3 ـ مهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {لقد مَنَّ الله على المُؤمنينَ إذ بَعَثَ فيهم رسُولاً من أنفُسِهِم يَتلُوا عليهم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكمَةَ وإن كانوا مِن قَبلُ لفي ضَلالٍ مُبينٍ(164)}
/ ومضات:
ـ قامت دعوة الأنبياء ضمن مجتمعاتهم الَّتي ولدوا فيها وانتموا إليها، ولم يكونوا دخلاء عليها، لذلك جاءت هذه الدعوة ملائمة لحاجاتهم البشرية ومنظِّمة لها. أمَّا دعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم فكانت دعوة شاملة تلبِّي حاجات بني آدم كلِّهم، وتنظِّم حياة الإنسان أيَّ إنسان على هذه الأرض، أمَّا غيرها فكانت دعوة إقليمية خاصَّةً بفئة، أو أمَّة معيَّنة دون سواها.
ـ كانت مهمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس تستند إلى مقوِّمات أساسية أهمُّها:
ا ـ تلاوة آيات الله عليهم وجعلهم يتدبَّرون كلماتها بتفهُّم وتعقُّل.
ب ـ تزكيتهم بتطهير قلوبهم ونفوسهم من خبائث الصفات وقبائح الأعمال.
ج ـ تعليمهم كافَّة المعارف الَّتي تضمَّنها القرآن الكريم.
د ـ إرشادهم إلى سبل الحكمة؛ وهي التأمُّل والتحليل لوقائع الحياة واستخلاص العبر منها، فهي قوام كلِّ عمل ناجح، وهي الَّتي تصل به إلى غايته بأقصر السُّبل وأيسرها.
/ في رحاب الآيات:
في خضمِّ المتاهات الفكرية، والصراعات القبلية، وفي ظلِّ العبودية والرِّق وحكم الأقوياء وتسلُّطهم، وفرضهم لمعتقداتهم الَّتي يتستَّرون وراءها، بُعث النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية، وأُعطيت له رسـالةٌ واضـحة الأهداف، راقية بأخلاقياتها وسُمُوِّها الروحي؛ لإنقاذ الجنس البشري وتنظيم مسيرته لما فيه خيره وسعادته. وقد بعثه الله تعالى عربياً من جنس قومه وبلسانهم؛ ليكون أسوتهم وليتمكَّنوا من الاقتداء به. فلم يكن غريباً عنهم بل إنه وُلد فيهم، وترعرع بينهم، وعاش بين ظهرانيهم أربعة عقود كاملة قبل بعثته. وقد علموا فضله في كلِّ ناحية من نواحي حياته، واختبروا أخلاقه وعاداته منذ صباه ونعومة أظفاره إلى أن بلغ أَشُدَّه واستوى، وخرج إلى الناس يدعوهم إلى الإسلام، ويبلِّغهم كلام الله تعالى بالشكل الَّذي نزل عليه، ويبيِّن لهم الأهداف الَّتي يرمي إليها، ويعلِّمهم أمور الحلال والحرام، والخطأ والصواب وينير لهم سبل العلم والمعرفة، ويزرع في عقولهم الحكمة ليزدادوا رقيّاً وكمالاً. وفي هذه الآيات الكريمة يُذكِّر الله المؤمنين بما امْتَنَّ به عليهم وتفضَّل من بعثة النبي فيهم، فكانت فاتحة تاريخ مشرق ومستقبل ناجح متألِّق، كما يحدد تعالى المهامَّ الَّتي بُعث الرسول بها، وهي تعليمهم القرآن والحكمة وتزكية نفوسهم.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو على أصحابه كتاب الله شارحاً لمعانيه، موضحاً لأهدافه، ليتَّخذوه دستوراً لحياتهم، وليطبِّقوا برنامجه الربَّاني الكامل؛ فيَسعدوا في أنفسهم ويُسعِدوا غيرهم، ويرتقوا بتعاليمه إلى قِمم النجاح في مستقبلهم الدنيوي والأخروي. وقد آتت هذه التلاوة ثمارها يانعة منذ عصر النبوَّة؛ فتحقَّق بها إنقاذ الأمَّة من ظلماتٍ بعضها فوق بعض إلى نور العلم والحضارة والرقي، وتبوَّأت مكان الصدارة في قيادة العالم، وصارت خير أمَّة أخرجت للناس. تلك بعض الثمرات على المستوى الجماعي، أمَّا على الصعيد الفردي فكان لتلاوة آيات الله جاذبية تسري في النفوس، فتحيل المستمع من جاهل إلى عالم، ومن عدو إلى حبيب، وكثيراً ما كانت هي الدافع الَّذي حمل الكثيرين على الدخول في الإسلام.
