الفصل الثاني:
درب الهداية (الصراط المستقيم)
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {قُل إنَّني هدانِي ربِّي إلى صراطٍ مستقيم دِيْناً قِيَماً مِلَّةَ إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين(161) قل إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين(162) لا شريـك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أوَّلُ المسلمين(163)}
/ ومضات:
ـ الصراط المستقيم هو درب الدِّين الحنيف، والطريق الَّذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، وهو الَّذي يصل بسالكيه إلى المدارس الإيمانية، الَّتي شيَّدها أصحاب الرسالات السماوية، فإن كانوا التلامذةَ النجباء، فقد حازوا أهليَّة السكن الدائم في قصور النعيم الخالدة، الَّتي أعدَّها لهم خالق الأكوان.
ـ ديناً قِيَماً: هو الدِّين الثابت المقوِّم لأمور المؤمنين التعبديَّة منها أو المعاشيَّة.
ـ الإيمان بالله هو التجرُّد الكامل عمَّا سواه، وإفراده بالتوجُّه إليه مع الاستسلام التَّام لأوامره، والتفاني في طاعته، والمراقبة الدَّائبة لخواطر القلب وتقلُّباته، ولحركات الجوارح وسكناتها، وإخلاص في النيَّة له تعالى قبل القيام بأيِّ أمر من أمور الحياة.
/ في رحاب الآيات:
تبدأ الآية الكريمة بهديَّة نديَّة شجيَّة، إنها هداية تسطع نوراً متلألئاً في النفس بإيقاع محبَّب، تتحرَّك معه كلُّ خلجة في القلب، وكلُّ إشراق في الشعور، إنَّها تسبيحة الاتصال بالهداية الإلهيَّة المطلقة مقرونة بالعبوديَّة الكاملة لربِّ العالمين، نلمح من خلالها آثار التربية الإلهيَّة للصفوة المختارة من خلقه، فهم لا يتلقَّوْن علومهم من الأرض، بل تتنزَّل عليهم من السماء، بعد أن طهَّروا قلوبهم، ونقَّوْا تربتها من الأدران، فغدت صالحة لغرس بذور المعرفة بالله، ومهيَّأة لتلقِّي الإمدادات والفيوضات منه جلَّ وعلا.
ويأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ليجهر بما أولاه الله من جليل نعمائه، إنَّها نعمة الإيمان والهدى إلى الطريق المستقيم، الَّذي يوصل إلى رضا ومغفرة الرحمن الرحيم، وهو طريق الَّذين أنعم الله عليهم، فأسكن قلوبهم جنَّة معرفته، وأدخلهم في حمايته، حيث لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوْهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (23 المؤمنون آية 73)، وقال أيضا: {.. وإِنَّك لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُستقيمٍ * صِرَاطِ الله الَّذي لَهُ ما في السَّمَوَاتِ ومَا في الأرضِ أَلا إلى الله تَصيرُ الأُمور} (42 الشورى آية 52-53).
ثمَّ تُبـيِّن الآية الكريمة ماهيَّة هذا الدِّين دفعاً للالتباس، ورفعاً للشبهات ممَّا قد يُلحقه به المتقوِّلون والأعداء الكافرون؛ فهو امتداد لدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وثمرة من ثمرات عقيدة التوحيد الحنيفة؛ ولاشكَّ في أن وحدة الأصل لفروع شجرة الأنبياء، لها مدلول كبير على وحدة مصدر الشرائع السماوية، الداعية إلى عبادة الله خالق الأكوان.
وفي الآيات الكريمة توجيه متكرِّر للرسول صلى الله عليه وسلم ليجهر بتوجُّهه إلى الله، والتجرُّد الكامل له، بكلِّ خفقات قلبه، وبكلِّ حركات جوارحه، في الصلاة والاعتكاف، وفي إقامة الشعائر التعبُّدية، وسَيْرِ الحياة اليومية، وفي سائر شؤون حياته ولحين مماته. روى مسلم في صحيحه عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: «وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أوَّل المسلمين». والمراد أنه قد وجَّه وجهه وعقد نيَّته وعزمه على تكريس حياته لطاعة الله ومرضاته، وبذلها في سبيله عزَّ وجل، فيموت على ما عاش عليه، وهو يتمنَّى أن يكون من أوائل المسلمين المنقادين إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وقد التقت جميع رسالات الأنبياء في دعوة الإنسان لأن يوجِّه قلبه وروحانيَّته، وعواطفه وفكره إلى الربِّ العظيم الواحد الأحد، لكي تتجمَّع القلوب البشرية عند أعتاب الحضرة الإلهية فتنال منه البهجة والسعادة ودوام النعيم في كنف الربِّ الكريم.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وهذا صراطُ ربِّكَ مُستقيماً قد فصَّلنا الآيات لِقومٍ يَذَّكرون(126) لهم دارُ السَّلامِ عند ربِّهم وهو وليُّهُم بما كانوا يعملون(127)}
/ ومضات:
ـ الرحمات الإلهية الَّتي تحفُّ بالمخلوقات كثيرة وجليلة، ومن عظيم رحمة الله بخلقه أنه ارتضى لهم منهجاً واضحاً، وصراطاً مستقيماً يكفل سعادتهم في الدَّارين، قال تعالى: {..إِنَ ربِّي على صراطٍ مُستقيم} (11 هود أية 56).
