الـبــاب الخامس
أركـان الإســلام
مقدِّمة:
يرتكز بناء الإسلام على دعائمَ خمس مبيَّنَةٍ فيما رواه ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصوم رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلاً» (متفق عليه). وهذا البناء لا يكتمل إلا باكتمال أركانه، ليصبح مؤهَّلاً لاستيعاب تعاليم العقيدة الروحية والتربية الأخلاقية، الَّتي تُجْمَل تحت عنوان رسالة الإسلام.
وفي هذا الباب سنتناول هذه الأركان بشيء من التفصيل وذلك حسب ترتيب أولويتها في الحديث الشريف المذكور. ولكنَّنا لن نتوقف عند الإقرار بنبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وبأنه رسول الله إلى الناس، لأنه تقدَّم تفصيل ذلك في الباب الثالث من هذا الكتاب، سائلين المولى عزَّ وجل التوفيق والرشاد.
الفصل الأوَّل:
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {قُلْ أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بيني وبينَكُم وأُوْحِيَ إليَّ هذا القرآنُ لأُنذرَكُم به ومن بَلَغَ أَئِنَّكُم لتشهدونَ أنَّ مع الله آلهةً أُخرى قُلْ لا أشهدُ قُلْ إنَّما هوَ إلهٌ واحدٌ وإنَّني بريءٌ ممَّا تُشركون(19)}
ومضات:
ـ الله وحده هو الخالق، وهو وحده المالك، فلا عبوديَّة ولا ولاء لغيره. وشهادة أن لا إله إلا الله وحده، ربّاً ومعبوداً، هي قضية العقيدة في صميمها، فإمَّا إخلاص الولاء لله وهو الإسلام، وإمَّا إشراك غيره معه وهو الشرك الَّذي لا يجتمع مع الإسلام في أيِّ حال من الأحوال.
في رحاب الآيات:
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية الَّتي تتصدَّى لها الرسالة منذ يومها الأوَّل، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرِّف الناس بربِّهم الحق، ويجعلهم يعبدونه تعالى دون سواه.
إن إفراد الله سبحانه بالألوهيَّة، يعني نزع السلطان من كلِّ ما سوى الله وردَّه إلى الله، سواء أكان سلطاناً على الضمائر، أم على الشعائر، أم على وقائع الحياة، أم كان في الأرواح والأبدان. فالأرض وما عليها لله، والناس خلفاؤه في إعمارها، ومؤتَمَنُون على حسن التصرف مع أنفسهم وفيما بينهم، وإخلاص النيَّة في ذلك لوجهه عزَّ وجل، كما أنهم مكلَّفون بالعمل على رفع راية التَّوحيد في أرجائها، لتتوحَّد وجهة سيرهم نحو مرضاة خالقهم وموجدهم.
ولا إله إلا الله بمدلولاتها اللغوية تعني: لا شريعة إلا من الله، ولا سلطان إلا لله. وقد تمثلت بداية الدعوة برفع راية لا إله إلا الله، لأن سلامة المجتمع تنبثق من تصوُّرٍ اعتقادي شامل، يردُّ الأمر كلُّه إلى الله، فيُقْبِلُ العبد راضياً طائعاً لما يقضي به الله، من إرادةٍ في توزيع الأرزاق، ومن حثٍّ على التكافل بين الجميع، وتكون ثمرة هذا الاعتقاد، الإيمان الراسخ الَّذي يستقرُّ في القلب، فيتطهَّر بذلك من الطمع والحسد، والغرور والأنانية وغيرها من الأمراض، الَّتي تفسد عليه نعيم الحياة، وتحيلها إلى جحيم مستعر، كما هو الحال بالنسبة لأولئك الَّذين يعتمدون المبادئ والأنظمة الوضعيَّة في تنظيم علاقاتهم الاجتماعية كبديل عن الشرائع السماوية. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر منصف الفرق بين ما خلق الله تعالى وما صنعه الإنسان، فما صنعه الإنسان أشياء ميِّتة قليلة الفائدة، وما خلقه الله أشياء ذات حياة تامَّة الفائدة. وكمثل على ذلك العين الزجاجية الَّتي قلَّد الإنسان بها خلق الله تعالى، ولا وجه للمقارنة بين عين زجاجية جامدة ميتة عمياء، وبين عين خلقها الله فيها الحياة والبريق والبصر والضياء، وهذا هو الفرق بين تشريع الله من حيث النتيجة وتشريع الإنسان على هذا النمط؛ فليخجل الإنسان من نفسه عندما يحاول أن يضع تشريعه مكان تشريع الله تعالى.
