الفصل الرابع:
الإعجاز العلمي في القرآن
لقد حوى القرآن فيما حوى تصوُّراً لجانب من علم الله الشامل، ليهتدي العقل البشري به، فيرتاد آفاق العالم المعلوم منها والمجهول، فتتَّسِعُ المدارك، ويسطع نور الإيمان المطلق بوحدانية الله؛ الَّذي بيده مفاتيح العلوم كلِّها. ففي الوقت الَّذي كانت دراسة العلوم الكونية والطبيعية، في نظر بعض الشرائع السماوية، أمراً محرَّماً في العصور الماضية، جاء الإسلام ليكون أجرأ مَنْ كشف الحجب عن العقل البشري، ذلك الكنز الهائل الَّذي يحمله الإنسان في رأسه، فأمره بالبحث والدراسة في البرِّ والبحر، والتفكر في النفس البشرية، لإدراك عظمة الكون الَّتي تنمُّ عن عظمة خالقه، وليستفيد من بديع صنع الله وينتفع به.
وإن القرآن الكريم ليتناول القضايا الكونية بطريقة مثيرة للاهتمام وآسرة للُّب، فهو يمسُّ موضوع المجهول منها مسّاً رقيقاً ولا يتوغَّل فيه، تاركاً لعقل الإنسان المجال واسعاً للبحث والدراسة والتمحيص، للوصول إلى قوانين الكون، والَّذي جعل الله تعالى له سنناً لا تتبدَّل، وأمر الإنسان أن يبحث عنها ويدركها، ويتعامل معها في حدود طاقته وحاجته. وفي هذا تشريف للإنسان، إذ أعطاه تعالى العينين والعقل وفيهما قُوَّتا الإبصار والبصيرة، ليشاهد ويفكر ويبحث ويتعمَّق متى شاء وأراد، والغاية الأهمُّ الَّتي ترجى من وراء ذلك هي الوصول إلى الحقيقة الَّتي توصله بدورها إلى الخالق العظيم. وهذا كلُّه من توابع الإيمان ونتائجه، إذ لا معنى لإيمان غير مقترن بعملٍ ومتابعة للجهود، من أجل اكتشاف ما غاب عن علمنا الحالي، بما يرضي الله عنَّا، لنكون رسل العلم والعقل والتفكير، والمحبَّة والسَّلام والإسعاد.
وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم ليس كتاب نظريَّات علمية، ولم يأت ليكون بنصِّه منهجاً للعلم التجريـبي، بل هو منهج للحياة كلِّها، وسبيل لتحريض العقل ليعمل وينطلق، وتقييم للمجتمع دون أن يدخل في جزئيات وتفاصيل علمية بحتة؛ فمعرفة هذه التفاصيل متروكة للعقل بعد تقييمه وإطلاق سراحه. إذ يكتفي بالإشارة إلى القضايا الكونية، لأن تعريف الناس بمباحث العلوم الكونية ليس من مقاصد الشريعة، بل إن غايتها أن تجعلهم يتوصَّلوا إلى هذه المعارف بعقولهم واجتهاداتهم، فإذا اهتدَوُا إليها وقد علموا أن القرآن سبقهم في الإشارة إليها، والحضِّ عليها، استدلُّوا على أن القرآن الكريم ليس من كلام البشر، وبذلك يفتح أمامهم باب الهداية والإيمان بالله تعالى وبهذا الدِّين الخالد. وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى بعض القضايا الكونية، فجاء العلم الحديث مصدِّقاً لها، ووقف خاشعاً أمام إعجازها الَّذي أَخْبَر عنه النبي الأمِّي محمَّد صلى الله عليه وسلم ـ قبل أربعة عشر قرناً ـ من خلال كتابٍ مُعجز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من الله العليم الحكيم. وهناك أمثلة كثيرة حول الآيات الَّتي تتعلق بالإعجاز العلمي اخترنا منها ما يلي:
$ قال تعالى: {وهو الَّذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وجعلَ بينَهُما بَرْزَخاً وحِجْراً مَحجوراً} (25 الفرقان آية 53)، وقال أيضاً {مَرَجَ البحرينِ يلتقيان * بينهما بَرْزَخٌ لا يبغيان} (55 الرحمن آية 19ـ20)، وقال أيضاً {..وجعلَ بين البحرين حاجِزاً أَإِلهٌ مع الله بلْ أكثَرُهُم لا يعلمون} (27 النمل آية 61)، وقال أيضاً {وما يستوي البحرانِ هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سائغٌ شرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ومن كلٍّ تأكلونَ لحماً طريَّاً وتستخرجونَ حِليَةً تَلْبَسونَها وترى الفُلْكَ فيه مواخِرَ لتبتغوا من فضلهِ ولعلَّكم تشكرون} (35 فاطر آية 12).
