محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام
1ـ قصَّة الوحي الإلهي
كان محمَّد صلي الله عليه وسلم من أوسط قريش نسباً، وكان أبواه عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب ينتسبان لأشرف بيوت قريش. وإذا ما تتبَّعنا نسبه صلي الله عليه وسلم فإنه ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السَّلام، وفي هذا قال رسول الله عن نفسه: «ولدتُ من خِيار من خِيار من خِيار» (أخرجه البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه ).
أمَّا عن تسميته بـ (محمَّد) فقد روت كتب السيرة أن أمَّه عندما وضعته، أرسلت إلى جدِّه عبد المطلب تبشِّره بالمولود، فأقبل مسروراً وسمَّاه محمَّداً. ولم يكن هذا الاسم شائعاً من قبل عند العرب، وإن تسمَّى به أحد فأفراد قلائل، وقد سئل جدُّه لِمَ رغب عن أسماء آبائه؟ فقال: إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلُّهم.
وقد شاءت إرادة الله أن يعيش هذا المولود يتيماً؛ فقد توفي والده عبد الله قبل ولادته، ثمَّ ما لبثت أمُّه أن توفيت وله من العمر ستُّ سنوات، فتكفَّل به جدُّه عبد المطلب، ومن بعده عمُّه أبو طالب الَّذي ضمَّه إلى أسرته، وأشرف على تربيته كابنٍ من أبنائه، وكان يُكِنُّ له حباً كبيراً جعله شديد الحرص عليه في طفولته، وكثير الاهتمام بمسألة الدفاع عنه بعد نبوَّته. وقد حدث مرَّة أن أراد أبو طالب السفر بتجارة إلى بلاد الشام، فصعُب على محمَّد فراق عمِّه، فاستأذنه بالرحيل معه، فرقَّ له وأخذه، وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة. ولما وصلت القافلة إلى ضاحية مدينة بصرى، أشرف بحيرا الراهب عليها ورأى فيمن رأى محمَّداً، ورأى فيه أمارات النبوَّة الَّتي قرأها في كتب النصرانية، فأوصى عمَّه أن يكون حذِراً عليه من اليهود، فعمل أبو طالب بما نبَّهه إليه بحيرا، دون أن يكون له أي تأثير في فكر محمَّد صلى الله عليه وسلم ، كما يدَّعي بعض المستشرقين.
وبعد هذه الرحلة شرع محمَّد يعمل بالتجارة، وهي العمل الَّذي كان يمارسه أجداده وقومه، لكون مكَّة وادياً غير ذي زرع. ولما بلغ من العمر خمساً وعشرين سنة، سافر إلى بلاد الشام للمرَّة الثانية، في تجارةٍ تخصُّ خديجة بنت خويلد، وهي سيِّدة كانت توكل إلى الرجال أمر تجارتها، وقد رغبت في إسناد هذه المهمَّة إلى محمَّد، الَّذي عُرف بين القوم بحسن الخلق، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، حتَّى اشتُهِر عنه لقب (الصادق الأمين)، وصار موضع ثقة الناس واحترامهم. وقد أرسلت معه خادمها ميسرة، فذهبا واتَّجرا بمالها وربحا ربحاً وافراً، ولما رجَعَا إلى مكَّة أخبر ميسرة سيِّدته بما رأى من غرائبَ شَهِدَها بصحبته محمَّداً في تلك الرحلة؛ فقد كان من شأنه أنه كلَّما اشتدَّ الحرُّ، رأى ملَكين يظلِّلانه من حرارة الشمس وقيظها، فأُعجِبت خديجة بما سمعت، وأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت في الأربعين من عمرها، فقبل محمَّد وأرسل عمَّه يطلب يدها من أهلها ثمَّ تزوجها.
وهكذا استقرَّت أوضاع محمَّد الاجتماعية والمادية، حتَّى إذا تجاوز الثلاثين، بدأت حياته تأخذ منعطفاً جديداً، فحُبِّب إليه العزوف عن الناس في أغلب أوقاته، إلا فيما كان فيه حقٌّ للمجتمع كمساعدة الضعيف، ونُصْرة المظلوم، وإكرام الضيف، وصلة الرحم. وصار شديد الميل إلى العزلة والخلوة الَّتي كانت بمثابة مرحلة إعداد روحي للنبوَّة، واتَّخذ من غار حراء مكاناً لخلوته هذه، بعيداً عن الناس، حتَّى أتاه الوحي وأُمِرَ بالتَّبليغ.