فالعقيدة هي الأساس الَّذي تقوم عليه قيم المجتمع، والمنبع الَّذي تصدر عنه النظم والقوانين الَّتي تحكم سيره، فإن كانت صحيحة وسليمة آتت ثمارها في المجتمع تحضُّراً ورقيّاً، وإن كانت فاسدة ومشوَّهة أورثت في المجتمع تخلُّفاً وتمزُّقاً، وأصبح على شفا حفرة من الهلاك والدمار المتربِّصَيْن به. ولما كانت الأخلاق الفاضلة من أهمِّ الدعامات الَّتي تحمي صرح المجتمعات الإنسانية؛ كانت الصلة بينها وبين العقيدة صلة وثيقة، بحيث لا يمكن أن تسود في مجتمع ما، إن لم تكن مرتكزة على أساس متين من العقيدة الصحيحة، الَّتي تضع الموازين، وتقرِّر القيم، كما تحدِّد السلطة الَّتي تخضع لها هذه الموازين والقيم، والجزاء الَّذي تملكه حيال كلٍّ من الملتزمين والمخالفين؛ فقبل تقرير تلك العقيدة تكون القيم متأرجحة، لأنها فقدت عناصر الضبط والسلطة والجزاء.
وعندما تقرَّرت عقيدة التَّوحيد في ظلِّ الإسلام، وعرف الناس ربَّهم وعبدوه وحده، وتحرَّروا من سلطان الأهواء والشهوات، تطهَّر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يَعْدِل بعدل الله، ويَزِنُ بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، دون أن يحتاج الأمر إلى العقوبات الَّتي شرعها الله إلا فيما ندر؛ لأن الرقابة انبثقت من الضمائر والقلوب، ولأن الطمع تسامى حتَّى صار طمعاً في رضوان الله تعالى، وكذلك أضحى الحياء من حضرته تعالى، والخوف من غضبه، خُلقان يُتوِّجان سلوك المؤمن في مجتمع ارتقى بأفراده أعلى مراتب الفضيلة، وأسمى درجات العدالة، فأصبحوا في غنى عن رقابة السلطة والقضاء، لأن الرقابة الذاتيَّة جعلت من كلِّ فرد خصماً وحكماً في الوقت نفسه. وهكذا ارتفعت البشرية في نظامها، وأخلاقها، بل في حياتها كلِّها، إلى أعلى قِمَّة في الإنسانية ما كانت لترتفع إليها إلا في ظلِّ الإسلام.
ولم يكن لشيء من هذا المنهج المبارك أن يتحقَّق على هذا المستوى الرفيع، لولا فضل الدعوة الَّتي بدأت برفع راية التَّوحيد خفَّاقة، شعارها لا إله إلا الله. وطبيعة هذا الدِّين هي الَّتي قضت بذلك، فهو دين يقوم على قاعدة أنَّ الألوهيَّة لله الواحد الأحد، في تنظيماته وتشريعاته الَّتي تنبثق من هذا الأصل، وفي نظامه الَّذي يتناول الحياة كلَّها، وخصوصاً شؤون الحياة البشرية كبيرها وصغيرها، فينظِّم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، بل في الدار الآخرة أيضاً، ولا في العالم المنظور وحده بل في عالم الغيب المكنون أيضاً، ولا في المعاملات الماديَّة وحدها بل في أعماق الضمير وخفايا السرائر والنوايا كذلك. هذا جانب من طبيعة هذا الدِّين، يحدِّد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمولها لشعاب النفس كلِّها، ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضماناً من ضمانات الاحتمال والتناسق بين السريرة والعمل.
