آيات قرآنية

نوح عليه السَّلام

سورة المؤمنون(23)

قال الله تعالى: {ولقد أرسَـــلنا نُوحاً إلى قومه فقال ياقومِ اعبدوا الله ما لَكم مِن إلهٍ غيرُهُ أفلا تتَّقون(23) فقال المَلَؤ الَّذين كفروا من قومه ما هذا إلاَّ بشرٌ مِثلُكُم يريدُ أن يتفضَّلَ عليكم ولو شاءَ الله لأنزلَ ملائِكةً ما سمعنا بهذا في آبائِنَا الأوَّلين(24) إنْ هوَ إلاَّ رجلٌ به جِنَّةٌ فتربَّصوا به حتَّى حين(25) قال ربِّ انصرني بما كذَّبون(26) فأوحينا إليه أنِ اصنعِ الفُلْكَ بأعيُنِنَا ووحْينَا فإذا جاء أمرنا وفَارَ التَّنُّورُ فاسْلُكْ فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلَكَ إلاَّ من سبقَ عليه القولُ منهم ولا تخاطبني في الَّذين ظَلَموا إنَّهم مُغرَقُون(27) فإذا استَوَيْتَ أنتَ ومنْ مَعَك على الفُلْكِ فقل الحمدُ لله الَّذي نجَّانا من القومِ الظَّالمين(28) وقل ربِّ أنزلني مُنْزَلاً مُبارَكاً وأنتَ خيرُ المُنزِلين(29)}

 

سورة القمر(54)

وقال أيضاً: {كَذَّبت قَبلَهُم قومُ نوحٍ فكذَّبوا عبدَنَا وقالوا مجنونٌ وازْدُجِر(9) فَدَعَا ربَّهُ أنِّي مَغلوبٌ فانتَصِر(10) ففتحنا أبواب السَّماء بماء مُنهمِر(11) وفجَّرنا الأَرضَ عُيُوناً فالتقى الماءُ على أمرٍ قد قُدِر(12) وحملناهُ على ذاتِ ألواحٍ ودُسُرٍ(13) تجري بأعيننا جزاءً لِمَنْ كان كُفِر(14) ولقد تَركناها آيةً فهل من مُدَّكر(15)}

ومضات:

ـ دأْبُ الأنبياء (عليهم الصلاة والسَّلام) الدعوة إلى الله، والصبر في طريق الحقِّ. وشأن الظالمين الإعراض والتكذيب، وسنَّة الله في الفريقين لا تتبدَّل، فلا يذلُّ من والاه، ولا يعزُّ من عاداه.

ـ معـاداة نـوح عليه السَّلام، وإلصاق الصفات المغلوطـة فيه، من قبل زعماء قومه وأصحاب المصالح والنفوذ، أمر يتكرر مع جميع الأنبياء والمصلحين، وإلى قيام الساعة.

ـ إرادة الله باقية في نصر المؤمنين، وإن اختلفت أساليب النصر بين نبي وآخر.

في رحاب الآيات:

ما أرسل الله تعالى من نبي أو رسول إلا ليصلح من أمر قومه، فيزيل الخرافات من العقول، وينشر العلم والفضيلة، ويربط قلوب الخلائق بخالقها، فيعمُّ التَّآلف والتَّراحم والتَّعاون فيما بينها؛ على الرغم من الصراع المستمر بين الخير والشرِّ، والقائمِ بين المصلحين وأهل الفساد والإفساد، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهكذا تتكرَّر الصورة مع كلِّ نبي، ويختلف العقاب الإلهي من قوم لآخرين. والقرآن الكريم، غني بِسِيَرِ الأنبياء والرسل، الَّذين قاموا بمهمَّة الدعوة إلى الله، وقد تكرَّرت فيه الآيات الَّتي تنقل لنا صوراً من حياتهم، وتحمل في طيَّاتها دروساً عظيمةً وعبراً بالغة في التربية والتوجيه.

وإن رسول الله نوحاً عليه السَّلام هو أحد الأنبياء الَّذين جاء ذكرهم في القرآن، وقد وردت قصَّته مع قومه في أكثر من موضع، لتهزَّ المشاعر روعة ورهبة، وتعطي المؤمنين أملاً في إغاثة الله لعباده الصالحين، بقلع جذور الكفر والشرك، لتكون السِّيادة للإيمان وحده، فيوفِّر للناس الحياة الفاضلة، ويكون سبباً في رقيِّهم الروحي وتفوُّقهم المادِّي.