ومن أَجَلِّ المهامِّ الَّتي أُرسل النبيصلى الله عليه وسلم لتحقيقها مهمَّة التزكية؛ وهي تطهير قلوب المؤمنين وعقولهم ومجتمعهم، من الشرك والوثنية والخرافة، وما تنفثه هذه المعتقدات في أصحابها من مشاعر وإيحاءات، قد تهبط بالإنسان إلى ما دون مستوى الحيوان. فقد كان عليه السَّلام يقتلع من أعماق صحابته جذور الوثنية ورواسبها فكرياً ونفسياً، ويدفع عنهم العقائد الباطلة، الَّتي تجعل صاحبها أسير الجهل والخرافات، والتخلف وانحراف الفطرة.
ولم تقتصر مهمَّته صلى الله عليه وسلم في التزكية على تطهير العقول من المعتقدات الباطلة؛ بل إنها اهتمَّت إلى جانب ذلك بتطهير النفس من الصفات الناقصَّة، والعادات الذميمة. وقد تمكَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلوغ هذه الغاية فأسَّس المجتمع الفاضل وأوجده على أرض الواقع والحقيقة، وكان المزكِّي الأعظم الَّذي زكَّى نفوس أصحابه بأقواله وأحواله وأعماله، وبذل في سبيل هذه المهمَّة جميع الوسائل الموصلة إليها، والَّتي كان من أهمِّها الدعوة إلى مجاهدة النفس، والعمل على تخليصها من رذائل الصفات وتحليتها بفضائل الأخلاق ومكارمها. وحقيقة المجاهدة هي السُّمُو بصفات النفس البشرية، وتصعيدها من السيء إلى الحسن بل إلى الأحسن؛ لأنها مفطورة على الخير ولديها القابلية للشر. وجوهر عملية التزكية يكمن في العمل على الارتقاء بالنفس، درجة درجة، إلى أن تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فهي تحيلها من كونها أمَّارة بالسوء إلى نفس لوَّامة، تلوم صاحبها كلَّما قصَّر وأساء، فإذا ما تاب واستقام على الخير سكنت، وارتقت في معارج الصفاء، فصارت نفساً مطمئـنَّة، راضيةً عن ذاتها، مَرْضِيَّة عند مولاها.
والجدير بالذكر هنا أن الآيات الكريمة عندما حدَّدت مهامَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جعلت مهمَّة التزكية سابقة، ومهمَّة التعليم لاحقة؛ إشارة إلى أهمية مرحلة تطهير النفس في بناء شخصية المسلم، وإلى دورها الأساسي في ضمان نجاح عملية التعليم وجني ثمارها. فالعلم المجرد عن التزكية علم قد يدمِّر صاحبه، ويدفعه في طريق حبِّ التعالي والسيطرة والابتزاز، ممَّا يعود عليه وعلى البشرية بالخسارة والهلاك، وهذا هو العلم الَّذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع». (رواه ابن حبَّان عن أنس بن مالك).
وهكذا نجد أن المدرسة الإسلامية اهتمَّت بتزكية النفوس كمرحلة إعداد أوَّلية، وعندما أصبحت قلوب تلامذتها أوعية طاهرة تصلح لإلقاء نور العلم فيها، بدأت المرحلة الثانية وهي التعليم الشامل لعلوم القرآن الَّتي تضع علوم الحياة في إحدى كفَّتي الميزان، بينما تضع علوم الدِّين في الكفَّة الأخرى ليكونا مطلبين متعادلين يحقِّقان سعادة المؤمنين ونجاحهم في الدارين. وإلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {..ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة..} (2 البقرة 201). وممَّا يؤيِّد هذه الحقيقة ويدعمها أن أوَّل ما نزل من وحي الله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {اقرأ باسم ربِّك الَّذي خَلَق * خَلَقَ الإنسانَ من عَلَق * اقرأ وربُّكَ الأكرم * الَّذي عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يعلم} (96 العلق آية 1ـ5) فكان الأمر بالقراءة الَّتي تعتبر من أبجديات العلم والتعليم يرمز في هذا الخطاب إلى نوعين من العلوم: علوم القلب الَّتي تؤخذ عن طريق إدمان ذكر الله وترديد اسمه، وعلوم الحياة الَّتي تؤخذ عن طريق القلم وتنتقل من جيل إلى جيل بواسطته.