ومتى استقرَّت عقيدة لا إله إلا الله في أعماق النفس، استقرَّ معها النظام الَّذي تتمثَّل فيه، وتلقَّت تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرِّضا والقبول، فلا تتلكَّأ بتنفيذها بل تسارع لتطبيقها بمجرَّد تلقِّيها إيَّاها. وهكذا أُبطِلت الخمر، وأبطل الرِّبا وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلُّها، أبطلت بآيات من القرآن الكريم، أو بكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حين نرى أن السلطات البشرية تبذل قصارى جهودها وإمكاناتها العملاقة في سبيل حماية المجتمع من هذه التصدُّعات، فتضع القوانين والنظم والتشريعات، وتبثُّ الدعايات في مختلف وسائل الإعلام، وعلى الرغم من هذا كلِّه تبقى عاجزة عن المعالجة الجذرية، ولا تتمكَّن إلا من ضبط القليل ممَّا ظهر من المخالفات، الَّتي يتخفَّى أصحابها للقيام بها بعيداً عن الأعين. وهنا تظهر ميزة التشريع السماوي، وروعة القرآن الكريم في طرحه قضية التَّوحيد، وما يترتَّب عليها عن طريق مخاطبة فطرة الإنسان بما في وجوده، وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات، وذلك بعد أن يوقظ فطرته من السُّبات وينعشها، ويفتح منافذها لتتلقَّى رسائل الوحي الإلهي المؤثِّرة وتستجيب لها. وقد تمَّ هذا التلقِّي لمسلمي عصر النبوَّة، على مدى ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، اكتمل خلالها بناء العقيدة، وكذلك نفذت إرادة الله في قيام القواعد الَّتي ساهمت في نشأة الأمَّة الإسلامية، وظهورها للعالم، لتكون خير أمَّة أخرجت للناس عقيدة وسلوكاً، ومنهجاً وواقعاً وعلماً وعملاً، فكانت العقيدة هي الروح السارية في واقع المجتمع الفعلي، وكان واقع المجتمع تجسيداً لروح العقيدة.
والتصوُّر الإسلامي للألوهيَّة وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان، تصوُّر كامل شامل، يسهل على الناس تطبيقه كنظام حيٍّ، وعمل واقعي. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضِّح للناس على الدوام، مبادئ عقيدة التَّوحيد وأسسها وما يتفرَّع عنها، ويتحمَّل في سبيل ذلك صنوفاً من الإيذاء والتعنُّت والإعراض، بصبر وثبات عظيمين، وبقوَّة تنهزم أمامها أباطيل المعرضين وادِّعاءاتهم المزيَّفة. وها هو ذا النبي عليه الصَّلاة والسَّلام يعلن للمشركين براءته من شركهم، ويُشهد الله على ذلك فيقول لهم: {وإنَّني بريءٌ ممَّا تُشركون}. ولقد كانوا يدعونه إلى إقرارهم على ما اتخذوا من أولياء من دون الله، كما دعوه إلى الإتيان بشاهد يشهد بنبوَّته، وأنه رسول من عند الله؛ فيؤيِّده الله بشهادته العظمى الَّتي لا تعدلها شهادة، فيطرحها عليهم بطريق الاستفهام التقريري: {قُل أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادةً}؟ أيُّ شاهد تعلو شهادته كلَّ شهادة، فتحسم القضية ولا يبقى بعدها شهادة؟. وكما يؤمر صلى الله عليه وسلم بالسؤال فهو يؤمر كذلك بالجواب؛ ذلك أنه لاجواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم، {قُلِ الله} فالله سبحانه وتعالى هو الَّذي يفصل بالحقِّ وهو خير الفاصلين، فإن قال سبحانه؛ فقد انتهى إليه القول وقُضي الأمر.
