الفصل الخامس:
الحــج
الحجُّ هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد فرضه الله عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة النبوية. وقد كان مفروضاً في زمن إبراهيم عليه السَّلام، وجاء الأمر به في شريعتنا تأكيداً لتلك الفريضة الَّتي أمر الله خليله بالإعلام عنها، والدعوة إليها حين قال: {وأَذِّنْ في النَّاسِ بالحجِّ يَأْتُوكَ رجالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ من كُلِّ فَجٍّ عميق * ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهم ويَذْكُروا اسم الله في أيامٍ معلومات..} (22 الحج آية 27ـ28).
والحجُّ لغة: القصد إلى مُعظَّم، أمَّا معناه شرعاً: فهو زيارة مكان مخصوص في زمن مخصوص، بفعل مخصوص. وتعتريه الأحكام الخمسة فيكون: فرضاً، وواجباً، وحراماً، ومكروهاً، ومندوباً إليه مستحباً.
فهو فرض على البالغ العاقل المستطيع مرَّة واحدة في العمر، وذلك ثابت بالكتاب والسُّـنَّة وإجماع الأمَّة. أمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {..ولله على النَّاسِ حِجُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً..} (3 آل عمران آية 97). وأمَّا في السُّنَّة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم : «بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وإقامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزَّكاة وحجِّ البيت وصوم رمضان» (رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما). وأمَّا الإجماع: فكما أن الأمَّة الإسلامية أجمعت على فرضيَّة الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام، فكذلك أجمعت على فرضيَّة الحجِّ في العمر مرَّة على من يستطيعه.
والدليل على فرضيَّته مرَّة في العمر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خَطَبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ياأيُّها الناس فُرض الله عليكم الحجَّ فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يارسول الله؟ فسكت، حتَّى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قلتُ نعم، لوجبت ولما استطعتم» (رواه أحمد ومسلم والنَّسَائي) وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه : «من زاد فهو تطوُّع» (رواه أحمد والنسائي).
وقد يجب الحجُّ أكثر من مرَّة لعارضٍ كَنَذْرِ أحدهم، بأن يقول: لله عليَّ حجَّة، لأن النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقُرُبات المقصودة، وكذلك يجب في حالة القضاء عند إفساد التطوُّع. ويحرم الحجُّ إن كان بمال حرام، ويُكره إن كان دون إِذْنِ مَنْ يجب استئذانه؛ كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته، أو الدائن لمدين لا مال له يقضي به، أو الكفيل لصالح الدائن، ويكون حكمه مستحبّاً لمن حجَّ حجَّة ثانية فما فوقها غير الفريضة.
وأمَّا فضل الحجِّ فقد بيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة إلا أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنَّة» (المبرور: المقبول). وللحجِّ آداب وشعائر، ورد بعضها في قوله تعالى: {الحَجُّ أَشهُرٌ معلُومَاتٌ فمن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ في الحَجِّ وما تَفعَلُوا من خَيرٍ يَعلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى واتَّقُونِ ياأُولِي الألباب} (2 البقرة آية 197).
وهكذا فإن الحجَّ ركن من الأركان الَّتي بُني عليها الإسلام، وأحد الدعائم الأساسيَّة الَّتي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي العالمي. وهو عبادة موقوتة بزمان محدَّد من كلِّ عام، ونوع من السلوك البشري الراقي حيث يلتزم جميع المسلمين، حكَّاماً ورعيَّة، بلباس موحَّد، دون أي تفريق أو تمييز، وهو لون من ألوان التدريب العملي على مجاهدة النفس، من أجل الوصول إلى إقامة التوازن، بين حياة روحيَّة سامية وبين متطلَّبات الجسد المادية، لضمان النجاح في القيام بأعباء الرسالة الإلهيَّة، الَّتي كُلِّف الإنسان بحملها. والحجُّ مدرسة أيَّامها معدودات يعيش المؤمن في رحابها عفيفاً مستقيماً، بعيداً عن الملذَّات الدنيوية المباحة، لأنه قد نذر نفسه للإقبال على الله وقَصْدِ رضاه، كي ينهل من العطاءات الروحيَّة الَّتي تتدفَّق في الحجِّ، فلا يقرب زوجه ولا يستمتع بها، ويخلع عن نفسه أهواءها ونوازعها، كما يخلع عن جسده ملابسه وزينته، ليرتدي ملابس الإحرام البيضاء الَّتي ترمز إلى الطهارة والنقاء، وتزيل جميع الفوارق الاجتماعيَّة بين الناس، وتوحِّد قلوبهم وتصهرها في بوتقة واحدة، لتصبح قادرة على ترديد التلبية الرائعة الخالدة (لبيك اللهمَّ لبيك)، بوتيرة واحدة، وكأنها تنطلق من حنجرة واحدة، فيشعر الحاجُّ بنوع من الفناء لكيانه الشخصي، ليتحوَّل إلى ذرَّة متناهية الصغر في الكتلة الإنسانيَّة الواحدة، حيث لا أنانية ولا خصام، بل إيثار ووئام، وبُعدٌ عن الجدال والمهاترات، من أجل المحافظة على وُدِّ الآخرين وتأليف قلوبهم، وجمعها حول كلمة الله تعالى، ممَّا يقوِّي استعداد نفسه لعمل الخير والحرص عليه. ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمُّه».
