علم البيئة البحث عن نموذج جديد
تتمثل الموضوعات الرئيسية للمذهب البيئي في الآتي:
- ما بعد المادية POST-MATERIALISM
أول افتراض في النظرية البيئية أن الأنظمة البيئية ليست "مغلقة"، ولا تكفي نفسها بنفسها بصورة مطلقة، فكل نظام بيئي يتفاعل مع غيره من الأنظمة الأخرى، والعالم الطبيعي يتكون من شبكة من الأنظمة البيئية أكبرها المنظومة البيئية العالمية التي شاعت تسميتها بـ"المجال البيئي"eco-sphere أو "المجال البيولوجي" bio-sphere.
وقد غيّر التطور العلمي لعلم البيئة المفهوم عن العالم الطبيعي، ووضع الإنسان من المفهوم الذي يجعل الإنسان "سيدا" على الطبيعة إلى تصور يرى عكس ذلك، فالبشرية في الحاضر تواجه احتمال وقوع كارثة بيئية يعود السبب فيها تحديدًا إلى أن الإنسان في ملاحقته العمياء والمندفعة للثروة المادية أخل "بميزان الطبيعة"، وهدد الأنظمة البيئية التي لا يمكن للحياة البشرية أن تقوم إلا بها.
فاحتياطات المعادن وفق التقديرات لن تدوم أكثر مما يتراوح بين 40 و80 سنة. وخلال 50 عاما ستزول الغابات الاستوائية المطيرة التي من شأنها أن تنقي مناخ الأرض وتنظمه إذا ما استمر معدل التصحر الحالي، بالإضافة إلى ذلك فإن المصانع ومحطات الطاقة تلوث الأنهار والبحيرات والغابات التي تمد الإنسان بالغذاء والوقود والماء والموارد الحيوية الأخرى. وأخيرًا تمتلك التكنولوجيا الذرية القدرة على سحق الجنس البشري وتدمير الكوكب الذي يقله.
ولم تنظر الأيديولوجيات السياسية التقليدية بجدية أبدا إلى العلاقة بين الطبيعة والجنس البشري؛ فهي كلها تزعم أن البشر هم "أسياد" العالم الطبيعي، ومن ثَمَّ لم تزد الطبيعة عن كونها أحد الموارد الاقتصادية إلا قليلا، وبذلك كانت جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل. وقد أرجع فريتجوف كابرا في كتابه "نقطة التحول" (1982) جذور هذه الأفكار إلى علماء وفلاسفة القرن السابع عشر أمثال رينيه ديكارت وإسحق نيوتن الذين صوروا العالم كآلة يمكن تحليل جزئياتها وفهمها بالأساليب العلمية حديثة الاكتشاف، والتي تطلبت اختبار الافتراضات مقابل "الحقائق" من خلال تجارب كثيرة ودقيقة، معرضين في ذلك عن النظرة العضوية للعالم التي كان يقدمها الدين.
وقد حقق العلم تطورات بارزة في المعرفة الإنسانية، كما وضع أساس التنمية في الصناعة الحديثة و التكنولوجيا. وكان من عظم إنجازات العلم أن هيمن المذهب العلمي الوضعي scientism على البحث الفكري في العالم الحديث؛ حيث اعتبرت المعرفة الحسية هي سبيل المنهج العلمي المادي للوصول إلى الحقيقة، ونظر إليها باعتبارها الطريقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها، وهو ما وضع في نظر البيئيين الأساس الفلسفي للكارثة البيئية المعاصرة، فالعلم يتعامل مع الطبيعة على أنها آلة شأنها شأن أية آلة أخرى تكون معرضة للإهمال أو الإصلاح أو التعديل أو حتى الاستبدال.
ورأى "كابرا" أن الإنسان إذا تعلم أنه جزء من العالم الطبيعي –لا سيده- سينهار ذلك التشبث "بعالم نيوتن الآلي"، ويحل محله نموذج جديد أكثر احترامًا لموازين الطبيعة.
وانجذب المفكرون البيئيون أثناء بحثهم عن ذلك النموذج الجديد إلى مجموعة متنوعة من أفكار ونظريات مستقاة من العلم الحديث والأساطير القديمة والتراث الديني، ومفهوم الكلية Holism هو الفكرة الموحدة بين هذه الأفكار، لتعبر عن أن العالم يفهم بكليته لا بأجزائه الفردية، و يقوم "المذهب الكلي" holism على الاعتقاد بأن "الكل" أهم من "الأجزاء"، ويرى أن كل جزء لا يستقيم له معنى في ذاته إلا فيما يتعلق بالأجزاء الأخرى، وأخيرا فيما يتعلق بـ"الكل".
