آيات قرآنية

4 ـ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم

سورة الأحزاب(33)

قال الله تعالى: {إنَّ الله وملائكَتَه يُصلُّون على النَّبي ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّمُوا تسليماً(56)}

ومضات:

ـ يبدو مقام النبي الكريم عليه أفضل الصَّلاة وأتمُّ التسليم في هذه الآية أشدَّ ما يكون تألُّقاً وزهوّاً، وهو يحظى بالمواصلة والرحمة من ربِّ العالمين، والدعاء والتشريف من قِبَلِ جميع الملائكة الأبرار.

ـ أمر الله تعالى المؤمنين بالصَّلاة على النبي الكريم زيادة في تكريمه وتشريفه، ولينالوا بها بركـة النبي وشفاعته، ولكي ينهلوا بها من معين روحانيته الربَّانية الَّذي لا ينضب، وليتحلَّوا بأخلاقه المحمَّدية السامية.

في رحاب الآيات:

تشير الآية الكريمة إلى كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند الله تعالى؛ فهو محلُّ الهبات الإلهية، ومستودع العطاء الربَّاني، فالله تعالى يُوْدِعُ أنواره القدسية في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ووجدانه وعقله، ولا يزال يظلله بالرحمة إلى يوم الدِّين، ويجعل الملائكة تدعو له بالرحمة والبركات. وحقٌّ على المؤمنين تجاهه أن يملؤوا قلوبهم بمحبَّة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يدركوا كُنْهَ العطاء السماوي الَّذي حمله إليهم من خلال رسالة الإسلام، فهو صلة الوصل النورانية الروحية بين العباد وخالقهم. وبمقدار انفتاح القلب على النبي بالسَّلام والمحبَّة، بمقدار ما يرشف من رحيق الحبِّ الإلهي رشفاً، من شلالات فيضه النبوي، الَّذي أسبغه الله تعالى عليه.

وتأكيداً لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، كان الله سبحانه أوَّل من صلَّى عليه صلاة الرحمة، ثمَّ ثنَّى بصلاة الملائكة؛ وهي الاستغفار، ثمَّ أمرنا أن نصلِّي عليه بقوله: {ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليما}، أي الدعاء له بالمغفرة والتعظيم لشأنه صلى الله عليه وسلم ، والالتزام بحسن اتِّباعه والانقياد لأوامره. وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفهم بذلك، حيث اقتدوا بالله عزَّ وجلَّ في الصَّلاة على الرسول وتعظيمه، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن رسالة الإسلام جامعة للخيرات شاملة للعطايا الَّتي تغمر الإنسانية كلَّها، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة الَّتي تمَّ تبليغ الإسلام من خلالها إلى البشر. ولما كان الخلق عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم فهم يطلبون من الملك القادر أن يكافئه، وهذا هو السرُّ في قولهم: «اللهمَّ صلِّ على محمَّد». وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أكثروا من الصَّلاة عليَّ في كلِّ يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تُعرض عليَّ في كلِّ يوم جمعة فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة» (رواه أبو داود بإسناد صحيح)؛ وهذا مقام المقتدي بأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق وثبات. وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه قال: «لما نزلت الآية: {إن الله وملائكَتَه يصلُّون على النَّبي ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليما} قلنا يارسول الله! قد علمنا السَّلام عليك، فكيف الصَّلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد». فالرسول محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم محمود في الأرض، محمود في السماء، فمن أراد الارتقاء إلى أفقٍ طهور فليصلِّ عليه كما صلَّى عليه ربُّ العزَّة وملائكته الأطهار.

