رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم )
عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى البصرة, ليكون أميرها وواليها, جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:
" إن أمير المؤمنين عمر بعثني إليكم, أعلمكم كتاب ر بكم, وسنة نبيكم, وأنظف لكم طرقكم"..!!
وغشي الإنس من الدهشة والعجب ما غشيهم, فإنهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير, أما إن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم, فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..
فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:
" ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟
إنه عبدالله بن قيس المكنّى بـأبي موسى الأشعري..
غادر اليمن بلده ووطنه إلى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو إلى الله على بصيرة, ويأمر بمكارم الأخلاق..
وفي مكة, جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..
ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..
وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده, بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الإسلام, وأخوان شقيقان له, هم, أبو رهم, وأبو بردة..
وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..
ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..
وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه, فيقول فيهم وعنهم:
" إن الأشعريين اذا أرملوا في غزو, أو قلّ في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد, ثم اقتسموا بالسويّة.
" فهم مني.. وإنا منهم"..!!
ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين, الذين قدّر لهم إن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته, وإن يكونوا حملة الإسلام إلى الدنيا في كل عصورها ودهورها..
أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..
فهو مقاتل جسور, ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..
وهو مسالم طيب, وديع إلى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!
وهو فقيه, حصيف, ذكي يجيد تصويب فهمه إلى مغاليق الأمور, ويتألق في الإفتاء والقضاء, حتى قيل:
" قضاة هذه الأمة أربعة:
" عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!
ثم هو مع هذا, صاحب فطرة بريئة, من خدعه في الله, انخدع له..!!
وهو عظيم الولاء والمسؤولية..
وكبير الثقة بالناس..
لو أردنا إن نختار من واقع حياته شعارا, لكانت هذه العبارة:
" الإخلاص وليكن ما يكون"..
في مواطن الجهاد, كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه:
" سيّد الفوارس, أبو موسى"..!!
وإنه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:
" خرجنا مع رسول الله في غزاة, نقبت فيها أقدامنا, ونقّبت قدماي, وتساقطت أظفاري, حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!
وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..
فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل, ويحسمها في عزم أكيد..
ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس إن هبط الأشعري بجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..
بيد إنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. إنما أرادوا إن يهيئوا لأنفسهم الإعداد لضربة غادرة..
ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة إليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة, وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!
وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ إمبراطورية الفرس, كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه, بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..
وفي موقعة تستر بالذات, حيث انسحب الهرزمان بجيشه إليها وتحصّن بها, وجمع فيها جيوشا هائلة, كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..
ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين, على رأسهم عمار بن ياسر, والبراء بن مالك, وإنس بن مالك, ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..
واتقى الجيشان..
جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..
وانسحب الفرس إلى داخل مدينة تستر المحصنة..
وحاصرها المسلمون أياما طويلة, حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..
وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي, أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة, أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.
ولم تكد الأبواب تفتح, وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.
واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس, حيث بعث بهم أبو موسى إلى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..
على إن هذا المقاتل ذا المراس الشديد, لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل إلى أوّاب, بكّاء وديع كالعصفور...
يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:
" لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!
كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:
" شوّقنا إلى ربنا يا أبا موسى"..
كذلك لم يكن يشترك في قتال إلا إن يكون ضد جيوش مشركة, جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..
أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم, فإنه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.
ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية, وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.
ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة, وهو موقفه من التحكيم بين الإمام علي ومعاوية.
هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على إفراط أبي موسى في الطيبة إلى حد يسهل خداعه.
بيد إن الموقف كما سنراه, وبرغم ما عسى إن يكون فيه تسرّع أو خطأ, إنما يكشف عن عظمة هذا الصحابي الجليل, عظمة نفسه, وعظمة إيمانه بالحق, وبالناس, إن رأى أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في إنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا, كل فريق يتعصب لإمام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.
نقول: إن رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ, كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.
إن الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك إنما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم, فليتنازل الإمام علي عن الخلافة مؤقتا, وليتنازل عنها معاوية, على أن يرد الأمر كله من جديد إلى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.
هكذا ناقش أبو موسى القضية, وهكذا كان حله.
صحيح إن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.
وصحيح إن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي إن يمكّن من غرضه في إسقاط الحق المشروع. بيد إن الأمور في النزاع بين الإمام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام, في رأي أبي موسى, قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية, لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..
بل إن ذلك كله تطوّر إلى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الإسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.