تتحدَّث الآيات الكريمة عن ظاهرة وجود بحرين أحدهما عذب فرات، وثانيهما ملح أجاج، أو كلاهما مالحان، فإنهما يتوازيان ويلتقيان، ولا يختلطان أو يمتزجان، إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من قدرته تعالى، فلا يغلب أحدهما على الآخر وحيث يختلف كلُّ بحرٍ بحيواناته ومخلوقاته، ودرجة ملوحته عن غيره. وهذا ما توصل إلى اكتشافه العلماء خلال السنوات القليلة الماضية بعد اتباع الطرائق العلمية المسماة (الإستشعار عن بُعد).
ولا يمنع الحديث عن البحار من الإشارة إلى مجاري الأنهار الَّتي غالباً ما تكون أعلى من سطح البحر، ومن ثمَّ فالنهر العذب هو الَّذي يصبُّ في البحر المالح دون أن يمتزج فيه، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر، وهو أضخم وأغزر، على النهر الَّذي فيه الحياة للناس والأنعام والنبات.
كذلك نشير إلى وجود البرازخ والحواجز المائية الَّتي أبدعها الخالق على حافَّتي التيارات البحرية المختلفة، حارَّة كانت أم باردة، صاعدة أم هابطة، شمالية أم جنوبية. كذلك إذا التقى نهران في مقرٍّ واحد تجد أن ماء أحدهما لا يمتزج بالآخر، ويمكن مشاهدة النهرين مستقلَّين كلِّ واحدٍ عن أخيه، وكأنَّ خيطاً يمرُّ بينهما، ويكوِّن حداً فاصلاً بينهما. وقد اكتشف العلماء قانون المطِّ السطحي منذ عشرات السنين، وهو قانون ضابط للأشياء السائلة، ويفصل بين سائلين، حيث أثبت أن تجاوب الجزئيات يختلف من سائل لآخر، لذلك يحتفظ كلُّ سائل باستقلاله في مجاله، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة بكلمة برزخ؛ وفي هذا دليل على مزيد من المعجزات العلمية، كشفها القرآن الكريم بكلِّ بساطة، ممَّا يؤكد أنه من لدن عليم خبير.
$ وقال تعالى: {فمن يُرِدِ الله أن يهديَهُ يَشرحْ صدرَهُ للإسلام ومن يُرِدْ أن يُضلَّهُ يجعلْ صدرَهُ ضيِّقاً حَرَجاً كأنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماء كذلك يجعلُ الله الرِّجس على الَّذين لا يؤمنون} (6 الأنعام آية 125).
في هذه الآية يصوِّر الله تعالى بشكل دقيق ملفت للنظر، حال الكافر بحالة من يصعد في طبقات الجو، وما يصيبه من ضيق في الصدر. فإذا ارتفع الإنسان عن سطح الأرض يشعر بانقباض، وكأنه يختنق بسبب اختلاف الضغط الجوي ونقص الأوكسجين، وهذا ما يأخذه علماء الفضاء بالاعتبار لدى استعداد روَّادهم لعملية تخطِّي الغلاف الجوي للأرض، وكذلك الطيارون فهم يضعون كمَّامات الأوكسجين على أنوفهم، ليستنشقوه أثناء طيرانهم في حال الضرورة، بسبب نقص الأوكسجين في الطبقات العليا من الجو، وإلا فإن أحدهم سيصاب بحالة شبيهة بالاختناق، فتراه يتنفس بصعوبة، وتسرع ضربات قلبه ويثقل صدره، وقد جاء عصر العلم بمنجزاته واكتشافاته، ليزيح الستار عن هذه الحقيقة الَّتي تضمَّنتها هذه الآية الكريمة.
