جاءه بعضهم وقال : نريد الخروج
على أولئك ، فالفتنة عَظُمَت ، قال : لا أُحِلّ لكم ذلك ، إذا وقع السيف وقت
الفتنة ، تسفك الدماء وتنتهك الحرمات وتنقطع السبل ، اصبروا حتى يستريح برٌّ
ويُستراح من فاجر .(1)
قال الحافظ في تهذيب التهذيب عند ترجمة الحسن بن صالح "
وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم ، لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما
رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن
تدبر" .
فقوله مذهب للسلف ، المقصود بعضهم و لم يوافقهم على ذلك الآخرون ،
كما سيأتي .
قال شيخ الإسلام ( منهاج السنة 4/529) " ولهذا استقر أمر أهل
السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه
وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم وإن
كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين "
قلت : وأولئك الذين خرجوا قد أُنكر عليهم واستنكر العلماء
خروجهم ، قال شيخ الإسلام ( منهاج السنة
4/527) " فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح
وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك
والمنصور وغيرهم فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى غيره كما يفعله
من يرى السيف فهذا رأى فاسد فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته وقل من خرج على إمام ذي
سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على
يزيد بالمدينة وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق وكابن المهلب الذي خرج
على ابنه بخراسان وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضاً وكالذين
خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء وغاية هؤلاء إما أن يَغلبوا وإما
أن يُغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما
اللذان قتلا خلقاً كثيراً وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور وأما أهل الحرة وابن
الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهُزم أصحابهم فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا
والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك
من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير
وغيرهم ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدراً عند الله وأحسن نية
من غيرهم وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق وكذلك أصحاب ابن
الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين والله يغفر لهم كلهم وقد قيل للشعبي في
فتنة ابن الأشعث أين كنت يا عامر قال كنت حيث يقول الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير .
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وكان الحسن البصري يقول إن الحَجَّاج عذاب الله
فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول
(ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) وكان طلق بن حبيب يقول اتقوا الفتنة بالتقوى
فقيل له أجمل لنا التقوى فقال أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله
وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله رواه أحمد وابن أبي الدنيا
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بن عمر
وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد وكما
كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ولهذا استقر
أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة " .
بل أن كبارهم لما علموا خطأهم تراجعوا ففي المنهاج (4/535) :
" وكذلك الحسين رضي الله عنه لم يقتل إلا مظلوما شهيداً تاركاً لطلب الإمارة
طالباً للرجوع إما إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى المتولي على الناس يزيد " .
قلت : وقد أنكر عليه رضي الله عنه جماعة من الصحابة عند خروجه كما
نقل ذلك ابن كثير في البداية والنهاية ، وقد حاول بعض خوارج العصر تأويل هذا
الإنكار ، فالله المستعان .
وفي المنهاج (4/553) " وصار الناس في قتل الحسين رضي الله عنه
ثلاثة أصناف طرفين ووسطاً أحد الطرفين يقول إنه قتل بحق فإنه أراد أن يشق عصا
المسلمين ويفرق الجماعة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه) قالوا والحسين جاء
وأمر المسلمين على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم وقال بعض هؤلاء هو أول خارج خرج
في الإسلام على ولاة الأمر والطرف الاخر قالوا بل كان هو الإمام الواجب طاعته الذي
لا ينفذ أمر من أمور الإيمان إلا به ولا تصلي جماعة ولا جمعة إلا خلف من يوليه ولا
يجاهد عدو بإذنه ونحو ذلك وأما الوسط فهم أهل السنة الذين لا يقولون لا هذا ولا
هذا بل يقولون قتل مظلوماً شهيداً ولم يكن متولياً لأمر الأمة والحديث المذكور لا
يتناوله فإنه لما بلغه ما فعل بابن عمه مسلم بن عقيل ترك طلب الأمر وطلب أن يذهب
إلى يزيد ابن عمه أو إلى الثغر أو إلى بلده فلم يمكنوه وطلبوا منه أن يستأسر لهم
وهذا لم يكن واجباً عليه ".
وقد بين شيخ الإسلام أن من خرج من السلف كان له عذره ، وأما بعد
استقرار الأمر فليس لأحد عذر .
ففي المنهاج (4/536):" وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف
على أهل القبلة حتى قاتلت علياً وغيره من المسلمين وكذلك من وافقهم في الخروج على
الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم كالذين خرجوا مع
محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسين وغير
هؤلاء فإن أهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه ديناً لكن قد يخطئون من
وجهين : أحدهما أن يكون ما رأوه ديناً ليس بدين كرأي الخوارج وغيرهم من أهل
الأهواء فإنهم يعتقدون رأيا هو خطأ وبدعة ويقاتلون الناس عليه بل يكفرون من خالفهم
فيصيرون مخطئين في رأيهم وفي قتال من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم وهذه حال عامة أهل
الأهواء ........ الوجه الثاني من يقاتل على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة
والجماعة كأهل الجمل وصفين والحرة والجماجم وغيرهم لكن يظن أنه بالقتال تحصل
المصلحة المطلوبة فلا يحصل بالقتال ذلك بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت فيتبين لهم
في آخر الأمر ما كان الشارع دل عليه من أول الأمر وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع
أو لم تثبت عنده وفيهم من يظنها منسوخة كابن حزم وفيهم من يتأولها كما يجري لكثير
من المجتهدين في كثير من النصوص".
وبهذا تعرف مسالك العلماء في الحكم على تأويل الخارجين ومتى يكون
تأويلاً سائغاً فيحكم عليهم بأنهم فئة باغية ، فالظاهر أن الحكم في هذه المسألة من
مسائل الاجتهاد التي لا يحكم فيها إلا العلماء .
و في الصحيحين عن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ
شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ
شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً *
وما جاء في معناه من النصوص الآمرة بالصبر والتي يفهم منها تحريم
الخروج على السلطان .
قال الحافظ(فتح 13/6) : " قال ابن بطال في الحديث حجة في ترك
الخروج على السلطان ولو جار وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما
في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ولم يستثنوا
من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته
لمن قدر عليها"
وفي المسند (4/383) :
عن سعيد بن جمهان قال : " لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو
محجوب البصر فسلمت عليه قال لي من أنت فقلت أنا سعيد بن جمهان قال فما فعل والدك
قال قلت قتلته الأزارقة قال لعن الله الأزارقة لعن الله الأزارقة حدثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النار قال قلت الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها قال
بلى ، الخوارج كلها قال قلت فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم قال فتناول يدي
فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم عليك
بالسواد الأعظم إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك
وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه " .
وروى اللالكائي (1/154) في عقيدة الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله
ـ قال : " يا شعيب : لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى الصلاة خلف كل برّ وفاجر ،
والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل " .
ونقل اللالكائي (1/167) في عقيدة الحافظ علي بن عبدالله بن المديني
ـ رحمه الله ـ قال : " والغزو مع الأمراء ماضٍ إلى يوم القيامة البر والفاجر
لا يترك " .
ونقل اللالكائي أيضاً (1/173) في اعتقاد الإمام أبي عبدالله
البخاري رحمه الله: " وأن لا ننازع
الأمر أهله ، ولا نرى السيف على أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".
ونقل أيضاً (1/177) في عقيدة الإمامين أبي حاتم الرازي ، وأبي زرعة
ـ رحمهما الله ـ قالا : " ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة ، ونسمع ونطيع لمن ولاّه
الله ـ عزّ وجلّ ـ أمرنا ، ولا ننزع يداً من طاعة ، ونتبع السنة والجماعة ونجتنب
الشذوذ والخلاف والفرقة".
وقال البربهاري ـ رحمه الله ـ في شرح السنة (ص78 ) : " ومن
خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي ، وقد شقّ عصا المسلمين وخالف الآثار ،
وميتته ميتة جاهلية ، ولا يحل قتال السلطان والخروج عليهم وإن جاروا، وذلك قول
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر الغفاري : " اصبر وإن كان عبدًا
حبشيـًا " وقوله للأنصار : " اصبروا حتى تلقوني على الحوض "، وليس
في السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدين والدنيا "
ويقـول ـ أيضـًا ـ : " إذا رأيت الـرجل يدعو على السلطان
فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن
شاء الله . يقول فضيل بن عياض : لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان . ....
قيل له : يا أبا علي، فَسِّر لنا هذا، قال : إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا
جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد ، فأمرنا أن ندعوا لهم
بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعوا عليهم وإن ظلموا وإن جاروا، لأن ظلمهم وجورهم على
أنفسهم، وصلاحهم على أنفسهم والمسلمين " .
ولا يعارض هذا ما أثر عن بعض السلف أنه كان يدعو في سجوده لرفع
مظلمة ولا يشهر ذلك بين الناس .
ويقول الإمام الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ في عقيدته المشهورة:
" ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ولا
ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله ـ عزّ وجلّ ـ فريضة ، ما لم يأمروا
بمعصية ، و ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في العقيدة الواسطية مخبراً عن أهل السنة :
" ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد
مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً " .
وبعد فإن لأهل الباطل من خوارج العصر شبه لا بد من تفنيدها :
الشبهة الأولى : يقولون إن
الحاكم قد تولى السلطة بالقوة ولم يتم اختياره من قبل الشعب بل ولا أهل الحل
والعقد ، فبذلك ليس له طاعة ولا بيعة.
فالجواب : إن هذا كلام جاهل بعقيدة أهل السنة والجماعة متأثر بأهل
الديمقراطية الكافرة .
ففي شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، قال الإمام أحمد [121]:
" ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا
عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا
المسلمين وخالف الاثار عن رسول الله فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية "
وفي المغني ( 9/5 ) :
" وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب
موضعه حوربوا " .
وفيه :
ولو خرج رجل على الإمام
فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماماً يحرم
قتاله والخروج عليه فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على
البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعاً وكرهاً فصار إماماً يحرم الخروج عليه "
قلت : هذا الحكم بعد أن استقر له الأمر وإلا فإنه لا يجوز الخروج
على الإمام ابتداءً إلا أن يكفر وبشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة أكبر كما مر معنا
، لكن المراد بيان أن القوة من طرق انعقاد
الإمامة بإجماع السلف .
قال الإمام محمد بن عبد
الوهاب ( الدرر السنية 7/239) " الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على
بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء "
الشبهة الثانية :
وهي من أكبر مداخل الشيطان
لرد السنة وإجماع الأئمة ... قالوا كل ما ذكر أعلاه نقر به لكن لا يمكن حمله على
حكام هذا العصر المتفرقين في البلاد ولكل منهم رعية و حوزة لا يشاركه فيها أحد ،
فلو خرج أحد الرعية من دولته إلى دولة الآخر فهل تلزموه بالبيعة والطاعة .
فالجواب : أن هذه شبهة
باطلة وكل لوازمها ، لأن ما بني على الخطأ فهو خطأ ، فتنبه .
قال الصنعاني في سبل
السلام ( 3/258 ) عند حديث أبي هريرة: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات
فميتته جاهلية " رواه مسلم .
قال الصنعاني – رحمه الله
– " قوله عن الطاعة أي طاعة الخليفة الذي وقع الإجماع عليه ، كأن المراد
خليفة أي قطر من الأقطار ، إذ لم يجمع
الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدوله العباسية ، بل استقل كل
إقليم بقائم بإمورهم ، إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت
فائدته " .
وعند حديث عرفجة بن شريح
قال " من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه " رواه مسلم .
قال الصنعاني (سبل السلام
3/261 ) " من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين والمراد أهل
قطر كما قلناه فإنه قد استحق القتل لإدخاله الضرر على العباد وظاهره سواء كان
جائراً أو عادلاً "
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( الدرر السنية 7/239) "
الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع
الأشياء ولولا هذا ماستقامت الدنيا لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى
يومنا هذا مااجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من
الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم "
وهذا يدل على أن المسألة
مجمع عليها فتنبه .
فمن اعتقاد أهل السنة والجماعة : السمع والطاعة لمن ولاه الله
أمرنا، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى
كفرًا بواحـًا عندنا فيه من الله برهان .
وهذا خلافاً لأهل الجاهلية الذين
يرون مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة ،
فخالفهم رسول الله r، وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة،
وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد [122].
يقول الإمام الآجري ـ رحمه الله ـ : " فلا ينبغي لمن رأى
اجتهاد خارجي، قد خرج على إمام، عدلاً كان الإمام أو جائرًا، فخرج وجمع جماعة،
وسَلّ سيفه، واستحلَّ قتال المسلمين؛ فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا
بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم، إذا كان مذهبه
مذهب الخوارج"[123]
.
وكذلك لا ينبغي أن نغتر بسابقته وطول باعه في الدعوة كما يهرقط بعض
المنافحين عن الخوارج .
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (7/163) : " عن سليمان بن علي
الربعي قال لما كانت الفتنة فتنة بن الأشعث إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن
عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن
فقالوا يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال
الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل قال وذكروا من فعل الحجاج قال فقال الحسن أرى أن لا
تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم وإن يكن
بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين قال فخرجوا من عنده وهم يقول نطيع
هذا العلج قال وهم قوم عرب قال وخرجوا مع بن الأشعث قال فقتلوا جميعا" .
وهذه عادة أصحاب الفتن إذا لم يتابعهم العلماء يما يقولون طعنوا
فيهم بغير مطعن .
ومن صور الخروج عل الحاكم المسلم نكث الطاعة بأن تعتقد أن ولي
الأمر في بلدك ليس له طاعة لسبب من الأسباب التي دون الكفر أو لأن الطاعة إنما
تكون للإمام الأعظم .
وهذا خلاف الآثار وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة يدل على ذلك
حديث أبي هريرة في الصحيحين :
" مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي
فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى
أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي" .
وحديث ابن مسعود في الصحيحين ولفظه :
" إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا
تُنْكِرُونَهَا قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَدُّوا
إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ " ، ومن حقوقهم السمع
والطاعة .
وفي حديث أنس وأسيد بن حضير في الصحيحين :
" فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ "
وفي حديث أبي هريرة عند البخاري:
" أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا
اسْتَرْعَاهُمْ "
وعند مسلم ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ :
" خِيَارُ أَئِمَّتِكُمِ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ
وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ
أَئِمَّتِكُمِ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ
وَيَلْعَنُونَكُمْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ
فَقَالَ لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ
شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ
"
و حديث حذيفة في الصحيحين ولفظه عند مسلم :
" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فَجَاءَ
اللَّهُ بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فِيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ
نَعَمْ قُلْتُ هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ
وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ كَيْفَ قَالَ يَكُونُ بَعْدِي
أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ
رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ قَالَ قُلْتُ
كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ تَسْمَعُ
وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ
وَأَطِعْ " .