فما أحوج الأمَّة المؤمنة بعد أن تستيقن حقيقة مهمَّتها في الأرض، وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة الَّتي تدعو إليها، ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكلِّ مدلولاته، ما أحوجها إلى موقف الإيمان المبرَّأ عن الشرك، وأن تقول ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تنفيذاً لأمر ربِّ العالمين. فهذا القرآن لم يأتِ لمواجهة موقف تاريخي حدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما جاء منهجاً مطلقاً خارجاً عن قيود الزمان والمكان؛ منهجاً تتَّخذه الأمَّة المسلمة حيثما كانت، في مثل الموقف الَّذي تَنَزَّلَ فيه القرآن الكريم.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إِنَّ الله لا يغفرُ أن يُشْرَكَ بهِ ويغفرُ ما دون ذلكَ لِمَن يشاءُ ومن يُشرك بِالله فقد افترى إِثماً عظيماً(48)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {إِنَّ الله لا يغفِرُ أَن يُشرَكَ به ويغفرُ ما دونَ ذلكَ لِمن يشَاءُ ومن يُشركْ بالله فقد ضَلَّ ضلالاً بَعيداً(116)}
ومضات:
ـ الإيمان بوحدانيَّة الله هو الدعامة الأساسية الَّتي يقوم عليها بناء العقيدة الإسلامية، وكلُّ من يقوم بهدمها فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً ولا مغفرة له، فالشرك أكبر من كلِّ ذنب وأظلم من كلِّ افتراء.
ـ إن الله ذو مغفرة واسعة تسع ذنوب التائبين مهما عظمت، شريطة أن يؤمنوا بوحدانيَّته ويسلِّموا بها.
في رحاب الآيات:
عقيدة التَّوحيد حقيقة أزليَّة خالدة، ينبغي على المرء إدراكها بعقله وروحه وذرَّات وجوده كلِّها. أمَّا عقائد الشـرك ـ على اختلاف أنواعها، وتعدُّد أشكالها ـ فهي مُحْدَثَة صنعها الإنسان بدافع أهوائه، لذلك أتت مضطربة متداخلة؛ ومتنافرة في مضامينهـا، وإن اتفقت كلُّها في شيء واحد وهو الهبوط بالإنسان إلى الدَّرْك الأسفل من الغفلة، وردم جميع مناهل الإيمان المغروسة بداخله، وإغلاق منافذ العقل ومنابع الفكر في أعماقه. لذلك فإن الله يغلق باب المغفرة أمام من يشرك به، ويرضى بأن يمرِّغ نفسه في أوحال الانحطاط الفكري والفراغ الروحي، بينما يفتح بابها على مصراعيه، أمام كلِّ مؤمن مذنب اقترف الذنب وقَلْبُهُ متَّصل بالله غير منكر لوجوده، ممَّا يُولِّد في نفسه الرجاء والخوف، ويبعده عن التعلُّق بالمعصية أو التشبُّث بها على الرغم من ارتكابه لها، ولذلك فهو يسارع إلى طلب المغفرة بصدق وإنابة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال الله عزَّ وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذُّنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً» (رواه الطبراني).