ففي مجال العلم الطبي –على سبيل المثال- كان المرض يفهم ويعالج على أنه خلل في عضو بعينه أو حتى في خلايا معينة في الجسم لا على أنه عدم توازن أصاب حياة المريض كلها. وبالتالي انصب الاهتمام على الأعراض العضوية، بينما تم تجاهل العوامل النفسية والاجتماعية والبيئية.
ويعالج التناول الكلي holistic للصحة "الإنسان ككل"؛ حيث ينظر إلى الإصابات والأمراض على أنها مجرد أعراض عضوية لما قد يكون تركيبا من العوامل العضوية والنفسية والاجتماعية والبيئية.
ويبين المذهب الكلي holism أن التقسيم التقليدي للمعرفة الإنسانية إلى أقسام منفصلة كالعلوم والفلسفة والتاريخ والسياسة... إلخ يفتت الظواهر ويفككها؛ فعلم الاقتصاد مثلا لم يعد مجرد دراسة إنتاج البضائع واستهلاكها؛ فالتناول الكلي holistic لعلم الاقتصاد يتطلب الاهتمام بالتكلفة البيئية للإنتاج وقيمته الأدبية والروحية وعواقبه السياسية.
وتؤكد هذه النظرة على أهمية إدراك العلاقات داخل النظام واندماج عناصرها المختلفة داخل الكيان الكلي. وكان لهذه النظرة إيحاءات راديكالية قوية؛ فالمعرفة الموضوعية على سبيل المثال تعد مستحيلة؛ لأن عملية الملاحظة نفسها تغير ما يتم ملاحظته، كما أن الفاعل والمفعول به واحد، فالباحث لا ينفصل عن تجربته وبيئته، وهكذا فإن النظر إلى العالم على أنه مجموعة من الأنظمة قد أحدث ثورة في علم الطبيعة وهو في طور تغيير العلوم الأخرى، ويمكن حتما أن يطبق بالطريقة نفسها على بحث المسائل الاجتماعية والسياسية والبيئية- باختصار يمكن "للفيزياء الجديدة" أن تقدم نموذجا قادرا على أن يحل محل النظرة الميكانيكية الصلبة.
وقد قدم الدين مصدرا خصبا للمفاهيم والنظريات الجديدة، وقد نبّه كابرا في كتابه "طاوية الفيزياء"(1975) إلى التوازي المهم بين أفكار الفيزياء الحديثة وأفكار صوفية الشرق، فقد رأى أن الديانات مثل الهندوسية والطاوية والبوذية -وعلى الأخص مذهب الزن- قد نادت بالوحدة أو توحد كل شيء وهي حقيقة لم يكتشفها العلم الغربي إلا في القرن العشرين.
وانجذب الكثيرون من حركة الخضر إلى الصوفية الشرقية حيث رأوا فيها فلسفة تعبر عن حكمة علم البيئة، كما رأوا فيها منهج حياة يحث على التعاطف مع بني البشر وغيرهم من الفصائل ومع العالم الطبيعي، ويرى كتاب آخرون أن مبادئ علم البيئة يتجسد في الديانات التوحيدية كالمسيحية واليهودية والإسلام التي تعتقد أن البشر والطبيعة من صنع إلهي. وقد وصف جوناثان بوريت المدير الأسبق لجماعة أصدقاء الأرض الكوكب الأرضي بأنه يمثل "أقوى تجسيد باد لنا لصنع الخالق"، ويرى أن المحافظة على هذا الكوكب وصيانته واجب ديني، وأن الإنسان لن يتوافق مع الطبيعة إلا إذا اعتبر نفسه عبدًا لله فوق الأرض.
ولكن لشيوع العلمانية تعود أكثر مفاهيم الخضر الغربيون انتشارًا إلى أفكار ما قبل المسيحية، فلم تميز الديانات البدائية في الأغلب بين البشر وغيرهم من أشكال الحياة، وقلما ميزت بين كائنات حية وغير حية؛ فجميع الأشياء الحجارة والأنهار والجبال وحتى الأرض نفسها التي صورت في الغالب بـ"الأرض الأم".