فالمؤمن الَّذي يكتمل حسُّه، ويتعمَّق يقينه بالله، يندفع إلى العمل الصالح رغبة في أن يراه الله حيث يحب. ولهذا يُطَمْئن الله عباده بأنه مطَّلعٌ ومشاهد، ورقيبٌ ومحاسب: {وما تفعلوا من خيرٍ يَعلَمْه الله} وهذا يشمل كلَّ عملٍ صالح في أيِّ وقت وفي أيِّ مكان.
ولعل من أروع آثار الحجِّ الاجتماعية أنه مؤتمر عام لاجتماع أكبر عدد ممكن من أفراد الأمَّة الإسلامية، ليشهدوا المنافع الجمَّة الَّتي تعود عليهم بالخير والبركة، وتستوي في ذلك المنافع الروحية والاقتصادية والسياسية. ويمكننا أن نلمح في كلمة (منافع) الواردة في صيغة النكرة في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} إشارة إلى أن المنافع المكتسبة من الحجِّ، متعدِّدة ومختلفة باختلاف الأزمنة، واختلاف النواحي والمجالات.
فالحجُّ مناسبة للتعارف بين أفراد الشعوب الإسلامية، ولتوحيد غاياتهم، ليصلوا بذلك إلى حياة القوَّة والعزَّة والعلم والعمل، وذلك نتيجة الفائدة الَّتي يحصلون عليها من تبادل الآراء المختلفة والثقافات المتنوِّعة. كما أن الحجَّ موسم لعقد المعاهدات والاتفاقيات، ودراسة الوسائل الممكنة لتيسير التعاون الاجتماعي والاقتصادي، وتقوية اللُّحمة بين أقطار المسلمين على اختلاف جنسياتهم وألوانهم.
والله تعالى يحدِّد في هذه الآية الأخلاق الأساسية الَّتي تقوم عليها رحلة الحجِّ التعبُّدية، ثمَّ يلفت الانتباه إلى رحلة الحياة فيأمر المؤمنين بالتزوُّد، استعداداً لها بزادٍ يخصُّ الجسد والروح معاً، فأمَّا زاد الجسد فهو الحلال من الطعـام والشـراب واللباس، وأمَّا زاد الروح ـ وهو الأهم ـ فهـو تقوى الله عزَّ وجل والإكثار من ذكره، لأن الذكر غذاء القلب والروح، ونفعُه لا ينقطع في الدنيا ولا في الآخرة. وإذا كانت ثمار هذا الزَّاد تتجلَّى بوضوح في مواسم العبادة كالحجِّ، فحريٌ بالإنسان أن يثابر عليه طيلة حياته، ويبقي قلبه في حالة اتصال دائم مع حضرة الله، فلا يغفل عنه، ولا ينصرف عن مراقبته، بل يتوجَّه إليه بالخوف والحبِّ معاً ليحظى برضاه وينال نعيمه، وبذلك تستمر نتائج مدرسة الحجِّ بالتفاعل في نفس الحاجِّ في شؤون حياته كافَّة، حتَّى يلقى وجه ربِّه الأعلى، وحينها سوف يرضى بإذن الله.
من ذلك كلِّه نستشرف آفاقاً جليلة نُلخِّصها بما يلي:
1 ـ الإسلام سلسلة متَّصلة من التعاليم والأحكام في غاية الدقَّة والانضباط، لا تنفكُّ عن النظام الَّذي يسيِّر هذا الكون، لذلك كانت فروضه انعكاساً حقيقياً لهذا النظام. والحجُّ حلقة من هذه السلسلة، موقوت بزمن معلوم لا يصحُّ إلا فيه. وفي ذلك كلِّه تعليم للناس أن موازين الأمور سواء منها الدِّينية أو الدنيوية، لا تستقيم إلا بالنظام والانضباط، ومحورها جميعاً هو حسن استثمار الوقت والزمن.
2 ـ الحجُّ تجمُّع بشري مؤمن مليء بالمعاني والقيم، يحكمه سلوك وآداب معيَّنة تجعل الحاجَّ يصل بها إلى الغاية المرجوَّة منه. ومن هذه الآداب: العزوف عن المعاشرة الزوجية وتجنُّب دواعيها، والامتناع عن الظلم والبغي، والتجافي عن الخوض في الجدالات والمهاترات الَّتي توقع البغضاء بين الناس، وتجرُّهم إلى الخلافات والصراعات.
3 ـ الإحرام هو أحد الشعائر الَّتي يقوم بها الحاجُّ قبل شروعه بالحجِّ، يرمز إلى خلع كلِّ ما له علاقة بالفروق الاجتماعية، وهو بمثابة صكِّ المساواة بين سائر الناس، من كلِّ الأجناس والطبقات، يوقِّعه الحاجُّ بملء إرادته، ونفسه زاخرة بالتواضع والرِّضا.
4 ـ إن الله عالمٌ بصير لا تخفى عليه خافية، وهو كريم مع عباده يكافئ المحسن بأحسن ممَّا قدَّم.
