الفصل الثامن:
الآيات المحكمات والمتشابهات
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {هوَ الَّذي أَنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ محكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فأمَّا الَّذين في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وابتِغَاءَ تأويلِهِ وما يَعلَمُ تأويلَهُ إلاَّ الله والرَّاسِخونَ في العِلمِ يَقولونَ آمَنَّا به كُلٌّ من عند ربِّنا وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الأَلبَابِ(7)}
ومضات:
ـ بُنِيَ الإسلام على أركان واضحة ومحكمة، وامتدَّت أحكامه لتشمل آفاقاً لم يدركها عامَّة الناس في زمانهم، وتعرَّضت في تأويلها إلى عبث العابثين، وانتحال المضلِّين، بغية التخريب الاجتماعي، وتحقيق مصالح معيَّنة أو غايات خبيثة.
ـ إذا أردنا فهم جميع آيات الله وأحكامه، والَّتي من هدفها تلبية حاجات الناس في كلِّ زمان ومكان، فعلينا أن نلجأ دائماً إلى العلماء الراسخين في العلم، الوارثين من فكر رسول الله عليه السَّلام ومن علمه، أصحاب القلوب المزكَّاة، والعقول المستنيرة، المدركة للعلوم الكونية والروحية.
ـ الحكمة من وجود المتشابه في كتاب الله؛ تحريك الفكر الإسلامي، وتمييز صادق الإيمان من ضعيفه.
في رحاب الآيات:
أنزل الله تعالى القرآن العظيم على رسوله الكريم، وفيه آيات بيِّنات واضحات الدلالة، لا لَبْسَ فيها ولا غموض (كآيات العقيدة، وآيات الأحكام) وهي أصل الكتاب وأساسه وتسمَّى المحكمات، وعليها بنيت أسس الشريعة الإسلامية. كما أنَّ فيه آياتٍ متشابهات حجب الله تعالى توضيحها، لعدم تمكُّن العقل البشري من فهمها في حينه، وكان أغلبُها مبنيّاً على دلائل علمية تتعلَّق بأصل الخلق، ونشأة الكون واستمراريته، ودلائل روحية تتعلَّق بعالم الغيب، وبالعالم غير المنظور.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن القرآن لم ينزل لِيُكَذِّبَ بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به» (أخرجه الحاكم والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ) ولم يقل الرسول عليه السَّلام أن لا نُعمل تفكيرنا به، فالمسألة لا تحمل ألغازاً حُرِّم البحث فيها، ولكنَّها الشفقة؛ فقد أشفق عليه السَّلام على أصحابه، وخاف عليهم أن يدخلوا في متاهات بعيدة عن مستوى العلم المعروف آنذاك، وتَرَكَ الباب مفتوحاً للأجيال القادمة، لتتفهَّم وتتبيَّن أكثر فأكثر إلى قيام الساعة.
والآية تؤكِّد على دور العلماء الأتقياء الراسخين في قوَّة علمهم، حيث لا يخلو منهم جيل ولا أمَّة، وكثيراً ما كان يُسأَل السلف الصالح عن أمور لم تحصل، فيجيبون أنْ دَعُوها لعالِمِ زمانها. والعالِم هنا لا يعنى به عالِم الفقه والأمور الشرعية فحسب، بل هو عالِم الأمور المادية والرياضية أيضاً بدليل قوله تعالى: {هوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمسَ ضياءً والقمرَ نُوراً وقدَّرهُ مَنازِلَ لِتَعلموا عَدَدَ السِّنينَ والحسابَ ما خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يعلمون} (10 يونس آية 5). فالآية تؤكِّد على ضرورة وجود علماء متخصِّصين في علوم الفلك ودورته، والحساب القائم على الرياضيات، حيث أن مثل هذه العلوم لا يمكن لكلِّ الناس إتقانها، ولابدَّ من وجود قوم يتعلمونها بالبحث والمتابعة، ويدرِّسونها لمن أراد الاستزادة منها.
