الـبــاب الثالث
الهداية في منظور الإسلام
الفصل الأوَّل:
إن الله تعالى هو الهادي الَّذي يهدي من اتَّبع تعاليمه سُبل النُّور والسلام، ويتعهَّد المؤمنين بولايته وحبِّه، ويخرجهم من ظلمات الجهل والتخلُّف إلى ضياء العلم والتقدُّم.
فالجهل ظلام يغشى العقل، ويلقي به فريسة سهلة بين براثن الأفكار والمفاهيم الفاسدة المغلَّفة بالمظاهر البرَّاقة، ممَّا يجعل المرء يغرق أكثر فأكثر في مستنقع الأوهام والخرافات الضالَّة والمُضِلَّة، ويركن إلى ما ورثه عن آبائه وأجداده من الجهالات البالية دون أن يختبر حقيقتها ويتأكَّد من مدى صحَّتها ومصداقيَّتها. وقد شُبِّهت هذه الجهالات في القرآن الكريم بالظُّلمات، قال تعالى: {الله ولِيُّ الَّذين آمَنُوا يُخرِجُهُم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والَّذين كَفَرُوا أولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم منَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أولَئِك أصحَابُ النَّارِ هم فيها خَالِدُونَ} (2 البقرة آية 257) فالنُّور الحقيقي هو ما يعتمل في قلب الإنسان وعقله وضميره، ويتجلَّى بالقيم والأخلاق الَّتي تُرضي الله عزَّ وجل، فإن غاب عنه هذا النور الجليل فهو في حكم الميت. والقلب العاجز عن تلقِّي النور الإلهي والتَّفاعل معه هو قلب فاقد للحياة الربَّانية؛ لأن ذروة سعيه هي المتع الحسيَّة، وأقصى طموحه هو النِّعَم المادية، وبذلك يقصِّر عن التطلُّع إلى نعيم الحضرة الإلهيَّة. وكذلك العقل الجامد، هو ميِّت لأن أُفُقَهُ محدود مقيَّد بالمادِّيات الَّتي تدركها حواسُّه في هذه الأرض، ولا مُرتقى له إلى عالم الغيب ورحاب الإيمان. أمَّا الضمير فيصبح ميِّتاً عندما يكون ولاء صاحبه موزَّعاً بين متعلَّقات شتَّى شغلته عن الإله الحقيقي، فيبقى منجذباً إليها لإشباع نزواته الطائشة وغرائزه الرَّخيصة. ولاشكَّ في أن أيَّ حضارة يقوم ببنائها إنسان بهذه المواصفات، ويتحرك ضمن هذا الإطار، لهي حضارة عقيمة، ميتة، لا حُبَّ فيها ولا عطاء، إنها حضارة زخارف وجدران لا حضارة مضمون ووجدان، إنها تبهر الناظر، ولكنَّها عاجزة عن منح النور للعقل، والحياة للقلب، والسعادة للمجتمع.
وبهذا تظهر ميزة الحضارة الإيمانية الشاملة، لانطلاقها من معرفة الإنسان لخالقه، وتطبيقه لتعاليمه بجدٍّ وثبات. وبهذه الحضارة يلتقي العقل والعلم والإيمان لتحقيق خير الإنسانيَّة ورفاهيَّتها وتقدُّمها في كلِّ أصقاع الأرض وأقطابها. عندها يستظلُّ الجميع برحمة الله ونوره، ذلك النور الَّذي ذكرته الآية الكريمة والمتمثِّل في هدي الله عزَّ وجل، وشرعه الَّذي جاءت به الرسل ليجعل من الإنسان أخاً للإنسان يحبُّ له ما يحبُّ لنفسه وليكون ذلك الشرع عوناً له على كلِّ ما يكفل له الخير والسعادة.
أمَّا الطَّاغوت الَّذي ورد ذكره في الآية الكريمة فهو الطُّغيان وهو كلُّ ما يُطغي الإنسان ويُضلُّه عن طريق الحقِّ والهدى؛ فيجعله في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، كظلمة الهوى والشَّهوة، والرِّياء والنِّفاق وغير ذلك ممَّا تكتسبه النفس الأمَّارة بالسُّوء ببعدها عن طريق الله. وهذه الظلمات تؤدِّي بأصحابها إلى المهالك وتفقدهم السلطة على أنفسهم، وتدفعهم إلى تولية زمامها لتلك المعبودات الباطلة الَّتي كانت مقبرةً لعقولهم، ليكونوا من أصحاب النار خالدين فيها أبداً.
