رجال حول الرسول ( صلى الله عليه وسلم )

رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم )

  خالد بن سعيد ( فدائيّ - من الرعيل الأول )

 

  في بيت وارف النعمة, مزهو بالسيادة, ولأب له في قريش صدارة وزعامة, ولد خالد بن سعيد بن العاص, وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف..

ويوم بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة على استحياء, هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء, وعن رسالة تلقاها من الله ليبلغها إلى عباده, كان قلب خالد يلقي للنور الهامس سمعه وهو شهيد..!!

وطارت نفسه فرحا, كأنما كان وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ من قومه يتحدثون عن الدين الجديد, جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم, وبين الحين والحين يطعّم الحديث بكلمة منه, أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع, والتأثير, والإيحاء..!

كان الذي يراه آنئذ, يبصر شابا هادئ السمت, ذكيّ الصمت, بينما هو في باطنه وداخله, مهرجان حافل بالحركة والفرح.. فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح..

عيد بكل جمال العيد, وبهجة العيد وحماسة العيد, وضجة العيد..!!!

وكان الفتى يطوي على هذا العيد الكبير صدره, ويكتم سرّه, فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة محمد, لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!!

ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم بأمر, ويبلغ منها حدّ الامتلاء فإنها لا تملك لإفاضته دفعا..

وذات يوم..

ولكن لا.. فان النهار لم يطلع بعد, وخالد ما زال في نومه اليقظان, يعالج رؤيا شديدة الوطأة, حادة التأثير, نفاذة العبير..

 

  نقول إذن: ذات ليلة, رأى خالد بن سعيد في نومه أنه واقف على شفير نار عظيمة, وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه, ويريد أن يطرحه فيها, ثم رأى رسول الله يقبل عليه, ويجذبه بيمينه المباركة من إزاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب..

ويصحو من نومه مزوّدا بخطة العمل في يومه الجديد, فيسارع من فوره إلى دار أبي بكر, ويقصّ عليه الرؤيا.. وما كانت الرؤيا بحاجة إلى تعبير..

وقال له أبو بكر:

" انه الخير أريد لك.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه, فان الإسلام حاجزك عن النار".

وينطلق خالد باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي إلى مكانه فيلقاه, ويسأل النبي عن دعوته, فيجيبه عليه السلام:

" تؤمن بالله وحده, ولا تشرك به شيئا..

وتؤمن بمحمد عبده ورسوله.. وتخلع عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر, ولا تضر ولا تنفع"..

ويبسط خالد يمينه, فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة, ويقول خالد:

" إني أشهد أن لا اله إلا الله...

وأشهد أن محمدا رسول الله"..!!

وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها..

ينطلق لمهرجان كله الذي كان في باطنه.. ويبلغ النبأ أباه.

 

  يوم أسلم سعيد, لم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى أربعة أو خمسة,فهو إذن من الخمسة الأوائل المبكرين إلى الإسلام.

وحين يباكر بالإسلام واحد من ولد سعيد بن العاص, فان ذلك في رأي سعيد, عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش, ويهز الأرض تحت زعامته.

وهكذا دعا إليه خالد, وقال له:" أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يهيب آلهتنا"..؟؟

قال خالد: " إنه والله لصادق..

ولقد آمنت به واتبعته"..

هنالك انهال عليه أبوه ضربا, ثم زجّ به في غرفة مظلمة من داره, حيث صار حبيسها, ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا ..

وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه:

" والله انه لصادق, وإني به لمؤمن".

وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر لا يكفي, فخرج به إلى رمضاء مكة, حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!!

ولا يبلل شفتيه قطرة ماء..!!

ويئس الوالد من ولده, فعاد به إلى داره, وراح يغريه, ويرهبه.. يعده, ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق, يقول لأبيه:

" لن أدع الإسلام لشيء, وسأحيا به وأموت عليه"..

وصاح سعيد:

" إذن فاذهب عني يا لكع, فواللات لأمنعنّك القوت"..

