موسى عليه السَّلام
سورة طه(20)
قال الله تعالى: {وهل أتاكَ حديثُ موسى(9) إذ رأى ناراً فقال لأهلهِ امكُثوا إنِّي آنستُ ناراً لعلِّي آتيكم منها بِقَبَسٍ أو أجدُ على النَّار هُدىً(10) فلمَّا أتاها نُوديَ ياموسى(11) إنِّي أنا ربُّك فاخلعْ نَعليك إنِّك بالوادِ المقدَّسِ طُوىً(12) وأنا اخترتُكَ فاستمع لما يُوحى(13) إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبُدْني وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري(14) إنَّ السَّاعة آتيةٌ أكادُ أُخْفيها لِتُجزى كُلُّ نفسٍ بما تسعى(15) فلا يَصُدَّنَّك عنها من لا يُؤمنُ بها واتَّبعَ هواهُ فَتَرْدَى(16) وما تِلكَ بيمينك ياموسى(17) قال هيَ عصايَ أَتَوكَّؤ عليها وأَهُشُّ بها على غنمي وَلِيَ فيها مآربُ أُخرى(18) قال ألقِها ياموسى(19) فألقاها فإذا هيَ حيَّةٌ تسعى(20) قال خُذها ولا تخف سَنُعِيدُها سِيرتَها الأولى(21) واضْمُمْ يَدَك إلى جنَاحِكَ تَخرجْ بيضاءَ من غيرِ سوءٍ آيةً أُخرى(22) لُنرِيَك من آياتنا الكبرى(23) اذهب إلى فرعون إنَّه طَغى(24) قال ربِّ اشرحْ لي صدري(25) ويسِّر لي أمري(26) واحلل عُقدةً من لساني(27) يَفقهوا قولي(28) واجعل لي وزيراً من أهلي(29) هَارونَ أخي(30) اشْدُدْ به أزري(31) وأَشْرِكْهُ في أمري(32) كي نُسبِّحَكَ كثيراً(33) ونَذْكُرَكَ كثيراً(34) إنَّك كُنت بنا بصيراً(35) قال قد أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى(36) ولقد مَننَّا عليكَ مرَّةً أُخرى(37) إذ أوحينا إلى أمِّك ما يُوحى(38) أن اقذفيه في التَّابوتِ فاقذفيه في اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بالسَّاحِلِ يَأخُذْهُ عدوٌّ لِي وعدوٌّ له وأَلقيتُ عليك محبَّةً منِّي ولِتُصنعَ على عيني(39) إذ تمشي أُخْتُكَ فتقولُ هل أدُلُّكُم على من يَكْفُلُهُ فَرَجَعناك إلى أُمِّك كي تقرَّ عَينُها ولا تحزن وقَتلتَ نفساً فنجَّيناك من الغمِّ وفتنَّاك فُتُوناً فلبِثت سنين في أهل مَدْيَن ثمَّ جئتَ على قَدَرٍ ياموسى(40) واصطنعتُكَ لنفسي(41) اذهب أنتَ وأخوكَ بآياتي ولا تَنِيَا في ذكري(42) اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى(43) فقولا له قولاً ليِّناً لعلَّهُ يَتَذكَّر أو يخشى(44)}
ومضات:
ـ من كان يدري أن لقيطاً من الماء (في نظر الناس) تحتضنه زوجة فرعون، ملك الملوك في مصر، لتُرَبِّيه هي وزوجها ويتعهَّدانه، ليكبر ويشتدَّ ساعده وهو في كنفهما. ثمَّ يغادرهما خائفاً طريداً، ليعود إليهما نبيَّاً رسولاً وكليماً لله تعالى، محاوراً ومنذراً لفرعون من طغيانه وادِّعائه الألوهيَّة لنفسه؟.