وقد يقول قائل: إن تكريم الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجة، فيه نوع من الشرك الخفي، يتنزَّه عنه الإسلام، الَّذي يدعو إلى توحيد الله، عقيدة وأساساً لكلِّ تعاليمه، فكيف يمكن الجمع بين هذا الحبِّ والتشريف لمقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين التوحيد المطلق لله عزَّ وجل؟ والجواب: إن شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قد تشرَّف بشرف الرسالة الَّتي أولاه الله تعالى حملها وتبليغها. فما كان صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة إلا رجلاً بشراً من عموم الناس، ولكنه بحمل الرسالة نال شرف النبوَّة، وشرف الصلة بالله عزَّ وجل دون سائر البشر. وقد اصطفى الله تعالى لهذا الشرف رسوله من بين البشر؛ ليمرَّ بظروفهم ويشعر بشعورهم، ويسري عليه ما يسري عليهم من شؤون الدنيا، وما ذلك إلا لأن الإسلام هو رسالة العقل والمنطق الَّتي تستند إلى أرضيَّة الواقع، والَّتي ستستمر في تنظيم حياة الناس وشؤونهم مادامت الأرض. وليس في تشريفه إخلال بوحدانية الله، أو إبهام لحقيقة دوره صلى الله عليه وسلم ، فهو مبلِّغ للرسالة وليس موجداً لها، وهو ناقل للعلم وليس مبتكراً له، وهو معرِّف بشريعة الله وليس واضعاً لها، وبهذا يكون تكريمه ثمرة لأمانته وصبره على حمل أعباء الرسالة، وامتثالاً لتكريم الله له واصطفائه على سائر بني البشر.

سورة القلم(68)

قال الله تعالى: {ن والقلمِ وما يَسْطُرون(1) ما أنت بِنِعْمة ربِّك بمجنون(2) وإنَّ لك لأجراً غيرَ مَمنون(3) وإنَّك لعلى خُلُقٍ عَظيم(4)}

ومضات:

ـ يُقسم تعالى بالقلم تكريماً للعلم وبياناً لأهميَّته.

ـ يدفع تعالى عن نبيِّه الكريم تهمة الجنون الَّتي وصمه بها أعداء العقيدة، ويشهد بخُلُق رسوله الكريم الفاضل وشمائله الرفيعة الَّتي أهَّلته لحمل الرسالة وتبليغها.

في رحاب الآيات:

أقسم الله تعالى بالقلم تأكيداً على صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم وبراءته ممَّا نسبه إليه المجرمون من السَّفه والجنون، ولا يخفى أن قَسَمَ الله تعالى بشيء إمَّا دليلٌ على قدسيَّته، أو لَفْتٌ للأنظار إلى عظيم مكانته، أو لأهميَّته، أو لبديع خلقه. والقلم هو الَّذي نكتب به العلوم والمعارف، وهو أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده.

وفي هذا القَسَم إشارة إلى فضل العلم وأهميَّته، فقد خصَّ الله الإنسـان من بين سائر المخلوقات بمعرفة الكتابة، ليفصح عمَّا في ضميره. وحسبك دليلاً على شرف القلم، أن الله جلَّ وعلا أقسم به تمجيداً لشأن الكاتبين، ورفعاً من قدر أهل العلم، في وقت كان فيه معظم العرب أمِّيين لا يجيدون القراءة والكتابة. أخرج ابن أبي شيبة عن عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد».

وينفي الله تعالى في الآية اجتماع صفتين متناقضتين في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وهما النبوَّة والجنون، فالنبوَّة صفة جليلة قائمة على العلم والحكمة والمعرفة، ولا يمنحها الله إلا لأصفيائه من خلقه ممَّن تميَّزوا بنقاء الفطرة، وصفاء السريرة، ونفاذ البصيرة مع العناية الإلهية به والفضل الربَّاني عليه، فأين الجنون في كلِّ ذلك؟.

وإن العجب ليستبدُّ بالإنسان حين يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه، ثمَّ يعلم اتِّهامهم له بالجنون، وهم الَّذين علموا منه رجاحة العقل وحكَّموه في بعض خلافاتهم قبل النبوَّة، وخصوصاً اختلافهم حول من يحوز شرف وضع الحجر الأسود مكانه في بناء الكعبة المشرَّفة عندما جدَّدوا بناءها، وهم الَّذين لقَّبوه بالأمين، وظلُّوا يستودعونه أماناتهم حتَّى يوم هجرته على الرغم من عدائهم الشديد له. وإن الإنسان لتأخذه الدهشة أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحدِّ الَّذي دفع مشركي قريش إلى أن يُلْقُوا تلك الاتِّهامات جزافاً، فيَصِمُوه بالجنون وهو المشهور برجاحة العقل، والخلق القويم والسلوك الأمثل.

