الفصل الثالث:
أوصـاف القـرآن
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {إنَّ هذا القرآنَ يهدي للَّتي هي أقومُ ويُبشِّرُ المؤمنينَ الَّذين يعملون الصَّالحاتِ أنَّ لهم أجراً كبيراً(9)}
ومضات:
ـ إن في آيات القرآن الكريم ينابيع لإرواء العقل وتنمية الفكر، بالعلوم على مختلف أنواعها، وفيها تعاليم لإرشاد الخلائق، ليسلكوا السبل المؤدِّية إلى رقيِّهم الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي.
ـ في حنايا القرآن وبين سطوره نور إلهي ساطع، يغمر القلوب الصافية، ذات النوايا الطيِّبة، ويوقظها من سبات، ويحييها من موات، فيدفعها لتَتَّبِعَ سواء السبيل.
ـ القرآن الكريم هديَّة من الله تعالى لكلِّ ذي لبٍّ، ففيه الأمل والبشرى والمسرَّات، لكلِّ من آمن واهتدى وعمل صالحاً.
في رحاب الآيات:
القرآن الكريم كلام الله المعجِز، المنزَّل على رسوله محمَّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المتعبَّد بتلاوته، الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنزله على عبده ورسوله محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بواسطة الأمين جبريل، وحفظه من أيدي العابثين حيث قال: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا لهُ لَحَافظون} (15 الحجر آية 9).
فالقرآن هو المعجزة الكبرى الَّتي أيَّد الله بها رسوله الكريم محمَّداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والَّتي تحدَّى بها العرب إذ جاءت من جنس ما برعوا فيه؛ وهو فصاحة اللغة وبلاغتها وقوَّة بيانها، فما استطاعوا أن يأتوا بآية من مثله، وقد سجل تحدِّيه لهم فقال عزَّ وجل: {قل لئن اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يَأتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلِهِ ولو كان بعضُهُم لبعضٍ ظهيراً} (17 الإسراء آية 88). ولم يكن إعجاز القرآن في اللفظ فحسب؛ وإلا لكان كتاباً أدبياً وكفى، ولكن الإعجاز كان في معانيه وبلاغته وأحكامه، وعلومه وهديه، وفي اقتحامه لحجب الزمان والمكان، فقد أخبر عن أحداث جرت في الماضي السحيق منذ آدم وحتَّى زمن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعن الأمم البائدة ممَّا لم يطرق خبرهم سمع العرب من قبل، كما أخبر عن أمور كانت قائمة زمن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو لا يدري بها لأنها خفيَّة مضمرة، فقد أعلمه الله بأحوال المنافقين وغيرهم ممَّن يُظهرون الإيمان ويضمرون الكفر ليحذِّره منهم، حيث قال: {إذا جاءَكَ المنافقونَ قالوا نشهدُ إنَّك لرسولُ الله والله يعلمُ إنَّك لرسولُهُ والله يَشْهَدُ إنَّ المنافقين لكاذبون} (63 المنافقون آية 1) وكذلك تحدَّث القرآن عن ظواهر كونية لم يتمَّ اكشافها إلا منذ زمن قريب؛ سنتحدث عنها فيما بعد بإذن الله.
وهو كتاب مُرسل إلى الإنسانية جمعاء، في كلِّ العصور والأزمان، فالله عزَّ وجل يقول: {إنَّ هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقوم} هكذا على وجه الإطلاق، فيشمل الهدي أقواماً وأجيالاً، بلا حدود، ولا زمان أو مكان معيَّن، وهو يهدي لما هو أقوم فيما يتعلَّق بعالم النفس والشعور والضمير، بالعقيدة الواضحة البسيطة الَّتي لا تعقيد فيها ولا غموض، والَّتي تطلق الروح من قيود الوهم والخرافة، وتوجِّه الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء. كما يهدي لما هو أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وعقيدته وعمله. وكذلك في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشقُّ التكاليف على النفس، ولا تتجاوز القصد والاعتدال. ويهدي لما هو أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض، أفراداً وجماعات، شعوباً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة، الَّتي لا تتأثَّر بالرأي والهوى، والَّتي لا تزعزعها المصالح والأغراض، لأنها من عند العليم الخبير، فهو أعلم بما يصلح لهم في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان، فيهديهم للَّتي هي أقوم في نظام الحكم والمال، والاجتماع والتعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان. كما يهدي للَّتي هي أقوم في تبنِّي أصول الرسالات السماوية جميعها، والربط بينها كلِّها، وتعظيم مقدَّساتها، وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلُّها بجميع عقائدها السماوية الأصيلة في سلام ووئام، وفي ظلال دين واحد هو دين الله الَّذي ارتضاه لعباده.