$ وقال تعالى: {ومن كلِّ شيءٍ خلقْنَا زوجين لعلَّكم تَذَكَّرون} (51 الذاريات آية 49).
إن جميع الموجودات في هذا الكون تتصف بصفة الزوجية، الأحياء منها والجمادات، ما تراه العيون وما لا تراه، حتَّى إن الذرَّة مركبة من نوعين اثنين من الكهارب، أحدهما موجب والآخر سالب. وحين نفكر في أن جميع الناس قد عرفوا الزوجية والتزاوج بحكم الواقع العملي للحياة، إلا أن فكرة عموم الزوجية لم تُعرف إلا في العصر المتقدم، وكأن كتاب الله يخاطب كلَّ عصر بعصره. فهاهو يخاطب عصر النبوة بشرح مبسط لقانون الزوجية، حيث يقول تعالى: {واللَّيلِ إذا يغشى * والنَّهار إذا تجلَّى * وما خَلَقَ الذَّكر والأنثى} (92 الليل آية 1ـ3) فالله عزَّ وجل يُقْسـم بهـاتين الآيتين ـ الليل والنهـار ــ مبيِّناً صفة كلٍّ منهما؛ الليل حين يغشى البسيطة ويغمرها ويخفيها، والنهار حين يتجلَّى ويظهر، فيظهر في تجلِّيه كلُّ شيء ويُسفر، وهما أوانان متقابلان في دورة الفلك، وفي الخصائص والآثار، ومع تقلُّب الليل والنهار، تبقى حركة الحياة نشطة مستمرَّة على مدار الساعة، ويبقى الإنسان هو العمود الفقري لهذه الحركة. كما ويُقْسم الله سبحانه بخلقه الذكر والأنثى من جميع الأجناس، تأكيداً على حقيقة قيام الحياة على التَّكامل الزوجي بين المخلوقات، وهذا دليل على أنه عليم تمام العلم بدقائق المادَّة وما فيها، إذ لا يُعقَل أن يكون هذا التلاؤم والتناسب بين الذكر والأنثى في الحيوان والنبات بمحض المصادفة، أو بتدبير طبيعة لا سيطرة لها على ما يحدث فيها.
وما دمنا في بحث الإعجاز العلمي الخاص لعموم الزوجية، لابد لنا أن نقف مذهولين أمام الحقيقة الَّتي أثبتها القرآن الكريم، والَّتي تشير إلى أن الحيوان المنوي هو السبب في تحديد الذكورة أو الأنوثة، ولا علاقة للبويضة الَّتي تحملها الأنثى بذلك التحديد، حيث يقول تعالى: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} (75 القمر، آية 37 ـ 39)، وضمير منه هنا يعود إلى الحيوان المنوي. وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض الرجال الَّذين يضطهدون زوجاتهم بسبب إنجابهن للبنات دون البنين.
$ وإذا ما تتبَّعنا آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، نجده يخبر في بعض آياته عن دوران الكواكب والنجوم، قبل أن يكتشف العلم ذلك بقرون عديدة إذ قال تعالى: {لا الشَّمسُ ينبغي لها أن تُدرِكَ القمرَ ولا اللَّيْلُ سابقُ النَّهارِ وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون} (36 يس آية 40).
$ أمَّا قوله تعالى: {وأرسلنا الرِّياح لواقح..} (15 الحجر آية 22) فقد كان المفسِّرون يفسِّرونها قديماً بأن الرياح تثير سحاباً فتلقِّحها ـ بمعنى تخصبها ـ فيسقط المطر. ثمَّ عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السُّحُبَ ذات الشحنة الكهربائية الموجبة، وتلقي بها في أحضان السحب سالبة التكهرب، فيحدث الرعد والبرق والمطر. وعرفنا أيضاً أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من الأعضاء المذكَّرة في الزهور إلى الأعضاء المؤنَّثة فتلقِّحها، وقد تكون العملية من شجرة ذات أزهار مذكَّرة إلى شجرة ذات أزهار مؤنَّثة.
