البحث الثاني ـ سـلسـلة الأنـبـيـاء:
شجرة النُبُوَّة واحدة، ترجع في أصل نشأتها إلى بداية بزوغ فجر البشرية، ثمَّ أخذت تتفرَّع أغصانها جيلاً بعد جيل، وتؤتي أُكُلها كلَّ عصر وحين، وقد تأصَّلت جذورها في عهد نوح وإبراهيم عليهما السَّلام، ثمَّ انبثق من ذريَّتهما الأنبياء الَّذين نعرفهم منذ ذلك التاريخ. أمَّا بقية أبنائهما الَّذين عاصروا عهد النُبُوَّات فلم يكونوا على شاكلة إخوتهم الأنبياء، فمنهم من هو مهتد إلى الحقِّ بصير، وكثيرٌ منهم خارجون عن طاعة الله، لم ينفعهم نسبهم للأنبياء، قال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيمَ وجعلنا في ذرِّيَّتِهِما النُّبوَّةَ والكتابَ فمنهم مُهْتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون} (57 الحديد آية 26) وهكذا توالى الأنبياء، كلُّ نبي يُتمِّم رسالة النبي الَّذي سبقه، ويزيل رواسب الجمود والتحجُّر من تلك الرسالة الَّتي نسبها الجاهلون والجاحدون لتعاليمها، فيجدِّد للأمة روحانيَّتها، ويرقى بعلومها، فيضيف بذلك إلى بناء التعاليم السماوية لَبِنَةً جديدة.
وهكذا، بقي باب الهداية مفتوحاً على مرِّ الأيام والعصور، يرعاه الرسل والأنبياء والصالحون. فرسل الله هم القدوة ومصدر الهدى والنور الَّذي يستضيء به جميع الناس، وقد امتاز بعضهم على بعض، بخصائص تَفَضَّلَ الله بها عليهم، وعلى شرائعهم، وأممهم، قال تعالى: {تِلك الرُّسُلُ فَضَّلنا بَعضَهُم على بَعضٍ منهم مَن كَلَّمَ الله ورَفَعَ بَعضَهُم درجاتٍ وآتَينَا عيسى ابنَ مريمَ البَيِّنَاتِ وأيَّدنَاهُ بروحِ القُدُسِ ولو شاءَ الله ما اقتَتَلَ الَّذين مِن بَعدِهِمِ من بَعدِ ما جاءتهُمُ البيِّنَاتُ ولكنِ اختَلَفُوا فمنهم من آمَنَ ومنهم مَن كَفَرَ ولو شاءَ الله ما اقتَتَلُوا ولكنَّ الله يَفعَلُ ما يُرِيدُ} (2 البقرة آية 253).
فالمفاضلة بين الرسل لا تقوم على الأفضليَّة وإنما تتعلَّق بظرفي الزمان والمكان، وبالمحيط المقدَّر للرسول أن يتحرَّك فيه، والَّذي يشمل دعوته ونشاطه؛ كأن يكون رسول قبيلة، أو رسول أمَّة، أو عصر، أو رسول الأمم كافَّة ولجميع الأجيال، وكذلك يتعلَّق التفضيل بالمزايا والمعجزات الَّتي يهبها الله لشخص هذا النبي أو لأُمَّته، كما يتعلَّق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شموليَّتها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية.
فمن الرسل من كلَّمه الله تعالى كموسى عليه السَّلام، ومنهم من اختصَّه تعالى بمعجزات عظيمة، كدلائل على صدق نبوَّته حين أنكر الناس ذلك، كعيسى عليه السَّلام، وآخرهم محمَّد عليه الصلاة والسَّلام حيث أيَّده الله بجبريل الأمين، أسوة بغيره من الأنبياء والرسل، فكان ينقل له الأمر الإلهي ويثبِّته على المضيِّ في الطريق الشَّاق، وقد ورد تأكيد ذلك في مواضع كثيرة في القرآن الكريم.