وتأتي البُشرى للرسول صلى الله عليه وسلم بأن له عند ربِّه أجراً دائماً موصولاً لا ينقطع، وهو الَّذي أنعم عليه بالنبوَّة ومقامها الكريم، وفي هذا الأجر إيناس وتسلية، وتعويض غامر عن كلِّ حرمان عاناه، وعن كلِّ جفوة لقيها، وعن كلِّ بهتان يرميه به المشركون، وقد قُرنت هذه البشرى ورُبطت بمدح خُلُقه صلى الله عليه وسلم في الآية الَّتي تلتها {وإنَّك لعلى خُلُقٍ عظيم} فكان الارتباط القائم بين الآيتين عبارة عن تَرتُّبِ النتائج على المقدِّمات؛ فأجر النبي لا ينقطع ولا ينفد، لأنه ذو خلق عظيم تسامى إلى درجة لا ينقطع معها أجر ولا يقلُّ ثواب، فمَعِيْنُ خلقه فيَّاض لا ينضب، ونبع حسناته متفجِّر لا يغيض، وهذا شرف عظيم لم يدرك شأوَه بشر، فربُّ العزَّة هو الَّذي يصف محمَّداً بهذا الوصف الجليل. وقد كان من خُلُقه صلى الله عليه وسلم : حبُّ العلم، والحلم، وشدَّة الحياء، وكثرة العبادة، والسخاء، والصبر، والشكر، والتواضع، والزهد، والرحمة، والشفقة، وحسن المعاشرة، والأدب، إلى غير ذلك من الخلال العليَّة والأخلاق الرضيَّة. قالت السيِّدة عائشة رضي الله عنها في وصفه عليه السَّلام: (لم يكن يعيب أحداً، ولا يجزي على السوء بسوء، بل كان يعفو ويصفح، وكان بعيداً عن السيئات، إنه لم ينتقم من أحد لنفسه، ولم يضرب غلاماً ولا أَمَةً ولا خادماً قط، بل لم يضرب حيواناً، ولم يَرُدَّ سائلاً إلا إذا لم يكن عنده شيء). وعنها رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللهصلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله عزَّ وجل» (رواه البخاري ومسلم). وما أجمل ثناء الله عليه حين قال: {لَقَد جاءَكُم رسُولٌ من أنفسِكُم عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّم حريصٌ عليكُم بالمؤمنينَ رؤوف رحيمٌ * فإن تَوَلَّوا فقُل حسبيَ الله لا إلهَ هُو عليه توكَّلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم} (9 التوبة 128ـ129).

إن محمَّداً صلى الله عليه وسلم وحده هو الَّذي رقى إلى هذا الأفـق من العظمة، وبلغ قمَّة الكمال الإنساني، وهو وحده الَّذي يكافئ ويعادل مضمون الرسالة الإلهية الكونية العالمية من الأخلاق والفضائل، حتَّى إنها لتتمثَّل في شخصه فضيلةً تمشي على الأرض في إهاب إنسان، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما كان أحد أحسن خلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله تعالى: وإنَّك لعلى خُلُق عظيم». وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن هشام رضي الله عنه قال: «أتيت عائشة فقلت: ياأم المؤمنين! أخبريني عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن». فآيات القرآن وسُوَره، حروف وكلمات، وإنَّ عَمَلَ الرسول وخلقه تجسيد لمعانيها وتفسير لأهدافها، ولهذا جعله الله أهلاً لهذا المقام، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

سورة الضحى(93)

قال الله تعالى: {وَلَسَوف يُعطيك ربُّك فترضى(5) أَلَمْ يجدْك يتيماً فآوى(6) ووجدَك ضالاًّ فهدى(7) ووجدَك عائِلاً فأغنى(8) فأمَّا اليتيمَ فلا تقهر(9) وأمَّا السَّائل فلا تنهر(10) وأمَّا بِنِعمة ربِّك فحدث(11)}