وانطلاقاً من هذا الخطاب والعمل بمقتضاه؛ تحوَّل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جامعة تُعلِّم كلَّ العلوم، وأصبح طلب العلم فيها والانتساب إليها فرضاً على كلِّ مسلم. فدخلها المسلمون أميين غارقين في عزلتهم عن العالم حضارياً وفكرياً، وتخرَّجوا منها بفضل معلِّمهم ونبيِّهم علماء فقهاء أدباء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، وحملوا شهاداتٍ عاليةً، ومِنَحاً قيِّمةً، منها ما رواه سعيد بن المسيِّب عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم» (أخرجه البيهقي والديلمي)، وهذا ما أكَّده تعالى بقوله: {هو الَّذي بَعثَ في الأُمِّيينَ رسولاً منهم يتلو عليهِم آياتِهِ ويُـزكِّيهِم ويُعـلِّمُهُمُ الكتـابَ والحِكمـةَ وإن كانوا من قَبْلُ لفي ضلالٍ مبين} (62 الجمعة آية 2).
وما أجمل المَثَلَ الَّذي ضربه لنا الرسول المعلِّم الأوَّل عليه الصَّلاة والسَّلام في بيان مهمَّته الجليلة في التعليم ومدى تأثُّر الناس بها عندما قال: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيِّبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقَوْا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مَثَلُ من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من العلم فَعَلِم وعلَّم، ومَثَلُ من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الَّذي أُرسِلتُ به» (متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه ). ولما كان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم شاملاً لجميع أبواب الخير، فقد ركَّز على تعليم الحكمة الَّتي تُعَدُّ من أعظم هذه الأبواب وأجلِّها بدليل قوله تعالى: {..ومن يُؤتَ الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً..} (2 البقرة آية 269).
والحكمة في الإسلام تمثِّل الجانب العقلاني في التربية الإيمانية؛ لأنها دراسة للأشياء بحقائقها ظاهراً وباطناً، ومعرفةٌ تتناول ارتباط الأسباب بمسبَّباتها قَدَراً وشرعاً، وخَلْقاً وأمراً. وهذه الدراسة والمعرفة هي الحكمة العلمية، أمَّا الانتقال من مرحلة الدراسة إلى مرحلة التنفيذ والتطبيق فهي الحكمة العملية. وإذا كانت الحكمة هبة الله للمرسلين، فإنها الضالَّة المنشودة لبقيَّة المؤمنين وبغيتهم، فحيثما وجدوا الحقيقة الَّتي أُمروا أن يبحثوا عنها أخذوها، وهذا الوصف هو الَّذي أطلقه معلِّم الحكمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على كلِّ مؤمن فقال: «الكلمة الحكمة، ضالَّة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقُّ بها» (أخرجه الترمذي).
ونظراً لاستناد الحكمة إلى العقل وقيامها على أسسه؛ جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بالتمهُّل والتفكُّر قبل الإقدام على أي خطوة يخطوها المؤمن، لتكون صائبة سديدة. وقد ورد في الأثر: [إذا هممت بأمر فتدبَّر عاقبته، فإن كان رشداً فأمضه، وإن كان غياً فانته عنه]، فكلُّ مرحلة من مراحل حياة المؤمن يجب أن ترافقها الحكمة الرائدة، الَّتي يحتاج إليها في حياته عندما يشرف على خوض غمار الدعوة إلى الله، وعندها يصبح مأموراً بها وليس مختاراً، لقول الله تعالى: {ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة..} (16 النحل آية 125). ولهذا جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنَّته فيدعوته، وسلاحه الَّذي انتصر به على عداوة أعدائه، وكانت تتجلَّى حكمته بأروع صورها عندما كان يستخدم في دعوته أساليب متنوِّعة ومختلفة، تختلف باختلاف كفاءات المدعوِّين واستعداداتهم. وعلى ضوء هذه الحكمة النبويَّة تحوَّل أعداء الأمس أحباباً، والأخصام المناوئون صحابة، وبقوَّتها الجاذبة كان يدخل المشرك مسجد النبي يريد اغتياله، ويخرج مسلماً يدعو إلى الله، وينتقل من زعيم في الكفر إلى زعيم في الإيمان.