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين ما يدل على أن عدم الطاعة
والمنازعة لهما الحكم نفسه .
ففي الصحيحين :
أن أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ
وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ
مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ
بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ
أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
"
وقد استدل شيخ الإسلام به على أن عدم الطاعة نكث للبيعة والشاهد من
الحديث قوله : " ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى
وإن لم يعطه لم يف "
فمن نزع الطاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له وهذا نكث للبيعة
وهذا لا شك أنه خروج على ولي الأمر .
تنبيه :
غلا بعضهم فذهب إلى أن
أوامر الحاكم ونوابه تحمل على الوجوب ولو في توافه الأمور.
والصحيح أن طاعة ولي الأمر
المسلم واجبة لكن لا تحمل كل أوامره على الوجوب بحيث يأثم المخالف ، لأن هنالك من
القرائن ما يصرفها عن الوجوب .
وهذا الحكم لا بد من التسليم به لأننا متفقون على أنه ليس كل أمر
جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحمل على الوجوب فغيره ممن يوخذ من كلامه
ويرد من باب أولى والله أعلم .
قتال الطائفة الممتنعة عن أداء بعض الشعائر :
وهذه من المسائل المهمة التي استغلها خوارج العصر في الحكم على
الحكام بالكفر وقد أثارها بعض المبتدعة في بعض النواحي ، فجاء بعضهم ممن ينتسب إلى
أهل السنة فرد عليه في كتاب له وقرر فيه تقريرات مخالفة لعقيدة السلف ونسب كل من
قال بمشروعية قتال الطائفة الممتنعة عن أداء بعض الشعائر إلى مذهب الخوارج وهذا من
جهله ، فقد نقل شيخ الإسلام الإجماع على قتالهم وما يترتب على ذلك من الردة ، ففي مجموع الفتاوى (28/519) " وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي
الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة
فلهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله
" (أنظر حكم المرتد (الدرر السنية 8/131، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 6/202
).
لكن أمر القتال منوط بالخليفة المسلم كما حدث في خلافة أبي بكر ،
لا كما يعتقد خوارج العصر ، فقد أجمع الصحابة على كفر مانعي الزكاة وفيهم من لم
يصرح بجحد وجوبها ، وقد نقل هذا الإجماع جماعة من أهل العلم ، ومن الثابت أن سيرة
الصحابة في أهل الردة كانت سيرة واحدة وهي قتل مقاتلتهم وسبي نسائهم وذراريهم
وأموالهم ، وقد كان منهم من يقر بوجوب الزكاة لكنه منعها وقاتل على ذلك . وسيأتي
قول أبي بكر لهم " حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " .
وقد نقل خليفة بن خياط في تاريخه (ص53) أن خالداً قتل مالك بن نويرة مع جماعة من
قومه بعد أن جيء بهم أسرى ، وقد نقل الخطابي في " معالم السنن " (2/164)
أن مالكاً وقومه كانوا يقرون بوجوب الزكاة .
ولم يأت دليل يدل على التفريق
في الحكم والتعامل بين أصنافهم المذكورة لاحقاً بل جاء ما يدل على خلاف ذلك ، فمن
ذلك قول أبي هريرة كما في الصحيحين " لما توفي النبي واستخلف أبو بكر ، وكفر
من كفر من العرب قال عمر يا أبا بكر كيف تقاتل الناس …. " ومعلوم أن المحاورة
بين أبي بكر وعمر كانت في الذين امتنعوا عن أداء الزكاة مع الإقرار بوجوبها . ولم
ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يستفصلون من المانعين هل يقرون أم يجحدون بل كانوا
يسألونهم لما منعوا الزكاة لعل عندهم في ذلك شبهة فيزيلونها كما جاء في أثر أبي
قتادة عند خلفة بن خياط في تاريخه (ص53) قال " حتى يسألوا عن الذي نقموا
ومنعوا له الصدقة " .
وقد ذكر الإمام محمد بن عبد
الوهاب عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه قال : " والصحابة لم يقولوا : أأنت مقر
لوجوبها أو جاحداً لها ؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة ، بل لقد قال الصديق
لعمر رضى الله عنه : والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا
جحد الوجوب ، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا
فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة ، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة
أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار ، وسموهم جميعاً أهل الردة "(1)
وقد عد جماعة من العلماء منهم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
هذا الإجماع من أقوى الأدلة على أن كلمة التوحيد لا تعصم صاحبها إلا بتوفر شروط
وامتناع موانع وعلى أن الكفر يكون بالقول والفعل كما يكون بالاعتقاد .
وللإمام أحمد في مسألة تكفير تارك الزكاة روايتان فتحمل الأولى وهي
القول بكفره على من قاتل في طائفة ممتنعة وتحمل الثانية وهي عدم التكفير على من لم
يقاتل وجمعهما قوله للميموني كما في كتاب الجامع للخلال قال " قلت : يا أبا
عبد الله من منع الزكاة يقاتل ؟ قال قد قاتله أبو بكر رضي الله عنه ، قلت فيورث
ويصلى عليه قال : إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر وقاتلوا عليها لم يورث ويصل
عليه فإذا كان الرجل يمنع الزكاة – يعني من بخل أو تهاون – لم يقاتل ولم يحارب على
المنع يورث ويصلى عليه حتى يكون يدفع عنها بالخروج والقتال كما فعل أولئك بأبي بكر
فيكون حينئذ يحارب على منعها ولا يورث ولا يصلى عليه " قلت : وهو قول شيخنا
الإمام ابن باز –رحمه الله .
وفي الفتح (12/340) : قال الخطابي … الذين نسبوا الى الردة كانوا
صنفين صنف رجعوا الى عبادة الأوثان وصنف منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى (خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم )… وانما أراد عمر
بقوله تقاتل الناس الصنف الثاني لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول كما أنه لا
يتردد في قتال غيرهم من عباد الأوثان والنيران واليهود والنصارى … وقد اختلف
الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو لا
كالبغاة فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر في ذلك كما سيأتي بيانه في كتاب
الأحكام إن شاء الله تعالى وذهب إلى الثاني – أي عمر - ووافقه غيره في خلافته على
ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهة فيطالب بالرجوع فان
نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فان رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ ويقال
أن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول فعد من ندرة المخالف ."
قلت : وهذا الإجماع الأول – إجماع أبي بكر ومن معه من الصحابة -
الذي أثبته الحافظ وغيره هو الذي استقر عليه العمل ولم يثبت لهم مخالف من الصحابة
ولا تلتفت إلى قول الحافظ والشهرستاني ومن وافقهما فإنما بنوا قولهم على أصلهم في
الإيمان . فمما احتج به من نقض ذاك الإجماع أن عمر في خلافته خالف أبابكر بأن أطلق
أسراهم .
قلت : وهذا لا حجة فيه لأن عمر لم يخص به صنف دون صنف وإنما فعل
ذلك معهم جميعاً لما ظهرت توبتهم ، قال شيخ الإسلام (منهاج السنة 6/349) "
وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب
الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله
والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم " وفعل عمر
هذا موافق لفعل النبي مع أهل هوازن ولم يخالف أحد في كونهم أهل شرك ، قال شيخ
الإسلام (منهاج السنة 6/349) " رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم
بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم
مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم " .
وذكر الطبري في تاريخه (2/304) أن عمر فك سبي الجاهلية تعظيماً
للعرب ، وفي صحيح البخاري : عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِي
الله عَنْه قَالَ لِوَفْدِ بُزَاخَةَ تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى
يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ *
قال الحافظ (فتح 13/ 260) " وكان هؤلاء القبائل ارتدوا بعد
النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي وكان قد ادعى النبوة بعد
النبي صلى الله عليه وسلم فأطاعوه لكونه منهم فقاتلهم خالد بن الوليد بعد أن فرغ
من مسيلمة باليمامة فلما غلب عليهم بعثوا وفدهم إلى أبي بكر وقد ذكر قصتهم الطبري
وغيره في أخبار الردة ……قوله تتبعون أذناب الإبل الخ كذا ذكر البخاري هذه القطعة
من الخبر مختصرة وليس غرضه منها إلا قول أبي بكر خليفة نبيه وقد تقدم التنبيه على
ذلك في الحديث الثالث وقد أوردها أبو بكر البرقاني في مستخرجه وساقها الحميدي في
الجمع بين الصحيحين ولفظه الحديث الحادي عشر من إفراد البخاري عن طارق بن شهاب قال
جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية
والسلم المخزية فقالوا هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية قال ننزع منكم الحلقة
والكراع ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا وتدون لنا قتلانا ويكون
قتلاكم في النار وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة رسوله
والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام فقال قد رأيت
رأيا وسنشير عليك أما ما ذكرت فذكر الحكمين الأولين فنعم ما ذكرت وأما تدون قتلانا
ويكون قتلاكم في النار فان قتلانا قاتلت على أمر الله وأجورها على الله ليست لها
ديات قال فتتابع القوم على ما قال عمر قال الحميدي اختصره البخاري فذكر طرفاً منه
وهو قوله لهم يتبعون أذناب الإبل إلى قوله يعذرونكم به وأخرجه بطوله البرقاني
بالإسناد الذي أخرج البخاري ذلك القدر منه ، انتهى ملخصاً ." قال الحافظ
" والذي يظهر أن المراد بالغاية التي أنذرهم إليها أن تظهر توبتهم وصلاحهم
بحسن إسلامهم" .
قلت : وقد نقل الإجماع على كفر من قاتل على منع الزكاة ولو كان
مقراً بوجوبها جماعة من أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر كما مر معنا وشيخ الإسلام
ابن تيمية والجصاص في أحكام القرآن وأبو يعلى في مسائل الإيمان وأبو عبيد القاسم
بن سلام في كتاب الإيمان والإمام محمد بن عبد الوهاب في كثير من رسائله . وإن كان
بعض هؤلاء فسر هذا الإجماع بغير دليل إلا أن العبرة بنقل الإجماع لا بتفسيره . قال
الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه ( تبرئة الشيخين ) ص57
وقولك فيما قاله الشيخ حاكيـاً على
ذاك الإجماع من غير ما جحد
(فقد كان أصناف العصاة ثلاثـة كما
قد رواه المسندون ذوو النقـد)
(وقد جاهد الصديق أصنافهم ولم
يكفر منهم غير من ضل عن رشد)
أقول لعمري ما أصبت ولم تـسر على
منهج الصديق ذي الرشد والمجد
فسيرته مع صحب أحمد كلـهم مقررة
معلومة عند ذي النقـــد
فكفر من قد آمنوا بطليـــحة وبالأسود
العنسي ذي الكفر والجحد
مسيلمةالكذاب والكل كــافر سوى
الأسدي لما أناب إلى الرشـد
وطائفة قد اسلموا لكن اعتـدوا بمنع
زكاة المال قصداً على عمــد
وسموهم أهل ارتداد جميعهــم وما
فرقوا بين المقر وذي الجحــد
تنبيه : مابين القوسين من نظم المعترض وهو الأمير الصنعاني رحمه
الله وذاك النظم مع شرحه ثابت كما هو مقرر في موضعه .
التفريق
بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في الحديث :
وهذه من المسائل التي ابتدعها طائفة من المتأخرين واستغلها خوارج
العصر للتنفير عن علماء السنة وأهل الحديث في هذا العصر ، و من تتبعنا لكلام كثير
من أصحاب هذه الدعوة الجديدة نلاحظ عدة أمور:
أ) إنهم يدينون الله في كثير من مسائل العقيدة بما يخالف ما عليه
أئمة العصر .
ب) إنهم في كثير من إجاباتهم يزهدون في أحكام المتأخرين على
الأحاديث كالحافظ ابن حجر وكذلك المعاصرين كالشيخ الألباني فيلمزونه بأنه على منهج
المتأخرين وبعضهم يقول " هو على منهج المتقدمين فيما أصاب وعلى منهج
المتأخرين فيما أخطأ " ويظن أن هذا إنصاف منه ولم نسمع من هذا القائل أنه أيد
الشيخ يوماً في تصحيحه أو تضعيفه لحديث ما .
جـ) إنهم مختلفون فيما بينهم في القواعد فهذا يقرر القاعدة ويقول
هذا هو منهج المتقدمين والثاني يخالفه ويقول هذا هو منهج المتقدمين .
د) إنهم متناقضون مع أنفسهم في كثير من الأحكام فهذا يشترط العلم
بالسماع فإذا مر به حديث لم يثبت فيه العلم بالسماع قال " يُمشّى فمعناه
مستقيم " وكأنك تجلس أمام ابن مهدي أو ابن المديني أو البخاري !!
هـ ) إنهم يعتمدون في أحكامهم على كتب العلل .
قال الشيخ الألباني في رده على بعضهم " المهم وصل به الأمر
إلى أن يضعف حديث الإستفتاح : ( سبحانك اللهم ... ) ، الذي جاء عن خمسة من
الصحابة، وهو ينقد على طريقة بعض ذوي الأهواء هنا في الشام في الأردن ، وعلى كل
حال نحن في الشام أيضاً فما خرجنا من الشام لكن انتقلنا من دمشق إلى عمان ؛ الشاهد
ما وجدته أصاب ، وإنما أخطأ خطأً فاحشاً ، فذكر لهذا الحديث خمسة أسانيد ينقدها
فرداً فرداً ، ثم هنا موضع العجب والاستشهاد على الجهل المسيطر على بعض الشباب مع
الأسف الشديد ؛ أنه ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح بسبحانك
اللهم ...، ويرفع صوته يعّلم الناس مع أنه كان مستحضراً لهذا ، فضعف الحديث مع أنه
لو لم يكن في هذا الميدان ، أو البحث إلا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا ،
وهو يعلنه على رؤوس الأشهاد، وفي مكان معلوم أن السنة فيه الأسرار، وهو يرفع صوته
ليعّلم الناس من خلفه أن هذا من السنة ( سبحانك اللهم ..) فعجبت له، ها أنت ضعفت
المفردات ، ولم تعبأ بقاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق مع الشرط المعروف ـ لديكم ـ
وهو أن لا يشتد ضعفها ؛ فما بالك لم تقوّ ضعفها بهذا الشاهد في صحيح مسلم وفي غيره
وقد صححه الإمام الدارقطني ؟! . الشاهد أنه يعتمد على العلل لأبن أبي حاتم ، ويقول
: قال أبو حاتم كذا ، ولا يلجأ إلى البحث العلمي الذي أنت تدندن بسؤالك حوله ، حيث
كان السؤال إذا كان بعض المتقدمين من الحفاظ ، قال في حديث ما إنه حديث منكر ،
ووجد الباحث اليوم له إسناداً قوياً ، أو وجد له شواهد ومتابعات . فما هو موقفه ؟
موقفه أن يتبنى ما وصل إليه علمه إلا إذا كان ذلك الحافظ أدلى بحجته في إنكاره
لذلك الحديث فهناك يُقال لكل حادث حديث .