سورة الانشراح(94)

وقال أيضاً: {ألم نَشرحْ لك صدرك(1) ووضعنا عنك وِزْرك(2) الَّذي أنْقَضَ ظهرك(3) ورفعنا لك ذكرك(4) فإنَّ مع العُسْرِ يُسرا(5) إنَّ مع العُسْرِ يُسرا(6) فإذا فرغت فانْصَبْ(7) وإلى ربِّك فارغب(8)}

ومضات:

ـ إن من دلائل رفعة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عزَّ وجل قد أسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة، ووعده بفيض العطاء الَّذي لا ينقطع، فهو مستمر ومتجدِّد في الحياة وبعد الممات.

ـ إن التربيـة الإيمانية تُنمِّي في النفس فضيلة الشكر، وتمنحها مزيَّـة الاعتراف بالفضل والجميل.

ـ توالي العطاء يلزمه التحلِّي بالصبر والمصابرة، والمزيد من التعبُّد والتعلُّق بحضرة الله.

في رحاب الآيات:

عندما يصفو الحبُّ والودُّ بين العبد وخالقه، وترتفع منزلة المحبِّ عند الحبيب، يتنزَّل عليه صيِّب العطايا بلا حدٍّ ولا عدٍّ، فيسقي شجرة الحبِّ لتؤتي ثمار الرضا يانعة طيِّبة.

وهذا ما تفضَّل به الله على نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم بعد أن اصطفاه واجتباه، فقد أغدق عليه من ألوان العطاء وعظيم الهبات ما شمل خيري الدنيا والآخرة؛ كالنصر والفتح وظهور الدِّين ـ الَّذي جاء به ـ على الدِّين كلِّه، وجعل أمَّته خير أمَّة أخرجت للناس. كما تفضَّل عليه بالثواب العظيم، والمكانة الرفيعة، حتَّى ينال الكرامة العظمى، والمقام المحمود يوم القيامة؛ بالشفاعة العامة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمَّته فقال: «اللهم أُمَّتي أُمَّتي وبكى، فقال الله: ياجبريل اذهب إلى محمَّد واسأله ما يبكيك ـ وهو أعلم ـ فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره رسول الله بما قال، فقال الله: ياجبريل اذهب إلى محمَّد، وقل: إنا سنرضيك في أمَّتك ولا نَسُوؤُك» (أخرجه مسلم)؛ ولايخفى أن أُمَّة رسول اللهصلى الله عليه وسلم هي الَّتي سارت على نهج القرآن خلقاً وعلماً وعملاً.

ثمَّ يمضي سياق الآيات من سورة الضحى، مذكِّراً الرسول صلى الله عليه وسلم ليستحضر في خاطره جميل صنع ربِّه به، وفيضه عليه، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والودِّ والإيناس الإلهي، فيقول: انظر في واقع حالك، وماضي حياتك، هل ودَّعك ربُّك وهل قلاك، حتَّى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تكن يتيماً لا أب لك، فما زال يحميك ويتعهَّدك برعايته حتَّى ارتقيت إلى ذروة الكمال الإنساني؟ ألم يجدك حائراً مضطرباً في أمرك، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة، فعبادتهم باطلة، ومعتقداتهم فاسدة، فهداك إلى رحاب حضرته، وزرع في قلبك برد اليقين؟ ألم تكن فقيراً فأغناك بما أجراه لك من الربح في التجارة، والسعة بعد الضيق؟.