إنَّ الوحي السَّماوي هو السِّمة البارزة، والعلامة المميَّزة الَّتي تفرِّق بين الحقيقة والادِّعاء، وهو السِفارة الإلهيَّة بين الأرض والسماء، ينزِّله الله على من اصطفى من الرسل والأنبياء. وهو الفيصل الوحيد بين الإنسان الَّذي يفكِّر ويشرِّع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الَّذي يبلِّغ عن ربِّه دون أن يغيِّر أو يزيد أو ينقص، فينقل بواسطة هذا الوحي كافَّة الإخبارات الغيبية، وشؤون العقيدة وأحكام التشريع.
إن
تصديق المسلمين وإيمانهم بظاهرة
الوحي وخبر السماء، هو تصديق لما جاء
به محمَّد صلي الله عليه وسلم من عند
الله، وإن أدنى تشكيك
بحقيقته يورث تشكيكاً بكلِّ ما قد
يتفرَّع عنه من عقائد وأحكام.
وكلمة الوحي تحمل مدلولات كثيرة،
ولكنَّها إذا أُسنِدت إلى النَّبي
محمَّد صلي الله عليه وسلم فهي تدلُّ
على خبر السماء الَّذي
كان ينزل به جبريل الأمين، ليبلِّغه
إلى الناس أجمعين. أمَّا
قصَّة بدء الوحي المَروِيَّة، فقد
رواها مسلم وغيره بالنصِّ التالي: «عن
عائشة رضي الله عنها، قالت: أوَّل ما
بُدئ به رسول الله صلي الله عليه وسلم
من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم،
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح (في الوضوح لأنها
من وحي الله تعالى)، ثمَّ حُبِّب
إليه الخلاء (أي حبَّب
الله إليه أن يختلي بعيداً عن الناس)،
وكان يخلو بغار حراء
فيتحنَّث (أي يتعبَّد) فيه
الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى
أهله ويتزوَّد لذلك، ثمَّ يرجع إلى
زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
فيتزوَّد لمثلها حتَّى جاءه الحقُّ (أي
جبريل عليه السَّلام) وهو
في غار حراء فقال: اقرأ قلت: ما أنا
بقارئ. قال: فأخذني فغطَّني (أي
ضمَّني بشدَّة إلى صدره) حتَّى بلغ
مني الجهد ثمَّ أرسلني فقال: اقرأ قلت:
ما أنا بقارئ. فأخذني فغطَّني
الثانية حتَّى بلغ مني الجهد ثمَّ
أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطَّني الثالثة ثمَّ أرسلني
فقال: {اقرأ باسم ربِّك الَّذي خَلَق *
خَلَقَ الإنسانَ من عَلق * اقرأ
وربُّك الأكرم * الَّذي علَّمَ
بالقلم} (96 العلق آية 1ـ4) فرجع بها
النبي صلي الله عليه وسلم يرجُفُ
فؤاده فدخل على خديجة فقال: زمِّلوني
زمِّلوني (أي غطوني
بالثياب ودثِّروني) فزمَّلوه
حتَّى ذهب عنه
الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها
الخبر: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت
خديجة:
كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك
لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ،
وتُكْسِب المعدوم، وتُقْري الضيف،
وتعين على نوائب الحقِّ، وانطلقت به
حتَّى أتت ورقة بن نوفل ابن عمِّها،
وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهليَّة،
وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من
الإنجيل بالعبرانيَّة ما شاء الله أن
يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عَمِيَ
فقالت له خديجة: يابن عمِّ اسمع من
ابن أخيك. فقال له ورقة: يابن أخي ماذا
ترى؟ فأخبره رسول الله صلي الله عليه
وسلم بخبر ما رأى فقال له ورقة: هذا
النَّاموس (أي صاحب
السِّر الإلهيِّ الَّذي كان يتنزَّل
على الأنبياء) الَّذي
نزَّلَ الله على موسى، ياليتني فيها
جَذَعاً، ليتني كنت حيّاً إذ يخرجك
قومك. فقال رسول الله صلي الله عليه
وسلم : أَوَ
مُخرجيَّ هم؟ قال: نعم. لم يأتِ رجل
قطُّ بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن
يدركني يومُك أنصرك نصراً مؤزَّراً.