واهتم علماء البيئة بفكرة الأرض الأم في محاولة لإيجاد علاقة جديدة بين الإنسان والعالم الطبيعي، فقدّم جيمس لوفلوك الكيميائي الكندي في المجال الجوي، شارك وكالة ناسا NASA في برنامج الفضاء الخاص بها؛ حيث أدلى بدلوه في كيفية البحث عن حياة فوق كوكب المريخ، وفي كتابه "جايا" نظرة جديدة للحياة على الأرض 1979 فكرة أن الكوكب نفسه حي وسماه "جايا"، وهو اسم إله الأرض "جايا" عند اليونان. وعرف جيمس لوفلوك "جايا بأنه المجال البيولوجي للأرض ومجالها الجوي ومحيطاتها وتربتها" وحذر لوفلوك من "أن تدمير مثل هذا القدر الكبير من المنظومة البيئية لجهلنا بطبيعة ما تقوم به من عمل يشبه تفكيك نظام التحكم في طائرة جوية أثناء طيرانها".
* القدرة على الاستدامة SUSTAINABILITY
يرى علماء البيئة أن فرص الحياة البشرية غير المحدودة في النمو المادي والازدهار تمثل الافتراض المتأصل في المعتقدات السياسية التقليدية، والذي تنادي به جميع الأحزاب السياسية السائدة؛ ففي أجزاء عديدة من العالم يتمتع الناس بمستويات معيشة كانت تُعد مستحيلة منذ 50 أو 100 عام، فالعلم و التكنولوجيا دائما ما يحلان المشكلات القديمة كالفقر والمرض، كما يفتحان الباب أمام فرص جديدة من خلال التلفزيون والفيديو والكمبيوتر والإنسان الآلي (روبوت) و ركوب الجو بل ركوب الفضاء. ومع ذلك يرى منظور المركزية البيئية أن انتظار الازدهار والوفرة المادية غير المحدودة الذي سماه هيرمان دالي "هوس النمو" (1974) ليس مضللا فحسب بل هو مسبب أساسي للكارثة البيئية.
ويشيع بين المفكرين الخضر جمع الرأسمالية والشيوعية معا و تصويرهما كنماذج "للتقدم الصناعي"، ومن ثم تطلب الاقتصاد الأخضر تصورات معتدلة عن الطبيعة وإعادة التفكر في أهداف النشاط الاقتصادي، خصوصا فيما يتعلق بنظرة الإنسان إلى الأرض والموارد التي تحتوي عليها.
وقد وجهت حركة الخضر الانتباه إلى ما تعده "قنبلة الكثافة السكانية الموقوتة". ومثل هذا القلق ليس حديث العهد، فمنذ عام 1798 حذّر الاقتصادي ورجل الدين البريطاني "توماس مالثوس" (1766-1834) من أن الزيادة السكانية ستؤدي حتمًا إلى مجاعة شديدة عامة وفظيعة؛ لأن إنتاج الغذاء محدود. ولكن مالثوس أغفل قدرة أساليب الزراعة الحديثة على إطعام الكثافة السكانية دائمة الزيادة. ومع ذلك يرى الخضر المعاصرون أن أفكار مالثوس البيئية لم تكن غير صحيحة ولكنها سبقت عصرها؛ فالزيادة السكانية مشكلة في حد ذاتها، ولكنها أيضا تبرز خطورة المشاكل البيئية، فالحيز الذي يملؤه كل إنسان يزداد ضيقا، أي أن الناس يتكاثرون في العيش في مدن متسعة، لكنها تعاني من انفجار سكاني. أما الريف وهو الأقل تعرضا للضرر فينحصر في وقت الفراغ والترويح.
وتعد "أزمة الطاقة" من أكثر الموضوعات التي تعكس قلق البيئيين، فقد تحقق التقدم الصناعي Industrialism والوفرة الضخمة على حساب الفحم والغاز و احتياطيات البترول التي استنزفت لتوفر الوقود لمحطات الطاقة والمصانع والسيارات والطائرات... إلخ. والوقود وقود حفري تكوّن بتحلل أو اندماج الكائنات التي ماتت في عصور ما قبل التاريخ. وهذا الوقود الحفري غير قابل للتجدد فما أن ينفد لا يمكن الاستبدال به. ورأى شوماخر الاقتصادي البريطاني الذي ناصر في كتابه "الصغير جميل: دراسة في الاقتصاد لو أن الناس مهمون" (1973) أن مبدأ الإنتاج البشري مهم في التحليل الاقتصادي، وقدّم فلسفة اقتصادية مستمدة من البوذية تركز على أهمية الأخلاق و"العيش السليم". وكان معارضا للعملاق الصناعي، وآمن بالإنتاج "المعتدل"، كما دأب على دعم التكنولوجيا "المتوسطة".