و) يجعلون بعض الاستثناءات قواعد وأصول يبنون عليها فالمعروف عن
المتقدمين أن الحديث الذي في متنه نكارة - وهذا لا يحكم به إلا خواص المتقدمين -
يتطلبون له العلة فيأتي بعض الأغمار ويجعل تلك العلة قاعدة تعل بها باقي الأحاديث
.
قال شيخنا أسد السنة في جوابه لسائل عن قولهم : الثقة إذا انفرد عن
الزهري ما يُقبل هذا التفرد ، قالوا : أين تلامذة الزهري وتفرد هذا الثقة الوحيد ؟
قال السائل : ولهذا استدلال ببعض المواضع ، لكن لما تقرأ لهم في
بعض المواضع لأبي حاتم في العلل ترى المتن فيه نكارة ، فلما كان المتن فيه نكارة
أعلّه بعلة انفراد الثقة دون بقية الملازمين له والمكثرين عن الزهري .
فكان جواب الشيخ : أحسنت ؛ لأنه ليس لانفراده عن الزهري ؛ إنما للنكارة
في المتن .
وهذا ما أشار إليه من قبل الحافظ ابن حجر في كتابه " النكت
" ( 2/ 711) أثناء كلامه على معرفة علل الحديث فقال :
" وهذا الفن أغمض أنواع الحديث ، وأدقها مسلكاً ، ولا يقوم به
إلا من منحه الله ـ تعالى ـ فهماً غايصاً ، واطلاعاً حاوياً ، وإدراكاً لمراتب
الرواة ، ومعرفة ثاقبة ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم ،
وإليهم المرجع في ذلك ؛ لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك ؛ والاطلاع على غوامضه ،
دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك .
قال : وقد تقصر عبارة المعلل منهم ، فلا يفصح بما استقر في نفسه من
ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى ، كما في نقد الصيرفي سواء ، قال : فمتى وجدنا
حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم ـ بتعليله ـ ؛ فالأولى اتباعه في ذلك
، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه .
قال : وهذا الشافعي ـ مع إمامته ـ يحيل القول على أئمة الحديث في
كتبه ، فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث .
قال : وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل ، وحيث يصرح بإثبات
العلة ، فأما إن وجد غيره صححه ؛ ـ حينئذ ـ توجه النظر إلى الترجيح بين كلامهما ،
وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ، ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين ،
فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح ، والله أعلم .أ.هـ
فلو كانت دعوة هؤلاء القوم تنحصر في الدعوة إلى منهج المتقدمين لما
كان هنالك إنكار فهذه الدعوة من صميم دعوتنا إلى منهج السلف لكن الدعوة أصبح فيها
تنقص للمتأخرين كالحافظ ابن حجر وشيخنا أسد السنة بل التزهيد الشديد في تخريجاتهم
بل أصبحوا يدندنون على بعض الأمثلة التي نظن إنهم أخطأوا فيها بل و تراجعوا عنها .
حتى إن بعضهم مكث فترة قبل أن يبدأ شيئاً من دروسه يحاضر باسم دروس
في منهج المتقدمين أو المصطلح نسيت الآن وكلها دروس في نقد الشيخ الألباني وإظهاره
بمظهر الناشيء في هذا العلم والذي لا يعرف أن يفرق بين الشاذ وزيادة الثقة والمنكر
والصحيح ....
وكذلك المليباري بني كتابه الذي تكلم فيه عن منهج المتقدمين على
مثالين استلهما من الإرواء وجعلهما عمدته في بيان عدم معرفة المتأخرين لمذهب
المتقدمين .
وآخر منهم لا يعرف عنه إلا الطعن في الألباني والتزهيد من علمه
وليس فقط تخريجاته ، وأنا لا أريد أن اثبت عصمة شيخنا أسد السنة ولا يوجد أحد
يعتقد ذلك ، ولكن لم نعهد من العلماء المعاصرين الكلام عن الشيخ الإمام بهذه
الطريقة التي يتكلم بها هؤلاء .
بل إن بعضهم كثيراً ما يقتنصون الفرص للمز في علم الشيخ بمجرد أن
أحد الكتاب كتب تخريجا لحديث وخالف الشيخ فيما توصل إليه من نتيجة ولعل الصواب
يكون في جانب الشيخ فيعلق فيقول مثلا :
وقد أبعد النجعة من صححه من المعاصرين !!!
والأمر فيما أرى أن الدعوة إلى منهج المتقدمين هي الأصل أما اختراع
مصطلح منهج المتأخرين فهي خرافة ينبغي للإخوة الناصحين التنبه لهذه الدعوة وما
تخفي في ثناياهها من الطعن في أهل العلم بل الطعن في السنة باسم السنة والعياذ
بالله صحيح إن ثلة من المتأخرين في
تصرفاتهم يخالفون المتقدمين لكن ذلك لا يكفي ليكونوا منهجاً مستقلاً ، لأنهم
يتفقون مع المتقدمين في كثير من قواعد هذا العلم ، بل المتقدمون أنفسهم وجد بينهم
خلاف في مسائل معينة ومع هذا لم يُصنفوا كمناهج مستقلة .
لذلك تجد بعضهم عندما يسأل عن الشيخ الألباني مثلاً يقول هو على
منهج المتقدمين فيما أصاب وعلى منهج المتأخرين فيما أخطأ !!!، ويظن أن هذا إنصاف
للشيخ !
وهذه نصيحة أقدمها لكل من أنغر بهذه الدعوة من إخواننا أهل السنة
وفيها التنبيه على أمور :
1) إننا متفقون على أن المتقدم أعلم وأقعد من المتأخر حتى قال
الذهبي في الإسماعيلي وقد توفي عام 371 " وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن
يلحقوا المتقدمين "
وقال شيخنا أبو عبد الرحمن الوادعي " فالمتقدمون أحدهم يعرف
المحدث وما روى عن شيخه وما روى عن طلبته ويحفظون كتاب فلان ، فإذا حدث بحديث
يقولون: هذا ليس بحديث فلان "
وقال شيخنا ناصر الدين " الأصل هو التسليم للعلماء المتقدمين
"
2) أننا متفقون على أن المتأخر ليس له أن يخالف ما أجمع عليه
المتقدمون قال الحافظ ابن حجر " يتبين عظم موقع كلام المتقدمين ، وشدة فحصهم
، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم
لهم فيه " .
3) المتقدمون كلامهم مقدم في أمور ليس للمتأخر أن يخالفهم فيها من
ذلك حكمهم في الجرح والتعديل فليس للمتأخر أن يقول سبرنا !! روايات فلان ثم يخرج
لنا بحكم يخالف فيه أهل الشأن من المتقدمين .
قال ابن كثير :" أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن
فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب ، وذلك للعلم بمعرفتهم ، و اطلاعهم ،
واضطلاعهم في هذا الشأن ، واتصفوا بالإنصاف والديانة ، والخبرة والنصح ، لا سيما
إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذاباً أو نحو ذلك فالمحدث الماهر
لا يتخالجه في مثل هذا وقفه في مواقفهم ، لصدقهم وأمانتهم و نصحهم " .
4) منهج المتأخرين الذي يدندن حوله هؤلاء لا وجود له في الواقع
وإنما الذي وجدناه أن بعض المتأخرين في تصرفاتهم واجتهادهم يخالفون المتقدمين في
التطبيق لكن ذلك لا يكفي ليكونوا منهجاً مستقلاً ، لأنهم يتفقون مع المتقدمين في
الخطوط العامة لهذا العلم .
5) محل الخلاف الذي يسوغ ويجب على المتخصصين في هذا العلم أن
يشبعوه بحثاً متفرع إلى فرعين :
الأول ) إذا اختلف المتقدمون فيما بينهم و كانت الكثرة في جانب فهل
يحق لنا أن نعارضهم بقول القلة !!.
ومثال ذلك إذا ضعف الإمام أحمد واسحاق وابن المديني وغيرهم حديثاً
وصححه الترمذي أو النسائي أو أبو داود وكانت الحجة في نظرنا مع الطرف الثاني فهل
يحق للمخالفين لنا أن ينكروا علينا ! ، وهل يحق للمخالف لنا أن يحكم علينا بأننا
على منهج المتأخرين وأنه على منهج المتقدمين .
الذي أعرفه عن شيخنا أبي عبد الرحمن الوادعي أنه على هذا المنهج
الذي ينكره أصحاب هذه الدعوة الجديدة ، وإن سموه منهج المتأخرين ولم أسمعه يستشهد
في هذا الباب إلا بحديث معاذ من طريق قتيبة ين سعيد فلما قلت له ياشيخ "
إعلال الحديث بتفرد الثقة منهج لبعض المتقدمين وجمهورهم لا يعل بمجرد التفرد
" فقال لي " يا أخانا يا أخانا أنت من تناطح !! "
فالشيخ يرى أن هذه الكثرة التي ردت حديث معاذ تمثل اتفاقاً لا يحق
للمتأخر مخالفته وهذا كما ذكرت سابقاً أمر متفق عليه .
والشيخ يقول " نعم إذا اختلف أئمة الحديث في الرواي أو في صحة
الحديث وضعفه، فلك أن تنظر إلى القواعد الحديثية وترجح ما تراه صوابا إذا كانت
لديك أهلية وإلا توقفت "
ولم نسمع الشيخ يوما ينتقد شيخنا الألباني في منهجه وطريقته كما
يفعل بعض الأغمار وإن كان يخالفه في حكمه على بعض الأحاديث.
تنبيه :
أن محل الخلاف المشار إليه
عند التطبيق العملي في الحكم على كثير من الأحاديث نجد أنه لا ينبني عليه عمل
فحديث معاذ في الجمع بين الصلاتين وإن قلنا بضعفه فعندنا حديث أبي جحيفة في
الصحيحين يقوم مقامه في بيان مشروعية جمع التقديم وقل مثل ذلك في حديث أبي موسى في
المسح وغيرهما .
الأمر الثاني ) إذا ذكر المتقدم علة في الإسناد أو المتن وكان عند
المتأخر جوابا شافياً لرد العلة التي صرح بها المتقدم فهل يحق للمتأخر مخالفة
المتقدم وهل يوصف حينئذ أنه على منهج المتأخرين !! .
قال شيخنا أسد السنة " لا شك أن الأمر الثاني هو الواجب على
طالب العلم القوي ، ولا يقف على قول ذلك الحافظ المتقدم في الحديث أنه منكر ،
اللهم إلا في حالة واحدة وهي : أن يذكر السند ويذكر العلة ، أما مجرد أن ينكر ذلك
المتن، أو ذلك الحديث ، ثم يبدو لبعض المتأخرين المتتبعين لسند الحديث فيجده
صحيحاً ، أو على الأقل حسناً ، وبخاصة إذا ما وجد له شواهد ومتابعات، حينئذ لا بد
من أن يتمسك برأيه واجتهاده وبالشرط الذي ذكرته آنفاً " .
براءة أئمة الدعوة في نجد من خوارج
العصر والرد على المرجفين :
لقد اعتاد بعض الأقزام
أذيال الغرب الطعن في دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وقد أُلف
في الدفاع عن دعوة الإمام الإصلاحية مؤلفات كثيرة لكننا في هذه الآونة الأخيرة نجد
حملة إعلامية قوية يتبناها الإعلام الغربي لتشويه هذه الدعوة المباركة والتي أسست
على قواعدها أنظمة هذه البلاد بلاد التوحيد المملكة العربية السعودية ، وقد كان
الملك المؤسس الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود من المناصرين لها والداعين
إليها والمنكرين على أهل الغلو ممن أضر بهذه الدعوة كما سأتي معنا في خطابه ، وقبل
أن أذكر كلام أئمة الدعوة في الرد على أهل الغلو وتبرئة دعوة الإمام منهم أردت أن
أبين مكانة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وما بلغه من العلم والفقه
والإمامة في الدين حتى حق لنا أن نقول : لم تلد النساء بعده مثله .
فالإمام رحمه الله في عقيدته [124]
على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين، أهل الفقه، والفتوى، في باب معرفة
اللّه، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها
الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول اللّه -r- بالقبول والتسليم،
يثبتونها، ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف
ولا تمثيل.
وأما توحيد العبادة، والإلهية، فقد
حققه غاية التحقيق، ووضح فيه المنهج والطريق؛ وقال: إن حقيقة ما عليه أهل الزمان،
وما جعلوه هو غاية الإسلام والإيمان، من طلب الحوائج من الأموات، وسؤالهم في
المهمات، وحج قبورهم، للعكوف عندها، والصلوات؛ هو بعينه فعل الجاهلية الأولى، من
دعاء اللات، والعزى، ومناة .
قال -رحمه اللّه-: ومعلوم أن المشركين، لم يزعموا أن الأنبياء،
والأولياء، والصالحين، شاركوا اللّه في خلق السماوات والأرض، واستقلوا بشيء من
التدبير، والتأثير، والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات
وقال -رحمه اللّه-: وهذه العبادات، التي صرفها
المشركون لآلهتهم، هي: أفعال العباد الصادرة منهم؛ كالحب، والخضوع، والإنابة،
والتوكل والدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، والنسك، والتقوى
والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلق القلوب والآمال، بفيضه، ومده، وإحسانه، وكرمه،
فهذه الأنواع: أشرف أنواع العبادة وأدلها؛ بل هي: لب سائر الأعمال الإسلامية،
وخلاصتها؛ وكل عمل يخلو منها فهو خداج، مردود على صاحبه.
وقال -رحمه اللّه-: وإنما أشرك، وكفر
من كفر من المشركين، بقصد غير اللّه بهذا، وتأليهه غير اللّه بذلك ...
وحكى عن أهل النار، أنهم
يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع اللّه: (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ
مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 97-98]
ومعلوم: أنهم ما ساووهم به، في الخلق، والتدبير، والتأثير، وإنما كانت التسوية، في
الحب، والخضوع، والتعظيم، والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
وقال -رحمه اللّه-: فجنس هؤلاء المشركين،
وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء، والصالحين، نحكم: بأنهم مشركون؛ ونرى كفرهم، إذا
قامت عليهم الحجة الرسالية؛ وما عدا هذا من الذنوب، التي هي دونه في المرتبة
والمفسدة، لا نكفر بها. ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا عباد
الأوثان والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه؛ وغلاة الجهمية
والقدرية والرافضة، ونحوهم ممن كفرهم السلف: لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى
والفتوى، من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى اللّه مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل
الذنوب من المسلمين.
وكان رحمه الله لا يرى: ترك السنن، والأخبار النبوية،
لرأي فقيه، ومذهب عالم، خالف ذلك باجتهاده، بل السنة: أجل في صدره وأعظم عنده، من
أن تترك لقول أحد، كائناً من كان .
وكان رحمه الله يوالي: الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم،
وإمامتهم، وأنهم في الفضل، والفضائل، في غاية رتبة، يقصر عنها المتطاول؛ وميله إلى
أقوال الإمام أحمد أكثر .