فإزاحة أسباب النزاع والحرب, وتنحية أطرافه, مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..
ولقد كان من رأي الإمام علي حينما قبل مبدأ التحكيم, أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس, أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.
وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية, بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..
ولم يكن في دين أبي موسى, ولا في إخلاصه وصدقه ما يريب الإمام.. لكنه كان يدرك نوايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة, ويحب إن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الإمام علي إن ينخدع أبو موسى للآخرين, ويتحول التحكيم إلى مناورة من جانب واحد, تزيد الأمور سوءا...
بدأ التحيكم بين الفريقين..
أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الإمام علي..
وعمرو بن العاص, يمثل جانب معاوية.
والحق إن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.
ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين, الأشعري, وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو إن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى إعلانه خليفة للمسلمين, وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من إجماع رائع على حبه وتوقيره وإجلاله.
ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..
إن مغزى اقتراح أبي موسى, إنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الإمام علي..
ومعناه أيضا إنه مستعد لإسناد الخلافة إلى آخرين من أصحاب الرسول بدليل إنه اقترح عبدالله بن عم..
وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح إلى غايته, فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.
ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فإنه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام إلى وجهة أسلم, فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا, وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم, فيجب إن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..
وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجلي لصالح معاوية..
ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:
أبو موسى: يا عمرو, هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟
عمرو: وما هو..؟
أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر, فإنه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.
عمرو: وأين أنت من معاوية..؟
أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.
عمرو: ألست تعلم إن عثمان قتل مظلوما..؟
أبو موسى: بلى..
عمرو: فإن معاوية وليّ دم عثمان, وبيته في قريش ما قد علمت. فإن قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فإن لك في ذلك عذرا. تقول: إني وجدته ولي عثمان, والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا, اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أحد أصحابه..
أبو موسى: اتق الله يا عمرو..
أمّا ما ذكرت من شرف معاوية, فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فإنه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟
وأما قولك: إن معاوية ولي عثمان, فأولى منه عمرو بن عثمان..
ولكن إن طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره, بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..
عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟
أبو موسى: إن ابنك رجل صدق, ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا, فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..
عمرو: يا أبا موسى, إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما, ويطعم بالآخر..!!
أبو موسى: ويحك يا عمرو.. إن المسلمين قد أسندوا إلينا الأمر بعد إن تقارعوا السيوف, وتشاكوا بالرماح, فلا نردهم في فتنة.
عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى إن نخلع الرجلين, عليّا ومعاوية, ثم نجعلها شورى بين المسلمين, يختارون لأنفسهم من يحبوا..
عمرو: رضيت بهذا الرأي فإن صلاح النفوس فيه..
إن هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا إن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..
إن أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..
بل إنه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..
فعندما أراد عمرو إن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش, وولايته لدم عثمان, جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..
اذا كانت الخلافة بالشرف, فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..
وإذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه, فابن عثمان رضي الله عنه, أولى بهذه الولاية من معاوية..
لقد سارت قضية التحكيم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤوليتها عمرو بن العاص وحده..
فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر إلى الأمة, تقول كلمتها وتختار خليفتها..
ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..
ولم يكن يخطر ببال أبي موسى إن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الإسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ إلى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..
ولقد حذره ابن عباس حين رجع إليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..
حذره من مناورات عمرو وقال له:
" أخشى والله إن يكون عمرو قد خدعك, فإن كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده"..!
لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من إن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..
واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الإمام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..
ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:
" ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!
وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.
وقال:
" أيها الناس.. إنا قد نظن فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..
وإني قد خلعت عليا ومعاوية..
فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...
وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...
وصعد عمرو المنبر, وقال:
" أيها الناس, إن أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,
ألا وإني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فإنه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه.."!!
ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..
وعاد من جديد إلى عزلته, وأغذّ خطاه إلى مكة.. إلى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..
كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه وأصحابه وحبهم...
ففي حياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..
وبعد وفاة الرسول عاد إلى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الإسلام ضد فارس والروم..
وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..
وولاه الخليفة عثمان الكوفة..
وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..
ومن كلماته المضيئة عن القرآن:
" اتبعوا القرآن..
ولا تطمعوا في إن يتبعكم القرآن"..!!
وكان من أهل العبادة المثابرين..
وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:
" لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..
وذات يوم رطيب جاءه أجله..
وكست محيّاه إشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز
والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها:
تلك هي:
" اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...