ثمَّ لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي».
لقد كانت حِكَمٌ إلهية كثيرة تكمن وراء العديد من الأحداث المتعلِّقة بنزول الوحي، وهي تتناول بدء نزوله لأوَّل مرَّة، ورؤية الرسول صلي الله عليه وسلم لجبريل عليه السَّلام عياناً ودون حجاب، وما رافق هذه الحادثة من مشاعر الهيبة والرهبة والحَيْرة الَّتي انتابت قلبه عليه الصَّلاة والسَّلام، ثمَّ ما تلا ذلك من انقطاع الوحي عنه بعد ذلك مدَّة طويلة، وجَزَعِ النبي صلي الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعاً شديداً. فالحكمة الَّتي كانت تنطوي عليها تلك المراحل والأحداث تحمل دلالات واضحة على أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرَّد، وإنما هي استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجيَّة لا علاقة لها بالنفس وحَدْس الذَّات، فقد فوجِئ محمَّد صلي الله عليه وسلم ، وهو في غار حراء، بجبريل أمامه يراه بعينه وهو يقول له: اقرأ. ويُعَدُّ ضمُّ المَلَك جبريل إيَّاه ثمَّ إرساله له ثلاث مرات، قائلاً في كلِّ مرَّة: اقرأ، تأكيداً لهذا التلقِّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يُتَصَوَّر من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليا فقط. وأمَّا الخوف والفزع الَّذي انتابه لِمَا سمع ورأى في الغار، حتَّى جعله يقطع خلوته، ويسرع إلى البيت مرتعش الفؤاد، فإنه يوضح أن ظاهرة الوحي هذه لم تأت متمِّمة لشيء ممَّا كان النبي صلي الله عليه وسلم يتصوَّره أو يخطر في باله، وإنما فوجئ بها وبالرسالة دون أي توقُّع سابق. ولاشكَّ أن هذا الحال ليس من شأن من يتدرَّج في التأمُّل والتفكير، إلى أن تتكوَّن في نفسه عقيدة يؤمن بالدعوة إليها.
وممَّا يدل على شِدَّة فزعه صلي الله عليه وسلم من رؤية الوحي قوله للسيِّدة خديجة: «لقد خشيت على نفسي» أي من أن يكون ما أخبرتك به طائفاً من الجنِّ، إلا أنها طمأنت قلبه المروَّع بأنه لا سلطان للشياطين والجانِّ على أمثاله ممَّن يتمتَّعون بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة. وقد كان الله عزَّ وجل قادراً على أن يثبِّت قلب رسوله، ويطمئن نفسه بأن هذا الَّذي كلَّمه ليس إلا جبريل ـ ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس ـ ولكنَّ الحكمة الإلهية اقـتضت إظهار الانفصال التَّام بين شخصية محمَّد صلي الله عليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعدها. ثمَّ إن في قرار السيِّدة خديجة الذهاب به صلي الله عليه وسلم إلى ورقة ابن نوفـل وعـرض الأمر عليـه ـ وهـو الشــيخ الهرم العليم بشـؤون النصرانية واليهودية ـ تأكيداً من جانب آخر بأن هذا الَّذي فوجئ به صلي الله عليه وسلم ، إنما هو الوحي الإلهي، الَّذي كان قد أُنزل على الأنبياء من قبله. ولو أننا أنعمنا النظر في تصرُّف السيِّدة خديجة، وموافقة الرسول صلي الله عليه وسلم على الذهاب إلى ورقة بن نوفل، لوجدنا أنه من أكبر الأدلَّة على البراءة وخُلُوِّ نفس الرسول صلي الله عليه وسلم من أيِّ تفكير ذاتي سابق فيما حصل له من أمر الوحي، ولو كان كما يدَّعي المغرضون إشراقاً نفسياً بعد طول تأمُّل، ونبعاً ذاتيّاً؛ لما كان له هذا الوَقْعُ الشديد في نفسه، وكيف يستغرب الإنسان أمراً طالما سعى لتحقيقه، ولو كان الأمر كذلك، لأنِفَ الذَّهاب إلى ورقة ولاعتزَّ بنفسه وترفَّع عن أن يطلب إلى من هو دونه بكثير ليفسِّر له ما حصل له، ومن هو ورقة بن نوفل لولم يقترن اسمه بهذه الحادثة الخالدة؛ فلولاها لا نذكر اسمه ولما ذكره ذاكر. فالحقُّ أنه وحي إلهي حقيقي قصد تشريف محمَّد بن عبد الله عليه الصَّلاة والسَّلام بهذه الرسالة الخالدة الَّتي حملها إلى الناس كافَّة.