والإنسان مخلوق ضعيف محدود المدارك والإمكانات، لذلك فهو عاجز عن أن يعرف الله تعالى بمفرده وبمعزل عـن توجيهه ـ سـبحانه ـ وإرشـاده له، فهو يوقن بالفطرة أن للكون إلهاً وخالقاً ولكنَّه لا يعرف صفات هذا الإله. ولذلك فقد توجَّه تارة إلى عبادة النجوم، وتارة أخرى إلى عبادة القمر، ثمَّ الشمس، ثمَّ اتَّبَع كلَّ ما هو غامض يوحي بالقوَّة، ولا يستطيع أن يحلَّ رموزه وأسراره فجعله إلهاً؛ فعبد النار والطبيعة وأشياء أخرى. ولكنَّه في فترة من الزَّمن تقزَّم بفعله وانحدر بفكره فاتَّخذ من الحجارة أصناماً وراح يعبدها، جاهلاً أو متجاهلاً كلَّ الدلائل والإشارات الَّتي تهتزُّ بعنف من حوله وبداخله، وتدلُّ بقوَّة على وجود الخالق البارئ المصوِّر. فكيف حدثت تلك الحقبة التاريخية، الَّتي تكرر فيها سقوط الإنسان؛ من عالم الحضرة الإلهيَّة القدسي إلى بؤرة الضلال ومستنقع الجهل؟ وهل يمكن أن يحدث هذا التحوُّل في لحظة فينام المرء وهو على عبادة الله الواحد الأحد، ثمَّ يستيقظ وهو على أعتاب صنم، لاهثاً عند قدميه، طالباً منه العون والمدد؟.
لقد تهاوى كثير من الناس عبر الأزمان على أقدام أصنام شهواتهم وتعلُّقاتهم البهيميَّة، فانفلتوا من عقال وانحدروا في وبال، وانحرفوا عن الحقيقة الَّتي نزلت إلى الأرض مع نزول آدم عليه السلام، فكانت الرَّحمة الإلهيَّة تتدخَّل بين حين وآخر، وترسل إليهم الأنبياء والرسل لتذكِّرهم بوحدانيَّة الله، ليعودوا إلى وعيهم واتِّزانهم، فيحفظوا لأنفسهم كرامتها، ولقلوبهم صفاءها وهدايتها.
من أجل هذا كلِّه أَوْلى القرآن الكريم موضوع الهداية والسُّبُل المؤدِّية إليها اهتماماً كبيراً، يمكننا أن نقف على جزء منه من خلال تدبُّرنا للنُّصوص القرآنيَّة الآتية:
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا استَجيبوا لله وللرَّسول إذا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المَرءِ وقلبِه وأنَّه إليه تُحشرون(24)}
ومضات:
ـ لقد جعل الله تعالى في شريعته أماناً للإنسان، وفي تعاليمه نظاماً ومنهاجاً؛ وما عليه إلا أن يبادر بالخطوة الأولى في طريق الهداية بأن يستجيب لما هيَّأه الله تعالى له، وينفِّذ تعاليم رسله بدقَّة وعناية ليحيا حياة طيِّبة هنيئة في هذه الدُّنيا العاجله ومن بعدها الآخرة الآجلة، قال تعالى: {..للَّذين أَحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ ولَدار الآخرة خيرٌ ولَنِعم دارُ المتَّقين} (16النحل آية30).
ـ مخالفة هذه التعاليم والبُنى السليمة، تحيد بالقلب عن مساره الإيماني، وتدخله في متاهات الشُّكوك والمعاناة، ممَّا يحجبه عن الشعور بالتجلِّيات والأنوار الإلهيَّة، ثمَّ يأفل نجمه ويتردَّى في مسارب الشيطان ويندرج في أتباعه؛ وبذا يصبح الجسد حيّاً دون حياة حقيقية بالله.