والقرآن لا يهدي فحسب، بل يبشِّر المؤمنين الَّذين يعملون الصالحات بأن لهم أجراً كبيراً عند ربِّهم، وهذه هي القاعدة الأصيلة في العمل والجزاء، فلا إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، فبهما معاً تسير الحياة على الطريق الأقوم، وبهما تتحقَّق الهداية بهذا القرآن الكريم، ولا إيمان ولا عمل دون أجر وثواب.
ويستفاد ممَّا تقدَّم: أن الأمَّة الَّتي تستند إلى علوم القرآن وإرشاداته، وتطبِّقها بحذافيرها هي الأمَّة المتقدمة أخلاقياً، وعلمياً، واجتماعياً، وهذا شرف أعطاه الله تعالى لأمَّة القرآن؛ لتكون لها الطليعة في جميع الحقول المنتجة، حين يتجلَّى في أقوالها وأفعالها منهج القرآن.
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {الحمدُ لله الَّذي أنزَلَ على عَبدهِ الكتابَ ولم يجعل له عِوَجا(1) قَيِّماً ليُنْذِرَ بأساً شديداً من لَدُنْهُ ويُبشِّر المؤمنين الَّذين يعملون الصَّالحاتِ أنَّ لهم أجراً حسناً(2) ماكِثِين فيه أبداً(3)}
ومضات:
ـ الحمد لله العليِّ العظيم، الَّذي أرسل لعباده رسالة مستقيمة، واضحة المعالم، راسخة البنيان، لا لَبْس فيها ولا غموض.
ـ إن شريعة الله تعالى لاتتهاون مع المصرِّين على الابتعاد عنها، المقطِّعين في أوصال المجتمع، بل إنها تنذرهم عقاباً شديداً. وبالمقابل فإنها تَعِد العباد العاملين، الصالحين المصلحين، بالمكافأة الجزيلة الوفيرة، وهي جنان الخلد حيث النعيم الأبدي.
في رحاب الآيات:
قدَّم كثيرٌ من المفكرين أفكاراً ونظريات تهدف إلى تنظيم الحياة المادية للبشر، دون العناية بحياتهم الروحية، مفترضين فيها تحقيق سعادة الإنسان والمجتمع، وقد ثبت بمرور الأيام وبالتطبيق العملي، عدم كفاية هذه الأفكار لإشباع حاجات الناس، أو عدم ملاءمتها للطبائع. لذلك سرعان ما اندثرت وتلاشت وأثبتت فشلها، في الوقت الَّذي كانت فيه الرسالات السماوية، المتمِّمة لبعضها بعضاً، والمتوَّجة برسالة الإسلام، متوافقة مع حاجات البشر المادية والروحية، متكاملة في طرائقها، وفي تعاليمها، فلا نجد فيها عِوَجاً ولا خللاً، ففيها العلاج لكلِّ مشاكل الإنسان؛ لأنها لا تعتمد على بناء الفرد أخلاقياً وروحياً وتربوياً فحسب، بل تفتح عقله على آفاق الحياة العلمية والاقتصادية والصناعية أيضاً، وبذلك أوجدت له توازناً يوصله إلى سعادتي الروح والجسد، في الدنيا والآخرة.
هذه الحقيقة الناصعة، وهذا الدور الهام للرسالات السماوية تؤكده الآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها، والَّتي تُستَهَلُّ بالثناء الجميل على الله سبحانه، فهو المُنعم والمُتفضل على عباده، بأن أرسل لهم هذه الرسالات، وتوَّجها بالقرآن الكريم، ليرشدهم إلى طريق الهدى والنور، والسعادة الَّتي لا تزول. وحين يثني الله تعالى على ذاته القدسية، فهو يريد من وراء ذلك أن يعلِّمنا نحن عباده، كيف نثني عليه بما هو أهله، وكيف نشكر نعمه الَّتي لا يحصيها العدُّ، ولا يحيط بها حدّ، يعلِّمنا كيف يكون أدب المخلوق مع الخالق العظيم، الَّذي أرسل إلينا كتابه الكريم، لنتَّخذه دستوراً يغنينا عن دساتير الأرض، وتشريعاً يغنينا عن تشريع سائر المشرِّعين.