فهذا هو الإسلام دين التزكية والعلم والحكمة، وكتابه قرآن حكيم مليء بكنوز الحكمة وغني بمادَّتها، وخير دليل على اهتمامه بها ودعوته إليها أن سُمِّيت سورة من سوره باسم لقمان؛ الرجل الَّذي كان عبداً أسود اللون، فلم يضرَّه ذلك شيئاً، لأنه أوتي عطاءً عظيماً من الله وهو الحكمة، الَّتي رفعت مقامه من عبد مملوك فسلكته في مدارج الملوك، وخُلِّد ذكره في الأرض وفي السماء، قال تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة..} (31 لقمان آية 12).
أمَّا عن الحكمة القوليَّة، فخير ما يُذكر عنها ما قاله معلِّم الحكمة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام في حقِّها: «نِعْمَ العطيَّة ونِعْمَ الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوي عليها ثمَّ تحملها إلى أخ لك مسلم تعلِّمه إيَّاها تعدل عبادة سنة» (أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنه ). ومن درر وجواهر الكَلِمِ النبوي في تطبيق الحكمة بشكل عملي، اخترنا طائفة منها كقوله صلى الله عليه وسلم : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالسِّر والكتمان» (أخرجه الطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً)، وقوله: «أُمرنا أن ننزِّل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم» (أخرجه مسلم تعليقاً في مقدمة صحيحه وأبو داود عن السيِّدة عائشة رضي الله عنها)، وقوله: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً وأخرجه أبو داود عن الشعبي مرسلاً)، وقوله: «كلِّموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله» (رواه البخاري) ». وقال عيسى عليه السَّلام: (لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الدَّاء).
ومن الأقوال الَّتي رويت في الحكمة وقيمتها:
الحكمة نور الأبصار، ولسان الإيمان، وميزان العدل، وأمن الخائف، ومُتَّجر الرابح، وحظُّ الدنيا والآخرة، وسلامة العاجل والآجل، وهي السفير بين العقل والقلب، لا تندرس آثارها ولا يهلك امرؤ بعد عمله بها.
وعرَّفها آخرون بقولهم: الحكمة هي فعل ما ينبغي، في الوقت الَّذي ينبغي، وفي المكان الَّذي ينبغي، وعلى الشكل الَّذي ينبغي.
وهكذا بنور النبوة، وتكاتُفِ القلوب المؤمنة مع الداعية، المعلِّم المزكِّي الحكيم، ينقلب ضلال أبناء الأمَّة إلى هدى، وجهلهم إلى علم وثقافة، وتخلُّفهم إلى تقدُّم وازدهار، ويُفتح الطريق أمام الإنسانية جمعاء، لتصل إلى الحضارة الحقيقية الَّتي تجمع بين طياتها سعادة الدَّارين.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً(45) وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً مُنيراً(46) وبشِّر المؤمنين بأنَّ لهم مِن الله فضلاً كبيراً(47)}
سورة الأعراف(7)
وقال أيضاً: {..إِنْ أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون(188)}
سورة الأنعام(6)
وقال أيضاً: {وأَنْذرْ به الَّذين يخافون أن يُحشروا إلى ربِّهم ليس لهم من دونِه وليٌّ ولا شفيعٌ لَعلَّهم يتَّقون(51)}
/ ومضات:
ـ زَفَّ النبي صلى الله عليه وسلم لقومه البشرى برفع مستوى حياتهم، مادياً وروحياً ونفسياً واجتماعياً، وحمل التهديدَ والوعيدَ من ربِّ العالمين لمن يُعرض عن نداء الحقِّ والعدالة، فيسيء بذلك إلى نفسه وغيره.
ـ الدعوة إلى الله مهمَّة قدسـية وجليلة، لا تُوكل لأحد من الأنبياء أو ورثتهم إلا بإذن من الله سبحانه.
ـ لقد تفضَّل الله تعالى على أنبيائه ورسله بعلامة تدلُّ على صدق نبوَّتهم واصطفائهم، وهي نورٌ إلهيٌ فيَّاض، يُشِعُّ من حنايا قلوبهم، ليغمر قلوب أتباعهم ومحبِّيهم.