وبذلك تتابع الرسل يحملون الرسالات السماوية لتأخذ بِيَدِ البشرية، وتمضي بها صُعُداً في طريق العلم والعمل البنَّاء. وقد أراد الله سبحانه أن تكون الرسالة الأخيرة، وما ينبثق عنها من منهج شامل للحياة، هي خير ما يكفل النُمُوَّ والتجدُّد والانطلاق للحياة على الأرض، لاسيَّما وأن العقل البشري وصل لمرحلة من النُّضج الفكري تؤهِّلُه لاستيعاب قيم الحياة الحضارية وتطويرها؛ فكان الإسلام دين الله الخالد الأبدي وللناس كافَّة، الَّذي يحمل في طيَّاته جوهر جميع الشرائع السماوية الَّتي سبقته صافية نقية بعيدة عن التشويه والتحريف.
ولو شاء الله لجعل عباده طائعين له قسراً، ومستجيبين للرسل الَّذين جاؤوا بالحقِّ من عنده قهراً، إلا أن في هذا إلغاءً لإرادتهم، فترك لهم الخيار فاختلفوا تبعاً لاختيارهم، فمنهم من آمن إيماناً صحيحاً، وأخذ الدِّين على وجهه السليم، وفهمه حقَّ فهمه، ومنهم من حكَّم هواه في تأويله، مفسِّراً تعاليمه حسب مصالحه، فنشأ التَّخاصم وقام النزاع بينه وبين أنداده من المتديِّنين.
فلا يكـفي أن يدَّعي قوم أنهم أتباع أحد الأنبياء، ليكونوا قدوة صالحة للناس، بأفكارهم ومعتقداتهم، نظراً لأن بعض الاختلاف في التطبيق العملي للدِّين، يباعدُ بينهم وبين أقرانهم مباعدةً عظيمة، تصل إلى حدِّ تكفير بعضهم بعضا، أو تشويه الدِّين الَّذي ينتمون إليه، وهذه هي الحالة الَّتي كانت سائدة في شبه جزيرة العرب، إذ كان الحنفاء في مكَّة يرون أنهم على مِلَّة إبراهيم، واليهود في المدينة يرون أنهم على دين موسى عليه السَّلام، والنصارى يرون أنهم على دين عيسى عليه السَّلام، ولكنَّ كلَّ فريق من هؤلاء كان قد ابتعد ابتعاداً كبيراً عن الآخر، ولو اقترب منه لوجد أن أصل الرسالات السماوية واحد، وأن جميع الرسل إخوة، ولكان هذا أدعى للتَّقارب والائتلاف بينهم بدلاً من التَّباغض والتَّناحر. فليست العبرة بانتساب الأفراد إلى أنبيائهم، وإنما العبرة في حقيقة ما يعتقدون، وحقيقة ما يعملون. ولو شاء الله لألَّف بينهم، ولكنَّه أراد أن يدفع الكفر بالإيمان، ليقرَّ في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة، الَّتي جاء بها الرسل جميعاً، وليجزي كُلاً بعمله. لذلك قدَّر الله أن يكون الناس مختلفين في ميولهم، مُوكَلين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم، كما قدَّر الصراع بين الهدى والضلال، وأن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار الحقيقة الواضحة المستقيمة، وهي شريعة الله الَّتي انحرف عنها المنحرفون، وكان أمره مفعولاً.