في رحاب الآيات:
ليس الإسلام عقيدة تعبُّديَّة فحسب بالمفهوم الضيِّق للعبادة، بل هو هداية إلى منهج واقعي، ينظِّم الجانب الروحي كما ينظِّم الجانب المادِّي، لأن الإنسان مكوَّن من جسد وروح، فلا يدع أحدهما ينمو ويترعرع على حساب الآخر. فهو دعوة إلى الحياة الحرَّة الكريمة، بكلِّ صورها وأشكالها، ضمن إطار من الحقِّ والخير. وهو دعوة إلى تعاليم تُحْيِي القلوب والعقول، وتنقذها من أوهام الجهل والخرافة، وتحرِّرها من سطوة العبوديَّة لغير الله. إنَّه دعوة للمؤمنين للاعتزاز بعقيدتهم والثِّقة بربِّهم، والانطلاق في الأرض لتحرير الإنسان كلِّ الإنسان وإخراجه من عبودية الذَّات واللَّذات، إلى عبوديَّة الله وحده. وهو دعوة إلى منهج فكري وعلمي، يطلقهم من كلِّ قيد سوى ضوابط الشرع، الَّتي وضعها الخالق العليم بما خلق؛ من أجل صيانة الطَّاقة الفاعلة من التَّبديد وتوجيهها إلى النَّشاط الإيجابي البنَّاء. وإن الباحث يجد أن شرع الله هو الأمثل لتهيئة الغد الأفضل، إذ أن في أحكامه حوافزَ دافعة إلى كلِّ مُسْعِد؛ وضوابط مانعة من التردِّي في أسباب التعاسة والشقاء.
وهذه الدَّعوة مفتوحة وموجَّهة إلى كلِّ الَّذين يؤمنون بأنَّ لهذا الكون خالقاً، لكي يَحْيَوْا الحياة الَّتي ارتضاها لهم، بمحض إرادتهم واختيارهم، تاركاً لهم الحريَّة لينالوا الأجر، وليرتفعوا إلى مستوى الأمانة الَّتي أناطها بهم. فهو الخالق لهم، والمالك لأرواحهم وقلوبهم، بل إنه يملك أن يَحُولَ بين المرء وقلبه، ويحجبه عن هدايته إذا مال بهذا القلب إلى غيره، وتوجَّه إلى سواه.
فالقلب في قبضة خالقه، والمرء لا يملك من أمر قلبه الَّذي بين جنبيه شيئاً. وهذا الأمر يستوجب الصِّلة الدائمة بالله سبحانه واليقظة المستمرَّة لخلجات القلب وخفقاته، والحذر من كلِّ هاجس أو ميل يعترضه، أو رغبة تتعدَّى الحلال إلى الحرام؛ مخافة أن يكون انزلاقاً في مهاوي الهلاك الأبدي. عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يامقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلنا: يارسول الله آمنَّا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء» (رواه مسلم والترمذي).
فكيف بالإنسان الضَّعيف غير المعصوم؟! فالقلوب بين يدي الرحمن ونحن إليه محشورون، ولا مفرَّ لنا منه ـ لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ إلا إليه، ومع ذلك فإنه تعالى يدعونا لأن نسعى إلى نور هدايته، استجابة الحرِّ المأجور، لا استجابة العبد المأمور.
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {يريدون أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم ويَأبى الله إلاَّ أن يُتِمَّ نورَهُ ولو كره الكافرون(32) هو الَّذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون(33)}
ومضات:
ـ نور الله باقٍ ما بقيت الحياة، يشعُّ منيراً قلوب المؤمنين، وهادياً إلى سواء السبيل، ولن تنجح محاولات المغرضين في إخماده.
ـ لقد تتابع الرُّسل والأنبياء من أجل نشر نور الهداية والعلم والمعرفة، وحفظ الله تعالى هذا النُّور بحفظ القرآن الكريم بعيداً عن التَّحريف والتَّشويه، وبه حفظ سائر الرِّسالات الَّتي سبقته، فصانها بين طيَّاته صحيحة مكرَّمة، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقاً لِمَا بين يديه من الكتابِ ومُهَيْمناً عليه..} (5 المائدة آية 48).