وأجابه خالد:

".. والله خير الرازقين"..!!

وغادر الدار التي تعجّ بالرغد, من مطعم وملبس وراحة..

غادرها إلى الخصاصة والحرمان..

ولكن أي بأس..؟؟

أليس إيمانه معه..؟؟

ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره, وبكل حقه في مصيره..؟؟

ما الجوع إذن, وما الحرمان, وما العذاب..؟؟

 

  وإذا وجد إنسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي يدعو إليه محمد رسول الله, فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه في صفقة, الله صاحبها وواهبها...؟؟

وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية, ويتفوق على الحرمان بالإيمان..

وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية إلى الحبشة, كان خالد بن سعيد, ممن شدّوا رحالهم إليها..

 

  ويمكث خالد هناك إلى ما شاء الله أن يمكث, ثم يعود مع إخوانه راجعين إلى بلادهم, سنة سبع, فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر..

ويقيم خالد بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده, وأسسوا بناءه, ولا يغزو النبي غزوة, ولا يشهد مشهدا, إلا وخالد بن سعيد من السابقين..

وكان خالد بسبقه إلى الإسلام, وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم..

كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه ولا يضعه موضع المساومة.

قبل وفاة الرسول جعله عليه السلام واليا على اليمن..

ولما ترامت إليه أنباء استخلاف أبي بكر, ومبايعته غادر عمله قادما إلى المدينة..

وكأنه يعرف لأبي بكر الفضل الذي لا يطاول..

بيد أنه كان يرى أن أحق المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم:

 العباس مثلا, أو عليّ ابن أبي طالب..

ووقف إلى جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر..

وظل أبو بكر على حبه له, وتقديره إياه لا يكرهه على أن يبايع, ولا يكرهه لأنه لم يبايع, ولا يأتي ذكره بين المسلمين إلا أطراه الخليفة العظيم, وأثنى عليه بما هو أهله..

ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد, فإذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر, فيبايعه بيعة صادقة وثقى..

 

  ويسيّر أبا بكر جيوشه إلى الشام, ويعقد لخالد بن سعيد لواء, فيصير أحد أمراء الجيش..

ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات من المدينة أن يعارض عمر في إمارة خالد بن سعيد, ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر قراره بشأن إمارة خالد..

ويبلغ النبأ خالد, فلا يزيد على قول:

" والله ما سرّتنا ولايتكم, ولا ساءنا عزلكم"..!!

ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه إلى دار خالد معتذرا له, ومفسرا له موقفه الجديد, ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه, أو مع شرحبيل بن حسنة؟

فيجيب خالد إجابة تنمّ على عظمة نفسه وتقاها:

" ابن عمّي أحبّ إليّ في قرابته, وشرحبيل أحبّ في أحبّ إليّ في دينه"..

ثم اختار أن يكون جنديا في كتيبة شرحبيل بن حسنة..

 

 ودعا أبو بكر شرحبيل إليه قبل أن يتحرّك الجيش, وقال له:

" انظر خالد بن سعيد, فاعرف له من الحق عليك, مثل مل كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك, لو كنت مكانه, وكلن مكانك..

انك لتعرف مكانته في الإسلام..

وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال..

ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك..

وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه, فما أغبط أحد بالإمارة..!!

وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمّه..

فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح, فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح, ومعاذ بن جبل.. وليك خالد بن سعيد ثالثا, فانك واجد عندهم نصحا وخيرا..

وإياك واستبداد الرأي دونهم, أو إخفاءه عنهم"..

 

 وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام, حيث كانت المعارك تدور بين المسلمين والروم, رهيبة ضارية, كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على الله, شهيد جليل, قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة صادقة مؤمنة شجاعة..

ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء المعركة, كما كان دائما, هادئ السّمت, ذكي الصمت, قوي التصميم, فقال:

" اللهم ارض عن خالد بن سعيد"..!!  

عودة

الصفحة الرئيسية