رجال حول الرسول ( صلى الله عليه وسلم )

رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم )

 ثابت بن قيس ( خطيب رسول الله )

 

  كان حسّان بن ثابت شاعر رسول الله والإسلام..

وكان ثابت خطيب  خطيب رسول الله والإسلام..

وكانت الكلمات تخرج من فمه قوية, صادعة, جامعة رائعة..

وفي عام الوفود, وفد على لمدينة وفد بني تميم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

" جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا"..

فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم:

" قد أذنت لخطيبكم, فليقل"..

وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو بمفاخر قومه..

ولما آذن بانتهاء, قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه..

ونهض ثابت فقال:

" الحمد لله, الذي في السموات والأرض خلقه, قضى فيهنّ أمره, ووسع كرسيّه علمه, ولم يك شيء قط إلا من فضله..

ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة. واصطفى من خير خلقه رسولا.. أكرمهم نسبا. وأصدقهم حديثا. وأفضلهم حسبا, فأنزل عليه كتابه, وائتمنه على خلقه, فكان خيرة الله من العالمين..

ثم دعا الناس إلى الإيمان به, فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابا, وخيرهم فعالا..

ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابة..

فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله"..

  

  شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد, والمشاهد بعدها.

وكانت فدائيته من طراز عجيب.. جد عجيب..!!

في حروب الردّة, كان في الطليعة دائما, يحمل راية الأنصار, ويضرب بسيف لا يكبو, ولا ينبو..

وفي موقعة اليمامة, التي سبق الحديث عنها أكثر من مرة, رأى ثابت وقع الهجوم الخاطف لذي شنّه جيش مسيلمة الكذاب على المسلمين أول المعركة, فصاح بصوته النذير الجهير:

" والله, ما هذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

ثم ذهب بغير بعيد, وعاد وقد تحنّط, ولبس أكفانه, وصاح مرة أخرى:

" إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء..

يعني جيش مسيلمة..

وأعتذر إليك مما صاع هؤلاء..

يعني تراخي المسلمين في القتال"..

وانضم إليه سالم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحمل راية المهاجرين..

وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة ثم نزلا فيها قائمين, وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما..

وهكذا وقفا..طودين شامخين, نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفرة.. في حين نصفهما الأعلى, صدرهما وجبهتهما وذراعهما يستقبلان جيوش الوثنية والكذب..

وراحا يضربان بسيفهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما, ومالت شمس كل منهما للغروب..!!

وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في ردّ المسلمين إلى مواقعهم, حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه الأقدام..!!

   

وثابت بن قيس.. هذا الذي تفوّق خطيبا, وتفوّق محاربا كان يحمل نفسا أوابة, وقلبا خاشعا مخبتا, وكان من أكثر المسلمين وجلا من الله, وحياء منه..

  

  لما نزلت الآية الكريمة:

( إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا {36}النساء)..

أغلق ثابت باب داره, وجلس يبكي..وطال مكثه على هذه الحال, حتى نمى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, فدعاه وسأله.

فقال ثابت:

" يا رسول الله, إني أحب الثوب الجميل, والنعل الجميل, وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين"..

فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيا:

" انك لست منهم..

بل تعيش بخير..

وتموت بخير..

وتدخل الجنة".

ولما نزل قول الله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {2}الحجرات )..

أغلق ثابت عليه داره, وطفق يبكي..

وافتقده الرسول فسأل عنه, ثم أرسل من يدعوه...

وجاء ثابت..

وسأله الرسول عن سبب غيابه, فأجابه:

" إني امرؤ جهير الصوت..

وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله..

وإذن فقد حبط عملي, وأنا من أهل النار"..!!

وأجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:

" انك لست منهم..

بل تعيش حميدا..

وتقتل شهيدا..

ويدخلك الله الجنة".

  

  بقي في قصة ثابت واقعة, قد لا يستريح إليها أولئك الذين حصروا تفكيرهم  وشعورهم ورؤاهم داخل عالمهم الماديّ الضيّق  الذي يلمسونه, أو يبصرونه, أو يشمّونه..!

ومع هذا, فالواقعة صحيحة, وتفسيرها مبين وميّسر لكل من يستخدم مع البصر, البصيرة..

بعد أن استشهد ثابت في المعركة, مرّ به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام ورأى على جثمان ثابت دعه الثمينة, فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه, فأخذها..

ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:

".. وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه.

فقال له: إني أوصيك بوصية, فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه.

إني لما استشهدت بالأمس, مرّ بي رجل من المسلمين.

فأخذ درعي..

وان منزله في أقصى الناس, وفرسه يستنّ في طوله, أي في لجامه وشكيمته.

وقد كفأ على الدرع برمة, وفوق الأبرمة رحل..

فأت خالدا, فمره أن يبعث فيأخذها..

فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر, فقل له: إن عليّ من الدين كذا كذا..

فليقم بسداده..

فلما استيقظ الرجل من نومه, أتى خالد بن الوليد, فقصّ عليه رؤياه..

فأرسل خالد من يأتي بالدرع, فوجدها كما وصف ثابت تماما..

ولما رجع المسلمون إلى المدينة, قصّ المسلم على الخليفة الرؤيا, فأنجز وصيّة ثابت..

وليس في الإسلام وصيّة ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو, سوى وصيّة ثابت بن قيس..

 

  حقا إن الإنسان لسرّ كبير..

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169}آل عمران ).

 

عودة

الصفحة الرئيسية