وكان رحمه الله يوالي: كافة أهل الإسلام، وعلمائهم،
من أهل الحديث، والفقه، والتفسير، وأهل الزهد والعبادة؛ ويرى المنع من الانفراد عن
أئمة الدين، من السلف الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما
ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر؛ ويؤمن: بما نطق به الكتاب،
وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم؛
لا يبيح من ذلك إلاّ ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول -r-، ومن
نسب إليه خلاف ذلك، فقد: كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه اللّه ما وعد
به أمثاله من المفترين.
والواقف على مصنفاته، وتقريراته، يعرف: أنه سباق
غايات، وصاحب آيات؛ لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه،
ومنازعيه، وخصومه، في الفضل، وشانئيه، يصدق عليهم: المثل السائر: بين أهل المحابر،
والدفاتر، شعر:
حَسَدُوا
الْفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ |
|
فَالْقَوْمُ أَعْدَاءٌ لَهُ
وَخُصُوْمُ |
كَضَرَاِئِرُ
الْحَسْنَاء قُلْنَ لِوَجْهِهَا |
|
حَسَدَاً وَبَغْيَاً إِنْهُ
لَدَمِيْمُ |
وله -رحمه اللّه-، من المناقب، والمآثر، ما لا
يخفى على أهل الفضائل، والبصائر؛ ومما اختصه اللّه به، من الكرامة: تسلط أعداء
الدين، وخصوم عباد اللّه المؤمنين، على مسبته، والتعرض لبهته، وغيبته، قال الشافعي
-رحمه اللّه-: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول اللّه -r-، إلا
ليزيدهم اللّه بذلك ثواباً، عند انقطاع أعمالهم؛ وأفضل الأمة بعد نبيها: أبوبكر،
وعمر؛ وقد ابتليا، من طعن أهل الجهالة، وسفهائهم؛ بما لا يخفى .
قال الشيخ إسحاق : بعض هذا
البحث، ذكره شيخنا: عبداللطيف ([125])،
في التأسيس([126])،
وأحببت إبرازه من مظانه، لينكشف للناس حقيقة ما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب،
ويزول عنهم الوهم، والإشكال؛ وحسبنا اللّه ونعم الوكيل، وصلى اللّه على أشرف
المرسلين، محمد، وآله وصحبه أجمعين.
قلت : فقد كان الإمام رحمه
الله من المجددين الذين أحياء الله بهم الدين وأنقذ بهم المسلمين ، ففي باب
العقيدة والتوحيد كان إليه المنتهى بالنسبة لأهل عصره وقد ألف في ذلك كتاباً قيماً
أسماه كتاب (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ) والشيخ رحمه الله لم يسبق إلى
مثل هذا التأليف وهو بهذا الكتاب يذكر مع أئمة السلف الذين برعوا في التأليف ولهم
مصنفات لم يسبقوا إليها .
وإن كان الإمام المقريزي له
كتاب في تجريد التوحيد لكن الشيخ فاقه في تأليفه وأتي بما لم يأت به ، وقد قام
بشرحه تلامذة الشيخ من بعده ومن أحسن تلك الشروحات الشرح المسمي بتيسير العزيز
الحميد للشيخ العلاًّمة سليمان بن عبد الله حفيد الشيخ لكنه لم يكمله ووصل في شرحه
إلى نهاية باب " من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار " ومن
تلك الشروح فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد الشيخ وهو عبارة عن اختصار
لتيسير العزيز الحميد لكنه زاد عليه بشرح المسائل التي يوردها الشيخ في آخر كل باب
وأكمل مالم يشرح منه وله أيضاً قرة عيون الموحدين ومن ذلك أيضاً إبطال التنديد
للشيخ حمد بن عتيق والقول السديد للشيخ عبد الرحمن بن سعدي شيخ شيخنا العلامة محمد
بن صالح العثيمين ، الذي ختم تلك الشروح بشرحه الماتع القول المفيد .
وللشيخ رحمه الله رسائل عدة في
كثير من مسائل التوحيد قرر فيها حقيقة التوحيد وما يضاده ورد فيها شبه أهل الزيغ
والضلال ومن ذلك :
آداب المشي إلى الصلاة –
القواعد الأربعة – أصول الإيمان – ثلاثة الأصول –نواقض الإسلام - الأصول الستة –
ستة أصول منقولة من السيرة – مختصر السيرة – قصص الأنبياء - فضل الإسلام – فضائل
القرآن – كشف الشبهات – مختصر الإنصاف والشرح الكبير – مختصر زاد المعاد – مفيد
المستفيد في كفر تارك التوحيد – مسائل الجاهلية – مجموع الحديث على أبواب الفقه .
ورسائل أخرى كثيرة (انظر كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره لعبد الله
العثيمين )
أما ما يتعلق بباب الفقه
والحديث والاجتهاد والتقليد فقد حرص الشيخ رحمه الله تعالى على إرجاع الناس إلى
الكتاب والسنة الصحيحة والتحاكم إليهما لكن اهتمامه بأمر الدعوة والجهاد ومحاربة
الشرك والرد على القبوريين لم يبق له وقتاً لتحقيق بعض المسائل الفقهية أو دراسة
بعض الأحاديث من جهة الإسناد لكن الذي يطلع على آثار الشيخ يجد أنه كان حريصاً على
ذلك وقد ظهر أثر ذلك في كثير من مؤلفاته .
قال الإمام المجدد محمد بن عبد
الوهاب كما في الدرر (1/100):
" أما المتأخرون رحمهم
الله فكتبهم عندنا ، فنعمل بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا نعمل به
"
ويذكر عنه أنه عندما سئل من
بعض طلابه ما الراجح في المذهب في مسألة كذا قال له قل ما الراجح من جهة الدليل
ولا تقل ما الراجح في المذهب .
ويقول رحمه الله تعالى في
ثلاثة الأصول "
اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل : الأولى العلم وهو معرفة
الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة . الثانية العمل به . الثالثة
الدعوة إليه. الرابعة الصبر على الأذى فيه .
والدليل قوله تعالى { بسم الله
الرحمن الرحيم . والعصر } الآيات. قال الشافعي رحمه الله تعالى لو ما أنزل الله
حُجَّة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ، وقال البخاري رحمه الله تعالى في كتابه
الصحيح ، باب العلم قبل القول والعمل والدليل قوله تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا
الله واستغفر لذنبك } فبدأ بالعلم قبل القول والعمل . "
وقال رحمه الله في الأصول
الستة (انظر الدرر السنيَّة 1/172) " من أعجب العجائب وأكبر الآيات
الدالات على قدرة الملك الغلاَّب : ستة أصول بينها الله تعالى بياناً واضحاً
للعوام فوق ما يظنه الظانون ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني
آدم إلا أقل القليل ... ثم ذكر رحمه الله تلك الأصول ومنها قال " الأصل
الرابع : بيان العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء ، وبيان من تشبه بهم وليس منهم ،
….. ثم صار هذا أغرب الأشياء ، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات ، وخيار ما
عندهم لبس الحق بالباطل ، وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه ، لا يتفوه
به إلا زنديق أو مجنون ، وصار من أنكره وعاداه ، وجدَّ في التحذير عنه ، والنهي
عنه ، هو الفقيه العالم ".
وبعد الأصل الخامس قال "
الأصل السادس : رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة ، و اتباع
الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة . وهي : أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا
المجتهد المطلق ، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا ، أوصافاً لعلها لا توجد تامة في
أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن الإنسان كذلك ، فليعرض عنهما فرضاً حتماً لا شك فيه لا
إشكال فيه ، ومن طلب الهدى منهما ، فهو إما زنديق ، وإما مجنون ، لأجل صعوبة
فهمهما ، فسبحان الله وبحمده ، كم بيَّن الله سبحانه شرعاً وقدراً ، خلقاً وأمراً
، في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى ، بلغت إلى حد الضروريات العامة { ولكن
أكثر الناس لا يعلمون } –الأعراف 187- { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ،
إنَّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } إلى قوله { فبشره
بمغفرة وأجر كريم } –يس 7-11 - . "
وقد سار على نهجه في الاتباع
وعدم التقليد تلامذته من بعده يقول العلاَّمة الشيخ سليمان بن عبد الله
بن محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع ، في شرحه لكتاب التوحيد قال " فإن
قلت : فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب . قيل يجوز من
ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة وتصوير المسائل فتكون
من نوع الكتب الآلية . " ا.هـ
ولقد أوتي الإمام محمد بن عبد
الوهاب رحمه
الله تعالى فقها وفهما في الدين قل أن تجده فيمن أتي بعده يقول رحمه الله كما في
الدرر السنية (4/5) " هذه أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها
، وهي من أعظم ما أنعم الله به على محمد r وأمته
حيث جعل دينهم ديناً كاملاً وافياً ، أكمل وأكثر علماً من جميع الأديان ، ومع ذلك
جمعه لهم في لفظ قليل ، وهذا مما ينبغي التفطن له ، قبل معرفة القواعد الأربع
..." ثم شرع رحمه الله في ذكر القواعد ، وسأذكرها هنا باختصار فذكر القاعدة
الأولى : وهي "تحريم القول على الله بلا علم "
ثم ذكر القاعدة الثانية : وهي
" أن كل شيء سكت عنه الشارع فهو عفو ، لا يحل لأحد أن يحرمه أو يوجبه أو
يستحبه أو يكرهه"
ثم ذكر القاعدة الثالثة وهي:
" أن ترك الدليل الواضح والاستدلال بلفظ متشابه هو طريق أهل الزيغ ، كالرافضة
والخوارج قال الله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } والواجب
على المسلم اتباع المحكم فإن عرف معنى المتشابه ، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه
وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم { آمنا به كل من عند ربنا } ".
ثم ذكر القاعدة الرابعة : أن
النبي r ذكر " أن الحلال
بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات
" فمن لم يفطن لهذه القاعدة وأراد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل فقد ضل
وأضل " أ.هـ
ولقد نبه رحمه الله على مسائل
في التوحيد لا يزال كثير من الناس غافلا عنها ، قال رحمه الله في جواب سؤال عما
يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به " كما في الدرر (1/102):نكفره بعد التعريف إذا
عرف وأنكر فنقول أعداؤنا معنا على أنواع :
ثم ذكر النوع الأول وهو من عرف
التوحيد ولازمه وما يضاده من الشرك ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا
دخل فيه ولا ترك الشرك فهو كافر ، قال : نقاتله بكفره مع أنه لا يبغض دين الرسول
ولا من دخل فيه ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس .
ثم ذكر النوع الثاني : من عرف
التوحيد وادعى أنه عامل به لكنه مدح من عبد الأولياء وفضلهم على من وحد الله وترك
الشرك وسب دين الرسول فهذا أعظم من الأول .
ثم ذكر النوع الثالث : من عرف
التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي
على الشرك فهذا كافر .
ثم ذكر النوع الرابع : من سلم
من هذا كله لكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد وساعين في قتالهم ويعتذر أن
ترك وطنه يشق عليه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده فهذا أيضا كافر.
قال " وإذا كنا لا نكفر
من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل
جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفِّر
ويقاتل ( سبحاك هذا بهتان عظيم ) " .
وبعد ، فهل يظن بهذا الإمام أن
يكون تلامذته على منهج منحرف ، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم ، بل لازال الأبناء
والأحفاد والتلاميذ يردون على الخوارج الخارجين عن طاعة ولي الأمر والمكفرين
للمسلمين بغير مكفر والطاعنين في العلماء وإليك كلامهم في بعض الطوائف التي خرجت
في زمانهم وما أشبه الليلة بالبارحة .
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف
بن عبد الرحمن بن حسن بن الإمام محمد بن عبد الوهاب مخاطباً طائفة خرجت في عهد
الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله محذراً لهم من اجتماع عقدوه [127]:
" وإن كان الاجتماع إنما هو للتفرق والاختلاف الذي هو من دين الجاهلية الأولى
، والطعن على من ولاه الله عليكم وعيبه وثلبه وتتبع عثراته للتشنيع ونسبة علمائه
إلى المداهنة والسكوت فهذه والله وصمة عظيمة وزلة وخيمةوقاكم الله شرها " .
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف
بن عبد الرحمن والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمها الله [128]
" ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة وسوء
الظن بهم وعدم الأخذ عنهم وهذا سبب لحرمان العلم النافع والعلماء ورثة الأنبياء في
كل زمان ومكان فلا يتلقى العلم إلا عنهم فمن زهد في الأخذ عنهم ولم يقبل ما نقلوه
فقد زهد في ميراث سيد المرسلين واعتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين الذين لا دراية
لهم بأحكام الشريعة ، والعلماء هم الأمناء على دين الله فواجب على كل مكلف أخذ
الدين عن أهله كما قال بعض السلف ، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم
" .
وقالا في الرد على من تعلق
بظواهر ألفاظ كلام أئمة الدعوة ولم يحمله على الوجه الصحيح " فأما من تعلق
بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين ولم يعرضها على العلماء بل يعتمد على فهمه
وربما قال حجتنا مجموعة التوحيد أو كلام العالم الفلاني وهو لا يعرف مقصوده بذلك
الكلام فإن هذا جهل وظلال ، ومن المعلوم أن أعظم الكلام وأصحه كلام الله العزيز
فلو قال إنسان ما نقبل إلا القرآن وتعلق بظاهر لفظ لا يعرف معناه أو أوله على غير
تأويله فقد ضاهى الخوارج المارقين فإذا كان هذا حال من اكتفى بالقرآن عن السنة
بكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب وهو لا يعرف معناها ولا ما يراد بألفاظها " .
وهاهم الخوارج اليوم يحتجون
على كثير من ضلالاتهم بكلام أئمة الدعوة ، و أئمة الدعوة منهم ومن ضلالاتهم براء .
ثم نقلا كلاماً لإمام الدعوة
وقالا عقبه " إذا عرف هذا تبين أن الذي يدعي أنه يستغني بمجموعة التوحيد عن
الأخذ عن العلماء المسلمين مخطيء لأن النبي ذكر أن سبب قبض العلم موت العلماء فإذا
ذهب العلماء واتخذ الناس رؤساء جهالاً وسألوهم وأخذوا بفتواهم ضلوا وأضلوا عياذاً
بالله " .
وقال الشيخ عمر بن محمد بن
سليم ( الدرر 7/314) " إذا عرف هذا تبين أن الذي يستغني بمجموعة التوحيد أو
يقلد من يقرأها عليه وهو لا يعرف معناها قد وقع في جهل وضلال بل يجب عليه الأخذ من
علماء المسلمين " .