أمَّا انقطاع الوحي بعد ذلك فينطوي على دليل آخر وحكمة إلهية بالغة، فيها أبلغ الردِّ على التعليل الَّذي أدلى به محترفو الغزو الفكريِّ الهدَّام، حول ظاهرة الوحي السماوي، وتفسيره بالإشراق النفسي المنبعث نتيجة تأمُّل حثيث، وتفكير طويل، وأنه أمر داخلي منبعث من أعماق ذاته. فلقد شاء الله عزَّ وجل أن يحتجب عنه جبريل عليه السَّلام بعد أن رآه للمرَّة الأولى في غار حراء مُدَّة طويلة، وأن يستبدَّ به القلق والخوف من أن يكون الله عزَّ وجل قد قلاه بعد أن أراد تشريفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، فضاقت عليه الدنيا، وانقطع عنه الزاد، واستوحش قلبه من الحبيب، وبقي للهاجرة وحده، بلا زاد وبلا عزاء، وهذا أمر صعب الاحتمال من كافَّة الوجوه. ذلك أنَّ الفراق صعب، لا سيَّما فراق الأحباب وخُلَّص الأصحاب، فكيف إذا داخل روعنا الشكُّ بأن ربَّ العالمين، قد تخلَّى عنا، وتركنا نهيم في وديان الوحشة والهجران. فأيُّ لوعة أصابت النبي صلي الله عليه وسلم عندما فتر عنه الوحي حتَّى صار حديث الناس: إن ربَّه قد قلاه. وينزل عليه الوحي بعد ذلك ـ وقد ذبلت حشاشة القلب ـ بمؤانسة لطيفة، وتسرية وتسلية، وترويح وطمأنينة، يحمل إليه أنساماً من الرحمة وندىً من الودِّ، وهدهدة للروح الحائرة، والقلب الموجوع، وهذا ما تضمَّنه قوله تعالى: {والضُّحى * والليل إذا سجى * ما ودَّعك ربُّك وما قلى * ولَلآخرة خيرٌ لك من الأولى * ولَسوفَ يُعطيكَ ربُّك فترضى * ألم يَجِدكَ يتيماً فآوى * ووجدكَ ضالاًّ فهدى * ووجدك عائلاً فأغنى * فأمَّا اليتيم فلا تقهر * وأمَّا السَّائل فلا تنهر * وأمَّا بنعمة ربِّك فحدِّث} (93 الضحى آية 1ـ11).
وقد ابتدأ الله تعالى السورة بقَسَمٍ كريم، يؤكِّد من خلاله عهداً لن يتغير، وهو ميراث لكلِّ مؤمن صادق بأن الله تعالى دائماً وأبداً يكلأ عباده المخلصين بعنايته ورعايته، وأن عطاءه الكريم قائم في الحياة الدنيا، وهو أفضل وأكرم في الدار الآخرة. وإن القَسَم بهذين الوقتين الرائعين الموحيين، الضُّحى وما فيه من الحياة والحيوية، والليل وما فيه من السكينة والهدوء، يربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس، ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعريَّة المتجاوبة مع هذا الوجود، المتعاطفة مع كلِّ حيٍّ، فيعيش ذلك القلب في أُنْسٍ من هذا الوجود.