في رحاب الآيات:
هل يمكن لإنسان أن يحجب نور الشمس بكفَّيْه؟! أو لكثيب من الرمال أن يُطْفِئ لهيب الشمس وضياءها؟!.
كم هو مؤسف أن يتطاول الصغير على الكبير، والضعيف على القوي، وأن يُدْبِرَ الإنسان العاجز؛ عن أمر ربِّه القاهر مشيحاً عنه، معرضاً عن دعوته، فالله تعالى يناديه وهو يضع أصابعه في أذنيه مستعلياً، ويكشف له الحقيقة فيتعامى مستكبراً، يخاطب أشرف ما فيه، عقله وقلبه ووجدانه، فيُوصِد الأبواب ليخمد صوت الحقِّ الَّذي ينبعث من أعماقه!.
أيُّ عقوق وجحود؛ هذا الَّذي ينزلق الإنسان إليه تجاه خالقه؟! أوَ يظنُّ أنه خُلق عبثاً، ووجِد في الحياة ليلهو ويمرح فحسب؟ أم يظنُّ أن ضوابط الله هي قيود تجرح اعتزازه بالحرية والاستقلاليَّة؟ أيحسب أن كوابح الغريزة والهوى، الَّتي صاغتها الحكمة الإلهية، سلاسل تشدُّه إلى الأرض وتمنعه من الانطلاق كما يحلو له؟.
إن الضوابط الإلهية، والقوانين السماوية تنظيم لحياة الإنسان وتنسيق لمشاعره، وتهذيب لسلوكه، وتحريك للسرِّ الإلهي المُوْدَع بين جنبيه ليعلو فوق النَّوازع والشهوات، فتسمو الروح لتهيمن على كيانه، فتصبح مصدر انطلاقه نحو مرضاة ربِّه، والعروج درجات في معالي الكمال.
وبشيء من الرويَّة والصبر والتأمُّل، وبشيء من ومضات الصدق النفسي، يتوصَّل الإنسان إلى هذه الحقيقة، الَّتي قد يقضي عمره باحثاً عنها، وهي منه قاب قوسين أو أدنى! وإذا ما شاء أن يدركها فما عليه إلا أن يشرع بفتح أبواب عقله وقلبه لاستقبال تعاليم الله، والانقياد لها كما هي؛ لأنها من لَدُن مشرِّع حكيم يعلم مصلحته ويعلم سرَّ سعادته.
وبشيء من التواضع لعظمة الله، والرضا بما شرعه، سيُفتح أمامه باب واسع من المعرفة الَّتي تتولَّد عنها السَّكينةُ والطمأنينة، فمن تواضع لله رفعه، ومن رضي بما أمر به ألبسه ثوب الرضا الَّذي تكمن السعادة المنشودة بين طيَّاته.
والسؤال الَّذي يطرح نفسه: لو أن غابات الأرض كلَّها شبَّ فيها الحريق، وعلا اللهيب، واشتدَّ السعير، فهل يتمكَّن أهل الأرض جميعاً أن يطفئوا هذا الأَتُّون بماءٍ؛ ملؤوا به أفواههم، ثمَّ أخذوا يرشُّونَهُ على هذه النار؟ إذا كان الجواب لا، فهل بوسع المغرضين الجاحدين أن يطفئوا نوراً أراد الله له أن يسطع، ويشعَّ على الثقلين، هدايةً ورشداً، إنه نور الله تعالى، إنه كتابه الخالد، القرآن الكريم، الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد؛ الَّذي ارتضاه الله لعباده وتولَّى حفظه بوعده: {إنَّا نحن نَزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لَحَافظون} (15 الحجر آية 9). وإذا كان الأمر كذلك فأنَّى لهؤلاء ـ ولو كانت معهم قوى المخلوقات كلِّها ـ أن يمنعوا أمراً أذِنَ الله بانتشاره وبقائه؟ لقد حاولوا ذلك في كلِّ مناسبة، ويأبى الله إلا إتمام نوره وإفشال محاولاتهم وإحباط مؤامراتهم. ومع ذلك فإنهم لم يلقوا أسلحتهم ويستسلموا، بل راحوا يشهرون سلاحاً تلو الآخر، كالفتنة والدَّسِّ والوقيعة لمحاولة إطفاء هذا النور الإلهي ومنع انتشاره والَّذي تكمن فيه سعادة الإنسان وأمنه. إن هؤلاء: إمَّا ملحدون يريدون اقتلاع الإيمان من جذوره، أو مشركون يريدون السَطْوَ على قلوب المؤمنين ليشوِّهوا نور الإيمان فيها، ويزرعوا بدلاً عنه ما ابتدعوا من خرافات وأوهام، أو انتهازيون يدافعون عن مصالحهم، فهم لا يتوانون عن بذل الغالي والنفيس، في سبيل كسب قلوب الناس، وخطب ودِّهم بباطل يلبس لَبُوس الحقِّ، من أجل الحفاظ على مكاسبهم. وقد اتَّخذت محاولاتهم مظاهر كثيرة عبر مسيرة التاريخ، واتخذت طابعاً دمويّاً في كثير من الأحيان، فرافقها اضطهاد المؤمنين وتعذيبهم لكنَّ الغلبة في نهاية المطاف هي دائماً للحقِّ وأنصاره.