وفي رسالة للملك عبد العزيز آل
سعود رحمه الله يناصح فيها طائفة أرادوا الخروج في عهده ولم يفهموا كلام إمام
الدعوة على الوجه الصحيح [129] قال مخاطباً إياهم : " هل أنتم على طريقة
الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عقيدته ومراسلاته ومناصحاته ودعوته الخلق إلى دين
الله ورسوله أم أنتم مخالفون له في ذلك غير متبعين له في أقواله ورسائله ومناصحاته
ومتبعون في ذلك أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل
"
وفي رسالة أرسلها جماعة من
أئمة الدعوة منهم : سعد بن حمد بن عتيق وسليمان بن سحمان وصالح بن عبد العزيز وعبد
العزيز بن عبد اللطيف وعمر بن عبد اللطيف وعبد الرحمن بن عبد اللطيف ومحمد بن
ابراهيم قالوا فيها [130]
" وأما الخروج ونزع اليد من طاعته فهذا لا يجوز وأنتم تزعمون أنكم على طريقة
مشايخكم وأنكم ما تخالفونهم في شيء يرونه لكم ! ، ولا ندري من هؤلاء المشايخ أهم
مشايخ المسلمين أم غيرهم ممن سلك غير سبيلهم ، ويريد فتح باب الفتن على الإسلام
والمسلمين ، أين الخط الذي قد شرفتمونا عليه ، أين السؤال الذي سألتمونا عنه
وأفتيناكم فيه ، أين الأمر الذي شاورتمونا عليه ، حتى الخط الذي تدعون أنكم تنصحون
الإمام عبد العزيز عن أمور يفعلها أنتم مشايخ أنفسكم تحللون وتحرمون على أنفسكم ،
ولا ترفعون لنا خبرا في شيء ، ودعواكم أنكم على طريقة المشايخ يكذبه ما صدر منكم
" .
إن المتأمل في حال الفرق جميعها يجد أنه تجمع بينهم صفة الغلو ،
ولا شك أن الغلو أمر مرفوض في الشريعة ففي سنن النسائي [131]:
عن ابْنُ عَبَّاسٍ مرفوعاً : إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ
فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ *
لكن الناس يفسرون الغلو بتفسيرات مختلفة فالنصارى ومن سار على طريقتهم
من العلمانيين يعنون به التمسك بالشرائع والتحاكم إليها ، وأما أهل العلم فيفسرون
الغلو بأنه مجاوزة الحد ، ولذلك لايلزم من الغلو التبديع ولا التكفير .
والناظر إلى واقع الدعوات المعاصرة يجد أن الغلو هو السمة الجامعة
لها وإنما أردنا بهذا البيان أن نقول إن من الدعوات المعاصرة من تبنى عقيدة من
العقائد المنحرفة كعقيدة الخوارج أو المرجئة ومنها من التزم بعقيدة أهل السنة
والجماعة أتباع السلف الصالح لكنه غلا في بعض الأبواب الأخرى مثل مفهوم الجماعة أو
التعصب للشيخ ، وغير ذلك من الأمور التي لا تقدح في أصل العقيدة وهؤلاء لم نقصدهم
في كتابنا هذا وإن كنا نخالفهم وننكر عليهم إلا أنهم يعدون من الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة التي أمرنا بالاجتماع والتعاون معها .
وأنا هنا أجمل أهم مظاهر الغلو التي وقع فيها المنتسبون إلى الدعوة
عموماً :
1.
الغلو في المشايخ
والقادة .
2.
الغلو في مفهوم
الجماعة .
3.
الغلو في الانتساب
للجماعة والتعصب لها .
4. الغلو في الحكم على الخارج من الجماعة ، بمفهومها الضيق .
5.
الغلو في الحكم على
مرتكب المعصية .
6.
الغلو في الحاكمية
وجعلها قسم من أقسام التوحيد .
7. الغلو في الحكم على الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر بدون تفصيل .
8. الغلو في الحكم على من حكم القوانين الوضعية بالكفر بدون تفصيل .
9.
الغلو في مسألة
الخروج على الحكام .
10.
الغلو في الحكم على
الأتباع المحكومين بالكفر .
11.
الغلو في الحكم على
المجتمعات المسلمة بالكفر .
12.
الغلو في البراءة
من المجتمعات المسلمة .
13.
الغلو في اعتزال
المجتمعات المسلمة.
14.
الغلو في الحكم على
المقيم غير المهاجر .
15.
الغلو في تكفير
المعين دون النظر إلى الشروط و الموانع .
16.
الغلو في تكفير من
لم يكفر الكافر بدون قيد .
17.
الغلو في التوقف
والتبين في الحكم على المسلمين.
18.
الغلو بإحداث أصول
تشريعية جديدة .
19.
الغلو في التحذير
من التقليد بدون تفصيل .
20.
الغلو في إبطال
الاجماع .
21.
الغلو و التشديد
على الناس في الدين .
22.
الغلو و التشديد
على النفس في الدين .
23.
الغلو في نقد
المناهج التعليمية .
24.
الغلو في ذم
التعليم والدعوة إلى الأمية .
25.
الغلو في تحريم
الوظائف الحكومية .
26.
الغلو في ترك الجمع
والجماعات .
27.
الغلو في القول
بمرحلية الأحكام .
فمظاهر الغلو لا يمكن التخلص منها إلا بالعلم النافع والعمل الصالح
كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله أو
التصفية والتربية كما يقول شيخنا ناصر الدين الألباني رحمه الله .
ضرورة التربية و التحذير من الحزبية
:
لقد اصبح من الضروري لكل طالب علم في هذا الزمان أن يُعد نفسه
للسير في ركب العلماء الذين هم حملة الدعوة ومرشدو الناس إلى سبيل المؤمنين . وان
يربي من حوله على المنهج الصحيح الذي أساسه العلم الصالح والعمل النافع . ولقد
أصبح جانب التربية في هذا الوقت مهملاً من كثير من أهل العلم بينما نجد جانب
التصفية قد أخذ حظاً وافراً من الاهتمام .
وفي خضم هذا التقصير الواضح نجد بعض المتحمسين مندفعين لإكمال هذا
الجانب وشعارهم جمّع وكتّل ثم علّم .
وهذا الأسلوب رغم أنه لا يستند إلى شيء من الآثار إلا أن الناظر
إلى حال كثير من الدعوات يجد أنه أسلوب يضر بالدعوة أكثر مما يصلح ، إلا أنني أقول
رغم حاجة الدعوة إلى التكتيل كما بدأ النبي أول جماعة ، إلا أنه لابد أن يتم هذا الأمر بدون
تكلّف لأنه ليس هو الغاية من الدعوة .
فمن سار في دعوته على المنهج الصحيح الذي سار عليه خير هذه الأمَّة
وهم السلف الصالح رضي الله عنهم ، سيفاجأ بكثرة الجموع التي تبحث عن طريق العلم
النافع والعمل الصالح و لن يحتاج إلى
التجميع كما يفعل أصحاب المناهج المنحرفة. وكما قال الشاعر :
وكل الخير في إتباع من سلف
وكل الشر في ابتداع من خلف
والذي ينبغي ، أن تكون التربية على العلم فإذا جلس الدعاة لتعليم
الناس العلم الشرعي فحينئذ تكون التربية ، لكن هذا لا يتم إلا من أهل العلم
المتثبتين وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه .
فالتربية تكون بالعلم لا مع العلم كما يفعل كثير من الدعاة اليوم
فالتربية عندهم تعني تربية الشباب على أمور لا علاقة لها بالعلم وإنما تزيد من
تكتل الشباب وتحزبهم وتعمق في نفوسهم الولاء لمنهج معين وأشخاص معينين . وللأسف
ترى هؤلاء الدعاة يبرهنون على صحة منهجهم
بأن حِلقهم لا تخلوا من دراسة للعلم الشرعي بل هو الغالب عليها وما درى أولئك
المساكين أن العلم ليس مقصوداً لذاته بل لا بد أن تكون التربية بالعلم وعلى العلم
لا مع العلم .
لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن أسلوب التربية المطبق في كثير من
المناشط الدعوية ، ولد ما يسمى بالحزبية وهي الحزبية المقيتة ولها ثلاث صور :
الأولى : حزبية التنظيم السري وهذه أكثرها شراً ومثالها ما عند
الإخوان المسلمين .
الثانية : حزبية المنهج المقترح وتتلخص في أن جماعة من الدعاة
جربوا أسلوباً في الدعوة والتنظيم الذي يعني تحديد المهام وتوزيع المسئوليات
فوجدوه أسلوباً ناجحاً فارتضوه لأنفسهم ونشروه بين الدعاة فكل من وافقهم على ما
اقترحوه فهو منهم ولو لم يروه وكل من خالفهم فهو ضدهم ولو كان معهم . لذلك تجد أن تربيتهم للشباب تقوم على تعميق
هذا المنهج المقترح في نفوسهم وبيان الأدلة المؤيدة له والرد على شبهات الخصوم .
الثالثة : حزبية الأشخاص وهذه الصورة دائرتها أكبر فهي تشمل
السابقتين وزيادة ، حتى أنك تجد بعض العوام واقعين فيها وصورتها أن من أحب فلاناً
فهو معنا ومن انتقده فهو خصمنا .
لذلك نجد انه لزاما على أهل الحل والعقد من إبراز المنهج السلفي الذي سار عليه السلف الصالح وتربية
الناس عليه وتمييز أهل هذا المنهج عن
غيرهم حتى لا يختلط الحق بغيره .
ولسنا هنا ننفي مشروعية التسمي بأهل السنة والجماعة حتى ينبري لنا
من يثبت مشروعية هذا الاسم بل الأمر يتعلق بضرورة تمييز أهل الحق بما لا يدع مجالا
لأهل الأهواء باختراق صفهم ، خاصة وان هنالك كتب كثيرة ينسب أصحابها اسم أهل السنة
والجماعة إلى الأشاعرة والماتريدية . ولا
يقال أنه ما دام اسم أهل السنة والجماعة هو الاسم الذي تناقله العلماء ودلت عليه
النصوص والآثار فنكتفي به !! ، فهذا القول منهم تناقض لأن الدلالة على اسم
المسلمين أكثر وآكد فلماذا لا نكتفي به . إذاً الغاية هي التمييز ويجب تحقيقها بما
لا يتعارض مع نصوص الشرع ، والله أعلم .
قال شيخنا أبو عبد الرحمن الوادعي " مارأيت شيئاً أشد على
الحزبيين من التميز والجرح والتعديل "
فالمهم والمقصد هو التميز فأهل الحق في كثير من البلاد يتسمون
أحياناً بأهل الحديث وأحياناً بالسلفيين وأحياناً بأنصار السنة وأحياناً بأهل
السنة وهكذا .
ولا بد من التنبيه هنا أن الذين يجادلون ويقولون نكتفي بأهل السنة
والجماعة قد وجدوا أن كل من اكتفى مثلهم بهذه التسمية قد وافقهم في عقيدتهم فلا
مناص لهم من التميز عن المخالفين لهم إلا بهذا الاسم بل أرادوا بهذا ، التميز عن
من تسموا بالسلفيين فليهنؤا بعقيدتهم التي خالفوا فيها أهل الحديث وأهل الأثر .
يقول شيخ الإسلام (الفتاوى 4/149) في سياق كلامه عن الأسماء التي
لم يدل الشرع على ذم أهلها ولا مدحهم :
" لا عيب على من اظهر مذهب السلف وانتسب إليه و اعتزى إليه بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق فان مذهب السلف لا يكون إلا حقاً فان كان موافقاً له ظاهراً وباطناً فهو بمنزلة
المؤمن الذي هو على الحق ظاهراً وباطناً
... "
ويقول أيضا في (الفتاوى5/28) " واعلم أنه ليس في العقل ولا
في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلا لكن هذا الموضع لا
يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق
فمن كان في قلبه شبهة واحب حلها فذلك سهل
يسير . "
ولا يعني ذلك أن كل من اخطأ وخالف قد خرج عن هذه الدائرة التي
يمثلها أهل الحق بل لابد من التريث في الحكم والتمييز بين خطأ وخطأ .
ولا يمكن أن تتم التربية على الوجه الصحيح إلا باتباع الأثر وسلوك
السبيل التي سار عليها السلف الصالح رضي الله عنهم وسيأتي بيان ذلك .
التحذير من الإحداث في الدين والأمر
بإتباع سبيل المؤمنين .
لقد أرسل الله محمداً r
هدى و رحمة للعالمين فلم يترك خيراً إلا وبينه لأمَّته وحثها
عليه ولم يترك شراً إلا وبينه لها وحذرها منه .
فكما في صحيح مسلم من حديث عبد
الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي r قال : ( ما بعث الله نبياً إلا
كان حقاً عليه أن يدل أمَّته على خير ما
يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم). وفي بعض
ألفاظ حديث العرباض بن سارية أن النبي r قال: (
قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها
بعدي إلا هالك)
رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح ( انظر الصحيحة 937)
فظهر بذلك أن النبي r قد بين لصحابته الذين هم حملة الشريعة كل ما يُصلح لهم دنياهم
وآخرتهم . ولذلك جاء
عن أبي ذر t كما في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني وصحيح ابن حبان أنه قال :
( تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما
طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم ) قال أبو حاتم معنى عندنا منه يعني بأوامره
ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحاته صلى الله عليه وسلم.
وهذا البيان من النبي r كان من الأمور المعلومة بالضرورة حتى عند أعداء الدعوة فكما جاء
في صحيح مسلم عن سلمان t أنه قيل له :( لقد علمكم نبيكم كل
شيء
حتى الخِراءة قال : أجل لقد نهانا r
أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن لا نستنجي باليمين وأن لا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار أو يستنجي
برجيع أو عظم ( ولقد علِم النبي r أن هذه الأمَّة سيدب فيها
داء
الفرقة وسيقع من بعض أفرادها من أهل الأهواء انحراف و زيغ
عن
الحق فعندما سئل عن أهل الحق الناجون وصفتهم قال r كما
أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي : ( ما أنا عليه
اليوم
وأصحابي ) وهو
حديث صحيح بشواهده .