$ وإذا تأمَّلْنا قوله تعالى: {إنَّ الَّذين كفروا بآياتنا سوف نُصْلِيهِم ناراً كلَّما نَضِجَت جلودُهُم بدَّلناهُم جُلوداً غَيرَهَا ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} (4 النساء آية 56)، فإننا نجد أن الآية الكريمة تتحدَّث عن لون من ألوان العذاب الَّذي سَيُجزَى به الكافرون؛ وهو تبديل جلودهم المحترقة بغيرها، فيكون هذا العذاب من أشدِّ أنواع العذاب إيلاماً يعانون منه طيلة فترة إقامتهم في النار.
وقد كشف علم التشريح المجهري اليوم عن السرِّ في اختيار الله لهذا النوع من التعذيب، فقد تبـيَّن أن الجلد عضو غنيٌّ بالنهايات العصبية، الَّتي تقوم باستقبال جميع أنواع الحسِّ من المحيط الخارجي، كالإحساس بالألم والحرارة والضغط والبرودة، أمَّا النُسج الَّتي تلي طبقة الجلد فإنها أكثر تحسُّساً بمستقبلات حسِّ الضغط، لكنها أقل منه تحسساً بمستقبِلات الألم والحرارة واللمس. لذلك عندما يُحقن الشخص بإبرة فإنه يشعر بذروة الألم عندما تجتاز الإبرة الجلد، ومتى تجاوزت الجلد إلى الأنسجة الأخرى، تخفُّ درجة الإحساس بالألم. وعندما يتعرَّض الجلد للحرق، فإن ذلك يؤدِّي للإحساس بألم شديد جداً، لأن النار تنبِّه مستقبلات الألم، فإذا ما امتدَّ الحرق للأنسجة تحت الجلد، يصبح الألم أخفَّ لأن هذه الأنسجة أقلُّ حساسيَّة بالألم. وهكذا أشارت الآية القرآنية إلى أن أكثر أعضاء الجسم غنىً بمستقبلات الألم هو الجلد، كما أن الحروق هي أشدُّ المنبِّهات الأليمة، وتبديل الجلد المحترق بجلد سليم إشارة إلى استمرار الشعور بالعذاب والألم، بدل الانتقال إلى حالة من فقدان الحسِّ والشعور.
$ وعندما نتفكر في الآيات القرآنية الَّتي تحدَّثت عن خلق الإنسان نجد فيها من ألوان الإعجاز ما لا يحصى، وجميعها تشهد بالسبق القرآني في مجال علم الأجِنَّة. وقد اخترنا من هذه الآيات قوله تعالى: {..يخلُقُكُم في بطونِ أمَّهاتِكُم خَلْقاً من بعد خَلْقٍ في ظلماتٍ ثلاثٍ ذلكُمُ الله ربُّكُم له المُلْكُ لا إله إلاَّ هوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ} (39 الزمر آية 6). فالطبُّ يقرِّر اليوم أن الجنين ينتقل من طور إلى طور، في الرحم، ضمن أغشية تحيط ببعضها، وهي من الداخل للخارج كما يلي:
1 ـ الغشاء الأمنيوسي: وهو يحيط بجوف الرحم المملوء بالسائل الأمنيوسي الَّذي يسبح فيه الجنين بشكل حر.
2 ـ الغشاء الكوريوني: الَّذي تصدر عنه الزغابات الكوريونية الَّتي تنغرس في مخاطيَّة الرحم.
3 ـ الغشاء الساقط: وهو عبارة عن مخاطيَّة الرحم السطحية بعد عملية التعشيش ونموِّ محصول الحمل، وسمِّي بالساقط لأنه يسقط مع الجنين عند الولادة.
وبالنظر إلى الآية السابقة، وإلى المعطيات العلمية حول تلك الأغشية الثلاثة، نجد أنفسنا في صدد إعجاز قرآني جديد، إذ صوَّرت الآية الأغشية بالظلمات، وبيَّنت بأن عملية الخلق تتمُّ على أطوار متلاحقة داخل هذه الظلمات الثلاث.