وما كانت وسوسة إبليس لآدم لإخراجه من الجنَّة، إلا ليحرمه من النعمة الكبرى، وهي الهداية لنور الله، وما أكثر ما يتكَرَّر سقوط الإنسان فيُحجب عنه النور الإلهي الساطع أبداً، إمَّا لجهله أو لتعنُّته، وفي كلتا الحالتين فإن القلوب هي الَّتي تعمى فلا تدرك ذاك النور القدسي، وليس النور هو الَّذي يتراجع أو يندحر. فما يكون للنور الإلهي أن تنطفئ شعلته، أو تخمد جذوته، لأنه نور الله الأبدي السرمدي الباقي على الدَّوام، وأمَّا المبطِلُون فإلى زوال، يندثرون وتُطوى أباطيلهم ويغيب فِسْقُهم، ويبقى الله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وما أُرْسِلَتِ الرسل جميعاً إلا لتُوقِد شعلة الإيمان في القلوب، ولتأخذ بيد الإنسان بحنان، لتهديه إلى النور الإلهي، الَّذي لا يتسرَّب إلى قلبٍ إلا ويفارقه الشقاء إلى الأبد، ولتجسِّد دستور الله في الأرض بمعناه الواسع الشامل وهو الاستسلام لحضرة الله، ذلك الدستور الَّذي دعا إليه جميع الرسل، بدءاً من آدم وإبراهيم، ومروراً بموسى وعيسى، وانتهاءً بمحمَّد صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّينِ ما وصَّى به نوحاً والَّذي أَوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيمَ وموسى وعيسى أن أَقِيموا الدِّينَ ولا تتفرَّقوا فيه..} (42 الشورى آية 13). إنه دستور يقوم على الصدق والعدل، والهداية والإنابة في أصل كلِّ رسالة سماوية، وبِغَضِّ النظر عما طرأ على ذلك الأصل من تحريف وتبديل. ولهذا كان من مهامِّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد للرسالات السابقة ضياءها ونقاءها، وأن يزيل عنها الدخائل الَّتي شوَّهتها وحرَّفتها عن المسار الَّذي اختاره الله لعباده، ويتمِّم التشريعات الَّتي تكفل سعادة الإنسان وأمنه واستقراره، وعُلُوَّ شأنه في دنياه وآخرته.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {أَوَ مَنْ كان مَيْتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ ليس بخارجٍ منها كذلك زُيِّنَ للكافرين ما كانوا يَعْمَلُون(122)}
ومضات:
ـ إن إنكار وجود الله والبعد عنه، هو انفصال عن القوَّة الفاعلة المؤثِّرة في الوجود كلِّه، وهو حجابٌ للروح، وختمٌ على الجوارح والمشاعر، وهذا هو الموت الحقيقي وفق المفهوم البعيد عن ظاهرة موت الجسد؛ أمَّا الإيمانُ بالله، فهو على النقيض من ذلك، إنَّه تفتُّح ورؤية، ويقظة وحياة، ونور وهدى.