ـ كان لابدَّ من تزويد موسى عليه السَّلام، بمعجزاتٍ بيِّناتٍ باهرة، نظراً لتسلُّط فرعون وتجبُّره، وادِّعائه الألوهيَّة، معتمداً بذلك على أمهر السحرة في زمانه، ليخدع الناس بسحرهم، ويؤثِّر على عقولهم ليؤمنوا به، فجاءت معجزة موسى عليه السَّلام عندما تَحوَّلت عصاه ـ بإذن الله ـ إلى حيَّة تسـعى، لتبطل سحر السحرة، فكانت آية في القوَّة، وبإذنٍ من الله الَّذي بيده مقاليد كلِّ شيء، فلا يمكن لأمر ما؛ أن تقوم له قائمة، ما لم يأذن به الله سبحانه ويشاء.
ـ عندما جاء الأمر لموسى عليه السَّلام بدعوة فرعون وملئه إلى عبادة الله، أدرك صعوبة هذه المهمَّة، وشعر بالحاجة إلى مساعد له لأداء ما أُمر به، فطلب من ربِّه أن يشدَّ أزره بأخيه هارون؛ وفي هذا إشارة إلى أنه لابُدَّ لكلِّ داعية من أخ في الله يعينه ويؤيِّده ويسانده.
ـ ذكر الله وتسبيحه هما الطاقة الفاعلة، والقوَّة المحرِّكة لعمل الدعوة إلى دين الله، ومهما أوتي الداعي من علم وفصاحة وحُجَّة؛ فلا غنى له عنهما؛ لأن العلم المجرَّد من نور الله وذكره، يجعل من صاحبه قالباً جامداً، لا روح فيه ولا حياة، وبالتالي يكون علمه ميتاً لا روح فيه ولا حياة، فلا نفع له؛ لأن العلم النافع هو العلم الَّذي يثمر العمل في صاحبه، ويحرِّك دوافع التطبيق والامتثال في سامعه.
في رحاب الآيات:
لابُدَّ لكلِّ نبي أثناء مسيرته وجهاده في الدعوة إلى الله، من صعوبات ومشاقّ تعترض طريقه. وقد يعتريه في بعض الأحيان شيءٌ من الضعف والتعب، فهو في حاجة مستمرَّة إلى التثبيت وتقوية العزيمة، ولم يكن الله ليخذل أنبياءه أو يُخْلِفَهم موعده. فهو الَّذي أمرهم بالتبليغ ووعدهم بالنُّصرة؛ ولهذا كانت معونته تؤازرهم، وكان نصره وتأييده يحالفهم. وقد قصَّ الله تعالى على نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات قصَّة نبي كريم ورسول عظيم لتكون تثبيتاً له وتأييداً، وليجد فيها بعض العزاء والسلوى، قال تعالى: {وكُلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادكَ وجاءك في هذه الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين} (11 هود آية 120).
وتبدأ الآيات الكريمة بالاستفهام التقريري، ومن سنن اللغة العربية أنه إذا أُريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب في نفس المخاطب أن يُلقى إليه بطريق الاستفهام، فالاستفهام غرضه التشويق لما سيأتي بعده، والمعنى: هل بلغك يامحمَّد خبر موسى وقصَّته العجيبة؟ إنه بعد خروجه من مَدْيَنَ صحب أهله وتوجَّه إلى سيناء، فلما بلغها لاحت له نار من بعيد، فترك أهله وتوجَّه نحوها كأيِّ عابر للصحراء، لعلَّه يأخذ من النَّار قَبَساً يشعل به ناره، أو يجد عند النار من يهديه إلى الطريق الصحيح حتَّى لا يضِلَّ في متاهات الصحراء. فلما اقترب منها، رأى شجرة خضراء تشتعل فيها نار بيضاء، فوقف متعجِّباً من شدَّة ضيائها وخضرتها، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نوراً عظيماً بين السماء والأرض له شعاع تكلُّ عنه الأبصار. وإذا بالنِّداء يأتيه من قِبَل هذا النور مهدِّئاً ومطمئناً: {إنِّي أنا ربُّك فاخلعْ نَعليك} والمقصود بخلع النعلين هو تعظيم ذلك الموضع في الوادي المقدَّس، ولأن خلعهما أبلغ في التواضع، وحسن التأدُّب.