$ وهناك معجزات ماديَّة قرآنية تجدر الإشارة إليها في ختام هذا الموضوع، تكمن في آية البسملة وهي قوله تعالى: {بسم الله الرَّحمن الرَّحيم} الَّتي يبلغ عدد حروفها تسعة عشر حرفاً، وهذه الحقيقة مادِّية وملموسة، ولا يستطيع أحد أن يجادل فيها، لأنها ليست تفسيراً، وليست تخميناً أو استنتاجاً.
ولقد قام أحد الباحثين المسلمين بعمليَّة إحصاء عددية، فوجد أن كلَّ كلمة في هذه الآية تتكرَّر في القرآن الكريم كلِّه عدداً من المرات، ويكون هذا العدد من مضاعفات الرقم (19) عدد حروف البسملة. فكلمة اسم تتكرَّر في القرآن كلِّه تسع عشرة مرَّة. ولفظ الجلالة يتكرَّر في القرآن ألفين وستمائة وثمان وتسعين مرَّة (2698) وهذا العدد يساوي حاصل ضرب (19 × 142).
وكلمة الرحمن تتكرَّر في القرآن كلِّه 57 مرَّة، وهذا العدد يساوي حاصل ضرب (19 × 3)، وكلمة الرحيم تتكرَّر في القرآن 114 مرَّة وهذا الرقم يساوي حاصل ضرب (19 × 6)، وقد ورد ذكر هذا العدد (19) في إحدى سور القرآن الكريم، وهي سورة المدَّثر، وجاء ذكره في سياق الآيات الَّتي تتحدَّث عن الَّذين يدَّعون أن القرآن الكريم من قول البشر، قال تعالى: {ذَرْني ومن خلَقْتُ وحيداً * وجعلتُ له مالاً ممدوداً * وبنينَ شُهوداً * ومَهَّدتُّ له تمهيداً * ثمَّ يَطْمعُ أن أزيد * كلاَّ إنَّه كان لآياتنا عنيداً * سأرْهِقُه صَعُوداً * إنَّه فكَّرَ وقدَّر * فَقُتِل كيف قَدَّرَ * ثمَّ قُتِلَ كيف قَدَّرَ * ثمَّ نَظَرَ * ثمَّ عَبَسَ وبَسَرَ * ثمَّ أدْبَرَ واستكبر * فقال إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَر * إنْ هذا إلاَّ قولُ البَشَر * سأُصْلِيه سَقَرَ * وما أدراك ما سَقَرُ * لا تُبقي ولا تَذر * لوَّاحةٌ للبشر * عليها تِسعةَ عشر} (74 المدثر آية 11ـ30).
ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الوجه من الإعجاز عندما صرَّح بأنه جعل عدد الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، حيث عدَّه نوعاً من الاختبار والامتحان للذين لايؤمنون، عندما يعرفون ما لهذا العدد من مراعاة واعتبار في عدد الحروف أو الكلمات، أو غير ذلك ممَّا لا طاقة للبشر بمثله، ممَّا يشكِّل دليلاً واضحاً على أن مصدره هو الله تعالى. وكذلك هو برهان يقيني للذين أوتوا الكتاب على صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم في رسالته، وهو أيضاً سبب لتقوية إيمان المؤمنين وذهاب الرَّيبة والشَّك من صدور أهل الكتاب والمؤمنين فقال تعالى: {وما جعلنا أصحابَ النَّارِ إلاَّ ملائِكَةً وما جعلنا عِدَّتَهُم إلاَّ فتنةً للَّذين كفروا ليَستيقنَ الَّذين أُوتوا الكتابَ ويَزدادَ الَّذين آمنوا إيماناً ولا يرتابَ الَّذين أُوتوا الكتابَ والمؤمنونَ وليقولَ الَّذين في قُلوبِهِم مرضٌ والكافرون ماذا أرادَ الله بهذا مَثلاً كذلك يُضِلُّ الله من يشاءُ ويهدي من يشاءُ وما يَعلمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هوَ وما هي إلاَّ ذكرى للبشر} (74 المدثر آية 31).