وبعد أن عدَّد تعالى هذه النعم الثلاث، وصَّاه بثلاث وصايا تقابلها فقال: فأمَّا اليتيم فلا تقهر، أي لا تحتقره ولا تغلبه على ماله، وجَمِّلْهُ بالأدب وهذِّبه بمكارم الأخلاق، ليكون عضواً نافعاً في مجتمعك؛ لأن من ذاق مرارة الضيق في نفسه، فهو جدير بأن يستشعرها في غيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتيماً، فباعد الله عنه ذلَّ اليتم وآواه، فَمَنْ أَوْلى منه بأن يُكرِّم اليتيم شكراً لله على نعمته. وأمَّا السائل المستجدي، فلا تزجره ولا تُغلِظ له القول، بل تفضَّل عليه بشيء أو ردَّه ردّاً جميلاً، وقد يكون المراد من السائل طالب الحقيقة والعلم، وهو أيضاً ممَّا ينبغي الرفق به، وبيان ما أشكل عليه من الأمر. وعليك أيُّها الرسول أن توسِّع على الفقراء ببذل مالك، وأن تفيض عليهم من النعم الأخرى، روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وأمَّا بِنِعْمة ربِّك فحدث} قال: (بالقرآن، وعنه قال: بالنبوَّة، أي بلِّغ ما أرسلت به). وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (إذا أصبت خيراً، أو عملت خيراً، فحدِّث به الثقة من إخوانك). وروى الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدُّث بالنعم شكر، وتركه كفر (أي كفر بها) والجماعة رحمة والفرقة كفر» (أخرجه ابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف وعبد الله ابن أحمد بإسناد لابأس به). وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله جميل يحبُّ الجمال، ويحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده» (أخرجه البيهقي ـ أمَّا المقطع الأوَّل منه فأخرجه مسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه ).

وتتَّصل الآيات من سورة الانشراح بسورة الضحى، فتتابع ذكر النعم الَّتي أتمَّها الله على نبيِّه تكريماً لمنزلته، ورفعة لشأنه، وتأييداً لموقفه، فيأتي بها الخطاب الإلهي مبيِّناً وموضِّحاً لصور متفاوتة في الفضل والامتنان الَّذي امتنَّ الله به عليه صلى الله عليه وسلم ؛ كشرح الصدر، والطهارة من الذنوب والأوزار، ورفيع المنزلة والقدر في الدنيا والآخرة.

فما أحوج الداعية المؤمن في غمرة معاناته إلى صفة سعة الصدر وانشراحه؛ ليتمكَّن من المتابعة، ومن التغلُّب على التيَّارات النفسية الَّتي تتجاذبه، وتولِّد لديه شعوراً بالإرهاق الفكري والجسدي، إلى جانب سيطرة الشعور باليأس والإحباط، وبشدَّة الضيق الَّذي يكاد يخنق صدره، وكأنَّه يحمل جبال الأرض هموماً وأتراحاً. ذلك أن التعامل مع الناس عموماً في الأمور الحياتية يولِّد العناء والمشقَّة، فما بالك بدعوتهم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وحثِّهم على تغيير معتقداتهم الخاطئة الَّتي توارثوها منذ مئات السنين. هل من عناء أشدُّ من هذا العناء تجاه مقاومتهم وصدِّهم وإعراضهم بل إيذائهم له وقتالهم إياه؟ وهل من مشقَّة تفوق هذه المشقَّة؟. ولكنَّ المؤمن الَّذي اتَّصل قلبه بالحضرة الإلهية، وأحاطت به العناية الربانية، يتلقَّى منها المدد والسند عبر نفحات نورانية تثلج صدره، وتنعش فؤاده، وتحطُّ عنه أوزاره وعناءه، فيشعر بشفافية في روحه، ورقَّة في مشاعره، وهدوء في أعصابه، نتيجة المعالجة الربَّانية الَّتي تزيل ركام الهموم والمشقَّات عن جسده وروحه، وطريق مسيرته، لأجل نصرة دين الله وإيصال هديَّة الله الغالية النفيسة إلى عباده الأخيار.