ثمَّ يخبر الله موسى عليه السَّلام في ذلك المقام عن قربه منه، وعن الأمانة الَّتي سيوكل إليه حملها، فقد اختاره ليكون رسولاً يبلِّغ رسالته، وأمر سبحانه موسى عليه السَّلام بالإصغاء التامِّ لما سيُلقى إليه؛ فكان أوَّل بند من بنود الرسالة هو تقرير وحدانيَّة الله تعالى، ذلك لأنها الدِّعامة الأولى الَّتي لا يمكن لأي بناء إيماني أن يبنى إلا عليها. ونلاحظ في هذه الجملة القصيرة: {إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا} استعمال ضمير المتكلم بشكل متتالٍ للتوكيد على ألوهيَّة الله، وأنه الفرد الصمد الَّذي ليس كمثله شيء. ثمَّ يأتي الأمر الحازم بالعبادة (فاعبدني)، أي أفردني وحدي بالعبوديَّة منزِّهاً إيايَّ عن الأغيار، وعن جميع علائق الدنيا، وأدِّ الصلاة على وجهها الحقيقي لتكون صلةً بيني وبينك، وسنداً وعوناً لك على أداء رسالتي. واعلم أن يوم الحساب آتٍ لتعود الخلائق كلُّها إليَّ فأجزي كلَّ إنسان بما يستحقُّ، فلا تتَّبِع أهواء المنحرفين وأصحاب الدنيا وتنسى الآخرة، لأن ذلك يودي بك إلى الخسران المبين.
وبعد وضع حجر الأساس في بناء صرح الإيمان، يتصل الحوار بين الله ورسوله، فيسأله تعالى سؤال العالم الخبير عن تلك العصا الَّتي يحملها، وعن فائدتها؟. والغرض من السؤال هو أن يبيِّن له أنه سيجعل لتلك الخشـبة ـ الَّتي ليس لها خطر كبير ولا منفعة عظيمة ـ جليل المزايا والفوائد الَّتي لا تخطر على بال، كانقلابها إلى حيَّة تسعى، وضرب البحر بها حتَّى ينفلق، وضرب الحجر لتتفجَّر منه اثنتا عشرة عيناً من الماء العذب كما حدث في مشاهد أخرى، ولينبِّهه إلى أن من كمال قدرته وبالغ عظمته، أنه يجعل من مثل هذه العصا، معجزات وأعاجيب فوق كلِّ تصوُّر وعلم بشري. فأجابه موسى عليه السَّلام الجواب المستفيض معدِّداً ما لها من فوائد ومزايا: {قال هي عصايَ أتوكَّؤ عليها} أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت، أو وقفت على رأس القطيع من الغنم، {وأَهُشُّ بها على غَنمي} أي أضرب ورق الشجر بها ليسقط على غنمي فتأكله، ولي فيها مصالح ومنافع أخرى غير ذلك كحمل الزاد، وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت ألقيتها على عاتقي، فعلَّقت بها قوسي وكنانتي وثوبي، وإذا أردت ماءً قصَّر عنه رشائي وصلته بها. فلما انتهى موسى عليه السَّلام من إجابته، جاءه الأمر الإلهيُّ، الَّذي سيكشف الله به لنبيِّه عن آية الإعجاز في تلك العصا، فقال له: {ألقِها ياموسى} فألقاها فدبَّت فيها قوَّة الحياة، وإذا هي حيَّة تسعى، وكم من ملايين الذرَّات الميتة تتحول في كلِّ لحظة إلى خليَّة حيَّة، لكنَّها لا تبهر الإنسان كما يبهره أن تتحوَّل عصا موسى عليه السَّلام حيَّة تسعى! ذلك لأن الإنسان أسير حواسِّه، وأسير تجاربه، فلا يخرج في تصوُّراته بعيداً عمَّا تدركه حواسُّه. وانقلاب العصا حيَّة تسعى، ظاهرة حسيَّة، تصدم حسَّه فينتبه لها بشدَّة، أمَّا الظواهر الأولى لمعجزة الحياة، الَّتي تدبُّ في كلِّ لحظة، فهي خفيَّة قلَّما يُلْتَفت إليها، وخاصَّة أن الألفة تُفقدها جدَّتها، فيمرُّ عليها غافلاً أو ناسياً. لذلك فقد أوجس موسى عليه السَّلام خيفة من العصا الَّتي انقلبت حيَّة تسعى، فقال له تعالى: {خُذها ولا تَخف} فإنها ستعود كما كانت، وتتسرَّب منها الحياة كما سرت فيها من قبل. ولا يخفى أن السرَّ في ذلك ليس مختصّاً في عصا معينة، بل لو أن موسى عليه السَّلام أو غيره، حمل أيَّة عصا أخرى غيرها، وجاء الإذن الإلهي بإظهار الإعجاز فيها، لما تخلَّف لحظة واحدة، فالقدرة الحقيقيَّة لله تعالى وليست لموسى عليه السَّلام ولا لغيره.