وفي كتابه "الصغير جميل" ذهب إلى أن الإنسان أخطأ في اعتبار الطاقة "دخلاً" يتكرر كل أسبوع أو كل شهر بدلا من اعتبارها "رأس مال طبيعي" يضطر الإنسان إلى استهلاكه لحاجته. وأدى هذا الخطأ إلى أن زاد استهلاك الطاقة عاليا، خصوصا في سماء الغرب الصناعي في الوقت الذي اقتربت موارد الوقود المحدودة فيه من النضوب حيث من المحتمل أن تنفد قبل نهاية القرن الجديد.
ولا يركز الاقتصاد البيئي على التهديدات والتحذيرات فحسب بل يهتم أيضا بالحلول. فالوقود الحفري مثلا يعد شكلا من أشكال الطاقة "غير النظيفة"؛ لذلك اجتهدوا في البحث عن مصادر "نظيفة" للطاقة، ورهن علماء البيئة بقاء الجنس البشري وازدهاره على إدراك الإنسان أنه مجرد أحد عناصر المجال البيولوجي المركب، وأن هذا المجال البيولوجي لن يتمكن من دعم الحياة البشرية إلا إذا كان متوازنا وسليما. وبالتالي يجب الحكم على السياسات والأفعال بمبدأ "القدرة على الاستدامة"، أي قدرة النظام أو المجال البيولوجي في هذه الحالة على المحافظة على سلامته وبقائه.
تضع "القدرة على الاستدامة" حدودا للطموح الإنساني وأحلام الإنسان المادية؛ لأنها تحتم ألا يسبب الإنتاج إلا أقل القليل من الضرر للمنظومة البيئية العالمية الهشة، فمن الجلي أن الاستخدام الحالي للوقود الحفري مثلا غير قادر على الاستدامة؛ فالفحم والبترول والغاز الطبيعي ستنفد.
وبالتالي يجب أن تقوم السياسة القادرة على استدامة الطاقة على الحد من استخدام الوقود الحفري والبحث عن مصادر طاقة بديلة ومتجددة مثل الطاقة الشمسية والهوائية وطاقة الأمواج التي تعد قادرة على الاستدامة بحكم طبيعتها، ويمكن التعامل معها بوصفها "دخلا" لا "رأس مال طبيعي"؛ لهذا رأى الخضر أن "عصر الوقود الحفري" يجب أن يفسح الطريق أمام "العصر الشمسي"، كما حثوا الحكومات على بحث وتنمية مصادر الطاقة المتجددة.
واهتم أنصار البيئة بالقيم التي تدعم هذه الرؤية البديلة بدعم الإنسانية وتشجيع الناس على العمل الجماعي، والحديث عن مسئوليتنا أمام الأجيال القادمة، وقيمة "التكنولوجيا ذات الطابع الإنساني"، وهاجموا النزعة الاستهلاكيةconsumerism ، ودعوا إلى "العودة إلى الطبيعة".
تهتم السياسة البيئية بجميع أشكالها بتوجيه التفكير الأخلاقي في عدة اتجاهات مختلفة؛ وذلك لأن الأنظمة الأخلاقية الحداثية تكرس الفردية مركزية الإنسان بشكل واضح. فعلى سبيل المثال يرى المذهب النفعي "الخير" و"الشر" على أساس ما يمر به الإنسان من آلام ومتع. وللأفراد أن يتصرفوا بأي طريقة تجلب لهم أكبر قدر من السعادة وأقل قدر من التعاسة، وذلك بموجب أنهم نفعيون من الدرجة الأولى.
وإذا كانت ثمة مكانة للعالم غير البشري من الفصائل الأخرى من مملكة الحيوان والأشجار والنباتات والتربة وغيرها فهي قيمة أداتية، أي مجرد وسيلة لتحقيق أهداف الإنسان ومواءمة اهتماماته. وينطبق ذلك على النظريات العمالية في القيمة والتي تبناها الاقتصاديون الكلاسيكيون وأبرزهم ريكاردو في القرن التاسع عشر، بل وكارل ماركس أيضًا، ومفادها أن العالم غير البشري تكون له قيمة فقط عند الحد الذي "يختلط" فيه بالإنتاج والعمل البشري، أو عندما يدعم التفاعل بين الأفراد والطبيعة وتطوير مهارات الإنسان وإدراكه من خلال العمل.