فإذا ما تتبَّعنا الآيات الكريمة المتعلِّقة بحياة نوح عليه السَّلام، وطالعنا أحداثها بعقل واعٍ وقلب متفتِّح؛ فإننا نجد فيها الكثير من الإرشادات والتوجيهات، ونستطيع أن نستخلص العديد من الدُّروس والعِبَر والحِكم. ففيها عزاء وتثبيت للمؤمنين عامَّة، ودعوة للتأسِّي به في ميدان الصبر والتحمُّل، وليُعْلَمَ أن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه. فالقصَّة تبدأ بحوار عقلاني بين نوح وقومه، فهو يدعوهم إلى عبادة الإله الواحد الَّذي لا شريك له، ويلقي على مسامعهم كلمة الحقِّ الَّتي لا تتبدَّل، والَّتي يقوم عليها الوجود، ويشهد لها كلُّ موجود؛ فيخاطبهم بلهجة التحبُّب والنصح قائلاً: ياقوم اعبدوا الله وحده وأطيعوه، ولا تشركوا معه إلهاً آخر، فلا ربَّ لكم غيره، ولا معبود يستحقُّ العبادة سواه. ثمَّ ينتقل في أسلوب وَعْظِهِ، من لغة النصح والترغيب، إلى لغة التنبيه والتحذير، فيقول لهم: {أفلا تتَّقون}، أي ألا تخافون عاقبة الإنكار للحقيقة البيِّنة الَّتي تقوم عليها كلُّ الحقائق؟.

فيأتي الردُّ من هؤلاء القوم الجفاة، بعد أن أقيمت عليهم حجَّة نبيِّهم: {ما هذا إلاَّ بَشرٌ مِثلكم يريدُ أن يَتفضَّلَ عليكم}، ومن هذه الزاوية الضيقة نظروا إلى تلك الدعوة الكبرى، فما كانوا ليدركوا طبيعتها، ولا لِيَرَوْا حقيقتها، وحُجبوا بذواتهم الصغيرة الضئيلة عن جوهرها، فإذا القضيَّة في نظرهم قضية رجل منهم، لا يختلف عنهم في شيء، يريد أن يتَّخذ لنفسه موقع الريادة، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم ويترأسهم! فقادهم ذلك الموقف إلى مغالطة كبيرة مع أنفسهم، فقد سوَّغوا لها أن تثبت الألوهيَّة لحجر، وأنكروا عليها الإيمان بنبوَّة بشر! ولم يقفوا عند هذا الحدِّ في عدائهم للحقيقة، واستنادهم إلى المغالطة والأوهام الباطلة، بل تمادَوْا في ذلك بإغلاقهم السَّمْع والبصر والفؤاد، دون دعوة الحقِّ الَّتي جاءتهم من عند الله، وحملها لهم رسول من أشرف خلق الله. وقد ذكر تعالى شكاية نوح حيث قال: {وإنِّي كُلَّما دعوتُهُم لِتَغفرَ لهم جعلوا أصابعَهُم في آذانِهِم واستَغشَوا ثيابَهَم وأصرُّوا واستكبروا استكبارا} (71 نوح آية 7)، لقد أوغلوا بهذا الموقف المتعنِّت والقصور المفرط؛ في البعد عن إدراك النفحة العلويَّة الَّتي تصل البشر بالملأ الأعلى، وتجعل الأخيار منهم يتلقَّوْن ذلك الفيض الإلهي، ويحملونه إلى إخوانهم فيهدونهم إلى مصدره الوضيء. إنهم بدل الأَوبَةِ إلى الحقِّ، انغمسوا في الباطل فقالوا: {وَلَو شَاءَ الله لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبَائِنَا الأوَّلين} ومثل هذا التفكير والحكم في كلِّ زمان ومكان إنما يصدر عندما يهيمن التقليد الأعمى فيطمس نور العقل، ويُكبِّل حريَّة المعتقَد؛ فلم يتدبَّر أتباع التقليد ما بين أيديهم من القضايا، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها، بل راحوا يبحثون في ركام الماضي عن سابقة يستندون إليها، فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها جانباً؛ واستمرُّوا في تكذيبهم وسخريتهم. وهكذا كان شأن نوح مع قومه الَّذين بلغ بهم الطغيان ذروته عندما قالوا: ما نوح إلا رجل أصابه مسٌّ في عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا ممَّن لا يفقه ما يقول، فيُسَفِّه دين آبائه، فحريٌّ أن لا يُلتَفَتَ إليه ولا إلى ما يدَّعيه، ولا طائل من مجادلته. فانتظِروا، علَّه يضيق ذرعاً بما هو فيه، فيتراجع عن دعوته، ويدعكم وما تعبدون من الآلهة الَّتي تؤمنون بها، وما هذا إلا مكابرة وفرط عناد منهم، لأنهم يعلمون أن نوحاً أرجحهم عقلاً، وأوزنهم قولاً.