ولذلك أمرنا الله سبحانه
وتعالى بالاهتداء بسبيلهم والالتزام بفهمهم وتطبيق النصوص وتنـزيلها على الوقائع
كما طبقوها ونزلوها رضي الله عنهم ، كما قال تعالى } ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى
ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم وساءت مصيراً {
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله
أن هذين الأمرين متلازمان ، وهما إتباع النبي r واتباع سبيل المؤمنين
ولقد
كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مصيباً حين استدل
بهذه
الآية على حجية الإجماع كما مر معنا في فصل سابق. (انظر الفتاوى 19/267)
والاحتجاج بالإجماع وجريان عمل
السلف أمر لازم لمن أراد أن يفهم الكتاب والسنَّة على
الوجه الصحيح الذي أراده الله ورسوله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى ( مجموع الفتاوى 3/ 157) " ثم من طريقة أهل السنَّة والجماعة اتباع آثار الرسول r باطناً
وظاهراً واتباع سبيل الأولين من المهاجرين
والأنصار واتباع وصية رسول الله r حيث قال
: ( عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثة بدعة وكلَّ
بدعة ضلالة ) ويعلمون أن أصدق الكلام
كلام الله وخير الهدى هدى محمد r ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام
أصناف الناس ويقدمون هدى محمد r على هدى كل أحد ، وبهذا سُموا أهل
الكتاب والسنَّة وسُموا أهل الجماعة لأن
الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ
الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم
المجتمعين والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين . وهم يزنون
بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه
الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة
مما
له تعلق بالدين . والإجماع الذي ينضبط هو
ماكان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت
الأمة "
ويقول رحمه الله كما في مجموع
الفتاوى (3/378) " وأنتم تعلمون أصلحكم الله أن السنَّة التي يجب اتباعها
ويحمد أهلها ويذم من خالفها هي سنَّة رسول الله r في أمور
الاعتقادات وأمور العبادات وسائر أمور الديانات وذلك إنما يعرف
بمعرفة أحاديث النبي r
الثابتة عنه في أقواله وأفعاله وما تركه من قول و عمل ثم ما كان
عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان
"
وبهذا يظهر لنا معنى قول النبي
r :" عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " كما جاء ذلك في حديث العرباض ابن سارية عند أبي داود
والنسائي . فالنبي r قال عضوا عليها ولم يقل عليهما
أي
أنها سنَّة واحدة من عند الله عن طريق رسول الله r.
فظهر بذلك أن ذكر الخلفاء
الراشدين إنما هو لبيان التنـزيل الصحيح لكلام الله و كلام رسول الله r حتى لا يفهمه كل أحد على طريقته أو منهجه الخاص
به أو مجرد قواعد اللغة العربية.
فالمرجع الأول في فهم النصوص
هم الخلفاء وقد اتفق أهل السنَّة والجماعة على أنهم خير أمة
محمد r ومن بعدهم الصحابة كافة . وزيادة في توسيع هذه القاعدة قال r : ( خير
الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) أخرجه
البخاري ومسلم .
فدل ذلك على أن جريان العمل -
على أمر ما - من أهل هذه القرون الثلاثة حجة شرعيَّة في
تفسير كلام الله وكلام رسوله وهؤلاء هم الذين
يطلق عليهم السلف وهم المعنيُّـون في
قوله تعالى } ومن
يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم
وساءت مصيراً { فاتضح بذلك أن سبيل السلف هو سبيل المؤمنين شرعاً و عقلاً .
إذا فهمت هذا أيها الطالب للحق
ظهر لك السر وراء حرص السلف رضي الله عنهم على الأخذ
بالآثار والدعوة إلى التمسك بها واتهام العقل ما لم يكن في
المسألة أثر صحيح .
يقول أبو سليمان الداراني رحمه
الله تعالى كما نقل ذلك ابن بطة في الإبانة الكبرى " أنه ليخطر على قلبي
الأمر فيه خير فلا أقبل ذلك إلا بشاهدين
عدلين الكتاب والسنَّة " وعنه أيضا " أنه ليخطر على قلبي الأمر فيه خير فلا
أعمل به حتى أجده في الأثر فإذا وجدته عملت به وحمدت
الله أن وافق مافي قلبي "
وكان الأوزاعي رحمه الله يقول
كما نقل ذلك السجزي في رسالته إلى أهل زبيد " عليك بآثار من سلف وإن رفضك
الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول " . فكانوا رحمهم الله ينهون عن الجدل
والمناظرات العقلية ويأمرون باتهام العقل
والإعراض عن تعظيمه والاكتفاء بالآثار
والسنن حتى قيل للإمام مالك رحمه الله "يا أبا عبد الله
الرجل يكون عالماً بالسنَّة يجادل عليها قال لا
، يخبر بالسنَّة فان قبلت منه وإلا أمسك " . وهذا الأثر نقله الإمام السجزي وقال في
رسالته لأهل زبيد " وليكن من قصد من
تكلم في السنَّة اتباعها وقبولها لا مغالبة
الخصوم فإنه يعان بذلك عليهم وإذا أراد المغالبة
ربما غُلب " ونقل عن الحسن بن الحسن البصري "أنه قيل
له نجادلك فقال لست في شك من ديني " . ونقل
أيضا عن الإمام مالك أنه قال " أو كلما جاءنا رجل أجدل
من
رجل تركنا مانزل به جبريل على محمد لجدله " وهذا الأثر
نقله
أيضا اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة وكذلك شيخ الإسلام كما في الفتاوى
الكبرى. وجاء عن أحد السلف كما نقل ذلك ابن بطة في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية وهي الكبرى أنه قيل له تعال إلى
ذلك الخان لأكلمك فأعرض عنه وقال له : لا ، فإن الدين ليس
لمن غلب "
ورحم الله ابن عون حيث قال
" رحم الله امرءاً لزم هذا الأثر وعمل به ورضي به وإن استثقله واستبطأه
".
قال الأوزاعي حدثني حسان بن
عطية قال : قال ابن أبي زكريا إن موضع الغائط مني غائر وإن الأحجار ليست تنقيه وقد
خشيت أن يكون استنجائي بالماء بدعة قال الأوزاعي فلما حدثنا حسانا بحديث النبي صلى
الله عليه وسلم الاستنجاء بثلاثة أحجار رجعيات و الماء أطهر ، قال ياليت ابن أبي
زكريا حيا حتى أقر عينيه بهذا الحديث .
وقال سفيان الثوري " أن
استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل "
.
وأكثر ما يلجأ من أعرض عن
الآثار ، إلى التأويل والقياس ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله تعالى ( مجموع الفتاوى 3/63 ) " فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه والقياس الفاسد لا
ينضبط كما قال الإمام أحمد : أكثر ما
يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس ، فالتأويل في
الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية وهو
كما قال ،
والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة
والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة "
فاعلم رحمك الله أن الطريق
واضحة بيِّنة كالشمس في رابعة النهار لا ينحرف عنها إلا جاهل أو صاحب هوى ، نسأل
الله أن يثبتنا على الحق وأن يميتنا على الإسلام
والسنَّة .
ولكن ينبغي أن يُعلم أن السلوك على هذه السبيل ، وهي سبيل الحق ، لا
يكون ابتداءً إلا لصاحب علم وأثر فإذا سلك السبيل كان قدوة لغيره في
سلوك سبيل المؤمنين فعلينا أن نجتهد في طلب العلم وأن نحرص على تعلم آثار السلف .
ففي الصحيحين :
عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ
الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ
الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ *
وفيهما : أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا
خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ
لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ *
وفي صحيح البخاري :
أن أَبَا بَكْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا
ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا
وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ
وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ
غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ
بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ قَالَ يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ
عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ
هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ قَالَ
فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ
بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ
أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي قَالَ يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ *
وفي الصحيحين :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ
فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا
الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ *
وقد بوب الإمام البخاري في
الصحيح :
بَاب كَيْفَ الْأَمْرُ إِذَا
لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ *
ثم ذكر بإسناده عن حُذَيْفَةَ
بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ
مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا
الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ
خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ
بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ
الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ
أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ
لَنَا قَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ فَمَا
تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ
وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ قَالَ
فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ
حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ *
فإذا كان للمسلمين جماعة وإمام
وجب لزومهما ولا جماعة إلا بإمام كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والإمام يقصد
به إما الإمام الأعظم وهذا متعذر منذ قرون ولم يقل أحد من علماء الإسلام أن شيئاً
من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم ، وقد سبق الكلام في هذه المسألة .
وإما يراد به إمام كل بقعة أو
دولة من الدول المعاصرة ، وهذا الثاني هو المشاهد في عصرنا خاصة .
فإذا وجدت الجماعة التي تحكّم
الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح وعليها إمام مسلم أقر له أهل الحل والعقد
بالبيعة ، فعليك بهذه الجماعة فإن يد الله مع الجماعة ، وإذا لم توجد فاعتزل تلك
الفرق كلها .
الألف والام هنا في كلمة (
الفرق) للجنس ولا يلزم من قولنا هذا دخول الفرقة الناجية كما ادعى بعضهم لأن النبي
e
أمر باعتزال الفرق كلها عند عدم وجود الجماعة وهي الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة ، فدل ذلك أن المقصود الفرق كلها وليس فقط ما ذكر في الحديث ،
كما فهم بعضهم ، فتلك التي ذُكرت في الحديث ، إنما ذُكرت لبيان عظم شرها .
ولقد كان الصحابة رضي الله
عنهم يعتزلون الفتن في أقل من هذا بل مع وجود الجماعة والإمام .
فهذا الصحابي الجليل أسامة بن
زيد رضي الله عنهما ، وكان ممن اعتزل الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ففي
صحيح البخاري :
أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى
أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ عَمْرٌو قَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ قَالَ أَرْسَلَنِي
أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ وَقَالَ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الْآنَ فَيَقُولُ مَا
خَلَّفَ صَاحِبَكَ فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الْأَسَدِ
لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ
فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ
فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي *
الفرقة الناجية والطائفة المنصورة :
قال أمير المؤمنين في الحديث
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه الجامع الصحيح في كتاب الاعتصام
بالكتاب والسنة .
بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ، ثم ذكر بإسناده عَنْ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ
اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ، وهو عند مسلم .
وفي صحيح مسلم :
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لَا
إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ .
قال الحافظ :
وَأَخْرَجَ الْحَاكِم فِي
عُلُوم الْحَدِيث بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ أَحْمَد " إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْل
الْحَدِيث فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ , وَمِنْ طَرِيق يَزِيد بْن هَارُون مِثْله
".
وفي سنن الترمذي :
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ
أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ هُمْ
أَصْحَابُ الْحَدِيثِ .
وهذا التفسير روي أيضاً عن
عبدالله بن المبارك وعن يزيد بن هارون أبو خالد الواسطي ، وعن أبي جعفر أحمد بن
سنان الواسطي وعن محمــد بن عيسى بن سَوْرَة الترمذي .
قال الحافظ أبو حاتم محمد بن
حبان في مقدمة صحيحه(الإحسان بتقريب صحيح
ابن حبان 1/ 20) : " ثم اختار طائفة لصفوته، وهداهم للزوم
طاعته، من إتباع سبل الأبرار في لزوم السنن والآثار، فزيَّن قلوبهم بالإيمان،
وأنطق ألسنتهم بالبيان، من كشف أعلام دينه، وإتباع سنن نبيه، بالدؤوب في الرحل
والأسفار، وفراق الأهل والأوطان، في جمع السنن ورفض الأهواء، والتفقه فيها بترك
الآراء، فتجرد القوم للحديث وطلبوه "
وفي شرف أصحاب الحديث روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى علي بن
المديني؛ قال في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " لا تزال طائفة من
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم " ؛ قال - أي ابن المديني - :
" هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذاهب الرسول، ويذبون عن العلم، ولولاهم لم
نجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئاً من السنن " .
وقال ابن رجب رحمه الله في (
كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ( ص 16 )
):
" وأما فتنة الشبهات
والأهواء المضلة؛ فبسببها تَفَرَّق أهل القبلة، وصاروا شيعاً، وكَفَّر بعضهم
بعضاً، وأصبحوا أعداءً وفرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا إخواناً قلوبهم على قلب رجل
واحد، فلم ينج من هذه كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية ، وهم المذكورون في قوله
صلى الله عليه وآله وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا
يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " .
قال الأوزاعي في قوله صلى الله
عليه وآله وسلم كما عند مسلم : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ )
" أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم
إلا رجل واحد ".
قال السفاريني في مدح الإمام
أحمد ( لوامع الأنوار البهية شرح الدرة المضية ( 1/60 )):
" فإنه إمام أهل الأثر
فمن نحى منحاه فهو الأثري "
ثم قال في بيان معنى أهل
الأثر:
" الذين إنما يأخذون عقيدتهم
من المأثور عن الله جلَّ شأنه في كتابه أو في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
أو ما ثبت وصحَّ عن السلف الصالح من الصحابة الكرام والتابعين الفخام؛ دون زبالات
أهل الأهواء والبدع ونخالات أصحاب الآراء " .
قال شيخنا الإمام المجدد ناصر
الدين الألباني رحمه الله في كتابه ( سلسلة الأحاديث الصحيحة ) : تحت عنوان "
من هي الطائفة الظاهرة المنصورة"
قال : "وقد يستغرب بعض
النــاس تفسير هـؤلاء الأئمــة للطائفــة الظاهرة والفرقة الناجية بأنهم أهل
الحديث، ولا غرابة في ذلك إذا تذكرنا ما يأتي :
أولاً : أنَّ أهل الحديث هم
بحُكْمِ اختصاصهم في دراسة السنة وما يتعلق من معرفة تراجم الرواة وعلل الحديث
وطرقه أعلم الناس قاطبة بسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وأخلاقه وعزواته
وما يتصل به صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : أن الأمة قد انقسمت
إلى فرق ومذاهب لم تكن في القرن الأول، ولكل مذهب أصوله وفروعه وأحاديثه التي
يستدل بها ويعتمد عليها، وأن المتمذهب بواحد منها يتعصب له، ويتمسك بكل ما فيه؛
دون أن يلتفت إلى المذاهب الأخرى وينظر لعله يجد فيها من الأحاديث ما لا يجده في
مذهبه الذي قلَّده؛ فإن من الثابت لدى أهل العلم أن في كل مذهب من السنة والأحاديث
ما لا يوجد في المذهب الآخر؛ فالمتمسك بالمذهب الواحد يضل ولا بد عن قسم عظيم من
السنة المحفوظة لدى المذاهب الأخرى .
وليس على هذا أهل الحديث؛
فإنهم يأخذون بكل حديث صح إسناده في أي مذهب كان، ومن أي طائفة كان راوية، ما دام
أنه مسلم ثقة، حتى لو كان شيعيّاً أو خارجيّاً أو قدريّاً، فضلاً عن أن يكون
حنفيّاً أو مالكيّاً أو غير ذلك .
وقد صرح بهذا الإمام الشافعي
رضي الله عنه حين خاطب الإمام أحمد بقوله : ( أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا جاءكم
الحديث صحيحاً؛ فأخبرني حتى أذهب إليه، سواء كان حجازيّاً أم كوفيّاً أم مصريّاً )
.أ,هـ
وأما قول بعض خوارج العصر إن
من شرط الطائفة المنصورة القتال فهذا من أقوال أهل البدع ولعل المنصف يظهر له
بجلاء ما في هذا القول من التنقص من الأئمة والعلماء عامة السابقين واللاحقين فهل
يشك سني في أن الإمام أحمد من الطائفة المنصورة بل هو إمامها في عصره وقل مثل هذا
في الأئمة السابقين وهل يشك سني سلفي في أن الإمام ابن باز والألباني وابن عثيمين
من الطائفة المنصورة في هذا العصر فأين القتال وأين هؤلاء، وغيرهم كثير .
