الفصل الثاني:
نــزول القــرآن
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {وبالحقِّ أنزلناه وبالحقِّ نَزَلَ وما أرسلناكَ إلاَّ مُبشِّراً ونذيراً(105) وقرآناً فَرَقْناهُ لِتقرَأَهُ على النَّاس على مُكْثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً(106) قل آمِنُوا به أو لا تُؤمنوا إنَّ الَّذين أُوتوا العلمَ من قَبْلِهِ إذا يُتلى عليهِم يَخِرُّون للأذقان سُجَّداً(107) ويقولونَ سبحان ربِّنا إن كان وعدُ ربِّنا لمفعولاً(108) ويَخِرُّون للأذقانِ يَبكونَ ويزيدُهُم خشوعاً(109)}
ومضات:
ـ نزل القرآن متضمِّناً للحقِّ في بيان براهين تدلُّ على وجود الله ووحدانيته، وكاشفاً حقائق روحية ومادِّية للناس ليكون دستوراً لإسعادهم، ولنشر الأمن والإخاء في ربوع العالم، وليحمل البشرى لمن التزم به، وليوجِّه الإنذار لمن تغافل عنه وأعرض.
ـ يجب قراءة القرآن بهدوء وتمعُّن وتبصُّر، فهو مُنزَّل لحلِّ مشاكلنا، وفتح مغاليق قلوبنا.
ـ لقد كان الأتباع المنصفون لليهودية والمسيحية يعلمون بقرب مجيء نبي جديد، لذلك فقد عرفوا صدق القرآن يقينا، لمَّا رأوا فيه توافقاً مع شريعة الله الموجودة في كتبهم، فهزَّ ذلك وجدانهم وعواطفهم، فخرُّوا سجَّداً شاكرين الله تعالى على إنجازه وعده.
ـ لقد كان أهل الكتب السماوية السابقة بأمسِّ الحاجة للقرآن ليروي عطشهم الروحي، ويطفئ غليل نفوسهم، لذا ذرفوا الدموع سخيَّة عندما لامست كلماته شغاف قلوبهم.
في رحاب الآيات:
أنزل الله تعالى القرآن الكريم قائماً على الحقِّ، مُقِرّاً له في الأرض، فالحقُّ مادَّته، والحقُّ غايته، ومن الحقِّ قوامه. وقد جاء ليربِّي أمَّة، ويقيم لها نظامها، فتحمله هذه الأمَّة إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتبلِّغه للبشرية وفق المنهج الكامل. ولهذا فقد نزل هذا القرآن بالتدريج وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمَّة، ووفق الوقائع والأحداث الَّتي صاحبت مدَّة التربية الأولى. فجاء ليكون منهجاً عملياً يطبَّق جزءاً جزءاً في مرحلة الإعداد، ولم يأتِ فقهاً نظرياً ولا أفكاراً تجريدية، تُعرَض للقراءة والاستماع الذهني فقط، وتلك بعضٌ من حكم نزوله مفرَّقاً، لا كتاباً كاملاً منذ اللحظة الأولى. ولقد تلقَّاه الجيل الأوَّل من المسلمين على هذا الأساس، فكان توجيهاً يُطبَّق في واقع الحياة كلَّما جاءهم بأمر أو نهي، وكلَّما تلقَّوْا منه أدباً أو فريضة. ويتجه الخطاب في هذه الآيات الكريمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُعْلِمَهُ بأن الله أرسله، مبشِّراً للمطيع بالثواب، ولأهل السعادة بسعادة الوصول والعرفان عند التمسك بالقرآن، ونذيراً لأهل الشقاوة بشقاوة البعد والحرمان عند الانفصام عن حبل القرآن وترك الاعتصام به. ويطلب تعالى من نبيِّه الكريم أن يخاطب الناس بقوله: آمِنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا به، فهو حقٌّ في نفسه أنزله الله، وكتاب خالد إلى أبد الدهر، فإيمانكم لن يزيد في خزائن الله شيئاً، كما أن كفركم لن يُنقص منها شيئاً، وإن تكفروا به فإن أولي العلم الَّذين عرفوا التوراة والإنجيل وعرفوا أن الله سيبعث نبيّاً، يخِرُّون ساجدين شاكرين لله هديَّةَ القرآن، تلك النفحة الربَّانية، الَّتي أنعشـت أرواحهم بعد ظمأ طويل، وبعثت الحياة في قلوبهم، فراحوا ينزِّهون الله في سجودهم عن إخلاف الوعد، إنه لا يخلف الميعاد.
وهكذا فإن أهل العلم هم الَّذين يعرفون الله حقَّ المعرفة، ويُصدِّقون كلَّ ما جاء به رسل الله، لذلك تراهم إذا سمعوا القرآن يخرُّون للأذقان باكين، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعظ خشوعاً لأمر الله وطاعته، وهم الآمنون من النار في الآخرة. روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسُّهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» وأخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «.. وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله إلا حرَّم الله جسدها على النار وإن فاضت على خدِّه لم يَرهق وجهه قترٌ ولا ذِلَّةٌ».