والموضوع الأخلاقي الذي يتشبث به علماء البيئة بشدة هو الالتزام الأدبي تجاه الأجيال القادمة، فإن طبيعة المسائل البيئية تحتم ألا تظهر نتائج السلوك المتبع تجاهها إلا بعد عشرات -بل مئات- السنين وتعارض مقولات، مثل: لِمَ الاهتمام بنضوب الوقود الحفري إذا كان أهل هذا الزمن لن يكونوا موجودين عندما ينفد؟ ولِمَ القلق بشأن تراكم المخلفات النووية إذا كانت الأجيال التي ستتعامل معها لم تولد بعد؟
ومن الواضح أن الاهتمام بالمصالح العامة، وكذلك المصالح البشرية جمعاء لا يمتد إلى المستقبل إلا قليلاً.
يسعى علماء البيئة إلى مد مفهوم مصلحة الإنسان ليشمل الجنس البشري كله -الآن ومستقبلاً- وبالتالي لا يفرق بين الأجيال الحالية والأجيال في المستقبل ولا بين الأحياء ومن لم يولدوا بعد، وهو ما يجعل جيل الزمن الحاضر مجرد "حماة" للثروة التي كونتها الأجيال السابقة ووجبت المحافظة عليها من أجل الأجيال المستقبلية. ومن ناحية أخرى قد يرى الاشتراكيون البيئيون أن الاهتمام بالأجيال المستقبلية ما هو إلا صورة تعبر عن امتداد حب الإنسانية والتعاطف معها عبر الأزمنة تمامًا، كما يتعدى هذا الحب والتعاطف حدود القومية والعرق والنوع.
لكن نسبية هذه المنظومة القيمية وردها للطبيعة فقط كان من تجلياتها مساواة الإنسان بالحيوان ونزع خلافة الإنسان وتميزه على سائر الكائنات، وكانت النتيجة تتضمن أن يتم تناول الأخلاقيات البيئية بشكل أفقي يساوي البشر بباقي الكائنات الطبيعية، وتطبيق المعايير والقيم الأخلاقية الخاصة بالبشر على غيرهم من الفصائل والكائنات، وأكثر هذه المحاولات شيوعا هو "حقوق الحيوان"؛ حيث قدّم بيتر سينجر في كتابه "تحرير الحيوان" (1976) رؤية للدفاع عن رفاهية الحيوان، وأن الحيوان –شأنه شأن الإنسان- من مصلحته أن يتجنب الألم العضوي؛ ولهذا أدان أية محاولة لتقديم مصالح الإنسان على مصالح الحيوان، ووصفها بـ"التعصب النوعي"، فهي تحامل مستبد غير عقلاني يشبه التعصب الجنسي والعنصري. ولكن هذا الاهتمام الغيري بالفصائل الأخرى لا يحتم معاملة متساوية معها، فرأي سينجر لا يمكن تطبيقه على أشكال الحياة الجامدة كالأشجار والصخور والأنهار التي "لا تحتوي على قيمة ما" على حد وصفه.
وكان الفيلسوف الأمريكي توم ريجان في كتابه "الدفاع عن حقوق الحيوان" هو الذي قدّم الفكرة الأكثر راديكالية التي تقول بأن كلا من الإنسان والحيوان له أن يتمتع بالوضع الأدبي نفسه، استنادًا إلى أن كل الكائنات الحية لها صلاحية حيازة الحقوق، ويصعب في مثل هذا الوضع التمييز بين عوالم الإنسان والحيوان بل قد يكون مستحيلا، ومع ذلك أخبر ريجان أنه في الوقت الذي يتم فيه استثمار بعض الحقوق في الجنس البشري بموجب أن البشر قادرون على الفكر العقلي والسيطرة الأدبية على الذات تطبق هذه الحقوق فقط على مجموعات مختارة من الحيوانات وعلى الأخص على الثدييات الطبيعية والتي عمرها سنة أو أكثر.
ويتمثل الموقف الأدبي لعلم البيئة في أن الطبيعة لها قيمة في حد ذاتها، أي قيمة في جوهرها، ومن هذا المنطلق لا تتعلق الأخلاقيات البيئية بأية حال من الأحوال بالواسطة البشرية، ولا يمكن التعبير عنها بمجرد مد القيم البشرية إلى العالم غير البشري. وحاول جودين (1992) مثلا تقديم "نظرية خضراء في القيم" ترى وجوب تقدير الموارد تحديدًا؛ لأنها نتاج العمليات الطبيعية لا النشاط البشري، وأن هذه القيمة تنبع من حقيقة أن المنظر الطبيعي يساعد الأفراد على استشعار "بعض الإحساس والنمط في حياتهم"، وتقدير "شيء أكبر" من أنفسهم، وبالتالي يأتي تصوير الطبيعة نفسها كأنها مجتمع أخلاقي، وهو ما يعني أن البشر ما هم إلا "مواطنون عاديون" لا يمتلكون حقوقا أو يستحقون احتراما أكثر من أي عضو آخر في الجماعة الطبيعية.
