يوسف عليه السَّلام
سورة يوسف(12)
قال الله تعالى: {وقال المَلِكُ ائْتُونِي به أستَخلِصْهُ لِنفسي فلمَّا كلَّمه قال إنَّك اليومَ لَدَينا مَكِين أمين(54) قال اجْعَلني على خَزائنِ الأَرضِ إنِّي حفيظٌ عليم(55) وكذلك مكَّنَّا لِيوسفَ في الأَرضِ يتبوَّأُ منها حيث يشاءُ نُصِيبُ بِرحمَتنا من نَشاءُ ولا نُضِيعُ أجرَ المحسنين(56) وَلأَجْرُ الآخرةِ خيرٌ للَّذين آمنوا وكانوا يتَّقون(57)}
ومضات:
ـ اقتطفنا هذه الآيات من قصَّة يوسف عليه السَّلام المليئة بالتشويق والإثارة، لنبيِّن الثمار الَّتي جناها بعد المعاناة الرهيبة والطويلة الَّتي مرَّ بها، وهو صابر وَرِع تقي، لم يمتدَّ طرفه إلى حرام ولا يده إلى إثم، فصار أميناً على خزائن مصر، واستطاع بعد وصوله إلى هذا المنصب الرفيع، أن ينقذ قومه من غائلة الجوع، بسبب القحط الشديد الَّذي ألمَّ بهم.
ـ تُبيِّن لنا قصَّة يوسف عليه السَّلام أن حسد إخوته له لم يغنِ عنهم شيئاً، بل ارتدَّ كيدهم إلى نحرهم، وقد أَتَوْا إليه أذِلاَّء صاغرين، وهو في عزٍّ ومقام مكين؛ فظهر بشكل جليٍّ أن عاقبة المعصية ذلٌّ وخسارة، وأن العاقبة الطيِّبة للتَّقوى.
ـ يجدر التنويه إلى أنَّ يوسف عليه السَّلام كان سبباً لدخول بني إسرائيل (أولاد يعقوب وذريَّاتهم) إلى مصر، وموسى عليه السَّلام هو مَن أخرجهم منها، وأن يوسف عليه السَّلام أُلْقيَ في الجُبِّ من قِبَل إخوته وهو صغير بغية قتله، وموسى وُضع في التابوت وأُلقيَ في اليمِّ لإنقاذه من القتل. وأن يوسف وموسى عليهما السَّلام قد عاشا وترعرعا في كنف أكبر زعيمين غير مؤمنين من زعماء مصر، كلٌّ في حينه، حيث أن عزيز مصر ضمَّ يوسف إليه آملاً أن يتَّخذه ولداً، وكذلك فعل فرعون مع موسى، وهكذا ترعى الأشواك الأزهار لتبقى مزهرة يانعة، فوَّاحة عطرة. ونتبيَّن من خلال هذه النقاط المشتركة بين سيرة يوسف وموسى عليهما السَّلام، ملامح الارتباط الوثيق في عمل الأنبياء، والَّذي يكمِّل بعضه بعضاً.
ـ لقد أتى القرآن الكريم على ذكر جوانب كثيرة من قصَّتي يوسف وموسى عليهما السَّلام. فمن شاء الاستزادة من تلك القصص، أو الاطلاع الوافي عليها فليرجع إلى هذا المنهل الغزير العذب الَّذي يجد فيه الباحث بغيته، وينال عن طريقه غايته، حيث يجد فيها جميعاً، دعوة الأنبياء، وجهاد الأنبياء، وصبر الأنبياء، وهداية الأنبياء، فيكون له فيهم الأسوة الحسنة.
في رحاب الآيات:
الحرب سجال بين الحقِّ والباطل، ولئن ربح الباطل جولة، فإن الحقَّ هو المنتصر في النهاية. وهذا هو قانون الله في الأرض، {..فأمَّا الزَّبدُ فيذهبُ جُفاءً وأمَّا ما ينفعُ النَّاسَ فيمكُثُ في الأَرضِ..} (13 الرعد آية 17). ومن منطق نصرة الحقِّ وقوَّته وديمومته، تبلورت الأمور وظهرت للعيان براءة يوسف عليه السَّلام من التهمة الَّتي أُلصقت به كيداً وظلماً، كما ثبتت حصافة رأيه، ورجاحة عقله؛ بعد أن فسَّر رؤيا الملك الَّتي كانت تحمل في طيَّاتها إشارات إلى مجيء قحط يكتسح البلاد، فلم يكتف عليه السَّلام بتأويل هذه الرؤيا، بل وصف للملك الحلول الناجعة للخروج من تلك الأزمات الَّتي ستعانيها مصر. فطلب الملك إحضاره من السجن، ولما جاءه وسمع كلامه، أدرك من فحوى حديثه عظيم حكمته وحسن تصرُّفه، ورأى في سيرته الحسنة في السجن، وعلمه وفهمه في تأويله للرؤيا، خير دليلٍ على أنه أهلٌ لأن يُرفع إلى أعلى المراتب، ولم يصرفه عن ذلـك كونه غريباً أو فقيراً أو مملوكاً. لقد دار حوار بين الملك ويوسـف عليه السَّـلام ـ والحوار بين المتخـاطبين يظهـر معارف الإنسـان وأخلاقـه وآدابه ـ ومنه تبيَّن للملك أهليَّة يوسف عليه السَّلام وكونه جديراً بأن يصبح موضع ثقته، وصاحب مشورته، فجعله من خاصَّته واستخلصه لنفسه بعد أن قال له: إنك لدينا ذو مكانة سامية ومنزلة عالية.