ويؤيِّد الله موسى عليه السَّلام بمعجزة ثانية؛ وهي خروج يده بيضاء لامعة، والآية الَّتي تتحدث عن ذلك قوله تعالى لرسوله: {واضْمُمْ يَدك إلى جَناحِك...} أي أَدخل يدك تحت إبطك ثمَّ أخرجها، تخرج نيِّرة مضيئة كضوء الشمس، من غير عيب ولا بَرَصٍ. وهاتان آيتان من آياتي الكبرى، فاذهب بهما دليلين على نبوَّتك إلى فرعون وملئه، فقد تجاوز حدوده في الكفر والطغيان، حتَّى ادَّعى أنه الإله. فتهيَّب موسـى عليه السَّلام الأمر؛ كيف يذهب إلى فرعون الطاغية، ورأس الكفر في زمانه؟ يضاف إلى ذلك أنه فرَّ من مصر بسبب قتله للمصري خطأً، وهل سيصَدِّقه فرعون؟ وهل سينجو من عقابه إذا كذَّبه؟ أسئلة متلاحقة تزاحمت في ذهن موسى عليه السَّلام، وتجسَّدت في هذا النداء (ربِّ) لقد ضاق صدري، فالمهمَّة عظيمة، والأمر جَلَلٌ فاشرح لي صدري، ونوِّره بنور الإيمان، واكشف همِّي، ويسِّر أمري، وفكَّ عقدة من لساني؛ وكان في لسان موسى عليه السَّلام حَبْسة (أو لثغة) تمنعه من كثير من الكلام، وكان حادَّ الطبع، سريع الانفعال، لذا طلب من الله أن يؤيده بأخيه هارون، ليكون عوناً له يحمل معه أعباء الرسالة، ويكون ظهيراً له عند الشدائد، ولِما له من فصاحة اللسان، وثبات الجنان وهدوء الأعصاب. وفي هذا إشارة إلى أن صحبة الأخيار للأنبياء ومؤازرتهم مرغوب فيها، فضلاً عن غيرهم، وأنه لا ينبغي أن يكون المرء مستبِّداً برأيه، حتَّى وإن كان نبياً. ثمَّ بيَّن موسى عليه السَّلام أن مؤازرة أخيه هارون له ستجعل أمامهما متَّسعاً من الوقت ليعبدا الله حقَّ عبادته، فلا تشغلهما مهامُّ الرسالة عن العبادة؛ بل يتفرغان بعض الوقت للتسبيح والتقديس ويستغرقان في ذكر الله، الذكر المتَّصل؛ الَّذي يقوِّيهما ويمدُّهما بالعون والثقة بالنفس على مواجهة عدو الله، مستمدِّين العون من الله المراقب لهما، والعالم بأمورهما، والمطَّلع على أحوالهما الَّتي لا يخفى عليه شيءٌ منها. وفي هذا إشارة إلى أهمية الأخوَّة في الله، وضرورة توثيق الصلة الروحية بين المتآخين، للتعاون والعمل الجادِّ على نشر الدعوة إلى الله، بقلوب ذاكرة وعاشقة له تعالى.