وربَّما أقسم عزَّ وجل بالضحى والليل لكونهما الوقتين اللَّذَيْن كان يخلو فيهما رسول الله بربِّه، حيث تحلو المناجاة مع الله والتودُّد إليه، أو رمزاً لانبلاج النور الإلهي بعد هيمنة ظلام الكفر، أو لحلول ضحى الفَرَج على الرسول وانزياح ليل الشدَّة والعُسْر. وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر: {ما ودَّعك ربُّك وما قلى* وللآخرة خيرٌ لكَ مِنَ الأولىَ} أي ما تركك ربُّك ولا جفاك، فهو ربُّك وأنت عبده المنسوب إليه، وهو راعيك وكافلك، وما غاض معين فضله، وفيض عطائه، وأن آخرة الأمر في الدنيا خير من أوَّله، وأنه سيتبع هذا العناء والشدَّة، النصر وإقامة قواعد الشريعة المتجلِّية في إرساء الصدق والعدالة الاجتماعية، والبناء الأخلاقي المتكامل في الأرض. أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : «عُرض عليَّ ما هو مفتوح لأُمَّتي بعدي فسرَّني، فأنزل الله وللآخرة خير لك من الأولى»..
ثمَّ توالى نزول الوحي على رسول الله صلي الله عليه وسلم على مراحل بعد هذه المُدَّة من الانقطاع، وظهر جبريل الأمين بعدها وقد ملأت ذاته ما بين السماء والأرض يقول: يامحمَّد إنك رسول الله إلى الناس؛ فعاد مرَّة أخرى وقد استبدَّ به الخوف والرعب إلى البيت، حيث نزل عليه قوله تعالى: {ياأيُّها المُدَّثر * قُم فأنذر}، قال جابر رضي الله عنه في حديثه عن النبي صلي الله عليه وسلم : «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الَّذي جاءني بحراء جالس على كرسيٍّ بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زمِّلوني زمِّلوني فأنزل الله تعالى: {ياأيُّهـا المُـدَّثر * قُم فـأنذر * وربَّك فكبِّر * وثيابكَ فطهِّر * والرُّجْزَ فاهجر} (74 المدثر آية 1ـ5) فحمي الوحي وتتابع» (رواه الشيخان والترمذي).
ولكِنْ لِمَ اقتصرت رؤية الوحي على النبي صلي الله عليه وسلم دون الصحابة، على الرغم من وجودهم حوله لحظة نزوله في كثير من الأحيان؟! ذلك لأنه ليس من شرط وجود الموجودات أن تُرى بالأبصار، إذ أن وسيلة الإبصار فينا محدَّدة بحدٍّ معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوماً إذا ابتعد عن البصر بعداً يمنع من رؤيته. على أنه من اليسير على الله جلَّ وعلا ـ وهو الخالق لهذه العيون المبصرة ـ أن يزيد في قوَّة ما شاء منها فترى ما لا تراه العيون الأخرى.
ثمَّ إن في استمرار الوحي بعد ذلك دلالة على حقيقته وعلى أن جبريل عليه السَّلام مَلَكٌ مُرسَل من الله عزَّ وجل؛ وأن الإيمان بالوحي يقتضي الإيمان بأن محمَّداً صلي الله عليه وسلم قد أوحي إليه، وبالتالي أن نوقن بأن القرآن الكريم كلام الله عزَّ وجل أوحى به إلى رسوله صلي الله عليه وسلم ليهتدي به الناس، خاصَّةً وأن مهمَّة الرسل هي دلالة الناس وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. ولكِنْ لابدَّ للناس من عطاء إلهي، ومن نور يُقذف في أعماق أرواحهم لينيـرها به وتتوهَّج، فيصبحوا قادرين على سلوك هذا الصراط السوي، ولابدَّ من حافز روحي يدفع صاحبه بعزم وقوَّة تجاه تنفيذ الأوامر الإلهية، إذ القناعة الفكريَّة وحدها لا تكفي. وعندها يصبح العقل قادراً على إدراك حقيقة الوحي ومعرفة مدلولاته والتَّفاعل معه، وهذه وظيفته في الهداية والانضباط الصحيح الَّذي لا يأتيه الباطل. أمَّا حين يستقلُّ العقل البشري بذاته بعيداً عمَّا جاء به الوحي، فإنه يتعرض للضلال والانحراف وسوء الرؤية والتقدير والتدبير، بسبب طبيعة تركيبه في رؤية الوجود أجزاءً لا كُلاً واحداً متصلاً، وبسبب ما رُكِّبَ في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات لابدَّ لها من ضابط ووازع إيماني. وهكذا فإن العقل نفسه يحتاج إلى ضابط يضبطه عن الميل وهو نور البصيرة، والله تعالى جعل حجَّته على الناس، الوحي والرسالة، ولم يجعلها عقلهم البشري ولا حتَّى فطرتهم، لأن الله يعلم أن العقل وحده يضلُّ، والفطرة وحدها لا تتَّضح معالمها بغير العقل، وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا إذا كان الوحي هو الرائد الهادي وهو النور والبصيرة.
