الـبــاب السادس
التربية الروحيَّة في الإسلام
لم يقتصر دين الإسلام على مجرَّد الدعوة للإيمان بالله فحسب؛ بل جاء للناس بمنهج تربوي كامل وشامل، لشتَّى فروع التربية الَّتي تستند إليها المجتمعات الإنسانية، في عمليَّة التقدُّم والتطوُّر نحو الأفضل، وفي سـبيل تحقيق ما يصبو إليه أفرادها من سعادة ونجاح، وطمأنينة وسلام.
إن التربية الروحيَّة نواة التربية الإسلامية وجوهرها، وقد قامت على قواعد قويَّة، وأسس متينة من شأنها توطيد أواصر الصلة بين المسلم وربِّه، وربط أسباب دنياه بأسباب آخرته. وقد رافقتها التربية الأخلاقية كظلِّها، ثمَّ أُكملتا بالتربية الاجتماعية، الَّتي كانت بمثابة الطابق الثالث في بناء التربية في الإسلام. وإن أهمَّ طاقة تنير هذا البناء : دوام ذكر الله وتسبيحه، وتلاوة كتابه، والاستقامة على عبادته، والتضرُّع إليه بالدعاء.
إن من أبرز سمات تربية الإسلام الروحية، الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، وأقرب مثال على ذلك العبادات الَّتي تُعنى بالجانبين الروحي والمادي في الإنسان، وقد جُعلت متنوِّعة ومتكرِّرة ليبقى المسلم على طهارة روحية متجدِّدة تقرِّبه من الله، وتجذبه إليه كلَّما نأت به ماديَّات الحياة بعيداً عن الحضرة الإلهية.
وقد ظهرت ميزة الاعتدال بشكل أوضح في كثير من الآيات القرآنية؛ ففي طائفة منها نجد حضّاً للمؤمنين على طلب المنزلتين الروحيَّة والماديَّة معاً كقوله تعالى: {وابْتَغِ فيما آتاكَ الله الدَّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدُّنيا وأَحْسِن كما أَحْسَن الله إليك ولاتَبْغِ الفَسادَ في الأَرضِ إنَّ الله لا يحبُ المُفسِدينَ} (28 القصص آية 77).
وفي طائفة أخرى من الآيات يرشد الله المؤمنين لكي يَجْمَعوا في دعائهم بين طلب الدنيا وطلب الآخرة وذلك في قوله جلَّ وعلا: {..فَمِنَ النَّاسِ من يقول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنيا وما له في الآخرةِ من خَلاق * ومنهم من يقولُ ربَّنا آتِنَا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّار * أولئك لهم نصيبٌ ممَّا كَسَبُوا والله سريعُ الحِساب} (2 البقرة آية 200ـ202). فالوسطيَّة بين الروحانيَّة المتطرِّفة، والماديَّة المفرطة الجامحة، أمر تستدعيه حياة المجتمع، والإسلام هو الَّذي تحقَّقت فيه هذه الميزة، وتفرَّد بها عن غيره، قال تعالى: {وكَذلكَ جَعَلنَاكُم أمَّة وَسَطاً..} (2 البقرة آية 143).
وفي هذا الباب سنتناول أبرز الدعائم الَّتي قامت عليها تربية الروح في الإسلام، ونوجزها ضمن عدد من الفصول، ثمَّ ننتقل إلى التربية الأخلاقية في الإسلام بإذن الله.
الفصل الأوَّل:
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اذكروا الله ذِكراً كثيراً(41) وسبِّحوه بُكْرَةً وأصيلا(42) هوَ الَّذي يُصلِّي عليكُمْ وملائِكَتُهُ ليخرجَكُم من الظُّلمات إلى النُّورِ وكان بالمؤمنين رحيماً(43) تحيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَونَهُ سلامٌ وأَعدَّ لهم أجراً كريماً(44)}
ومضات:
ـ إن ذكر الله تعالى هو قوام الحياة الروحية، وهو العنصر الفعَّال الَّذي يتفاعل داخل كيان الذاكر، ويتَّحد مع ذرَّات القلب ليتحوَّل إلى طاقة نورانيَّة ربانيَّة، تولِّد في روح المؤمن القوَّة والنشاط، وتدفعه للقيام بالمزيد من الطاعات والعبادات والعمل المنتج، وهو عطاء مستمر لا ينقطع، ومن ثمراته خروج المؤمن من الظلمات النفسيَّة والماديَّة إلى رحاب الحقِّ والحكمة والعمل الصالح، وهذا من رحمة الله بعباده وهو أرحم الراحمين.