والتَّوحيد الَّذي دعا إليه الإسلام هو توحيد الربوبيَّة والألوهيَّة، قال تعالى: {إنَّ إلهَكمُ لَوَاحدٌ * ربُّ السَّمواتِ والأرضِ وما بينَهُمَا وربُّ المشارق} (37 الصافات آية 4ـ5). وكانت العرب تعتقد بتوحيد الربوبيَّة، وأن الله هو الخالق والمبدع لكلِّ الموجودات، وقد شهد لهم القرآن بهذه الحقيقة: {وَلَئِن سألتهُمْ من خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وسخَّرَ الشَّمسَ والقمرَ ليقولُنَّ الله..} (29 العنكبوت آية 61)؛ ولكنَّهم كانوا يشركون في عبادة ربِّهم، ويتَّخذون آلهة من دونه، زعماً منهم أنها واسطة تقرِّبهم إلى الله. وقد أنكر الله عليهم هذا الإشراك في كتابه العزيز وعلى لسان نبيِّهِ: {وَلَئِن سألتَهُم من خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ ليقولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم ما تَدْعونَ من دونِ الله إنْ أرادَنِيَ الله بضُرٍّ هل هُنَّ كاشفاتُ ضُرِّهِ أو أرادَنِي برحمةٍ هل هُنَّ ممسكاتُ رحمتِهِ قل حسبِيَ الله عليه يتوكَّلُ المتَوكِّلون} (39 الزمر آية 38). فالموحِّدون هم من تطهَّرت نفوسهم من دنس الشرك، وتطهَّرت قلوبهم وأرواحهم من دنس الذنوب والمعاصي، وتغلَّبت فيهم عناصر الخير على عناصر الشر، فإن وقعوا في ذنب أو معصية فسُرعان ما يتوبون ولا يطول عليهم الأمد في الغفلة كما قال تعالى: {إنَّ الَّذين اتَّقَوْا إذا مسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيطانِ تذكَّروا فإذا هم مُبصِرون} (7 الأعراف آية 201).
والسبب في استنكار جريمة الشرك، وخروج صاحبها من دائرة المغفرة، أنَّ من يشرك بالله يخرج عن حدود الانتماء للتعاليم الإلهيَّة، وتفسد فطرته، فلو بقي في قلبه خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشدَّهُ إلى الشعور بوحدانيَّة الله. والسؤال الَّذي يطرح نفسه، ما الَّذي يدفع المشرك لأن يتَّخذ لله شريكاً، وقد خلق الله تعالى له كلَّ ما يحتاج إليه وعلى أكمل وجه؟ وما الَّذي يرجوه من ذلك الشريك؟ لا شيء، سوى الرَّغبة بالتفلُّت من تعاليم الله وتكاليفه، لإشباع غرائزه البهيميَّة والحصول على مكاسب لا أخلاقية، وفي هذا كلِّه ضلال وإثم، وتدمير لأركان السعادة الَّتي وضعها الله تعالى للإنسانية، ونسف لجسور الإيمان الموصلة إلى المغفرة الإلهيَّة، ولو أنه أبقى عليها وصانها لتمكَّن من عبورها، ولنجا من عذاب الله الشديد، الَّذي أعدَّه لكلِّ من يتخاذل ويصرُّ على الإشراك به.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أنداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ الله والَّذين آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً لله ولو يَرَى الَّذين ظَلَمُوا إذ يَرَونَ العَذابَ أنَّ القُوَّةَ لله جَميعاً وأنَّ الله شَديدُ العَذابِ(165)}
ومضات:
ـ حبُّ الله الَّذي يعمر قلوب المؤمنين به، هو أقوى وأشدُّ أثراً من حبِّ المشركين لمن يتخذونهم أرباباً وأولياء من دون الله.
ـ محبَّة الله الواحد الأحد، تجذب القلوب الطاهرة نحو خالقها، وتزرع فيها بذور الرحمة والتعاون، أمَّا الَّذين في قلوبهم زيغ فلهم تعلُّقات تخرجهم عن دائرة الإيمان الصحيح، وتوقعهم في مهاوي الشَّرْذَمَة والفساد.