5 ـ العاقل يحمل معه من المؤونة في سفره ما يكفيه ويوفِّي جميع احتياجاته، إن لم يكن فوق ذلك. وينبغي على الإنسان أن يتزوَّد في رحلة سفره في هذه الدنيا، والَّتي تنتهي به عند منعطف الموت إلى الدار الآخرة، بكلِّ ما يكفل له النجاة والسعادة فيها، وخير ما يتزوَّد به هو التَّقوى، لأنها تعني الاجتهاد في كسب رضا الله عزَّ وجل، والابتعاد عن كلِّ ما يغضبه، ولا يتَّقي الله إلا مَنِ استنار قلبه بالإيمان واستضاء عقله بالهداية.
وقبل إنهاء هذا الفصل تجدر الإشارة إلى موضوعين هامين يتعلَّقان بالحجِّ هما: الهدي، وقدسيَّة البيت الحرام والكعبة المشرفة، ومنزلتهما المباركة، ونجمل حديثنا عنهما في الصفحات التالية بإذن الله.
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائِرِ الله لكم فيها خيرٌ فاذكُروا اسم الله عليها صَوَافَّ فإذا وَجَبتْ جُنُوبُها فَكُلوا منها وأَطعموا القانِعَ والمُعْتَرَّ كذلك سخَّرناها لكم لعلَّكم تشكرون(36) لن ينالَ الله لُحُومُهَا ولا دِماؤُها ولكن يَنالُهُ التَّقوى منكم كذلك سخَّرَهَا لكم لِتُكَبِّروا الله على ما هداكم وبشِّرِ المحسنين(37)}
ومضات:
ـ إن تقديم الذبائح يعني منح الجائع الفقير فرصة يحصل فيها على ما يُمسِكُ رمقه لأشهر طويلة؛ وبهذا فإن الذبح ليس مجرد عمل تقليدي تعبُّدي وإنَّـما هو سلوك اجتماعي تعاوني. وخير مناسبة يتمُّ فيها هذا العمل هو الحج، ذلك المؤتمر السنوي العام الَّذي يجتمع فيه الغنيُّ والفقير والمكتفي والجائع، فيرى الغنيُّ بعينه حلاوة تقديم القربات إلى الله تعالى في إكرام عياله، وإهدائهم من نعم الله الَّتي تفضَّل بها عليه، وجعلها أمانة في يده وفي أيدي الأغنياء.
ـ الغاية من تقديم لحوم الذبائح للفقراء مع إخلاص النيَّة لله فيها؛ إتمام شعائر الله وتعظيمها، فالله تعالى غنيٌّ عن الصدقات والأضحيات، وهو المتفضِّل برحمته على المخلوقات أجمعين.
في رحاب الآيات:
الهدي هو ما يهدى من الأنعام إلى الحرم تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل، وهي من شعائر الله في الحجِّ، وقد أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النَّعم، والنَّعم هي الإبل والبقر والغنم، ذكراً كانت أو أنثى، وللمرء أن يهدي للحرم ما يشاء منها، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، وكان هديُه هديَ تطوُّع. وأقلُّ ما يجزئ عن الواحد شاة أو سُبْعُ بَدَنَة (ناقة)، أو سُبع بقرة، فإن البقرة أو الناقة تجزئ عن سَبْعَة. قال جابر رضي الله عنه: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة أشخاص، والبقرة عن سبعة» (رواه أحمد ومسلم).
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحبُّ إلى الله من إهراق دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً» (أخرجه ابن ماجه والترمذي والبغوي في شرح السنة). كما روي عن جابر رضي الله عنه قال: «شهدتُ المُصَلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى خطبته نزل عن منبره وأتى بكبش فذبحه بيده وقال: بسم الله والله أكبر هذا عني وعن من لم يضحِّ من أمَّتي» (أخرجه الترمذي). وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «قالوا: يارسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: سُنَّة أبيكم إبراهيم، قالوا: فمالنا فيها يارسول الله؟ قال: بكلِّ شعرة حسنة، قالوا: فالصوف؟ قال: بكلِّ شعرة من الصوف حسنة» (أخرجه ابن ماجه وأحمد بن حنبل والحاكم والبيهقي في السنن)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ياأيها الناس ضحُّوا وطيبوا بها نفساً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يوجِّه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة» (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه).
$ أحكام الهدي:
ينقسم الهدي إلى مستحبٍّ وواجب؛ فالهدي المستحب للحاجِّ المُفْرِد ـ وهو الحاجُّ الَّذي أحرم بالحجِّ فقط ــ والمعتمر المفرد. أمَّا الهدي الواجب فأقسامه كالآتي:
1 ـ واجب على القارن والمتمتِّع؛ والقارن هو الحاجُّ الَّذي أحرم بالحجِّ والعمرة بنيَّة واحدة، والمتمتِّع هو كلُّ من أحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحجِّ قبل أن يحجَّ، وكان موطنه خارج نطاق الحرم، ثمَّ تحلَّل وأحرم بالحجِّ بعد ذلك.
2 ـ واجب على من ترك واجباً من واجبات الحجِّ، كَرَمْيِ الجمار والإحرام من الميقات، والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، أو منى، أو ترك طواف الوداع.