وجملة القول:
1 ـ إن القرآن الكريم كتاب صدق وحقيقة، لم يستطع ولن يستطيع أحدٌ، النيل من آية من آياته، أو إثبات أنها مغلوطة أو خاطئة.
2 ـ يجب أن يبدأ الداعي بآيات التبشير، ويستنفد وسائل الإقناع قبل أن يلجأ إلى التلميح بالعقاب الإلهي.
3 ـ آيات القرآن الكريم منسَّقة بشكل يتلاءم مع حدود الفهم، لذلك نرى سهولة حفظ آياته من قِبَلِ الناس على اختلاف عقولهم وتباين أعمارهم.
4 ـ الإيمان الحقيقي هو الانقياد الدائم لحضرة الله وأوامره، والممزوج بالعواطف المتأججة شوقاً ومحبَّة له عزَّ وجل.
سورة طه(20)
قال الله تعالى: {طه(1) ما أنزلنا عليك القرآنَ لِتَشقى(2) إلاَّ تذكرةً لِمن يخشى(3) تنزيلاً مِمَّن خَلَقَ الأرضَ والسَّمواتِ العُلى(4)}
ومضات:
ـ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم تعاليم القرآن بمنتهى الحزم، ممَّا أرهق جسده وأتعبه، فأراد تعالى أن يخفِّف عنه، فبيَّن له أنه إنما أَنْزَلَ عليه القرآن سعادة له ولغيره، وما أراد به شقاءهم بل شفاءهم وإنقاذهم.
ـ إن في القرآن الكريم تذكرة لمن عنده استعداد لمحاسبة نفسه وفطامها عن ذنوبه والندم عليها.
ـ الله تعالى منزِّل القرآن هو خالق السموات والأرض والأكوان كلِّها وما حَوَت.
في رحاب الآيات:
تبدأ الآية الكريمة بهذين الحرفين (ط ـ هـ) وهي حروف نورانيَّة، وفيها تنبيه لإعجاز القرآن الكريم، ذلك أنه على الرغم من أنه منسوج من الأحرف العربية الثمانية والعشرين، فقد تحدَّى الله به فصحاء العرب، وجهابذة الكلام على أن يأتوا بآية من مثل آياته، أو سورة من مثل سوره. وربَّما كان القصد من ابتداء السور بمثل هذه الأحرف، هو تنبيه المخاطب إلى أهمية ما يُلقى إليه بعدها، والله أعلم بمراده منها. أخرج ابن أبي حاتم عن الضحَّاك قال: (لما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، قام به وأصحابُهُ، فقال له كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمَّد إلا ليشقى به، فأنزل الله: {طه * ما أنزلنا عليك القرآنَ لتشقى}. فلا والله ما جعله الله شقياً، بل رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنَّة). وقيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى بالليل حتَّى تورَّمت قدماه فقال له جبريل: (أَبْقِ على نفسك فإن لها عليك حقاً).
فكيف لنبيٍّ عشق ربَّه أن يرهق جسده بقرآن فيه شفاء ورحمة؛ إلا إذا كانت معانيه قد استقرَّت في سويداء قلبه، ووعى كلماته حرفاً حرفاً، فتفجَّرت ينابيع الخوف والخشية من حضرة الله في أعماقه، فواصل ليله بنهاره تعبُّداً وتذلُّلاً، وخشوعاً وانكساراً، وحباً وإنابة للواحد القهار. فهل هذا شقاء؟ إنه عين النعيم، نعيم القرب، وعين اللذَّة الروحية، حين يتَّصل تيار الروح بالمولِّد الأصلي، ويحدث التَّماسُّ وتومض شعلة النور في ظلمات النفس المدلهمَّة فتزيل غشاوة البُعد عنها.
ويأتي الجواب الحاسم بمخاطبته تعالى لرسوله: نحن لم ننزِّل القرآن عليك يامحمَّد لتشقى، ولكن أنزلناه تذكيراً لمن يخشى ويتأثَّر بالإنذار؛ لرقَّة قلبه وحسن استعداده. وقد خصَّ الله تعالى الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلِّهم، لأن الَّذي يخشى يتذكَّر حين يُذكَّر، ويتَّقي ربَّه فيستغفر، وعند هذا الحدِّ تقف مهمة الرسول، فلا يكلَّف بفتح مغاليق القلوب والسيطرة على الأفئدة والنفوس، وإنما ذلك موكول إلى الله عزَّ وجل. والَّذي أنزل القرآن هو خالق الأرض ومبدع الكون، ورافع السموات من غير عمد، وهذا إخبار عن عظمته تعالى، وجبروته وجلاله، ودليل على عظمة المنزَل.
والقرآن آية من آيات الله، كخلق السموات والأرض، أنزله ليكون مرجعاً ودستوراً لعباده، على اختلاف أنواعهم وأعراقهم وألسنتهم، هذا الخالق العظيم هو الَّذي وضع الشرائع السماوية، وأرسل الكتب الإلهية وآخرها القرآن ليكون شريعة ومنهاجاً، وقد حفظه في الأرض كما حفظه في السماء، وكلُّ شيء في قانون الله له غايته ورسالته، ولم يخلق شيئاً عبثاً أو لهواً، فتبارك الله أحسن الخالقين!.