سورة الشورى(42)
قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليكَ رُوحاً من أمرنا ما كُنتَ تَدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناهُ نُوراً نَهدي به من نَشاءُ من عبادِنا وإنَّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم(52) صراط الله الَّذي له ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ أَلاَ إلى الله تَصِيرُ الأمور(53)}
ومضات:
ـ سمَّى الله تعالى القرآن المُوحَى به روحاً، لأن به حياة العقل وتحريره من الجهل، وتنقية النفس من الهوى، وتخليص القلب من الغفلة؛ فهو يبعث فيها جميعاً أسباب الحياة ويحييها بعد موتها.
ـ تكرَّم سبحانه وتعالى على رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم بعطاء روحي خاصٍّ، ليتذوَّق حقيقة الإيمان، ويدرك آفاق كتابه المبين، هذا العطاء هو نور إلهي تنشده الأرواح العاشقة لتهتدي به للوصول إلى الحضرة الإلهيَّة.
ـ لا تُثبِت الرُّؤى والأحلام معنى النبُوَّة أو الوحي الإلهي، أمَّا إن تحقَّقت النبوَّة فإن رؤى الأنبياء بعد ذلك من الوحي؛ ما لم يأتِ وحي في اليقظة يعارضها أو يردُّها.
ـ إن وظيفة الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم هي دلالة الناس إلى طريق الإيمان، وبيان ما خفي عليهم من العلم الإلهي الَّذي ارتضاه لهم، وتوضيح التزاماتهم ممَّا ينبغي فعله أو ما يجب تركه؛ ليتمكَّنوا من الوصول إليه، فهو طريق مستقيم لا لَبْسَ فيه ولا عِوَج، واضح المعالم، رَسَمَهُ ووضع أسسه ربُّ العالمين خالق السموات والأرض والمهيمن عليها وإليه المصير.
في رحاب الآيات:
يؤكِّد الله عزَّ وجل في هذا النصِّ القرآني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يدرك خلال الأربعين سنة الَّتي عاشها قبل نزول الوحي شيئاً عن القرآن الكريم، أو عن كُنْهِ الرسالة، وأن روح الوحي قد لامست قلبه، فأوقدت شعلة الإيمان فيه، فاستضاء بنور الله، ثمَّ انتشر ذلك النور فأضاء على من حوله، وصار يهدي إلى الصراط المستقيم، دين الله القويم، وهذا هو المعنى المقصود من كلمة الوحي هنا؛ إنه أمر إلهي يلقيه الله تعالى في قلوب الرسل عليهم السَّلام وأسماعهم، فيصبح لديهم استعداد للاتصال بحضرة الله، وبملائكته، وتلقِّي رسالته، فتتحوَّل قلوبهم إلى ينابيع تتفجَّر بالحكمة، وعقولهم إلى خزائن تُسْتَودَع العلومُ الإلهيَّة بها. وطبيعة هذا الوحي نور إلهي تخالط بشاشته القلوب الَّتي يشاء الله لها أن تهتدي به، بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.
ويجدر بنا ههنا التأكيد على تقَيُّد هذه المسألة، مسألة الهدى، بمشيئة الله سبحانه وحده، فهو الَّذي يقدِّرها لمن يشاء بعلمه الخاص، الَّذي لا يعرفه أحد سواه، وما الرسول صلي الله عليه وسلم في هذه الحالة إلا دليل لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشئ الهدى في القلوب، بل يبلِّغ الرسالة فتنفذ مشيئة الله. فمهمَّة الرسول إذن هي الهداية إلى طريق الله الَّذي تلتقي عنده المسالك، والله هو مالك السموات والأرض، فالَّذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السموات والأرض، وإلى أن أمر الخلائق جميعها ينتهي إليه تعالى، ويلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره، وهو أحكم الحاكمين.