هذه التجربة المريرة، مرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج منها سليماً معافى، بفضل الله وكرمه، فقد شرح الله صدره بالهدى والإيمان ونور القرآن، للقيام بأعباء الدعوة، فيسَّر له أمرها، وجعلها حبيبة إلى قلبه، وأنار له الطريق حتَّى وجد الرَّوح والانشراح والإشراق والنور، ووجد في حسِّه مذاق هذا العطاء، والمتعة مع كلِّ مشقَّة، والراحة مع كلِّ تعب، واليسر مع كلِّ عسر، والرِّضا مع كلِّ حرمان. وقد حطَّ الله تعالى عن الرسول الكريم ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة، وذلَّل له الصعاب في طريق التبليغ، وجعل نفسه مطمئنة به راضية، كما يرضى الأب بتحمُّل مشقَّة العمل من أجل إسعاد أبنائه؛ فيتحمَّل الشدائد وهو راضٍ بما يقاسي في سبيل رعايتهم، وتنشئتهم وتأمين مستلزماتهم.

أمَّا قوله تعالى: {ووضعنا عنك وِزْرَك} فمعناه: غفرنا لك ذنبك، كقوله تعالى في آية أخرى: {لِيَغْفِرَ لك الله ما تقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخَّر..} (48 الفتح آية 2). وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام، فإن الرسل معصومون من مقارفة الآثام، ولكنَّها أخطاء الاجتهاد فيما لم يأته بشأنه وحي؛ كإذنه صلى الله عليه وسلم للمنافقين في التخلُّف عن الجهاد حين اعتذروا، وعبوسه في وجه الأعمى، وقبوله الفداء من أسرى بدر.

ولا تخفى الحكمة الإلهية من ذلك، فقد تَرَكَ الله الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ، ليصحِّح له هذا الخطأ ويعاتبه عليه، وفي هذا العتاب ما فيه من الدلالة على أن القرآن ليس من عنده، وإنما هو قول ربِّ العالمين سبحانه.

وهكذا بعد أن تفضَّل الله على رسوله بشرح صدره للقيام بمهمَّة الدعوة، الَّتي أصبحت مشرق النور الإلهي ومستقرَّه ومستودعه، وبعد وصله الفناء بالبقاء، والعدم بالوجود، كافأه سبحانه بدرجة عظيمة مقابل قيامه بتكاليفها وأدائها على أحسن وجه، فوضع عنه ما أثقل ظهره، ورفع ذكره وقرن اسمه الكريم باسمه عزَّ وجل، ممَّا جعل قلوب الناس المؤمنة تلهج بالثناء عليه منذ أربعة عشر قرناً وإلى ما شاء الله؛ فصلَّى الله وسلَّم وبارك عليه.

لقد بلغ صلى الله عليه وسلم أسمى الرتب، ونال أرفع الدرجات والمنازل، وأيُّ منزلة أرفع من النبوَّة؟ وأيُّ ذكر أوسع وأعلى من أن يكون له في كلِّ طرف من أطراف المعمورة، أتباع يمتثلون أوامر الشريعة ويجتنبون نواهيها، ويرون محبَّته مغنماً، والحرمان منها مغرماً؟ وهل من فخار أكبر من جعل اسمه مقروناً باسم الله كلَّما تحرَّكت به الشفاه؟ (لا إله إلا الله محمَّد رسول الله) وهو المقام الَّذي تفرَّد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين. أخرج أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربَّك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم، قال: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي».

لقد وعد الله رسوله بالنصر والتوفيق والسداد، فما عليه إلا أن يشحن روحه بمزيد من المدد الإلهي، والإكثار من الذكر والتسبيح والعبادات، ليبقى الاتِّصال مستمراً، والعناية محيطة به على مدار الساعة بإذنه تعالى، وعندها يأتي الفرج بعد الضيق، ويكون الرخاء بعد الشِّدة. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعاني في مكَّة من الضيق والشدة، هو وأصحابه، ما الله به عليم، بسبب أذى المشركين، فوعده الله باليسر، كما عدَّد نعمه عليه في أوَّل السورة تسلية له، ومؤانسة لنفسه وتقوية لرجائه، وكأنَّ الله تعالى يقول: إن الَّذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدِّل لك هذا العسر بيسر قريب، ولذلك كرَّره مبالغة فقال: {فإنَّ مع العسرِ يسراً * إنَّ مع العسر يسرا} فلا تحزن ولا تضجر؛ فالعسر مشفوع بِيُسْرَيْنِ كتفريج الهمِّ مع ثواب الله تعالى، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لن يغلب عُسر يُسرين» أي لن يغلب عسر الدنيا يسر الدنيا ويسر الآخرة. أخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: {إن مع العسر يسرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين» (أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب عن الحسن مرسلاً، ورواه الطبراني عن معمر). وتفسير ذلك أن الآية الكريمة جعلت العسر معرَّفاً بالألف واللام ومهما كُرِّر فيها فهو واحد، لكنها نَكَّرت اليسر (يسراً) ولَمَّا كرَّرته تعدَّد فصار في الآية عسر واحد يقابل يسرين، ولن يغلب عسر يسرين كما صرَّح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