ـ إن القوَّة والسلطان في الدنيا والآخرة لله وحده، ولكنَّ الظَّالمين لأنفسهم لا يدركون ذلك، إلا بعد أن يحيق بهم العذاب الشديد في جهنم، مع الخزي والنَّدامة في الدَّار الآخرة، وبعد أن أمضَوْا حياتهم في الدنيا ضائعين في صحارى العطش الروحي، يلهثون وراء السراب، لأنهم اتخذوا لأنفسهم أرباباً من دون الله، ودنَّسوا قلوبهم بالإشراك به، ففقدوا جذورهم الإيمانيَّة وحضارتهم الأخلاقيَّة.
في رحاب الآيات:
الحبُّ شعور نبيل، ومعنىً سامٍ من أسمى المعاني في الوجود، يرقى بالروح إلى آفاقها الرحبة، عبر نشوة زاخرة بالعطاء، وهو انجذاب عاطفيٌّ سخيٌّ من المحبِّ نحو محبوبه، تتفجَّر من خلاله ينابيع الشوق والوجد في النفس، لتصبح مُلْكاً لمن تحب، توَّاقة لإرضائه متلهِّفة إلى طاعته. وأَجَلُّ أنواع الحبِّ هو حبُّ الله، حيث تنصهر نفوسنا بحبِّه عزَّ وجلَّ، فتتخلَّق بالأخلاق المرضيَّة عنده، وتتذوَّق حلاوة جوده وكرمه، وينعكس ذلك كلُّه في اتِّباع تعاليمه، وبما نؤدِّيه من العبادات، ممَّا يجعلنا مستكينين له مستسلمين، حين يتَّصل ضعفنا وعجزنا بقوَّته الإلهيَّة المطلقة، ويفنى وجودنا الزائل أمام وجوده الدائم الباقي الَّذي لا يزول.
وإنما تنشأ هذه المحبَّة الإلهيَّة بشحذ القوى العقلية والروحية، وعمق التفكُّر في ملكوت السموات والأرض، وحسن التدبُّر لآيات القرآن، وكثرة ذكر الله، مع استحضار أسمائه الحسنى، وصفاته العليَّة.
ومتى رسخت هذه المحبَّة وتعمَّقت جذورها في القلب، أصبح الله هو الغاية، فيجد المرء من حلاوة الإيمان، ولذَّة اليقين، وحسن الصلة بالله، ما تَقرُّ به العين وتتلاشى أمامه كلُّ الملذَّات، وهذا من علامات صحَّة النفس وسلامة القلب، ذلك أنه لا كمال لسعادة الإنسان، إلا بمعرفة جمال الله وجلاله، وشهود رحمته وحكمته. روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (متفق عليه).
وقد أيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم جذوة المحبَّة وأشعلها في قلوب أصحابه، فأحبُّوا الله أعظم من حبِّهم لأنفسهم وآبائهم وأمَّهاتهم، ورَضُوا أن يبذلوا نفوسهم ومُهَجهم في سبيله وهم فرحون مستبشرون. وكان ممَّا حُفِظ من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ عمل يقرِّبني إلى حُبِّكَ» (رواه الترمذي بسند صحيح).
إن محبَّة الله هي الَّتي حملت مصعب بن عُمَيْر على ترك ما كان ينعم به من طيب العيش في كَنَفِ أسرته، إلى الشظف والحرمان، حين عارض والداه إسلامه. قال عمر رضي الله عنه : «نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير، وعليه ثياب رثَّة فقال: انظروا إلى هذا الرجل الَّذي نوَّر الله قلبه.. لقد رأيتُه بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون» (أخرجه البيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية). ومحبَّة الله تعالى تقتضي محبَّة القرآن الكريم، ومحبَّة الشريعة السمحة، يقول عثمان رضي الله عنه : (لو سلمت منَّا القلوب ما شبعت من كلام الله عزَّ وجل، وكيف يشبع المحبُّ من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبه)؟.