3 ـ واجب على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام غير الوطء، كالتطيُّب والحلق، أمَّا الوطء فإنه يفسد الحجَّ إن كان قبل التحلُّل الأصغر.
4 ـ واجب بالجناية على الحَرَمِ كالتعرُّض لصيده أو قطع شجره.
$ شروط الهدي:
1 ـ أن يكون ثنِيّاً إذا كان من غير الضأن، أمَّا الضأن فإنه يجزئ منه الجَذَع فما فوقه، وهو ما له ستة أشهر وكان سميناً.
والثني من الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر: ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة تامَّة، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه.
2 ـ أن يكون سليماً، فلا تجزئ فيه العوراء ولا العرجاء ولا الجرباء ولا العجفاء (الهزيلة)، وعن الحسن رضي الله عنه ، عن أبيه ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: (إذا اشترى الرجل البَدَنة، أو الأضحية، وهي وافية فأصابها عور أو عرج أو عجف قبل يوم النحر فليذبحها وقد أجزأته) (رواه سعيد بن منصور).
$ استحباب اختيار الهدي:
روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول لبنيه: يا بَنِيَّ لا يهدِ أحدكم الله تعالى من البُدن شيئاً يستحيي أن يهديه لكريمه، أي لحبيبه المكرَّم العزيز لديه، فإن الله أكرم الكرماء وأحقُّ من اختير له.
$ إشعار الهدي وتقليده:
الإشعار: هو أن يشقَّ أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة، حتَّى يسيل دمها، ويجعل ذلك علامة لكونها هدياً فلا يُتعرض لها.
والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها، لُيعرف بها أنه هدي. وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم غنماً وقلَّدها، وبعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه عندما حجَّ سنة تسع. وثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قلَّد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة وقت الحديبية.
والحكمة من الإشعار والتقليد تعظيم شعائر الله وإظهارها، وإعلام الناس أنها قرابين تساق إلى بيته، وتُذبح له ويُتَقَرَّب بها إليه.
على أنه يجوز ركوب البُدن والانتفاع بها لقوله تعالى: {لكم فيها منافِعُ إلى أجلٍ مُسمَّىً ثمَّ مَحِلُّها إلى البيتِ العَتيق} (22 الحج آية 33).
$ الذبح:
1ـ وقت الذبح: اختلف العلماء فيه، فعند الشافعي أن وقت ذبح الهدي يوم النحر، وأيَّام التشريق، لقوله صلى الله عليه وسلم : «وكلُّ أيَّام التشريق ذبح» (رواه أحمد) فإن فات وقته، ذُبح الهدي الواجب قضاء. وعند مالك وأحمد، وقت ذبح الهدي أيَّام النحر، سواء أكان ذبح الهدي واجباً أم تطوُّعاً، وهذا رأي الأحناف بالنسبة لهدي التمتُّع والقران.
2ـ مكان الذبح: لا يُذبح الهدي سواء كان واجباً أم تطوُّعاً إلا في الحرم، وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه. عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مِنى مَنحَر وكلُّ المزدلفة موقف، وكلُّ فجاج مكَّة طريق ومنحر» (رواه أبو داود وابن ماجه) والأَوْلى بالنسبة للحاجِّ أن يذبح بمنى، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة، لأنها موضع تَحَلُّلِ كُلٍّ منهما.
3ـ كيفيَّة الذبح: يجب أن تتمَّ عملية الذبح بكلِّ مهارة وتلطُّف، فعن شداد بن أوس في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرِح ذبيحته». ولا يجوز الأكل من البَدَنة (الناقة أو البقرة) إذا نُحرت، حتَّى تموت وتبرد حركتها، لقوله تعالى: {فإذا وجَبَتْ جُنوبُها فَكلوا منها وأطعموا القانعَ والمُعْتَرَّ}.
$ الأكل من لحوم الهدي:
أباح الله تعالى للمهدي الأكل من لحوم الهدي فقال: {..فكلوا منها وأطعموا البائِسَ الفقير} (22 الحج آية 28) وهذا الأمر يتناول بظاهره هدي الواجب، وهدي التطوُّع. وللمُهدي أن يأكل من هديه الَّذي يُباح له الأكلُ منه أيَّ مقدار يشاء بلا تحديد، وله كذلك أن يهدي ويتصدَّق. وقيل يأكل النصف ويتصدَّق بالنصف، وقيل يقسمه أثلاثاً: فيأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدَّق بالثلث. وقد خصَّت الآية الكريمة البُدن بالذِّكر لأنها أعظم الهدي، وأبانت أن الله أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيراً وهي حيَّة تُركب وتُحلب، وهي ذبيحة تُهدى وتُطعم، وهذا يستوجب شكر الإنسان لربِّه، كما يستوجب أن يُذكر اسم الله عليها، ويتوجَّه بها إليه وهي تُهيَّأ للنحر بِصَفِّ أقدامها، فإذا اطمأنت إلى الأرض بموتها، أكل منها أصحابُها استحباباً، وأطعموا الفقير القانع الَّذي لا يسأل، والفقير المُعترَّ الَّذي يسأل؛ وهكذا سخَّرها الله للناس ليشكروه على ما قدَّر لهم فيها من الخير حيَّة وذبيحة.