ونتيجة لإصرارهم لم يجد نوح عليه السَّلام منفذاً إلى قلوبهم الجامدة المتحجِّرة، ولا موئلاً من السُّخرية والأذى إلا أن يتوجَّه إلى ربِّه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب، ويطلب منه النصر والتَّأييد. فالبشريَّة في عهده قد بدأت تهمُّ بالتحرُّك نحو الأمام في طريق الكمال المرسوم، فإذا كان الجمود يحيط بالأحياء من حوله على هذا النحو المتخلِّف، فإنهم سيشكِّلون عقبة في ذلك الطريق... وعندها لابد من أحد أمرين: إمَّا أن تتحطَّم هذه المتحجِّرات، وإمَّا أن تتجاوزها مسيرة الحياة، وتدعها في مكانها وتمضي. والأمر الأوَّل هو الَّذي حدث لقوم نوح، فشاءت إرادة الله أن تُنزل بهم الجزاء العادل وهو الطوفان؛ فأوحى الله لنوح عليه السَّلام أن يصنع الفُلْكَ (السفينة) بيده، لأنه لابُدَّ للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ليصل إلى النتائج، وبَذْلِ أقصى ما في وسعه ليستحقَّ المدد من ربِّه، فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المتقاعسين، الَّذين ينتظرون ولا يزيدون شيئاً على الانتظار.

أمَّا كلمة (بأعيننا) فتعني بحفظنا ورعايتنا، فنحفظك من أن تخطئ في صنعتك، أو أن يفسد عليك مُفْسِد؛ فإذا جاء أمرنا بإنزال العذاب، ورأيت علامته وهي فوران الماء في التنُّور (المكان الَّذي يُخبز فيه الخبز)، فأدْخِل في السفينة من كلِّ صنف من الحيوان زوجين (ذكر وأنثى) حفظاً للنوع. واحمل عليها أهلك إلا من سبق عليه القول بالهلاك (وهم الَّذين لم يؤمنوا به كابنه وزوجته)، ولا تسألني الشفاعة بالظالمين عند تحقُّق هلاكهم، فقد قضيت أنهم مغرقون وهالكون لا محالة، وإن كانوا من أقرب الأقربين، فسنَّة الله لا تحابي أحداً، ولا تحيد عن طريقها المستقيم المرسوم، من أجل مكانة وَلِيٍّ أو مقرَّب، فكلُّ نفسٍ تنال جزاء ما قدَّمت، قال تعالى: {وإن كَادُوا لَيَستفِزُّونَك منَ الأَرضِ ليُخرجوكَ منها وإذاً لا يَلْبَثُون خِلافَكَ إلاَّ قليلاً * سُنَّةَ من قد أرسلنا قبْلَك من رُسُلنا ولا تجدُ لسُنَتِنا تحويلاً} (17 الإسراء آية 76ـ77).

ثمَّ يعلِّم الله نبيَّه دوام ذكره، وشكر نعمه فيقول له: إذا صَعِدْتَ السفينة أنت ومن معك من المؤمنين، فاحمدوا الله الَّذي نجَّاكم من الظَّالمين، وباعد بينكم وبينهم، وجعل لكم الخلافة في الأرض من بعدهم. فامتثل نوح عليه السَّلام لأمر ربِّه حُبّاً وعرفاناً، وردَّد ما أوحى إليه من ثناء فقال: {الحمدُ لله الَّذي نجَّانا من القومِ الظَّالمين}. فلما أوشكت السفينة أن تستوي قريباً من الجبل، دعا ربَّه قائلاً: ربِّ أنزلني مُنْزَلاً مباركاً، يحفظني ومن معي، من كلِّ سوء وشرٍّ، فأنت خير المنزلين لأوليائك، وخير الحافظين لعبادك. فعلى هذه الصورة يكون الحمد والشكر، وهكذا يوصف سبحانه بصفاته، ويُعْتَرَفُ له بآياته، وهكذا يتأدَّب العباد مع حضرته وفي طليعتهم النبيُّون، ليكونوا أسوة للآخرين في أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم. وفي تفسير هذه الآيات قال قتادة: علَّمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: {..باسْمِ الله مَجراها ومُرسَاها..} (11 هود آية 41) وحين ركوب الدابَّة: {..سبحانَ الَّذي سخَّرَ لنا هذا وما كُنَّا له مُقْرِنِيْن} (43 الزخرف آية 13) وحيـن النزول: {وقلْ ربِّ أَنْزِلني مُنْزَلاً مُباركاً وأنتَ خيرُ المُنزِلين} (23 المؤمنون آية 29).

فهذه مقتطفات من قصة حياة نبي الله نوح... وهي قصة حُفظت في ذاكرة التاريخ، ونُقلت لسائر البشريَّة وعلى مرِّ العصور، وحظيت باهتمام الكثيرين من الأدباء وعلماء الآثار ووسائل الإعلام. كما تركت انطباعاتها في الأجيال قديماً وحديثاً، إلا أن خير انطباع لها، وأعظم أثر ينبغي أن تخلِّفه وتطبعه فينا، إنَّما هو الإيمان بقدرة الله تعالى على كلِّ شيء، وأنه بالمرصاد لكلِّ ظالم معاند، فإذا ما أمهل قوماً فلا يعني أنه أهملهم، بل لكلِّ أمَّة أجل ولكلِّ أجل كتاب، والوعد منه بنصرة المؤمنين قائم ومتحقِّق ولا يُخلِف الله الميعاد.