لكنَّ النفوس النبيلة لا تنحصر أحلامها في ذواتها وتحقيق رغباتها فحسب، بل إنها تنظر إلى بعيد، نظرة شموليَّة تسع الكون والأحياء جميعاً، وهذا ما حدا بيوسف عليه السَّلام إلى أن يطلب من الملك إدارة الأمور المالية؛ لأن سياسة المُلك بالحكمة، وتنمية العمران، وإقامة العدل، تتوقَّف على مثل هذه النفوس، وقد زكَّى نفسـه وامتدحها أمام الملك تعريفاً لا ثناءً ليثق به، ويركن إليه في تَوَلِّيه هذه المهام؛ فقال: إني حفيظ عليم، خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما أتولاه. فطلب يوسف عليه السَّلام ما يعتقد أنه قادر على النهوض به من الأعباء في الأزمة القادمة الَّتي تبيَّنها من تأويله رؤيا الملك، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت، وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من هجمة الجوع، فكان بذلك حكيماً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفاءته وأمانته، مع الاحتفاظ بكرامته وإبائه، فهو لم يكن يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه، إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة الَّتي يستجاب له فيها، لينهض بالواجب الثقيل، في أشدِّ أوقات الأزمة، متحمِّلاً للمسؤولية الضخمة في إطعام شعب كامل، وشعوب تجاوره طوال سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع.
لقد بدَّل الله تعالى حال يوسف عليه السَّلام، فوسَّع عليه بعد ضيق، ويسَّر عليه بعد عسر، وجعل الأرض مُلْكاً له، مفتوحةً أبوابها، ميسَّرةً سُبُلها، يتبوَّأ منها المنزل الَّذي يريد، والمكان الَّذي يهوى، والمكانة الَّتي يختار بعد أن مرَّ بتجربة الجُبِّ وما فيه من خطر وضيق، والسجن وما فيه من قيود. والله يصيب برحمته من يشاء فيجعل من العسر يسراً، ومن الضيق فرجاً، ومن الخوف أمناً، ومن القيد حريَّة، ومن الهوان عزّاً ومقاماً عالياً. وكانت ليوسف عليه السَّلام تلك المكانة الرفيعة في الأرض، وله أيضاً البشارة في الآخرة جزاءً وفاقاً على الإيمان والصبر والإحسان.
والتَّقوى لابُدَّ منها لكلٍّ من أهل النعمة والمحنة، أمَّا أهل النعمة فتقواهم بالشكر لأنه وقاية من الكفر، وأمَّا أهل المحنة فتقواهم بالصبر لأنه جُنَّة من الجزع والاضطراب. وقد كان يوسف عليه السَّلام تقياً في الحالتين؛ فعندما امتحنه الله بكيد إخوته الَّذين رَمَوْه في الجُبِّ، وكذلك بكيد امرأة العزيز الَّتي ألقته في السجن، كان صابراً وراضياً، مترقِّباً رحمة الله، ومؤمناً بعدله ونصرته، وداعياً إلى عبادته فلم تزحزحه هذه المِحَن عن إيمانه وثقته بالله. وعندما أنعم الله عليه بالقرب من الملك والسلطان والغنى، لم تفسد هذه النعم عليه فطرته السليمة، بل بقيت نقيَّة طاهرة لم تعكِّرها الشِّدة ولم تفسدها النعمة، وعندما قيل له: ما بالك لا تشبع وبيدك خزائن الأرض؟ قال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائعين.
وفي الختام لابدَّ أن نشير إلى أن ملوك الرعاة كانوا يحكمون مصر حين وصول يوسف عليه السَّلام إليها وليس الفراعنة، وهذا من الإعجاز القرآني المدهش، حيث لم يكن أحد يدري عن هذه الحقبة التاريخية شـيئاً زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وقال المَلِكُ ائْتونِي به..}.