ـ الكفر هو طفرة ضالَّة لا وشائج لها ولا ركائز توصلها إلى الحقِّ والإيمان، لذا فهو موت الإحساس بالله. ولا يخفى أن الكافر هو مرتع الكفر، أمَّا المؤمن ـ وهو المتصل بالله المعتصم بحبله المتين ــ فإنه يحيا بالله، ويفيض بالحبِّ والخير على قلوب الخلائق فيحييها معه؛ لذلك فهو دوحة الإيمان.
ـ لكلٍّ من الهداية والضلال، علامات فيزيولوجية، تتمثَّل في انشراح الصدر للهداية، وانقباضه للضلال. وهي مؤشرات ربَّانية زُوِّدَ الإنسان بها، ليدرك ردود الفعل الَّتي تدور في أعماقه، وليفسِّرها على ضوء تعاليم الله وإرشاداته.
في رحاب الآيات:
الموت نوعان: موت ظاهري وآخر حقيقي. أمَّا الموت الظاهري: فهو الموت الَّذي يعرفه عامَّة الناس، وهو انطفاء شعلة الحياة في الجسد، وتحوُّله إلى كتلة هامدة آيلة إلى التفسُّخ والاندثار. وأمَّا الموت الحقيقي: فهو انقطاع المدد النوراني الإلهي، وانحطاط أخلاقي في الإنسان، مع استمراريَّة حياة الجسد، وهذا هو الموت بمفهوم الشرائع السماوية، ذلك لأنه تبلُّد للإحساس والمشاعر الإيمانية، وانقطاع للصلة القدسية بين العبد والخالق المعبود، ينتج عنه قيام حجاب بينه وبين الوجود الروحي، يؤدِّي إلى جفاف قلبه، ونضوب ماء الحياة الحقيقية في أعماقه.
وهنا تشتدُّ الحاجة إلى مهمَّة الأنبياء والمرشدين، والَّتي تتمثَّل في إيقاد شعلة الحياة في القلوب، ليستيقظ حسُّها الإنساني وشعورها بالله، وبالتالي لتقود النفـس ـ بجملة أهوائها ورغباتها ـ في طريق متوازنة معتدلة وفق تعاليم الشريعة المطهَّرة. وسبيلهم إلى ذلك هو تلقيح أرواح المؤمنين بنور الإيمان الحقيقي المثمر، القادر على الإنتاج والعطاء.
فالإيمان هو الَّذي أحيا نفوس المؤمنين الأوائل، وطهَّرها من الحسد والحقد، والكِبْر والعُجْب، وزكَّاها من الفسق والظلم، والقسوة والأنانية. وهو الَّذي حفز هممهم، فطلبوا معالي الأمور، ووطَّنوا أنفسهم على العمل الدؤوب لهداية الأمم وتحريرها من الخرافات، وتطهير الأرض من الكفر والفساد. وهو الَّذي مكَّن المسلمين الأوَّلين من الظفر بالعلم والعمل والابتكار والإبداع، وإقامة الحضارة الَّتي شعَّ نورها في الآفاق، وعمَّ خيرها مشارق الأرض ومغاربها، في مدَّة زمنيَّة قياسية لم تتجاوز القرن. قال أحد المؤرخين الأوربيين: [إن مَلَكة الإبداع لا يتمُّ تكوينها لأمَّة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال، أوَّلها: جيل التقليد، وثانيها: جيل الخضرمة، وثالثها: جيل الاستقلال والاختصاص، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الإبداع في الجيل الأوَّل الَّذي بدؤوا فيه بمزاولتها].