ويملي مثل هذا الموقف الأدبي "مساواة مركزية بيولوجية"، وفي هذا أن يكون جميع الكائنات والكيانات في المجال البيئي لها قيمة أدبية متساوية؛ حيث إن كلا منهم يعد جزءًا من عالم مترابط، ووصف آرن نايس (1989) ذلك بأنه "حق متكافئ في الحياة والازدهار". ولكن اللافت أن هذا الموقف المؤمن بالقيمة في جوهر الطبيعة يخفق في إدراك أن الأخلاق قيمة بشرية مرتبطة بتحسين الحسن وتقبيح القبيح وهذا مصدره العقل والوحي، وأن "طبيعة" الطبيعة تنبع تحديدا من كونها بعيدة لا تعرف الأخلاق بل البقاء فيها للأقوى والقوانين هي قوانين مادية وحسب.
* ما بعد المادية POST-MATERIALISM
لما كان رفض السلوك الأناني والطمع المادي أحد الموضوعات الثابتة في المذهب البيئي، فقد سعى هذا المذهب إلى تقديم فلسفة بديلة تقوم على الرضا الشخصي والتوازن مع الطبيعة. وبالفعل يشيع ربط نمو الاهتمام بالموضوعات البيئية منذ ستينيات القرن العشرين بظاهرة ما بعد المادية POSTMATERIALISM البارز في كتابات إينجلهارت.
ويرى مذهب ما بعد المادية أنه بينما تغذي ظروف الندرة المادية السلوك الأناني، ستدفع ظروف انتشار الرخاء في الغرب الأفراد لمزيد من الإقبال على موضوعات، مثل "ما بعد المذهب المادي" أو "جودة الحياة"، وتهتم هذه الموضوعات جميعا بالأخلاق والعدالة السياسية والرضا الشخصي، كما تتضمن الحركة النسائية والسلام الدولي والتناغم العنصري وعلم البيئة وحقوق الحيوان.
ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار "المذهب البيئي" واحدًا من الحركات الاجتماعية"الجديدة" التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تلتزم التزاما كبيرا بجدول عمل يتجاوز أسس المجتمع الرأسمالي التقليدي وحداثته إلى ما بعد الحداثة وحقوق الجماعات وتعددية المنظومات القيمية والأخلاقية في سيولة ونسبية كاملة، وهو ما يعيننا على فهم ارتباط حركات البيئة الآن بحركات الراديكالية وبحقوق الشواذ.
فالمذهب البيئي في أحد أبعاده أيضًا يعطي حق التجريب لا في الطبيعة وميزانها بل في الجسد وأحاسيس الإنسان واختياراته وتحقيقه لذاته، وهو ما حذّر منه موراي بوكتشين الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي والمفكر البيئي وأحد النشطاء الراديكاليين، ومن أوائل المفكرين الاجتماعيين الذين تناولوا القضايا البيئية بجدية، والذي يرى أن الأزمة البيئية تعود إلى انهيار النسيج العضوي للمجتمع والطبيعة.
ووصف هذه النزعات المادية بأنها شكل من أشكال "معاداة الإنسانية"؛ حيث رأى أن اختلاقها للأساطير حول "الطبيعة" يمثل سقوطا لثقة الإنسان في طبيعته الاجتماعية المتجاوزة وتمركزًا حول جسده وإهمالا تامًّا للاهتمامات الأوسع، وهذا في رأيه هو أساس "تحول النموذج" الذي يجب أن يسعى المذهب البيئي إلى تحقيقه؛ حيث بذونه سيكرر الأخطاء التي ارتكبتها السياسة "القديمة" لعدم قدرتها على تخطي مفاهيمها وافتراضاتها الوضعية، حتى وإن حاولت الحديث عن "الروحانيات" التي هي في ذاتها تجربة فردية خلاصية وليست منظومة أخلاقية متجاوزة.
ويدعو الفيلسوف الأسترالي وورويك فوكس(1990) لتبني "علم البيئة المتعدي للجانب الشخصي".