وهو كتاب خالٍ من أي تناقض أو زيغ، بل هو منسجم متكامل متناسق، يضمُّ بين دفَّتيه أسس الدعوة إلى الله، القائمة على الترغيب والترهيب، وهذان هما المحوران اللذان تدور حولهما أساليب التربية لجميع أنماط الناس، فهم بين مطيع وعاص، ولكلٍّ منهم دواؤه وعلاجه، ومن ثمَّ مكافأته أو عقابه، فالمطيع له البشارة والنجاة، والمتمرِّد المتكبِّر له الوعيد والهلاك.
وترشد الآيةُ المؤمنَ إلى أن الإيمان بالقول وحده لا يكفي، إذ الإيمان ليس بالادِّعاء والعواطف فحسب، مهما سمت هذه العواطف، بل لا بدَّ لها من ترجمة عملية تصدِّقها وتؤيِّدها ألا وهي العمل، عمل الصالحات، لأن الإيمان الحقيقي يثمر عملاً منتجاً خيِّراً، وحبّاً وإخاءً للجميع على قدم المساواة. فالمؤمن يتَّسع قلبه لحبِّ الإنسان والحيوان والطبيعة، لأنهم من خلق الله الَّذي أحبَّه وآمن به، ومن يصل إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع فلابدَّ أن يغدق الله عليه من نعيمه، نعيم الدنيا حتَّى يصل إلى حقيقة السعادة، ونعيم الآخرة الَّذي يعجز الخيال عن تصوُّره ومعرفة كنهه، لأنه في علم الله الأزلي، وقد ادَّخره لعباده المؤمنين خالدين فيه أبداً.
فالنفس الإنسانية حقيقة واقعة لا تزول، ولكنها تنتقل من حال إلى حال، وتبقى تحت جناح رحمة الله تعبُّ من لذَّات الآخرة، بمقدار ما أفاضت على عباد الله من عطاءات في الحياة الدنيا، وما قدَّمت فيها من العمل الصالح.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ قد جاءَتْكُم مَوعِظَةٌ من ربِّكم وشِفَاءٌ لما في الصُّدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين(57) قل بِفَضلِ الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يَجمعون(58)}
ومضات:
ـ يعرض القرآن الكريم برنامجاً شاملاً وعملياً، فيه وقاية وحماية من الأمراض الاجتماعية المستشرية بين الناس.
ـ تكمن سعادة الإنسان الحقيقية في حصوله على النعيم الدائم، فكلُّ نعمة زائلة هي نقمة وتعاسة لصاحبها؛ إن لم يحسن استعمالها بما يرضي الله عنه؛ فالنعيم الحقيقي الدائم والسعادة الأبدية، ثمارٌ تُقطف من شجرة طاعة الله عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:
إن تَرَفَ الإنسان في ظلِّ الحضارة المادية المجرَّدة، لم يُعْطِه السعادة على مرِّ العصور، فقد جرَّب كلَّ أنواع اللَّذة الحسية من شرب الخمر إلى الانغماس في ملذَّات الحياة ولكن دون جدوى، وما زادته المخدِّرات إلا وبالاً دون أن تشفي له غليلاً! فأين هي السعادة؟.
إنها في العلاقة الروحية مع الله، الَّتي تكمن في كلماته ووحيه، في النور الَّذي يتجلَّى به على عباده، فيكون لهم الشفاء من كلِّ داء، وهي مصدر السرور الحقيقي؛ لأنها ترتكز على القواعد السليمة الصالحة لبناء المجتمع السليم المعافى من الخلل والتناقض.