وإذا كان للإيمان هذه الثمار الطيِّبة في حياة الإنسان وسلوكه، فإن الكفر على النَّقيض من ذلك، إذ هو موت الروح والمشاعر، والضياع المدمِّر لشخصية الإنسان، والمبطل للصالح والخيِّر من أعماله، والقاضي على خصائصه بصفته خليفةً لله في أرضه. إذ أن الكافر بالقيم السماوية، غالباً ما يكون كافراً بالقيم الأخلاقية والمُثُل الرفيعة، لذلك فهو لا يقصد من وراء عمله رسالة كريمة، ولا غاية نبيلة؛ لأنه يكفر بما أوحـاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من تعاليم، أُثبتت مصداقيَّتها في التَّطبيق العملي، ويُشيح بوجهه عن صوت الحقِّ ونداء العقل، فلا يفكِّر ولا يتأمَّل، فيهوي بنفسه إلى مستويات أسوأ من مستوى الحيوان؛ وذلك بتعطيل ما كرَّمه الله به، وهو العقل والتفكير، فتُغلَق منافذ الإدراك لديه، وتتلاشى مواهبه ويتعطَّل سمعه وبصره عن فهم الحقيقة الكاملة للمُوْجِد والوجود، ويصبح قلبه موصداً تجاه ومضات الإيمان الباهرة ممَّا يجعله يتخبَّط في الظلام على غير هدى، فيتولَّد في داخله جدل عقيم، غير معتمد على دليل أو حُجَّة، وإنما بدافع الكِبْر والاستعلاء. فإذا انقطع دليلهوبطلت حُجته حقد على الشرائع وتبرَّم منها وامتلأ صدره غيظاً من حمَلتها وحقداً عليهم. ومن الطبيعي أنه بعد ذلك ينفر من الرسل والرسالات ومن الدعوة والدعاة، فلا يصغي إليهم بفؤاده ولا يستمع إليهم بأذنيه، ولا يلتفت إلى الحقِّ، مهما ظهرت أدِلَّته، ووضحت معالمه وحجَّته. ومتى وصل إلى هذه الدرجة، أُغلق قلبه، وحيل بينه وبين النور الإلهي، فاعترته الحيرة، وساورته الشكوك ولزمه الضلال والضيق، فيشعر بروحه حبيسة داخل جسده، عاجزة عن الارتقاء أو الانطلاق، تقيِّدها شروره وتثنيها آثامه؛ ذلك لأنه أضاع عمره جرياً وراء سراب، وعاش حياته بين جدران ضيِّقة، هي جدران العالم المادي فقط. فهو لا يؤمن إلا بما يمكن لعينه أن تراه، ولا يعتقد بوجود السعادة إلا مع اللذَّات وإرواء الشـهوات الحسيَّة فحسب، ولا يُقْدِم على عمل صالح إلا إذا أيقن أنه سيحصل على نظير مادي مقابله. فإذا جاءه الداعية إلى الإيمان، وعرض عليه أن يستبدل بتجارته الخاسرة تلك، تجارة رابحة مضمونة، تحقِّق له سعادة الدَّارين، لوى عُنُقَه، وضاقت أنفاسه، وتسارعت نبضات قلبه، كأنَّما يحلِّق في طبقات الجوِّ العليا. ونظراً لشدة تراكم هذه الظلمات بعضها فوق بعض، يصبح القلب خاوياً خَرِباً لحرمانه من نعيم الصلة بالله عزَّ وجل والإيمان الراسخ به، ثمَّ لا يلبث أن يتحوَّل إلى تربة خصبة لنُمُوِّ طفيليات المعاصي، وآفات الأمراض النفسية الَّتي تحوِّل حياته جحيماً في الأرض قبل جحيم السماء.
وجملة القول: إنه متى اطمأنَّ القلب بالإيمان، أشرقت عليه شمس المعارف وتعمَّقت صلته بمبدع الكون، وقوي شعور صاحبه بالانتماء إلى خالق عظيم يحميه ويكلؤه، فيحصل الأُنْس بوصاله، والسعادة الحقيقية بنواله، وتتفجَّر ينابيع الحكمة من قلبه وتجري على لسانه، ويجد الراحة في حاله ومآله، والوضوح في خواطره ومشاعره، والرفق واليسر في ذاته وعلاقاته، والرضى والتسليم بقضاء الله وقدره، فهو السعيد الحقيقي ولو قلَّت ذات يده. ومن أعرض عن الإيمان بقي يتخبَّط في ظلمات الجهل والهوى، فيمشي وحيداً بغير دليل، في طريق مقفرة على غير هدى، فلا يبلغ الصراط المستقيم، ولا يحصِّل السعادة الدنيوية منها ولا الأبدية، فهو الشقيُّ الحقيقي ولو سكن القصور، وتَقَلَّب في رَغَد الدنيا وشذا العطور. ولكن ما هو الصراط المستقيم، وكيف يجتازه المؤمن بسلام؟.
هذا ما سنتعرَّفه من خلال الفصل التالي بإذن الله.