وقد بيَّن الله لنا الحكمة والهدف من ذبح الأنعام ونحرها بعد ذكر اسم الله عليها في قوله سبحانه: {لن ينالَ الله لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُه التَّقْوى منكم} أي لن يصل إلى الله سبحانه شيء منها، إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجُّهاتها، والله قد هدى المؤمنين إلى توحيده والتوجُّه إليه، وإدراك حقيقة الصلة بينه وبينهم، وحقيقة الصلة بين العمل والنيَّة. فقد بَشَّر بالجنَّة المحسنين الَّذين يحسنون التصوُّر، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة به في كلِّ نشاط من نشاطات الحياة. وهكذا فإن المسلم لا يخطو في حياته خطوة، ولا يتحرَّك في ليله أو نهاره حركة إلا وهو ينظر فيها إلى الله، ويجيش قلبه بتقواه، ويتطلَّع فيها إلى رضاه، فإذا الحياة كلُّها عبادة، تتحقَّق بها إرادة الله من خَلْقِ العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض، ويُشِعُّ منها النور فيصلُ إلى السماء وينالُ أهلُها البشرى في الدنيا والآخرة.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {وإذ جَعَلنا البَيتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وأَمْناً واتَّخِذوا من مقَامِ إبراهِيمَ مُصَلّىً وعَهِدنَا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طَهِّرا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكِفينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ(125) وإذ قال إبراهيمُ رَبِّ اجعَل هذا بَلَداً آمِناً وارزُق أهلَهُ من الثَّمَراتِ من آمَنَ منهُم بِالله واليَومِ الآخِر قال ومن كَفَرَ فأُمَتِّعُهُ قَليلاً ثمَّ أضطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وبِئسَ المَصِيرُ(126)}
سورة إبراهيم(14)
وقال أيضاً: {رَبَّنا إنِّي أسكنْتُ من ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غيرِ ذي زرْعٍ عند بيتكَ المُحَرَّمِ ربَّنا لِيُقيموا الصَّلاةَ فاجعلْ أفئدةً من النَّاس تهوي إليهم وارزُقْهُم من الثَّمرات لعلَّهُم يشكرون(37)}
ومضات:
ـ شرَّف الله تعالى الكعبة العظيمة بأن جعلها مهوى لأفئدة المؤمنين، يُقْبِلون إليها من كلِّ جانب، وجعل إقامتهم حولها أَمْناً وسلاماً.
ـ كرَّم الله تعالى سيدنا إبراهيم، بأن جعل مقامه مصلّىً للناس.
ـ أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم وابنه إسماعيل، أن يطهِّرا البيت الحرام من الأرجاس، ليكون محراباً لعبادة الله وحده.
ـ عندما طلب إبراهيم عليه السَّلام من حضرة الله أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى مكَّة، كان المكان قفراً خالياً من أيِّ بشر سوى إسماعيل ووالدته، واليوم يأوي إلى ذلك المكان ملايين الناس في كلِّ عام حُجَّاجاً ومعتمرين، استجابة من الله تعالى لدعاء الخليل عليه السَّلام.
ـ إن هذه الصورة من الإجابة الإلهيَّة، تُشَجِّعُنا على المواظبة على الدعاء الحارِّ، ولو كنَّا في ظروف صعبة جداً، لا نرى فيها أيَّ أمل بتحقيق مرادنا، ذلك لأن عطاء الله غير محدود، وبغير حساب، ولا تحدُّه قوانين البشر وفهمهم الظاهري للأمور.
ـ الخلق كلُّهم عيال الله، والرزق رحمة منه تصيب البَرَّ والفاجر على السواء، من آمن ومن كفر، ولكنَّها تكون خاصَّة بالمؤمنين في الآخرة، وتبقى جهنَّم مثوى للكافرين.
في رحاب الآيات:
الكعبة المشرَّفة هي أوَّل بيت أمر الله تعالى بإقامته على الأرض من أجل عبادته، وعهد إلى نبيِّه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السَّلام إقامة بنائه وتجديد ركائزه وتطهيره، وأمرهما أن يحمياه من كلِّ ما يمنع تحقيق هذه الغاية، لتكون الكعبة بذلك ملتقى للمؤمنين، يُقبلون عليها من كلِّ جانب، ويحظون بالأمن في رحابها، فهي أكبر محطَّة للتجمُّع الإيماني في الأرض كافَّة. وفضلاً عن ذلك، فقد اختصَّ الله تعالى هذه البقعة المقدَّسة، بخصائص انفردت بها دون غيرها، ففيها الصفا والمروة، وزمزم، والحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السَّلام. وهي أيضا مراكز للإشراق الروحي، ومكان اجتماع المسلمين في الحجِّ، إذ يأتون إليها من أصقاع الأرض ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله تعـالى في أيَّامٍ معـلومات، وهذا دليلٌ كافٍ على شـرف هذا البيت، وأحقِّـيَّته في أن يكون قبلة للمسلمين.