فعندما فشلت الحضارة المادية في إسعاد الإنسان، أثبتت الحضارة الفكرية المستمَدَّة من شرع الله جدارتها في إيصاله إلى السعادة السرمدية، إذ أن الفكر هو ثمرة إعمال العقل الَّذي يقود إلى معرفة الله، بالارتكاز إلى الروحانية والإشراق. والإشراق لا ينبثق في النفس إلا بتلقِّي الفيض الإلهي، الَّذي يشفي النفوس ممَّا علق بها من أدران. وهل هناك فيض غامر وشافٍ أعظم من القرآن الكريم، الَّذي وصفه الله تعالى بقوله: {هذا بصائرُ للنَّاس وهدىً ورحمةٌ لِقوم يُوقِنون} (45 الجاثية آية 20) والله تعالى يصف القرآن الكريم بأنه بصائر للناس، لأنه يعمِّق معنى الهداية في النفس، فهو بذاته بصائر كاشفة، وهو بذاته هدى ورحمة وشفاء. ولكن هذا كلَّه يتوقف على اليقين، وعلى الثقة بحقيقته الَّتي لا يخامرها شكٌّ، ولا يخالطها قلق، ولا تتسرَّب إليها ريبة، وحين يستيقن المؤمن ممَّا حواه القرآن يعرف طريقه، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد، وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً، والأفق منيراً، والغاية محدَّدة، والنهج مستقيماً، وعندئذ يصبح القرآن له نوراً وهدىً ورحمةً وشفاءً، لما فيه من كنوزٍ جمَّة، وفضائل عظيمة منها:
1 ـ اعتماده الموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب، بذكر ما يرِقُّ له القلب، فيحمله على فعل ما يجب، وترك ما يحرم.
2 ـ معالجته لما في القلوب من الشرك والنفاق وسائر الأمراض الَّتي تبقي صاحبها في دائرة القلق والشكِّ والتعاسة.
3 ـ إرشاده إلى طريق الحقِّ واليقين، وتحذيره من الضلال في الاعتقاد والعمل.
4 ـ زرعه الرحمة في قلوب المؤمنين، وغمرها بأنوار الهداية.
ونيل هذه العطايا الإلهية هو الَّذي يستدعي الفرح، لا المال ولا عرض الدنيا، فذلك هو الفرح العلوي الَّذي يطلق الإنسان من إسار المطامع الدنيوية، والممتلكات الزائلة، فيرتفع فوقها ليسخِّرها لخدمته لا أن يكون عبداً خاضعاً لها، ولا يكون خادماً لها بل هي خادمة محقِّقة له ما فيه السعادة الحقيقية الدائمة.
والإسلام لا يحقِّر شأن الدنيا لئلا يسـتهين الناس بها ويهجروها، وإنما يَزِنُها بالميزان الدقيق، ليتمتَّعوا بها وهم متحرِّرو الإرادة، شرفاء الغاية. وينبغي للمؤمن حين يفرح بفضل الله ألا ينسى المنعم فيكون ذلك سبباً لسلب النعمة، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ فعليه ألا يفارق العرفان لله والشكر له، فمتى كان الفرح مقترناً بالخوف والرجاء لم يضرَّ صاحبه، ومتى خلا من الحذر أضرَّ وأفسد. وقد عرض القرآن لوناً من الفرح المنحرف، الَّذي يُقسِّي القلوب ويعرِّضها لعقوبته عزَّ وجل فقال: {فلمَّا نَسُوْا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبوابَ كلِّ شيءٍ حتَّى إذا فَرِحوا بما أُوتوا أخذناهم بَغتَةً فإذا هم مُبْلِسون} (6 الأنعام آية 44).
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {ونُنزِّلُ من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنينَ ولا يزيدُ الظَّالمين إلاَّ خساراً(82)}
ومضات:
ـ في القرآن الكريم صيدلية للأدوية الإسلامية، ولكننا بحاجة إلى الطبيب المختص الَّذي يشخِّص العلَّة ويصف الدواء.
ـ في هذه الصيدلية جميع أنواع الأدوية الَّتي تعالج جميع الأمراض النفسية والاجتماعية، وفيها أيضاً الوسائل الوقائية الَّتي تحقِّق الحماية من الأمراض الجسدية؛ فمن لزمها تحقَّق له الشفاء بإذن الله، ومن هجرها فقد ظلم نفسه وأهله ومجتمعه.
في رحاب الآيات:
كيف يمكن للقرآن أن يكون داءً ودواءً في الوقت نفسه؟ بل كيف يمكن للطعام أن يكون مصدر غذاء لبعض الناس، وسبباً لمرض بعضهم الآخر؟. السبب هو استعداد الإنسان الجسدي والروحي، فالجسم السليم يهضم الطعام الجيد ويحوِّله إلى طاقة وقوَّة، بينما يرفضه الجسم المريض وربَّما لا يقوى على تناوله. والنفس البشرية السليمة تتغذَّى بأنوار القرآن ومعانيه، وترقى به وتنجح، أمَّا النفس المريضة فهي عاجزة عن تلقِّي غذاء القرآن، لأنها لم تتوافق في ذاتها وأهدافها مع جوهره، ولم تحاول أن تتجانس معه وتسمو إلى قدسيَّته؛ بل آثرت الإبقاء على تخلُّفها وبعدها عن حقائقه متأثرة بماض خاطئ موروث.