ومن مظاهر حبِّ الله، محبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ أنه النبي الأمين، ومُبلِّغ الرسالة، وقائد الخَلق إلى الحقّ. ولهذا فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفانَوا بمحبَّته، وبلغوا بها أرفع المنازل والدرجات، وضربوا أروع الشواهد والأمثال على صدقها. وكُتُبُ السيرة غنيَّة بذلك، وقد ورد فيهـا أنه لمَّا أخرج أهل مكَّـة زيـد بن الدُّثنَّة رضي الله عنه ـ وكانوا قد أسـروه ليقتلوه ـ قال له أبو سفيان: أنشدك الله يازيد، أتحبُّ أن محمَّداً الآن مكانك تُضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبُّ أن محمَّداً في مكانه، الَّذي هو فيه، تصيبه شوكة وأنِّي لجالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمَّد محمَّداً. وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : «متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أنِّي أحبُّ الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء، فرَحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت» (متفق عليه).
على أنَّ هذا الحبَّ لا يتنافى مع محبَّة الزوج والولد والأهل والعشيرة، مادامت هذه المحبَّة تابعة للحبِّ الإلهي، وغير مانعة له من النُّموِّ والسُّموِّ والوصول إلى الكمال. فمحبَّة الزوج والولد والعشيرة فطريَّة ومتأصِّلة بقلب الإنسان وعاطفته، وهي محمودة إلا إذا صرفته عن المَثَل الأعلى، وأعاقته عن النهوض لخدمة دينه ونفع وطنه. وهذا هو هدي القرآن الكريم وأسلوبه الحكيم، إذ أنَّه لا يبخس الفطرة حقَّها، فهو يقيم العلاقة الزوجيَّة على أساس من المودَّة المشتركة بين الزوجين، قال تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفسكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إليها وجعلَ بينكم مودَّةً ورَحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون} (30 الروم آية 21). كما أنه يمنح الولد حقَّه من الرِّعاية والحنان، وينكر على من يجافي هذه الفطرة وَيَصِمُهُ بالقسوة والجفاء؛ فقد جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «أتُقبِّلون الصبيان؟ فما نُقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟» (رواه البخاري ومسلم). وهكذا يساير الإسلام الفطرة ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويفتح القلب الإنساني لحبِّ الله الَّذي لا حياة إلا به. وقد أثبت الله سبحانه وتعالى هذه المحبَّة للمؤمنين فقال: {..والَّذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله..}.
وهناك فريق من الناس ممَّن لم يتهيَّأ لهم النُّضْج الإيماني والفكري، يمزجون بين حبِّهم لله وحبِّهم للمخلوقات، الَّتي سخَّرها الله، لتكون وسائلَ وأسباباً لتنفيذ إرادته وقضائه في الأرض، فيمالئونهم ويتقرَّبون إليهم وكأنَّهم هم صانعو القدر، متناسين أن مفاتيح العطاء كلَّها بيد الله، وقد ينساقون وراءهم فيتساهلون بأمر عقيدتهم كسباً لمرضاتهم وطمعاً في مساعدتهم. أمَّا المؤمن فهو الَّذي يفطن إلى كنه العلاقة الَّتي تربطه بغيره من المخلوقات، فعندما يحتاج إليهم يدرك تمام الإدراك، أن مشيئتهم وإرادتهم مقيَّدة بمشيئة الله. وقد يمدُّ يده طالباً مساعدتهم في قضاء حوائجه أخذاً بالأسباب، لكنَّ قلبه يبقى مخلصاً لله، حرّاً من كلِّ تعلُّق بغيره، لا يتوكَّل إلا عليه، لأنه