لقد أطال موسى عليه السَّلام سؤاله فسأل الله حاجته، وأعرب له عن ضعفه، وطلب منه العون والتيسير والاتصال الدائم، وربُّه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، يناديه ويناجيه، فإذا بالكريم المنَّان لا يُسفِّه راجيه ولا يردُّ سائله، ولا يبطئ عليه بالإجابة ويبشِّره بها فيقول له: {قد أوتيت سؤلك ياموسى} هكذا مرة واحدة، وبكلمة واحدة، فيها إجمال يغني عن التفصيل، وفيها تنجيز مطلق عن قيود التعليق أو التأجيل، وفيها تكريم وإيناس له بندائه باسمه: ياموسى! وأيُّ تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من عباده؟ لقد أُجيب السؤال، وقُضيت الحاجة، ولكنَّ فضل الله لا رادَّ له، ورحمته لا ممسك لها، فهو يغمر عبده بمزيد من فضله، وفيض من رضاه.
وبعد الاستجابة والبشارة، يأتي التكليف ضمن شروط محدَّدة، تبيِّن مهمَّة الداعي إلى الله، وكيف يكون استعداده قبل مواجهة أعداء الله، وكيف تكون دعوته بلين ورفق، فربما تحرَّك شيء من الإيمان في قلب العصاة وحصل المراد. فذكرت الآيات المعاني التالية: اذهب أنت وأخوك بالمعجزات الَّتي أيَّدْتُك بها إلى فرعون، فأكثرا من ذكري، ولا تفترا ولا تقصِّرا في عبادتي، فأنتما وما تملكان من فصل الخطاب، وذكاء العقل، وتفتُّح الجنان، لن تستطيعا تحريك أيَّ قلب إن لم ترتبطا بي، وتستمدَّا القوَّة مني، فإيَّاكما والانشغال عن ذكري. وبعد الذكر وتطهير القلب وشحذ العزيمة، اذهبا إلى فرعون الَّذي تمادى وتجاوز كلَّ حدٍّ، حين جعل نفسه إلهاً، وصرف الناس عن عبادتي {فقولا له قولا ليِّناً}. وعلى الرغم من بشاعة الذنب الَّذي ارتكبه فرعون، فقد علَّم الله نبيَّه الأسلوب الأمثل في دعوته وهدايته؛ إنه حوار عقلاني يدفع الحُجَّة بالحُجَّة، ليِّن هيِّن من شأنه أن يستجيش عاطفة الإيمان برفق، وينبِّه مكامن الحسِّ بيُسر، لأن الطغاة إذا دُعوا بعنف وشدَّة، استيقظت نوازع البطش والبغي في نفوسهم، وأخذتهم العزَّة بالإثم، لذلك ينبغي التعامل معهم بحذر، فلعلَّ قلوبهم المتصلِّبة أن تلين، ويشرق فيها قبس وضَّاء من الهداية يومض فجأة فيغمرها بالنور. ولفظ (لعلَّ) الَّذي ورد في الآية يحمل معنى الرجاء والأمل بإيمان هذا الطاغية، وعلى الرَّغم من علم الله الأزلي بأن فرعون لن يؤمن، فإنه لم يطلع نبيَّه على هذا العلم، وتركه يحاول ويتخذ الأسباب، تعليماً للدعاة من بعده أن يتَّبعوا هذا الأسلوب في الدعوة، ولا يعلم ما في الغيوب إلا علاَّمُها سبحانه وتعالى، فإذا لم تتحقَّق النتيجة، كان فرعون هو المسؤول عن عناده بعد الإنذار والتحذير، ويستحقُّ عليه غضب الله تعالى.