والله جلَّ وعلا يقرِّر أن القرآن شـفاءٌ ورحمة، ولكن لمن خالطت قلوبَهم بشاشة الإيمان، فأشرقت وتفتَّحت لتلقِّي ما في القرآن من تعاليم وإرشادات. ففيه شفاءٌ من الوسوسة والقلق والحيرة، لأنه يصل القلب بالله فيستشعر حمايته فيسكن ويطمئن، مصداق قوله تعالى: {الَّذين آمنوا وتطمئنُّ قلُوبُهُم بذكر الله ألاَ بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب} (13 الرعد آية 28) وفيه شفاءٌ من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان، وهي من آفات القلب الَّتي تصيبه بالوهن والضعف، وتدفع به إلى اليأس والانهيار. وفيه شفاءٌ من الاتجاهات المخلَّة بالشعور والتفكير، فهو يعصم العقل من الشطط، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة، ويكفُّه عن هدر طاقته فيما لا يجدي، ويجعله يأخذ بمنهج سليم منتظم. وهو كذلك شفاءٌ للجسد، إذ يجعل الإنسان يوزِّع طاقاته باعتدال، بلا إفراط ولا تفريط، ويدَّخرها للإنتاج المثمر؛ وذلك بدعوته إلى عدم الإفراط في الطعام، وإلى الامتناع عن الزنا والشذوذ، لوقايته من الأمراض الجنسية المهلكة، وكذلك هو حماية من أضرار الخمر وكلِّ المسكرات والمخدِّرات بتحريم تعاطيها. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية، الَّتي تفكِّك بناء الجماعات، وتذهب بسلامتها وأمنها، بما وضعه من نظام اجتماعي موزون، وعدالة شاملة تضمن سلامة الجميع وطمأنينتهم. يضاف إلى ذلك كلِّه أن القرآن الكريم جاء رحمة للناس جميعاً، ففيه الهداية وتفريج الكروب، وإصلاح العيوب، وتكفير الذنوب، مع ما تفضَّل به الله تعالى من الثواب في تلاوته، روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». إذاً ففي تلاوة القرآن ثواب وبركة، وفيه نور لاينتشر إلا بالعمل المثمر البنَّاء. ومع ذلك كلِّه فإن القرآن لا يزيد الظالمين إلا خساراً، فهم لا ينتفعون بما فيه من شفاء ورحمة، لأن لهم آذاناً أصمُّوها عن سماع الحقِّ ووعيه، وقلوباً مريضة عمياء غير مستعدَّة لتلقِّي الأنوار الإلهية الَّتي تحملها آياته، فإنْ حدث واستمعوا إليها فإنها لا تزيدهم إلا حيرة في أمرهم، وضلالاً في سعيهم؛ قال تعالى: {..قلْ هُوَ للَّذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ والَّذين لا يُؤمنونَ في آذانِهِم وَقْرٌ وهو عليهِمْ عَمىً..} (41 فصلت آية 44) وهكذا فأصحاب القلوب السليمة ينتفعون بهذا الخير الإلهي الوفير، لأنه يتجاوب مع صدق إيمانهم وسلامة فطرتهم، وتصميمهم على العمل بموجبه، بينما يُعرِض الكافرون والمنافقون عنه فَيُلْقُون بأنفسهم بين أنياب البؤس والشقاء.
وفي الختام: لابدَّ أن نشير إلى التساؤلات المطروحة حديثاً حول الفرق بين الكتاب والقرآن. ونحن نؤكد وجوب التزامنا جميعاً بشريعة الله بمجملها؛ سواءً ما ورد منها في مصطلحات الكتاب أو القرآن أو الصحف أو الآيات، دون أن نغمط هذه التساؤلات حقَّها من جهة، ولا أن نجعلها سبباً لدخولنا في مناظرات فلسفية تحيد بنا عن صراط الله وشرعه القويم من جهة ثانية؛ والله أعلم بالنوايا وهو أعلم بالمهتدين.