ـ في الدار الآخرة ـ يوم اللقاء العظيم مع حضرة الله ـ يجد المؤمن كل سلام وتقدير ومحبَّة، مع التكريم في المُقَام، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
في رحاب الآيات:
أعطيات الله تعالى سابقة لعباداتنا، فقد رزقنا العقل لندرك عظمته وقدراته الخلاَّقة، ووهبنا الحسَّ الروحي والفطرة السليمة، لنذوق حلاوة الإيمان، ومنحنا أجساماً قويَّة، كاملة البنية، لنستعين بها على القيام بالعمل المطلوب منَّا، ولنسخِّرها مع جملة الطاقات الَّتي أودعها الله فينا للتحرُّر من ظلمات الجهل والتقاليد، والخروج منها إلى نور العلم والمعرفة واليقين.
ولما كان ذكر الله من أهم الأبواب الَّتي يَلِجُها المؤمن؛ للوصول إلى رحاب المعرفة الإلهيَّة، جاء الحضُّ عليه في آيات من القرآن الكريم، يفوق عددها عدد الآيات الَّتي تحضُّ على غيره من العبادات المحدَّدة بأوقات معيَّنة، كما جاء الأمر بالمداومة عليه في كل حين وعدم الانشغال عنه في أي حال من الأحوال، قال تعالى: {..فاذكروا الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبكم..} (4 النساء آية 103) فهو مطلوب بالليل والنهار، وفي البَرِّ أو البحر، في السفر أو الحضر، في الغنى أو الفقر، في الصحَّة أو السُّقم، في السرِّ أو الجَهْر، وعلى كل الأحوال.
وليس الذكر مجرَّد تحريك للِّسان؛ بل هو اتصال قلبي بالله، ونشاط روحي بنَّاء. والقلب الفارغ من الذكر يبقى لاهياً حائراً مظلماً، ما لم يحصل له الاتصال بالله والأنس بمجالسته، فإذا امتلأ من نور ذكره، صحا صاحبه من لهوه، واهتدى بعد حيرته، فأبصر طريقه وعلم من أين وإلى أين ينقل خطاه. ومن خير ما قيل في تصوير القلوب الخالية من الذكر والقلوب العامرة به، قول أحد العلماء العارفين:
قلـوب إذا منـه خلت فنفوس لأَحْرُف وسواس اللعين طروس
وإِن مُلِّئَت منه ومن نور ذكره فتلك بـدور أشـرقت وشـموس
ولا يزال لسان العبد يلهج باسم الله حتَّى يحصل له الحضور الدائم معه، وحينها يفوز بالشـهود القلبي، فلا يفتر عن مراقبة الله وذكره، إلى أن يحظى باليقين والطمأنينة المطلقَيْن، قال تعالى: {الَّذين آمَنُوا وتَطْمَئِنُ قُلُوبُهم بذِكرِ الله ألاَ بذِكْرِ الله تَطمئِنُّ القُلوب} (13 الرعد آية 28) وإذا غلب الذكر على الذاكر امتزج حبُّ المذكور بروحه، حتَّى تزول الحجب بينه وبين ربِّه، ويلمس حقيقة وجوده بعين البصيرة، فيغدق عليه الحقُّ تعالى من العلوم والأنوار ما يليق بفضله وكرمه.
ويجب أن يكون الذكر مقترناً بالتسبيح الَّذي هو تنزيه لله جلَّ وعلا عما لا يليق به من الصفات، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل التسبيح بقوله: «من قال سبحان الله العظيم نَبتَ له غرس في الجنَّة» (أخرجه ابن مردويه). كما أخرج ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد: سبحان الله قالت الملائكة: وبحمده، وإذا قال: سبحان الله وبحمده، صلُّوا عليه». وثواب الذكر هو صلاة الله وملائكته على العبد الذاكر المسبِّح لله {هُوَ الَّذي يُصَلِّي عَلَيْكُم ومَلائِكَتُهُ..}، وصلاة الله رعاية لعبده، وعناية بأمره، ورفع لدرجاته، وصلاة الملائكة استغفار له ودعاء. وهذا من شأنه أن يخرجه من ظلمات الضلالة إلى نور الله؛ ونور الله واحد متَّصل شامل، وهو يشرق في قلوب المؤمنين، ويغمر أرواحهم، ويهديهم إلى فطرة التَّوحيد الَّتي يقوم عليها الوجود كله، وذلك أجرهم في الدنيا دار العمل، أمَّا أجرهم في الآخرة دار الجزاء فهو الأمان من عذاب الله يوم القيامة، والفوز بالأجر العظيم. والله واسع الرحمة بالمؤمنين حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم إذا أخلصوا وصدقوا في إيمانهم.
وتحيَّة المؤمنين الذاكرين يوم يلقون ربَّهم سلام؛ وهل هناك ما هو أجمل وأصفى من السَّلام؟ سلام من كلِّ خوف، ومن كلِّ تعب، ومن كلِّ كدٍّ، سلام يتلقَّونه من الله تحمله إليهم الملائكة، وهم يدخلون عليهم من كلِّ باب، يبلِّغونهم التحيَّة العلويَّة، إلى جانب ما أَعَدَّ الله لهم من أجر كريم، فياله من تكريم.