ثمَّ يذكِّرنا الله تعالى بماضي موسى عليه السَّلام وطفولته، تنويهاً بالمنزلة الكريمة الَّتي له عند ربِّه، وتذكيراً لنا بالنعم الكثيرة الَّتي أنعم بها عليه، وأن الله يسعف أنبياءه وأولياءه عند الشدائد، فقد أنجاه من الهلاك الأكيد مرَّات عديدة، إذ ولدته أمُّه في العام الَّذي كان فرعون يقتل فيه المواليد الذكور من بني إسرائيل، فأوحى لأمِّه أن تضعه في صندوق ثمَّ تطرحه في نهر النيل ففعلت، وكان للنيل فرعٌ يمرُّ في قصر فرعون، فبينما هو جالس مع امرأته آسية إذا بتابوت يحمله الماء، فلما رآه فرعون أمر بإخراجه، فأخرجوه وفتحوه، وإذا بصبيٍّ من أصبح الناس وجهاً، فلما رآه فرعون أحبَّه وسمَّاه موسى و(مو) هو الماء بالهيروغليفية، و(سا) هو الشجر.
لقد ألقى الله على موسى عليه السَّلام محبَّة خالصة منه، زرعها في قلوب من رأوه، ومنهم فرعون وزوجته الَّتي قالت له: {..قرَّةُ عَينٍ لِي ولكَ لا تقتلوهُ عسى أن يَنفَعَنا أو نَتَّخِذَهُ ولداً..} (28 القصص آية 9) وبهذا القَدَرِ الَّذي قُدِّر لموسى عليه السَّلام، نجد أن العناية الإلهيَّة الَّتي أحاطت به قد بلغت ذروتها، فقد أنجاه الله من الذبح الَّذي فرضه فرعون بحقِّ المواليد الجُدد من بني إسرائيل، ثمَّ أدخله بعد النجاة من الهلاك، قصر صاحب هذه الجريمة النكراء، ليتربَّى عنده معزَّزاً مكرَّماً تصديقاً لقوله تعالى: {ولِتُصنَعَ على عيني} أي لكي تُربَّى محفوفاً برعايتي، ومحاطاً بعنايتي الَّتي يتمتع كلُّ من يحظى بها بمنتهى الأمان، وإن كانت الظروف المحيطة موحشة ومخيفة.
ثمَّ تعظُم المنَّة الربَّانية على موسى عليه السَّلام، حيث ألهمه تعالى أن يمتنع من الرضاع من أي امرأة غريبة، تهيئة لأسباب إعادته إلى حجر أمِّه وحنانها. فتأتي أخته تستطلع خبره وهي تمشي على ساحل النيل قريباً من الصندوق، وحين سمعتهم يطلبون مرضعة له، أشارت عليهم بمرضعة هي أمُّه، وبذلك أنجز الله وعده لأمِّ موسى عليه السَّلام بردِّه إليها بعد إلقائه في اليمِّ، كي تسعد بقربه وتنسى حزنها وخوفها عليه. وهكذا امتنَّ الله على موسى عليه السَّلام بنجاته من الذبح عند ولادته، ومن الغرق بعدها، فتجاوز مرحلة الطفولة بسلام وأمان. فلما بلغ مرحلة الشباب إذا به يقع في مأزق، كان من شأنه أن يورده موارد الهلاك، لولا أن تداركته العناية الإلهيَّة، وللمرَّة الثالثة، حين قَتل بطريق الخطأ، رجلاً مصرياً، دفاعاً عن رجل من بني إسرائيل استنجد به، فنجَّاه الله من عقاب فرعون، ونجَّاه من الهمِّ الَّذي ألمَّ به بعد ارتكابه هذا الذنب عن غير قصد حين قال: {..ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغفِر لي..} (28 القصص آية 16) ووفَّقه للهجرة إلى مدْيَن.
لقد ابتلى الله تعالى موسى عليه السَّلام بأنواع المحن، لكنَّه خلَّصه منها جميعها، وقد جاء في الحديث الشريف: «إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» (رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والترمذي وقال حسن صحيح). فالعبد الَّذي يريد الله اصطفاءه يجعله في بوتقة البلاء أوَّلاً، ثمَّ يخلِّص جوهره من كلِّ الشوائب. وهذا ما جرى مع موسى عليه السَّلام؛ فبعد أن اجتاز مرحلة الابتلاء والامتحان جيء به من أرض مدْيَن، لإقامة حُجَّة الله وتبليغ رسالته، وهداية الناس إلى التوحيد والشرع القويم.