قال بعضهم في مـعـالم طائـفته
المـنـصـورة:
" فهذه الأحاديث تدل على
أنّ الطائفة المنصورة التي مدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرطها القتال في
سبيل الله لإظهار الدين، وهي طائفة قائمة لم تنقطع أبداً ( لاتزال طائفة ...) ....
وأما قول كثير من السلف الصالح أن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث ؛ فهذا معنى حق
ومعنى قولهم هذا أي أنها على عقيدة أهل الحديث ، وعقيدتهم هي الأسلم والأعلم.
" ، فتأمل قول هذا المسكين " من شرطها القتال في سبيل الله " .
وتأمل تأويله لما تتابع عليه
العلماء من وصف الطائفة المنصورة بأنهم أهل الحديث .
قال " أي أنها على عقيدة
أهل الحديث " أي أنها مقاتلة وأراد بذلك إخراج أئمة العصر ممن يحذرون منه ومن
أمثاله ، وسيأتي الرد على هذا القول ، ومثله من قال " أرأيت إنساناً سليم
الاعتقاد، صحيح العبادة، نقي السريرة، على مذهب أهل السنة والجماعة في كل شيء،
لكنه رأي فساد الزمان وقال : أنا أرى الآن أن أعتزل الناس وأتركهم، فاعتزل في شعب
من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره؛ هل هذا تستطيع أن تقول : من الطائفة
المنصورة؟! لا تستطيع؛ لأنه لا يقاتل ولا يقاوم أصلاً حتى يتحقق له النصر، لكنـــك
تستطيع أن تقول : إنه من الفرقة الناجية؛ لأنه لم يأت بما يخشى أن يعوقه عن النجاة
".
لكن صاحب هذا القول توسع
قليلاً وجعل شرطها الجهاد بالمفهوم العام ولم يحصره في القتال ، والظاهر أن
الرجلين أراد كل منهما أن يجعل طائفته هي المنصورة ، فالأول جهادي ولذلك اشترط
القتال ، والثاني قطبي ولذلك اشترط الجهاد ويعني به جهاد الدعوة والأول نافح عن
قوله مستعيناً ببعض النصوص التي لم يضعها في موضعها ، والثاني استخدم أسلوب
العاطفة وحاول جاهداً إخراج أهل الحديث من الطائفة المنصورة لكنه حشرهم في الناجية
! ، وكلاهما لم يبينا قصد السلف بأهل الحديث .
قال أبو عبد الله الحاكم رحمـه الله بعد أن نقل
قول الإمام أحمد بن حنبل في معنى الطائفة المنصورة ( معرفة علوم الحديث ص2).
قال " وفي مثل هذا قيل :
من أَمَّـرَ السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحق ، فلقد أحسن أحمد بن حنبل في
تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم
أصحاب الحديث، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار
السلف من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى
آله أجمعين، من قوم آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعّم في الدمن والأوطار،
وقنعوا بالبؤس في الأسفار، مع مساكنة العلم والأخبار، وقنعوا عند جميع الأحاديث
والآثار بوجود الكسر والأطمار، قد رفضوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية،
وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء والزيغ، وجعلوا المساجد بيوتهم،
وأساطينها تكاهم، وبواريها فرشهم " .
فهؤلاء هم أهل الحديث وليس
المقصود فقط من اشتغل في التصحيح والتضعيف فكم من مبتدع ضال ، عرفناه من المشتغلين
بالتصحيح والتضعيف لكنه عندما حكَّم هواه ضل عن سواء السبيل ، لكن من اشتغل بهذا
العلم ونبذ التقليد والهوى فهو أولى الناس بالدخول في زمرتهم .
ثم نقل عن أبي بكر بن عيّاش
أنه قال : " إني لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس، يقيم أحدهم ببابي،
وقد كتب عني، فلو شاء أن يرجع ويقول : حدثني أبو بكر جميع حديثه فعل، إلا أنهم لا
يكذبون " .
ثم قال " إن أصحاب الحديث
خير الناس، وكيف لا يكونون كذلك، وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم
الكتابة، وسمرهم المعارضة، واسترواحهم المذاكرة، وخلوقهم المداد، ونومهم السهاد،
واصطلاءهم الضياء، وتوسدهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء،
ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، قلوبهم بالرضاء
في الأحوال عامرة، تعلّم السنن سرورهم، ومجالس العلم حبورهم، وأهل السنة قاطبة
إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم " .
فتأمل رحمك الله معنى أهل
الحديث عند السلف وماقاله ذاك الكاتب الذي ما كفاه الخروج على أئمة العصر حتى جمع
معهم علماء الأمة السابقين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله
تعالى في مدح أهل الحديث " وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً،
لكن لما أخبر النبي أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا
واحدة، وهي الجماعة، وفي الحديث عنه أنه قال ( هم من كان على مثل ما أنا عليه
اليوم وأصحابي ) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة
والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى،
أولوا المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين
أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة، قال فيهم النبي ( لا تزال طائفة
من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة ) .
فنسأل الله أن يجعلنا منهم،
وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، وصلى
الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمـًا كثيرًا " (مجموع الفتاوى (3 / 159))
.
فالقول الصحيح الذي تجتمع به
الأدلة أن الطائفة المنصورة وصف منوط بطائفتين من المؤمنين:
أهل العلم وهم أهل الحديث ومن
سار على دربهم كما مر معنا ، وأهل الجهاد الذين على عقيدة أهل الحديث لقوله صلى
الله عليه وسلم كما فى صحيح مسلم (لاتزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق
ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة).
فهم أهل العلم وأهل الجهاد
فالعلم وأهل العلم لا ينقطع وجودهم بدون خلاف إلى أن تهب الريح التي تقبض أرواح
المؤمنين ، والعلماء والمجاهدون من أهل الاعتقاد الصحيح هم أهل الكتاب وأهل الحديد
المذكورون في قوله تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان
ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من
ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوى عزيز) الحديد 25.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (10/354) " ومعلوم أنه إذا استقام ولاة الأمور … وفي الأثر صنفان إذا
صلحوا صلح الناس العلماء والأمراء ، أهل الكتاب و أهل الحديد " .
و قال ابن القيم رحمه الله في
إعلام الموقعين " إن قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء " .
وقد وروى الخطيب البغدادي
بإسناده عن إسحق بن عبدالله قال " أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم وأهل
الجهاد، قال: فأما أهل العلم فدلّوا الناس علي ماجاءت به الرسل، وأما أهل الجهاد
فجاهدوا على ماجاءت به الرسل" أهـ (الفقيه والمتفقِّه، 1/35).
لذلك يجوز أن تكون الطائفة جماعة
متعددة من أنواع المؤمنين ، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدّث ومفسّر وقائم
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال ابن حجر رحمه الله "
ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم
في أقطار الأرض ، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض
، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً ، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة
ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله " .
قلت وفي كلام الحافظ إشارة إلى
أن الطائفة المنصورة إذا تعينت بأنها الطائفة المقاتلة فهي التي تقاتل مع المهدي
وذلك يكون في آخر الزمان قبل خروج الريح التي تقبض أرواح المؤمنين ، فتأمل.
ففي صحيح مسلم :
عن عبد الرحمن بن شماسة المهري
قال كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله لا تقوم
الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده
عليهم فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة يا عقبة اسمع ما يقول
عبد الله فقال عقبة هو أعلم وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا
تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى
تأتيهم الساعة وهم على ذلك فقال عبد الله أجل ثم يبعث الله ريحا كريح المسك مسها
مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار
الناس عليهم تقوم الساعة"
وفيه : عن النواس بن سمعان ثم
قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في
طائفة النخل ...... فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل ثم المنارة
البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر
وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي
حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد
عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى
الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور
ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية
فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى
وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي
الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه
زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت
فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل
الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل
العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي
الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي
الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض
روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم
الساعة "
و أما جاء في بعض الأحاديث
التي احتج بها بعض أهل البدع على أن القتال شرط لهذه الطائفة فليس الأمر كذلك
لأننا عرفنا من الأدلة الأخرى أن وصف القتال ليس دائما بدون انقطاع بل دوامه في
زمان دون زمان ومكان دون مكان ويمكن أن يكون المعنى أنه لا ينقطع قبل قيام الساعة
بزمن طويل فيمكث الناس إلى قيام الساعة بدون قتال ، والأهم من ذلك أنه لم يذكر في
هذه الأحاديث أن هؤلاء فقط هم الطائفة المنصورة ، وقد مر معنا تفسير السلف للطائفة
المنصورة ولم يجعلوا القتال شرطاً لها .
من هذه الأحاديث ما جاء في
صحيح مسلم :
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَنْ يَبْرَحَ
هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
تَقُومَ السَّاعَةُ*
وفيه : عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ
ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ *
وفيه : عن مُعَاوِيَةَ بْنَ
أَبِي سُفْيَانَ ذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ أَسْمَعْهُ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ حَدِيثًا غَيْرَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي
الدِّينِ وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى
الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ * والحديث
أصله في الصحيحين .
وفي صحيح مسلم : عن عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَمْرِو ابْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَا تَقُومُ
السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ لَهُ
مَسْلَمَةُ يَا عُقْبَةُ اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ عُقْبَةُ
هُوَ أَعْلَمُ وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ
اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَجَلْ ثُمَّ
يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ فَلَا
تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا
قَبَضَتْهُ ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ *
وقد بوب البخاري في صحيحه :
بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ *
فقد أخبر النبي e في هذه الأحاديث وما في معناها أنه لا تزال طائفة من أمته تقاتل
في سبيل الله وأن ذلك لا ينقطع حتى آخر الزمان ، وبهذا المعنى ترجم كثير من الأئمة
لهذا الحديث فقد قال أبو داود في سننه: ( باب في دوام الجهاد ) ، وكذلك قال ابن
الجارود: ( باب دوام الجهاد إلى يوم القيامة ) .
قال الإمام الخطابي : ( فيه
بيان أن الجهاد لا ينقطع أبداً ، وإذا كان معقولاً أن الأئمة كلهم لا يتفق أن
يكونوا عدلاً ، فقد دل هذا على أن جهاد الكفار مع أئمة الجور واجب كهو مع أهل
العدل ).
وقال النووي: ( وفي هذا الحديث
معجزة ظاهرة ؛فإن هذا الوصف مازال بحمد الله تعالى من زمن النبي e إلى الآن ، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث ) .
لكن انقطاع القتال لفترة ثم رجوعه لا ينافي ما ذكر آنفا لأن السنة
العملية في حياة النبي e تبين ذلك فقد كان يحدث
انقطاع بين غزوات النبي e فالمقصود أنه ولو انقطع لسنوات لكنه لا يلبث أن
يعود وذلك إلى قيام الساعة فلا ينقطع بالمرة ، فأولى الناس بهذا المعنى أهل السنة
أهل الحديث ، فلا يفرح بهذا الخوارج ، فقد قرر بعضهم أن طائفته هي المنصورة وحجته
على ذلك أنه لا يوجد طائفة تقاتل في ذلك الوقت إلا هم ، وهذا القول قد بناه على أن
القتال لا ينقطع بالمرة وهذا لم يحدث على مر التاريخ ، بل أن الطائفة المنصورة
التي لا خلاف في استحقاقها هذا الوصف يمر بها زمان بلا قتال مع قول النبي "
يُقَاتِلُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
" وهم الذين يكونون مع عيسى عليه السلام ومعلوم أن عيسى في آخر الزمان
يمتنع عن القتال حين ظهور يأجوج ومأجوج كما في حديث النواس بن سمعان المذكور آنفا
، والله أعلم .
هذا ما تيسر رقمه في هذا السِفْر ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين .
* يمكنك تحميل الكتاب من الموقع لا حقاً ( (www.aburayd.cjb.net
[1]
رقم 308
[2]
البخاري برقم (1360) ومسلم برقم (24)
[3]
ص 170 ( فتح المجيد )
[4] ص36 ( شرح كتاب كشف الشبهات )
[5]
هذا الكتاب الذي بين يديك هو المختصر والأصل يقع في ثلاثة أجزاء .
[6]
وقد دأب خوارج العصر على تسمية المخالفين لهم من أهل السنة أتباع السلف الصالح
بالجامية ، ومع تحفظي على هذه التسمية إلا أنه من الظلم أن تعمم فيوصف بها كل سلفي
على الجادة .
[7]
وهي مجموعة من الأشرطة قمت بتسجيلها جمعت فيها فتاواه ومناقشاته مع بعض العلماء
أثناء وجوده بالسعودية في آخر حياته رحمه الله .
[8]
وهي فرقة انشقت من هذه الطائفة يتزعمها رجل مصري يلقب بالحداد وعندهم غلو في
التبديع وجهل بالسنن ومن أعظم ضلالاتهم أنهم فارقوا الجماعة بالطعن في أئمة العصر
وكبار العلماء على مدى التاريخ ابتداءً بأبي حنيفة وانتهاءً بالألباني رحمهم الله
جميعاً .
[9]
قال شيخنا أبو عبد الرحمن الوادعي ما رأيت شيئاً أشد على الحزبيين من التميز
والجرح والتعديل .
[10]
رقم (7852 ) وهو حديث صحيح ( انظر الصحيحة
1887 ، 2253)
[11]
البخاري برقم (100) و مسلم برقم (2673 )
[12]
ص68
[13]
البخاري برقم (7432 ) و مسلم برقم (1064)
[14]
البخاري (5058) و مسلم برقم (1064)
[15]
فرقة من رؤوس الخوارج القدماء .
[16]
ص132
[17]
ص75
[18]
رقم (1065)
[19]
وهم الأزارقة و النجدية ومن كان على طريقتهم .
[20]
لم أجده في صحيح البخاري
لكنه عند مسلم برقم 1812
[21]
البخاري (5058) و مسلم برقم (1064)
[22]
برقم ( 4103)
[23]
رواه مسلم
[24]
حلية الأولياء (7/26)
[25]
حلية الأولياء (3/9)
[26]
السير (6/294)
[27]
السير (7/428)
[28]
الدرر السنية (7/297)
[30]
ص126
[31]
البخاري برقم (100) و مسلم برقم (2673 )
[32]
رقم (2531) 2531
[33]
انظر السير (12/462) .
[34]
وقد اطلعت على رسالة لبعض
أهل الأهواء سماها معالم في الجرح والتعديل أراد بها هدم هذا العلم الذي أظهر
عواره وعوار أمثاله من أهل الأهواء ، وقد قال شيخنا مقبل الوادعي أمران ما رأيت
أشد منهما على الحزبيين الجرح والتعديل
والتميُّز .
[35]
ص129
[36]
شريط الدمعة البازية .