وكمثال على فهم المتشابه نقدِّم الآية التالية: {وكُلَّ إنسانٍ ألزمناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ مَنشوراً * اقرأ كتابَكَ كَفَى بِنَفسكَ اليومَ عليك حَسِيباً} (17 الإسراء آية 13ـ14) فإذا عدنا لكتب التفسير وما قاله المفسرون القدماء عن هذه الآية، ثمَّ طلبنا من علماء عصرنا إعادة تفسيرها، بعد ظهور آلات التصوير والفيديو، وأقمار التجسُّس الصناعية والميكروفيلم، لأذهلنا الاختلاف العميق في التفسير بين مرحلة وأخرى من مراحل التطوُّر العلمي، وما رافقها من اكتشافات جديدة، إلا أنه مع هذا الاختلاف، نجد انسجاماً بين الآيات ومضمون التفاسير، إذ أن كلاً منها يصلح لأوانه.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم من الآيات المتشابهات المتعلِّقة بصفات الله تعالى، وتذكر له بعض الصفات الَّتي ظاهرها يتشابه مع صفات المخلوقات، ومن بعض هذه الآيات قوله تعالى:
{وجاء ربُّكَ والملك صفّاً صفّاً} (89 الفجر آية 22).
{ الرحمن على العرش استوى } (20طه آية 5).
{ إن الَّذين يُبايعونكَ إنَّما يُبايِعونَ الله يدُ الله فوقَ أَيديهم... } (48 الفتح آية10).
وبما أن الله لا يشبه أحداً من خلقه في صفاته بدليل قوله تعالى: { ليس كمثله شيء.. } (42 الشورى آية 118). لذلك تبقى معاني هذه الآيات في حكم المتشابه. وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب الإيمان بهذه الآيات والتسليم بها، وتفويض معرفتها إلى الله تعالى، دون محاولة تأويلها بما يتنافى مع كمال الله تعالى وكمال صفاته. وفسَّرها جيل آخر من العلماء بما يليق بذاته تعالى من معان مجازية تسوغ في اللغة العربية وتناسـب المعنى، فذهبوا إلى أن مجيء الله والملك صفّاً صفّاً،كناية عن مجيء أمره وقضاءه. والاستواء على العرش يعني تمام القوَّة والسلطان والتصرُّف بالكون. ويد الله فوق أيديهم تعني التأييد والدعم الإلهي للمبايعة. وكلُّ هذه التشابهات تكرُّمٌ من حضرة الله، في التودُّد لعباده، وتقريب القدرة الإلهية من أفهامهم، ليكون ذلك حافزاً لهم للتعمُّق في فهم آياته، وقراءتها بتدبُّرِ معانيها، وخشوع لجلال قائلها.
ويظهر دور المغرضين في كلِّ زمان ومكان، من خلال تأويل الآيات المتشابهات؛ بهدف الحصول على مآرب معينة، كالسيطرة على السذَّج من الناس، والتأثير عليهم فكرياً، أو عاطفياً، أو للحصول على مكاسب مادية أو نفوذ معيَّن، ووراء ذلك كلِّه لإحداث بلبلة في الأفكار، وإثارة الفتنة في صفوف الناس، وزرع الشكِّ في صدورهم.
وطالما أنَّ علم الله محيط بكلِّ شأن من شؤون هذا الكون الواسع، فقد ضمَّ القرآن من علم الله تعالى، ما له صلة بالإنسان، في حاضره ومستقبله، أمَّا شؤون الكون الأخرى، والَّتي لا صلة لها بذلك، فلم يعلمنا الله سبحانه شيئاً عنها، لكنه تعالى حثَّنا في آيات القرآن الكريم على إعمال الفكر والعقل والتدبُّر، لنستزيد من علومه، ونرشف من بحار عطائه الروحي والفكري اللامتناهي.