وقد أوصى الله المؤمنين أن يتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى، يتوجَّهون فيه إلى الله تعالى لما له من حرمة وقداسة وطهارة، وتذكيراً لهم بانتسابهم إلى شجرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السَّلام؛ الَّذي استجاب لأمر ربِّه، فأخذ زوجته وولده إسماعيل الَّذي وهبه الله إيَّاه بعد أن بلغ من الكبر عتيّاً، وبعد أن اشتعل منه الرأس شيباً، هذه الثمرة الَّتي جاءت بعد انتظار مديد وقلق طويل، يحملها الأب ليتركها في قلب الصحراء امتثالاً لوحي الله. وبعد أن يفرغ من مهمَّته، ويترك زوجته وولده غريبين في أرض قفراء موحشة لا أثر فيها لحياة، يرفع بصره نحو السماء، وقلبه مفعم بالتسليم لأمر الله، وينعقد الدعاء على لسانه آياتٍ محكماتٍ تُعلِّم المؤمن كيف يكون أدبه مع الخالق، وكيف يكون الدعاء. لقد دعا إبراهيم ربَّه أن يجعل هذا البيت المتواضع، المشيَّد في صحراء مقفرة، مهوى للأفئدة، تحنُّ إليه القلوب حُبّاً وشوقاً، وتُهْرَع إليه من أصقاع الأرض الدانية والقاصية، لتجد فيه ملاذاً لروحها القلقة، وطمأنينة وسكينة في كنف الله ورعايته.
وقد تمَّ اختيار المكان الَّذي ينبغي لإسماعيل وأمِّه أن يسكنا فيه، بوحي من الله جلَّ وعلا، حيث يحفُّه الأمن والسَّلام، وتقام فيه الصَّلاة على أصولها، وتكون بمثابة الخلوة مع الله لتربية النفس وعقد الصلة بينها وبينه، وتفريغ القلب من الأغيار، وقطع جميع علائق الدنيا. وهذه الخلوة لابدَّ منها لكلِّ مؤمن حتَّى يؤهَّل لاستقبال العطاء الإلهي والقيام بالتكاليف؛ إنها تَهْيِئَةٌ لشحن القلب بنور الله بعد تفريغه وتنظيفه من الأغيار ليكون أهلاً لحمل الأمانة. وعلى الرُّغم من أن إبراهيم عليه السَّلام قد خصَّ المؤمنين بدعائه، فإن الله بفضله وإحسانه جعل رزق الدنيا شاملاً للناس أجمعين؛ من كان مؤمناً ومن كان كافراً، لكنَّه اختصَّ المؤمنين بنعيم الآخرة دون سواهم، والله كريم حكيم.
وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعاءه، فجعل البيت الحرام أماناً وأمناً، وسلاماً وسلماً، وجعل القلوب تهوي إليه، والرحال تُشدُّ إلى أرضه، والأفئدة تتعانق في رحابه. فليس من مسلم إلا وقلبه معلَّق بالكعبة، وترى المسلمين يتوجَّهون إليها من الآفاق في أيَّام الحجِّ، مدفوعين بقوَّة لا يستطيعون مقاومتها، فهي أشبه ما تكون بالغريزة أو الإلهام، وقد أراد الله تعالى لهذا التجمُّع البشري الهائل أن يُثمر عملاً جماعياً يعود بالخير والنتائج الإيجابيَّة على المؤمنين في أصقاع الأرض، وفي جميع دروب الحياة، وأن يكون وسيلة تحلُّ مشاكلهم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة. فهو مؤتمر سنوي يجتمع فيه القاصي والداني، والأبيض والأسود تحت مظلَّة الإيمان، حيث يتداولون أمورهم، ويستشعرون الوحدة والقوَّة بتجمُّعهم وإخائهم، فيشكرون الله تعالى ويحمدونه، على عظيم فضله وإحسانه، بأن هداهم إلى هذا النور وهذا الإخاء، الَّذي ما كانوا ليهتدوا إليه لولا أن هداهم الله.
وقد نسب الله ـ تعالى ـ البيت إلى ذاته العليَّة فقال: {بيتي} تعظيماً له وتكريماً؛ لذلك نرى أن النفس المؤمنة تتوق إليه وترتاح لرؤيته، ولقد جاشت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى عند رؤية الكعبة وقال: «ياعمر! هنا تُسْكَب العبرات» (أخرجه ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما).
ثم أشارت الآية إلى صنوف العابدين في البيت الحرام وهم: الطائفون حول البيت، والمعتكفون عنده للعبادة، والمصلُّون الَّذين يحفُّهم تعالى برحمته وفضله، وفي ذلك يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : «يُنزِّل الله كلَّ يوم على حجَّاج بيته الحرام عشرين ومائة رحمة ستين للطائفين وأربعين للمصلِّين وعشرين للناظرين» (رواه البيهقي بإسناد حسن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما).
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائِرَ الله ولا الشَّهرَ الحرامَ ولا الهَدْيَ ولا القلائِدَ ولا آمِّينَ البيتَ الحرامَ يَبْتغونَ فضْلاً من ربِّهم ورِضواناً وإذا حللتُمْ فاصطادُوا ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قومٍ أَن صدُّوكم عن المسجدِ الحرامِ أن تَعْتَدُوا وتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقوى ولا تَعَاوَنُوا على الإثم والعُدوانِ واتَّقُوا الله إنَّ الله شديدُ العقاب(2)}
ومضات:
ـ بيت الله الحرام منطقة أمان، يرفرف عليها السَّلام، ويُظِلُّ من يؤمُّها ويقيم فيها، وهذا السَّلام يشمل الحيوان والنبات إلى جانب الإنسان.