بعد ذلك يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الزَّاد في الطريق الشاقِّ الطويل: {فإذا فرغتَ فانْصَب} أي إذا فرغت من شغلك مع الناس وانتهيت من شواغل الحياة، فتوجَّه بقلبك كلِّه، عبادةً، وتجرُّداً، وتطلُّعاً إلى زيادة القرب من الله سبحانه وتعالى. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} (أي إذا فرغت من صلاتك وتشهَّدت فانصب إلى ربِّك، واسأله حاجتك. ولا ترغب في ثواب أعمالك وتثميرها إلا إلى ربِّك وحده، فإنه هو الحقيق بالتوجُّه إليه والضراعة له، توجَّه إليه خالياً من كلِّ شيء، حتَّى من أمر الناس الَّذين تشتغل بدعوتهم، فإنه لابدَّ من الزاد للطريق، وهذا هو الزاد، ولابدَّ من العدَّة للجهاد، وتلك هي العدَّة، وهنا ستجد يسرا مع كلِّ عسر، وفرجاً من كلِّ ضيق).

وتنتهي السورة وقد تركت في النفس شعورين متمازجين، الشعور بعظمة الودِّ الجميل الَّذي يفيضه الله على رسوله الكريم، والشعور بالتَّعاطف مع شخصه، ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في تلك الآونة الَّتي اقتضت هذا الودَّ الجميل. فما أروعها من ثمرات نجمت عن المعاناة الطويلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجهاده الشاقِّ في تركيز قواعد الشريعة الإسلامية، حيث أنقذت أمماً كثيرة من رقِّ الأوهام، وفساد الأحلام، ورجعت بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل والإرادة، والإصابة في معرفة الحقِّ، ومعرفة المقصود بالعبادة، فاتَّحدت كلمتهم على الاعتقاد بإله واحد لاشريك له بعد أن كانوا متفرقين طرائق قِدداً، عُبَّاد أصنام وأوثان، وشموس وأقمار، لا يجدون إلى الهدى سبيلاً، ولا للوصول إلى الحقِّ طريقاً، فأزاحت عنهم تلك الغُمَّة، وأنارت لهم طريق الهدى والرشاد. وما أجملها من آيات يقرؤها العبد في صلاته، وهو يشعر بأنه المخاطب بها مباشرة من قبل ربِّ العالمين، ليشعر بحضور الله عزَّ وجل المستمر معه. وما أجدر المرء أن تكون له التفاتات متكرِّرة إلى بدايات حياته، ليتذكر توالي فضل الله عليه، واستمراره منذ ولدته أمُّه ولغاية يومه، ويدرك أنه تعالى ما تخلَّى عنه، وما بخل عليه في يوم من الأيام بل إنه في كنف ربٍّ كريم، عظيم، رحيم. وما أحراه أن يُقدِّم شكراً عملياً لربِّ العالمين، من خلال أداء واجبه تجاه المقهورين والمحرومين، والسائلين والأيتام؛ أيتام الأبوين أو أيتام العلم، وذلك برعايتهم في شؤون دينهم ودنياهم، وتبليغهم تعاليم القرآن، وتوضيح نِعم الله بروح مؤمنة خاشعة؛ لتستمر رابطة الألفة بين العباد وخالقهم، وبين العباد بعضهم مع بعض، فيصبح المجتمع مجتمع العلم والإخاء والمحبَّة.