ـ سرُّ سعادة المؤمنين وكنز نعيمهم مخبوء في ولاية الله لهم في الدنيا والآخرة، وتلك الولاية رعاية من الله بموجب إيمانهم، وجزاءٌ منه على جليل أعمالهم.
/ في رحاب الآيات:
القاعدة الهندسيَّة تقول: (الخط المستقيم هو أقصر بُعدٍ يصل بين نقطتين) والآية تبيِّن أن صراط ربِّ العالمين مستقيم، وبهذا يكون أقصر طريق يوصل الإنسان إلى معرفة خالقه! وقد وضَّح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بمثال حسِّي ملموس، فقد روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخطَّ خطَّاً هكذا أمامه (يعني في الرمل) فقال: هذا سبيل الله، وخطَّين عن يمينه، وخطَّين عن شماله (مائلين)، وقال: هذه سبيل الشيطان. ثمَّ وضع يده في الخط الأوسط ثمَّ تلا هذه الآية: {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعُوه ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لَعلَّكم تتَّقُون} (6 الأنعام آية 153) ». فإذا التزم الإنسان بهذه الطريق كانت مسيرته مستقيمة سليمة، لا عوجَ فيها ولا خللاً، ولا اعتداء على حقٍّ، ولا انغماساً في حرام، من مأكل أو مشرب أو ملبس. إنها مسيرة إيمانيَّة يدفعها الحبُّ لله، ويوجِّهها الخوف منه، ويتوِّجها الفوز برضاه. ولا تنحصر ثمار الاستقامة على الصراط والمنهج الربَّاني بصاحبها فحسب، بل تتعدَّاه إلى غيره؛ لأن الإنسان فرد في مجتمع، ولَبِنَةٌ في بناء الصَّرح الإنساني الكبير، فإذا صَلُحَتْ أجزاء البناء صلح البناء كلُّه، وتأسَّس المجتمع الإيماني على قواعد أخلاقيَّة فاضلة مبنيَّة على العقل والعلم، وكلُّ ذلك من خلال تنشئة الفرد على الإيمان بالله، وحبِّ الخير، والتفاني في طاعة الله وخدمة عباده.
وفي قوله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا رَبُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهمُ الملائِكَةُ ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنَّةِ الَّتي كنتم تُوعَدون * نحن أوليَاؤكُم في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسُكُم ولكم فيها ما تدَّعون} (41 فصلت آية 30ـ31) تتجلَّى ثمرة الاستقامة على صراط الله وهدْيه، بأروع صورة وأكمل وجه؛ فحين يتواضع الإنسان لخالقه ويَسلُكُ نفسه في عِداد خَدَمهِ، ويوقِّع عقد الالتزام بذلك، تُفتح عليه بركات من السماء والأرض، فيتكفَّل الله بقضاء مصالحه الدنيويَّة بما فيها الحفظ والحراسة، والمعونة والنُّصرة، وإيصال الخيرات ودفع البليَّات، أمَّا في الآخرة فيبشِّره بالجنَّة دار السلام، الَّتي يأمن مَنْ دخلها من العذاب، وهكذا يكون الله وليَّه في الدنيا والآخرة. ولفظ (الولي) يوحي بالقرب والرابطة الوثيقة بين الله عزَّ وجل ـ الوكيل ـ وبين مَن تولاه مِن خلقه وتوكَّل عليه. وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، ولكن بالشَّرَف والعلوِّ والرتبة، ولسنا نرى درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، ولا تشريفاً أعظم من هذا التشريف! فإذا واظب الإنسان على أعمال البرِّ والطاعة، ظهرت آثارها في جوهر النفس، لذلك كان لابُدَّ للمؤمن من القيام بالعمل المثمر البنَّاء، لأنه لا أجر ولا ثواب مع التواكل والكسل. كما أنه لابُدَّ من الحذر إلى جانب العمل، من كلِّ عقبة تعترض طريق المؤمن، في الوصول إلى مرضاة الله، ولاسيَّما الحذر من أشدِّ أعداء المؤمن خصومة، وهو الشيطان، الَّذي يقف على جانبي طريق الهداية، مترصِّداً بكلِّ سالكيه، لمحاولة الإيقاع بهم وصرفهم عن الطريق بعد سلوكه. ولهذا ستكون لنا وقفة مع هذا العدو المبين في الفصل التالي، لندرك مدى عداوته لنا، ونتعرَّف الطرق الَّتي ننتصر بها عليه، فلا يكون له سلطان علينا بإذن الله.