ـ الله تعالى يحبُّ للمؤمن أن يسموَ فوق انفعالاته الشخصيَّة وأهوائه الذاتيَّة، ويُحْسِنَ لمن أساء إليه، وهذه قمَّة الفضائل الإنسانية.
ـ الأمر بالتعاون على البِرِّ والتَّقوى ركنٌ من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن الكريم، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضاً على كلِّ ما فيه فائدة تعمُّ الأفراد والجماعات في دينهم ودنياهم.
في رحاب الآيات:
حثَّ الإسلام المؤمنين على ألا يحملهم الهوى والعصبيَّة وعداوة الناس أو ظلمهم لهم على ترك العدل في أمورهم، بل أمرهم بالالتزام به في كلِّ حالة، وهو بذلك يكفل العدل المطلق لكلِّ الناس كما يكفله لأبنائه، وهذه المقوِّمـات تجعل الإسـلام دينـاً عالـميّاً، يمكن للناس جميعاً الاحتماء بتعاليمه لنيل حقوقهم، سواء كانوا من معتنقيه أم من غيرهم. فهو لا يطالبنا بإقامة العدل فيما بيننا فقط، بل بإقامته بيننا وبين غيرنا حتَّى ولو كانوا أعداءً لنا، وهذا قِمَّة ما يمكن أن يصل إليه الناس في ضبط النفس وسماحة القلب، تلك القمَّة الَّتي لابدَّ من أن ترقى إليها الأمَّة، المكلَّفة من ربِّها، بأن تقوم على هداية البشريَّة، وترتفع بها إلى الأفق الكريم الوضيء.
وقد نهى الله تعالى المسلمين عن أن يجعلوا شعائر الله (الَّتي كان العرب يتخذونها منذ الجاهليَّة، بما توارثوه من دين إبراهيم الحنيف) حلالاً لهم يتصرَّفون فيها كيف يشاؤون، أو يتهاونون بحرمتها، أو أن يُحِلُّوا الأشهر الحرم، وهي أربعة: رجب (لأداء العمرة)، وذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم (للقيام بشعائر الحج). وقد كانت العرب تُعظِّم هذه الأشهر وتحرِّم القتال فيها، فمن وُجد في غير هذه الأشهر أصيب منه، إلا أن يكون مشعراً بَدَنَةً أو بقرة أو مُحرِماً بعمرة إلى البيت الحرام، فحينئذٍ لا يتعرَّض له أحد. وقد أمر الله تعالى المسلمين بتقرير هذا المعنى، فلا يقاتلون فيها أحداً ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين، فإنَّ لهم حينئذٍ أن يردُّوا الاعتداء، وألا يَدَعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحـرم ـ وهم لا يرعون حرمتها ـ ويستترون خلفها، للنيل من المسلمين، ثمَّ يذهبون ناجين بعملهم.
ونهى المسلمين كذلك عن أن يُحِلُّوا الهدي الَّذي كان يُهدى من غير المسلمين إلى مَحِلِّه من بيت الله، فلا يجوز لمسلمٍ غَصْبُهُ أو ذَبْحُه أو حَبْسُه، كما يَحْرُمُ عليهم التعرُّض بالقتل أو الصدِّ لكلِّ من قصد بيت الله بالزيارة رغبة في مرضاة الله، وسعياً وراء الرزق والكسب المادي. فالمسلمون ملزمون بالتعامل مع جميع الناس بالإحسان، وفي كلِّ زمان ومكان، وينبغي عليهم التقيُّد بهذا الالتزام بشكل أخصَّ في بيت الله الحرام، وفي الأشهر الحرم، وبغَضِّ النظر عن العداوة الَّتي قد تكون أحياناً بينهم وبين بعض الفئات.
وكان المشركون قد صدُّوا المسلمين عن البيت الحرام عام الحديبية، فنهى الشارع الحكيم أن يعتدوا عليهم عام حجَّة الوداع حين ملكوا القدرة عليهم. وقد نزلت هذه السورة بعد صلح الحديبية، حيث يدعوهم الله تعالى فيها ليرتفعوا إلى مستوى الدَّوْر الَّذي أناطه بهم، إنه دور هداية الناس بلا تأثُّر بالمشاعر الشخصيَّة والعواطف الذاتيَّة، والملابسات العارضة في الحياة. يدعوهم لأن يرتقوا فوق العدل نفسه، ليصلوا إلى مرتبة التسامح وضبط النفس مع من اعتَدَوا عليهم، وتركوا في نفوسهم جروحاً وآلاماً، وخلَّفوا في قلوبهم الكره والبغض، فإساءة المسيئين شيء، وواجب الأمَّة المسلمة شيء آخر. إنها تَبِعَةُ حمل الرسالة، التبعة الَّتي لابدَّ للمؤمنين أن يتجاوزوا فيها كلَّ ما ينالهم من الأذى، ليقدِّموا للناس نموذجاً رائعاً من السلوك المتسامي، الَّذي يصنعه الإسلام وينادي به، وبهذا يعكسون عن الإسلام صورته الحقيقيَّة الَّتي تجذب الناس إليه وتحبِّبهم فيه. وهو تكليف شاقٌّ، ولكنَّه لا يرهق النفس المؤمنة، ولا يحمِّلها فوق طاقتها، فهو يعترف لها بأن من حقِّها أن تغضب ومن حقِّها أن تكره، ولكن ليس من حقِّها أن تعتدي في فورة الغضب وشدَّة الشنآن. ويهيب بالمؤمن أن يملك نفسه عند الغضب، ويعدُّ ذلك بطولة، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الشديد بالصُّرَعَة ـ الَّذي يصرع الناس ويغلبهم ــ إنما الشديد الَّذي يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه).