[37]
قلت : عمدة خوارج العصر في هذه المسألة ، هذا الاجماع الذي نقله ابن كثير والجواب
ما ذكره الشيخ الإمام وهذا يدل على فهمه وتبحره في العلم رفع الله درجته في الجنة
، وسيأتي بيان ذلك في مبحث خاص بهذه المسألة .
[38]
قلت : وهذا هو المقصود في كلام شيخ الإسلام " والإنسان متى حلل الحرام المجمع
عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً
باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله - على أحد القولين –
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) أي هو المستحل للحكم بغير ما
أنزل الله " لا كما أدعى بعض خوارج العصر .
[39]
قلت : وليس المقصود أن يقاتلوا من قبل أفراد ، بل من قبل دولة مسلمة كما حدث مع
المرتدين وكما سيأتي في كلام الشيخ ، وسيأتي الكلام عن هذه المسألة في مبحث ( قتال
الطائفة الممتنعة ) .
[40]
قلت : وهذا هو تحرير مذهب الشيخ أنه يرى فعلهم دليلا على الاستحلال ، فالاستحلال
عنده شرط في التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله فقد سئل الشيخ محمد بن إبراهيم :
إذا كان أهل بلد يقرون البغاء ، هل تكون بلد كفر ؟ أم لا ؟
فكان
جواب الشيخ : [ هذا ليس كفرا ، إلا إذا استحلوه ، وهو معصية عظيمة كبرى ينبغي
الهجرة من بلد دون هذا ، ويجب قتالهم حتى ينتهوا عن ذلك ] ،(مجموع فتاوى الشيخ
محمد بن إبراهيم 6/189)
[41]
رواها الحاكم في المستدرك وقال على شرط مسلم ، والبيهقي ، والنسائي في الكبرى .
[42]
البخاري برقم (7432 ) و مسلم برقم (1064)
[43]
قال الشيخ اللباني في صحيح سنن الترمذي (3000 ) حسن صحيح .
[44]
برقم ( 4103)
[45] (1/ 347) .
[46]
وقد صححه الشيخ الألباني في المشكاة ( 5269)
[47]
وهم الجهيمانيون وهؤلاء
غير جماعة الإخوان المسلمين المذكورة سابقاً .
[48]
ملخص مجموعة مقالات منشورة على الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت) .
[50]
مقدمة حقيقة الدعوة إلى الله تعالى للشيخ سعد الحصين .
[51]
ملخص مقال منشور بموقع مفكرة الإسلام على الشبكة العالمية مع بعض الإضافات .
[52]
قلت : فما أشبه الليلة بالبارحة .
[53]
وملوك مصر في ذلك الوقت كانوا يستغيثون بالأموات وهم
الذين أرسلوا حملتهم بقيادة ابراهيم باشا ابن محمد علي التي دمرت الدرعية
وأخذت علماءها أسرى وقتلوهم بمصر .
[54]
مثل إمامي العصر شيخنا الإمام الألباني وشيخنا الإمام ابن باز رحمهما الله .
[55]
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه في كتاب السنة .
[56]
وكلاهما على ضلال ولم يفهما النصوص الشرعية على وجهها لأنه لا يُعرف الباب من
أبواب العلم حتى يجمع كل ما جاء فيه وأما الاحتجاج ببعض وترك بعض فهذه طريقة أهل
البدع وقد جاء في ذم ذلك قوله تعالى " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ".
[57]
و من ذلك التكفير بكل عمل كفري دون اعتبار
الاعتقاد في بعضها وهذه طريقة الخوارج
فالموالاة عندهم كلها من الكفر الأكبر وكذلك طاعة المخلوق في معصية الله وكذلك الحكم بغير ما أنزل الله
ويقابلهم في الطرف الثاني طريقة المرجئة فلا كفر عندهم إلا بالاعتقاد حتى لو سجد
رجل لصنم فلا يكفرونه حتى يعرفوا اعتقاده وكلا الفريقين على ضلال والحق التفصيل في
هذه المسألة فمن أعمال الكفر ما يكفر به الواقع فيه ولو زعم أنه لم يعتقد
كالاستهزاء بالله أو برسوله أو بآياته والعياذ بالله ومن الأعمال ماهو مرتبط
بالاعتقاد والله أعلم .
[58]
أي في ترك آحادها وهو مطلق الترك لا الترك المطلق وهو ترك جنس العمل فإنه قد انعقد
إجماع أهل السنة على أن تارك جنس العمل كافر نقل الإجماع على ذلك الحميدي والآجري
وابن بطة وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع ، وتأمل قول
الإمام " من ترك أحد المباني الإسلامية " ( راجع ردنا على الحلبي وأبي
الحسن في مسألة تارك جنس العمل ، واجتماع الأئمة على نصرة مذهب أهل السنة).
[59]
وقد سبق تخريج هذه الآثار (انظر السلسلة الصحيحة 6/113).
[60]
وإسنادها صحيح كما قال شيخنا الألباني (انظر السلسلة الصحيحة 6/114) .
[61] بل أن الشيطان يفرح بالبدعة
أكثر من فرحه بمعاصي الشهوات قال سفيان " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ،
المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها " ، و عن أيوب السختياني قال "
ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا " وقد كان بعض السلف يتمنى
أن يقع ابنه في الزنا وشرب الخمر ولا يقع في الأهواء والبدع قال يونس بن عبيد
لابنه " أنهاك عن الزنى والسرقة وشرب الخمر ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن
تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو " وقال
سلام بن أبي مطيع " لأن ألقى الله بصحيفة الحجاج أحب إلي من أن ألقى
الله بصحيفة عمرو بن عبيد " .
[62]
أخرجه الطبري في التفسير .
[63]
التدوين في أخبار قزوين ( 2/461)
[64]
وقد رأيت بعضهم في رده على هؤلاء الموجبين يستشهد بقوله تعالى }وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (72) سورة الأنفال ولم يلتفت إلى أول الآية
وهو قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ
وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ
وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ { الآية !!
[65]
قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي : ( 3309) صحيح الإسناد
[66]
الصحيحة (958)
[67]
وقد حسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (2510 )
[68]
لا أدري كيف يفسر أصحاب الهيئة الجديدة هذا الأمر .
[69]
قال الحافظ في التلخيص " الشافعي والحاكم عن سفيان عن بن أبي نجيح عن عطاء عن
بن عباس ورواه الطبراني من رواية الحسن بن صالح عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن بن
عباس مرفوعا " قلت : وسيأتي بمعناه
عند البخاري في صحيحه .
[70]
وقد حسنهما الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (4309،4302) ، انظر الصحيحة (772)
[71]
في ظلال
القرآن : (3/1580)
[72]
قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي(
3085 )صحيح الإسناد .
(3) تفسير ابن عطية : (
6/412 ) .
[73] الدرر ( 7/290 الطبعة الثانية 1385)
[74]
رقم (1641)
[75]
رقم (2734)
[76]
صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (2765)
[77]
رقم (12001)
[78]
صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ( 2683) انظر الصحيحة 1723
[79]
من فرق الخوارج .
[80]
مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ،
القسم الخامس ، الرسائل الشخصية ص
220
[81] صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (
2194)
[82]
رقم 2887
[83]
انظر نيل الأوطار 5/367
[84]
رقم (5287)
[85]
رقم (2734)
[86]
وهو في صحيح الجامع برقم (6103)
[87]
السلسلة الصحيحة:440
[88]
السلسلة الصحيحة:423
[89]
وبهذا تعرف ضعف رواية الموطأ : " عَنْ مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ
فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَالَ مَالِك قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ "
[90]
رقم (3700)
[91]
رقم (1329) ، قال الشيخ الألباني : إسناده صحيح .
[92]
برقم (203)
[93]
انظر الصحيحة ( 1623) في مبحث رائع .
[94]
الصحيحة ( 1623)
[95]
قال بعض خوارج العصر فإن قيل وماذا عن إجماع الإمام ابن عبد البر رحمه الله ؟
- فالجواب : أن الإجماع الذي نقله الإمام ابن عبد البر هو على
ظاهره من دون تحريف ولا تأويل ، فالجور في الحكم صورة من صور الحكم بغير ما أنزل
الله تختلف عن صورة تشريع الأحكام المخالفة لشرع الله والحكم بها ….
فالإجماع منعقد على أن الجور في الحكم من الكبائر وهذا لا خلاف فيه فنحن نقرره
ونؤكده …. .
- قلت : فهاهو يوافقني وقد زعم في أول مقاله أنه يرد على نقلي
للإجماع فسبحان مقلب القلوب والأبصار .
[96]
وقد حاول بعضهم في لقاء له مع بعض القنوات أن يوهم السامعين أن الخلاف بيننا هو في
كون الكفر الأكبر هل يشترط له الاستحلال أم لا يشترط !!
[97] والمقصود بالقولين في كلام شيخ الإسلام : الأول
أن الآية على ظاهرها وهي في حق المسلمين في المستحل وهو القول الذي اعتمده هنا ،
والثاني أن المقصود بالكفر في الاية الكفر الأصغر كما هو قول ابن عباس وعامة السلف
، لا كما موه بعض خوارج العصر ، قال الشيخ
الامام عبد اللطيف بن عبد الرحمن ، " وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن
الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما
أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك ، ولكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل ، وأن كفره
مخرج عن الملة.." ا. ه (منهاج التأسيس والتقديس، ص: 70 طبعة الهداية 1407 ،
ص53 طبعة 1366 بتصحيح الفقي). وقد أشار إلى هذا شيخنا الإمام ، انظر مناقشة خوارج
العصر مع إمام العصر فيما سبق ) .
[98]
وقد دندن بعض خوارج العصر حول هذه العبارة محاولاً إيهام القراء بمذهبه المخالف
للإجماع ، ملقياً التهم كحال كل من لا حجة له .
[99]
رقم 1700
[100]
انظر فتح الباري (13/129) .
[101]
في نسخة " والاستحلال اعتقاد انها حلال له وذلك يكون تارة باعتقاد ان الله
احلها وتارة باعتقاد ان الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد ان الله حرمها "
[102]
مابين المعكوفين جعل الكاتب مكانه نقاط ...
[103]
هذا التعليق والذي يليه بين القوسين من الكاتب حسب ما فهمه .
[104]
انظر الفتاوى البازية في تحكيم القوانين الوضعية ص 5-12 ، إصدار جمعية إحياء
التراث الإسلامي .
[105]
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/84)
[106]
ومثله ماجاء في كتاب نواقض الإيمان .
[107]
انظر فتح الباري (13/129) .
[108]
وهو الإمام أبو عبد الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الإمام محمد بن
عبد الوهاب وهو ممن برع في جميع الفنون وحقق ما عجز عنه كبار العلماء حتى قيل في
رثائه :
لقد
أظلمت من كل أرجائها نجــــــد وقد
كان لي في عهدها بالهدى عهد
إلى
أن قيل :
لقد
حل بالسمحا من الخطب فاضع لدن
غاب من آفاقها الطالع الســـعد
إمام
التقى بحر الندى علم الهــدى عبد
اللطيف العالم الأوحد الفـــــــرد
قال
الشيخ عبدالله البسام في كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون ( 1/202) : الشيخ العلاَّمة القدوة الفهَّامة عبداللطيف بن
عبدالرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وُلِد في مدينة الدرعية عام
1225هـ ، ووالدته هي بنت عم أبيه الشيخ عبدالله ابن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ،
فجاء كريم الأبوين عريق الأصلين ، توفي في مدينة الرياض عام 1293هـ .
[109] وفيها رد على من أدعى من
خوارج العصر أن الواقع فيها " ولو بكلمة " يكفر !! ونسب مذهبه الباطل
لأئمة الدعوة وهم منه براء ، قال "إن نصرة الكفار على المسلمين - بأي نوع من
أنواع النصرة أو المعاونة ولو كانت بالكلام المجرد - هي كفر بواح ، ونفاق صراح ،
وفاعلها مرتكب لناقض من نواقض الإسلام – كما نص عليه أئمة الدعوة وغيرهم – غير
مؤمن بعقيدة الولاء والبراء."
[110]
انظر الرسالة في الدررالسنية في الأجوبة
النجدية ( 1/ 467 )، والرسائل والمسائل النجدية(3/1)
[111]
وهذه موالاة بالاتفاق لأن الله أنزل في ذلك قرآنا كما سيأتي .
[112]
وفي صحيح البخاري " ياحاطب ما حملك على ما صنعت " وهي نص صريح على عدم التكفير لأن من وقع في
الكفر من غير جهل ولا إكراه لا يقال له ذلك ، فلو سجد رجل لصنم ولم يكن جاهلاً ولا
مكرهاً فهل يقال له ما حملك على ما صنعت!! ، وجواب حاطب نص صريح
أيضاً على أن من أعان الكفار خشية سطوتهم وظلمهم فإنه لا يكفر .
[113]
وقد دأب خوارج العصر على استغلال مثل هذه الحوادث لتهييج الرعاع من الناس فاللهم
لطفك .
[114]
قال ابن كثير رحمه الله " أي مالؤوهم
وناصحوهم في الباطن على الباطل وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون ولهذا
قال الله عز وجل والله يعلم إسرارهم " قلت : فالأمر يرجع إلى ما يبطنون من
كفر أو إيمان .
[115]
وقد ذكر بعض المفسرين أن المقصود بذلك المعاونة على عداوة النبي صلى الله عليه
وسلم وتثبيط الناس عن الجهاد
[116]
حتى قال عمر رضي الله عنه كما في الصحيحين " علام نعطي الدنية في ديننا
" قال ابن القيم في ذكر فوائد هذه الغزوة " ومنها : أن مصالحة المشركين
ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ماهو شر منه "
[117]
قال الحافظ اسنادها صحيح .
[118]
صحيح البخاري رقم 3007
[119]
ص22
[120]
الدرر (7/309)
(1) السنة للخلال 1/134 .
[121]
(1/181) ، انظر المسائل والرسائل في
العقيدة للإمام أحمد( 2/5)
[122]
انظر مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، المسألة الثالثة .
[123]
الشريعة 1/345
(1)
انظر الدرر السنية ( 8 / 35 الطبعة
الثانية 1385هـ)
[124]
ماسيأتي من كلام الشيخ إسحاق ابن الشيخ الإمام عبدالرحمن بن حسن ابن الإمام محمحد بن عبد الوهاب في كتاب نبذة
نفيسة عن حقيقة دعوة الإمام المصلح محمد بن عبدالوهاب
([125]) هو الشيخ العلامة عبداللطيف ابن
الإمام عبدالرحمن ابن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، من كبار أئمة
الإسلام المحققين وعلماء الدعوة الإصلاحية الراسخين ، وقد مرت معنا ترجمته .
[127]
الدرر السنية (7/282)
[128]
الدرر السنية (7/297)
[129]
الدرر (7/306) .
[130]
الدرر(7/321)
[131]
وهو في صحيح سنن النسائي برقم (3057)