وإذا أراد إنسان هذا العصر أن يتمتَّع ويسعد بما حقَّقه من العلم والتطوُّر، وأن يطمَئِنَّ إلى سلام متين عميق الجذور، فلابُدَّ له من عودة إلى الإيمان السليم بالله تعالى، المكتسب من الشرائع السماوية بعد أن يتوصَّل إلى معرفة جوهرها النقي، الخالي من الشوائب الَّتي تراكمت فوقه نتيجة لما أدخله عليه الفكر الإنساني القاصر، والمصالح الآنيَّة المحدودة عبر التاريخ، ممَّا شوَّه لتلك الشرائع جمالها وأودى بثمارها أدراج الرياح، فحُرمت الأسرة الإنسانية العالمية من الانتفاع بها. فإذا ما أعيدت إلى ما كانت عليه من نقاء وصفاء حصل الانتفاع، وتمكَّنت البشرية من جَنْيِ ثمار الإيمان، الَّتي لا تنحصر في منحها السَّلام فحسب، بل تتعدَّاه إلى الإخاء والحب والتَّراحم العالمي، وهذا أسمى ما يمكن أن يصبو إليه إنسان اليوم. وما نبذله من جهد متواضع في هذا المجال، إنما هو لإعطاء القارئ الكريم فكرة موجزة عن الجوانب الَّتي أشار إليها القرآن الكريم في هذا الموضوع، حيث نورد مقتطفات عن سِيَرِ هؤلاء الرسل والأنبياء ودعواتهم، علَّنا نبيِّن نقاط الالتقاء الكثيرة بينهم جميعاً، بما لا يدع مجالاً للشكِّ في أنهم قاموا تباعاً بإشادة بناء الإيمان الواحد، والَّذي ينبغي على البشرية أن تتعهَّده بالحفظ والرعاية.
وممَّا يُستحسن الآن قبل التعرُّف بحلقات سلسلة الأنبياء، التفريق بين النبي والرسول والنبوَّة والرسالة.
فالرسول: هو كلُّ من بعثه الله بشريعة مجدِّدة يدعو الناس إليها كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد عليهم الصلاة والسَّلام. أمَّا النبي: فهو من بعثه الله لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الَّذين كانوا بين موسى وعيسىكزكريَّا ويحيى عليهم السَّلام.
والنبوَّة مأخوذة من النبأ بمعنى الخبر ذي الشأن العظيم، ومعناها: وصول خبر من الله بطريق الوحي إلى من اختاره من عباده لتلقِّي ذلك. أمَّا الرسالة فهي خبر من الله ولكنَّه موثَّق بموجب كتب سماوية، كالتَّوراة والإنجيل والقرآن.
وعلى هذا يكون الرسول من الأنبياء من جَمَعَ إلى النبوَّة الكتاب المُنزل عليه. أمَّا النبي الَّذي ليس برسول، فهو من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أُمر أن يدعو الناس إلى شريعةِ مَنْ قَبْلَهُ.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه أسماء خمسة وعشرين نبياً يجب على المسلم الإيمان بنبوَّتهم؛ وهم: آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، أيُّوب، ذو الكفل، موسى، هارون، سليمان، داود، الياس، اليسع، يونس، زكريَّا، يحيى، عيسى، ومحمَّد عليهم الصلاة والسَّلام أجمعين. وهناك أنبياء آخرون لم يتعرَّض القرآن لذكرهم تفصيلاً، ولم يقصَّ علينا شيئاً من أخبارهم، فعلى المسلم أن يؤمن بهم أيضاً؛ أي أن يوقن بأن الله عزَّ وجل أرسل رسلاً وأنبياء كثيرين إلى كلِّ أمَّة وجماعة، وفي مختلف الأمكنة والعصور، قال تعالى: {ورُسُلاً قد قصصناهُم عليك من قَبْلُ ورُسُلاً لم نقصصُهُم عليك وكَلَّمَ الله موسى تَكلِيما} (4 النساء آية 164) ومن هذا يتَّضح أن النبوَّة الَّتي كرَّم الله بها الأنبياء، حقيقة واحدة لا تتفاوت ولا تختلف ما بين نبي وآخر، فلا يجوز التفريق بين نبوَّة نبي وآخر من هذه الناحية.
وسنورد فيما يلي بعضاً ممَّا جاء في القرآن الكريم عن الأنبياء والرسل الكرام، علَّنا بذلك نتوصَّل مع القارئ الكريم، إلى النظرة القرآنية الشاملة الجامعة، لسائر الرسالات السماوية، ونبدأ أوَّلاً بنوح عليه السَّلام.