ولا يقف نُبْلُ الإسلام عند هذا الحد، بل إنه يتجاوزه ليسمو بالمؤمن إلى درجة تتفجَّر فيها ينابيع الخير في نفسه، فيتحوَّل من مقام العدل والإمساك عن الظلم والاعتداء، إلى مقام التسامح والإحسان إلى من أساء إليه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ولا تّسْتَوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِئَةُ ادْفَعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينكَ وبينَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّه وَليٌّ حميم} (41 فُصِّلَتْ آية 34). وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يارسول الله إن لي قرابة أصِلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنَّما تُسِفُّهم الملَّ ـ أي الرماد الحار ـ ولا يزال معك من الله تعالى ظهيرٌ عليهم مادمت على ذلك» (رواه مسلم).
وهذا الخُلق العظيم لا يمكن أن يتحلَّى به إلا من وصفهم الله تعالى بالمحسنين، الَّذين قال عنهم: {..والكاظمينَ الغيظَ والعَافينَ عن النَّاسِ والله يُحبُّ المُحسنين} (3 آل عمران آية 134). وأشار إلى أن هذا من الأمور الَّتي يجب الثبات عليها بحزم وعزيمة فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأمور} (42 الشورى آية 43).
وهكذا فإن الله تعالى يعطي الأمان للناس جميعاً في حرم بيته الحرام، ويجعله منطقة تأمن فيها الحيوانات والطيور والأشجار فضلاً عن الإنسان، ويُحَرِّمُ التعرُّض لأيٍّ منها بالأذى، أو بالترويع أو العدوان، فلا صيد إلا بعد انتهاء مدَّة الإحرام وخارج البيت الحرام. أمَّا في البيت الحرام فسلامٌ مطلق يرفرف على كلِّ من في هذا البيت استجابة لدعوة إبراهيم عليه السَّلام، ويرفرف على المنطقة كلِّها أربعة أشهر في العام.
وينهى الإسلام عن كلِّ ما يفرِّق الأمَّة المؤمنة، ويأمر بكلِّ ما يدعم وحدتها وتماسكها، ولهذا أُمِرَتْ بالتعاون فيما بينها؛ فإن كان تعاونها في دائرة البِرِّ والتَّقوى فهو تعاون محمود وعمل خيريٌّ تثاب عليه. أمَّا إذا صُرِفَ لغير ذلك ووُجِّه نحو الفساد والإفساد، فهو تعاون مذموم وعمل غيرُ شرعي، يُعَاقَبُ عليه كلُّ من يشجِّعه أو يقوم به. وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا البِرَّ الَّذي يجب التعاون عليه، وبيَّن لنا ما هو الإثم المنهي عنه فقال: «البرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطَّلع عليه الناس» (رواه مسلم والترمذي عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه ).
والأمر بالتعاون على البرِّ والتَّقوى من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن الكريم، إذ يوجب على الأفراد أن يعين بعضهم بعضا على كلِّ ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وعلى كلِّ عمل من أعمال التَّقوى الَّتي يدفعون بها المفاسد والمضارَّ عن أنفسهم وعن غيرهم، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على كلِّ ما فيه الخير والفلاح للجميع.
وهكذا استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الربَّاني أن تُروِّض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القويَّة، والاعتياد على هذا السلوك القويم، بعد أن كان المنهج الجاهلي المسلوك والمبدأ المشهور: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، حيث كانت حميَّة الجاهلية مسيطرة، ونعرة العصبية مستولية، وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ولا تستمدُّ تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزانه. وجاء الإسلام ليربط القلوب بالله ويربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، فأخرج العرب والبشرية كلَّها، من حميَّة الجاهلية ونعرة العصبية وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية، في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء، إلى التعامل مع جميع الخلق بالعدل بل بالإحسان والحلم وسعة الصدر والصفح الجميل.
وهكذا وُلِد الإنسان من جديد في الجزيرة العربية، ولد الإنسان الَّذي يتخلَّق بأخلاق الله، وكان هذا هو المولد الجديد للعرب، كما هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض. والمسافة الشاسعة بين دَرَكِ الجاهليَّة المتردِّية فيه، وأفق الإسلام الشاهق، هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وقول الله العظيم: {ياأيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بالقِسطِ ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنآنُ قومٍ على ألاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتَّقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون} (5 المائدة آية 8).