هو المعطي وهو المانع، وكلُّ تعلُّق بغيره يصل إلى درجة تتعارض مع تعلُّقه بالله، يُعتَبر شركاً خفيّاً، لأنه يحجب صاحبه عن رؤية الله في كلِّ أمر من أوامره، وينافي التوكُّل عليه، واللجوء إليه في السرَّاء والضرَّاء. ويدخل في دائرة الإشراك، الإفراط في حبِّ الزوجة أو الولد أو المال أو أيِّ شيء زائل، بحيث يطغى على حبِّ الله تعالى: {قُلْ إن كان آباؤُكُم وأبناؤُكم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَونَ كسادَهَا ومساكنُ ترضَوْنَها أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ وجهادٍ في سبيلهِ فترَبَّصُوا حتَّى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (9 التوبة آية 24). وهؤلاء المعرضون عن الإخلاص في عبادة الله تعالى، يظلمون أنفسهم في الدنيا والآخرة، ولو تفتَّحت بصائرهم لأدركوا أنهم يرمون بأنفسهم في دائرة عذاب الله، ويجدر بهم أن يدركوا أن القوَّة لله جميعاً، وأن عذاب الله شديد، قبل أن يصبحوا نَادمين بائسين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ولا بدَّ لنا أن نشير في ختام البحث إلى أنه لا بدَّ للمؤمن من الاعتقاد بأن الله وحده هوالخالق للعالم أجمع، وأنه مالك الملك، المتصرِّف فيه بالرزق، والحياة والموت، والضرِّ والنفع، وغير ذلك، وهذا يدفعنا إلى إفراد الله وحده بالعبادة، والقصد والطلب، وإفراده بتصريف حياة البشر في التشريع، فلا نعبد إلا الله، ولا نتوكَّل إلا عليه،ولا نقصد سواه، ولا نعمل إلا ابتغاء وجهه ورضاه، ولا نسأل غيره، ولا ننذر إلا له، ولا نحلف أو نقسم إلا به سبحانه وتعالى.
ولقد شابَ تاريخ البشرية ومنذ العصور القديمة، عادات وتقاليد، حرفت الإنسان عن مسيرة التَّوحيد الصافي النقي والَّذي لا تشوبه شائبة، فاعتاد الناس عليها، ولا بدّ من ذكر بعضها:
1- التمائم والرقى: وهي لا تجوز بغير كلام الله تعالى، مع الاعتقاد بأنَّها لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.
2- النذور: النذر لله وحده مشروع، وإيفاء النذر واجب.
3- الحلف واليمين: لا يجوز الحلف بغير الله.
4- الاستغاثة والاستعانة والتوسُّل: وكلُّها خطوط اتصال بحضرة الله، نلجأ إليها حين الرخاء وحين الشدَّة، ولا مانع أن نتوسَّل إلى الله بنبيّه صلى الله عليه وسلم، وبالصالحين من أحبابه وأوليائه دون غيرهم، قال تعالى {...ولو أنَّهم إذ ظَلموا أَنفُسَهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفرَ لهم الرسولُ لوجدوا الله توَّاباً رحيماً} (4 النساء آية 64)، وقال تعالى: {...وابتغوا إليه الوسيلة..} (5 المائدة آية 35).
5- الجنُّ والشياطين: وهي من مخلوقات الله علينا أن نحاذرها ونستعيذ منها، لا أن نتخيَّلها ونُحاول التودُّد إليها للاستفادة منها لأيِّ غرض كان.
6- القبور: لا يجوز أن نصلي تجاه قبرٍ، بالغاً ما بلغ صاحبه، بِنيَّة تعظيمه أو التوجُّه إليه من دون الله.
7- السحر والعرافة والتنجيم: إن أصحاب هذه الحرف يتصرَّفون وكأنهم شركاء لله يعلمون الغيب، أو يستطيعون تحريك الأقدار، لذا لا يجوز التقرب منهم أو مجالستهم أو الاعتقاد بهم بأيِّ شكل كان.
وختاماً نعود لنؤكِّد ما أوردناه في مقدِّمة هذا الباب (أركان الإسلام) أننا أوردنا مبحث محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباب الثالث من هذا الكتاب (الفصل الرابع، (سلسلة الأنبياء)، البند التاسع).