ـ الخوف من الله عامل أساسي في تكوين النفس المؤمنة، ولابدَّ لتوفُّره من معرفة عظمة الخالق فيما خلق، وإدراك أن ما خلقه لم يكن مصادفة أو عبثاً، وإنما هو نظام له خطَّة وهدف، من أدركه والتزم به نال الشفاعة والقربى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن أعرض عنه هلك وغوى.
/ في رحاب الآيات:
تحدِّد هذه الآيات الكريمة وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو شاهدٌ على التحوُّل الجذري الَّذي أحدثه القرآن في الناس، بولادة الأمَّة المسلمة الجديدة، وهو مبشِّرٌ بالخير والعطاء الإلهي لمن يتَّقي الله، ومنذرٌ للمعرضين عن نور المعرفة والهداية. قال ابن عباس رضي الله عنه : لمَّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً ومعاذاً فبعثهما إلى اليمن، وقال: «اذهبا فبشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا، فإنه قد أُنزل عليَّ: {ياأيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسلناكَ شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً}» (أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه الطبراني بإسناد مثله). وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «اجتمع عتبة وشيبة وأبو جهل وغيرهم فقالوا: أَسْقِطِ السماء علينا كِسَفاً، أو ائتنا بعذاب، أو أمطر علينا حجارة من السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذاك لي، إنما بعثت إليكم داعياً ومبشِّراً ونذيراً». فمهمَّة الرسول هي دعوة الناس لعبادة الله، ومكافحة الشرك والكفر، فهو السراج الَّذي يهديهم ويخرجهم من ظلام الشرك والكفر إلى نور الإيمان، وهذا لا يكون إلا بأمر من الله وبإذن منه جلَّ وعلا.
إن استناد مهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة على قاعدتي التبشير والإنذار، قد ترك أثراً عميقاً في نفوس المدعوين؛ لأن التبشير كان يمثِّل العامل التربوي الترغيبي، الَّذي يدفعهم باتِّجاه ما ينفعهم ويسعدهم، بينما كان الإنذار يمثِّل العامل التربوي الترهيبي، الَّذي يحجبهم عن كلِّ ما يضرُّهم ويؤذيهم.
إلا أن الناس غير متساوين في فهمهم لما يُلقى إليهم، فمنهم من لا يتجاوز الكلام أسماعهم، ومنهم من تدخل الموعظة أذن أحدهم وتخرج من الأخرى، دون أن تترك وراءها أي أثر، والقلَّة القليلة منهم من تتَّحد الكلمة مع نفوسهم، وتولِّد شحنات من الحبِّ والتوجُّه إلى الله، كما تتَّحد ذرَّة الأوكسجين مع ذرَّتين من الهيدروجين، فتشكِّل ماءً يمدُّ الأحياء بأسباب الحياة ويروي العطاش. وهؤلاء يمثِّلون فئة المؤمنين الَّذين يخشون الله ويخافون أهوال يوم الحشر وشدَّة الحساب، وهم مَنْ يُرجى الخير من إيمانهم وتقواهم.
ولمثل هؤلاء المؤمنين يزفُّ الله البشارة على لسان رسوله الأمين، بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، وبأن آثار هذا العطاء الإلهي ستظهر في ذواتهم وأُسَرِهم ومجتمعاتهم، حيث ينقلب الظلم عدلاً، والخوف أمناً، والفقر غنىً، والجهل علماً. أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن البصري أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {ليغْفِرَ لك الله ما تَقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخَّر..} (48 الفتح آية 2) قالوا: يارسول الله! قد علمنا ما يُفعل بك فماذا يُفعل بنا؟ فأنزل الله: {وبشِّرِ المؤمنين بأنَّ لهم من الله فضْلاً كبيراً}.
والخلاصة: أن الداعية المأذون من حضرة الله، مشاهد لأنوار ربِّه بصفاء مرآة قلبه، وهو شاهد على مجتمعه، بصير بأمراضه، يحمل البشرى بالشفاء والعلاج لمن يعملون بإرشاداته ووصاياه، أمَّا من أعرض عنها فله الإنذار بسوء العاقبة وشرِّ المصير. وإن أعطيات الله تعالى تنال البشر كافة، ولكن بشائره تُزَفُّ للمؤمنين خاصَّة، وهي فضل كبير، وعطاء متميِّز يخصُّهم به سبحانه وتعالى بالسعادة الروحية في الدنيا والآخرة في ظلِّ عنايته ورعايته.