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ نُقَيِّضْ له شيطاناً فهو له قرينٌ(36)}
ومضات:
ـ إن نور الله تعالى يحصِّن قلب المؤمن ويضرب حوله سوراً منيعاً يصعب على الشيطان أن يخترقه، ولا يزال هذا السور قائماً ما اسـتقام الذاكر على ذكر الله تعالى. أمَّا من غفل عن الله وقطع اتصاله به، فهو أعزل أجرد لا حول له ولا قوَّة، تغزوه نزغات الشيطان من شتَّى الاتجاهات.
في رحاب الآيات:
قضت سنَّة الله في الكون أن يطرد النور الظلام، فما إن يظهر النور حتَّى يختفي الظلام، وبمجرَّد أن ينحسر النور وينطفئ، يعود الظلام ليحلَّ من جديد. وبذرة النور الإلهي مزروعة في ساحة القلب الإنساني، وهي الفطرة الَّتي أودعها الله تعالى قلوب خلائقه، وهذه الساحة تُشِعُّ وتضيء، وتنبض بالحياة الإيمانيَّة كلَّما مَسَّتها النفحات الإلهية، وتبقى هكذا مضيئة مشرقة طالما بقي لها هذا الاتصال مع حضرة الله، فلا تكتنفها ظلمة أو غفلة.
ولا يتحقَّق الاتصال بحضرة الله تعالى إلا بكثرة ذكره، الَّذي تدخل ضمن دائرته بعض العبادات كالصَّلاة والحجِّ، وتندرج في أنواعه المداومة على قراءة القرآن الكريم بوعي وتبصُّر، وعندها تصبح ساحة القلب مهبطاً للعلوم الربَّانية، وملتقى للأنوار الإلهيَّة، وبهذا يطمئنُّ القلب ويخشع، وينقاد لأوامر الله بكل محبَّة ورغبة. أمَّا إذا أُهمل هذا القلب، وأعرض به صاحبه عن عطاء الله وتجلِّياته، فإنه يغدو نفقاً للشيطان ينفذ من خلاله إلى أعماق نفسه، لينفث فيها سمومه وأفكاره، فيصبح أداة طيِّعة له، فقد أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد وَكَّل الله به قرينه من الجن، قالوا: وإيَّاك يارسول الله؟ قال: وإيَّاي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». فكما أن الظلمات والنور لا يجتمعان في مكان واحد ووقت واحد، كذلك فإن الشيطان لا يمكن أن يدخل قلباً استقرَّ فيه النور الإلهي.
فالقلب إمَّا عرش للرحمن، وإمَّا عشٌّ للشيطان، والشقيُّ المحروم من أهمل قلبه، حتَّى جعل منه بؤرة، ينفث فيها الشيطان وساوسه وشروره، والسعيد الموفَّق من نظَّف سريرته، وطهَّر قلبه فصار منزلاً لأنوار الله، وانتصر بذلك على شيطانه فابتعد عنه ولاذ بالفرار؛ كما كان شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الَّذي قال في حقِّه النبي صلى الله عليه وسلم : «والله إن الشيطان ليفرُّ منك ياعمر» (رواه الشيخان).
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {إنَّما المؤمنونَ الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلون(2)}
سورة الرعد(13)
وقال أيضاً: {الَّذين آمنوا وتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بذكْرِ الله ألا بذكْرِ الله تَطمئِنُّ القلوبُ(28)}
ومضات:
ـ للإيمان علائم وإشارات تدلُّ على صدق الإنسان في ادِّعائه؛ إنه لا يهدأ باله، ولا تسكن نفسه إلا عندما يلزم محراب ذكر الله عزَّ وجل. وإذا ما سمع ذكره من غيره، وتليت عليه آياته انتابه شعور بعظمته وجلاله، وسيطر عليه خشوع يمتزج به رجاء مرضاته، والوجل والخوف من حرمان رتبة القبول عنده.
ـ غريزة الخوف هي إحدى الغرائز الفطرية في النفس البشريَّة، إلا أن التربية الإيمانيَّة تهذِّبها وتوجِّهها نحو الله تعالى وحده، وتخلِّصها من الخوف ممَّا سواه، وليصبح الخوف من الله حافزاً للمؤمن وسبباً لطمأنينته، بدلاً من أن يكون عاملاً مثبِّطاً له.
ـ يجب أن تظهر ثمـرات الذكر والخشـية ـ الَّتي هي خـوف ممزوجٌ بالحـبِّ ـ في سـائر أعمالنا الخاصَّة والعامَّة، كانعكاسات إيمانيَّة طيِّبة لجمال هذا الذكر وصفاته.
في رحاب الآيات:
غريزة الخوف بمعناها الواسع مزروعة في أعماق النفس البشريَّة، غير أن التربية الإيمانيَّة تنظِّم هذه الغريزة وتوجِّهها كغيرها من الغرائز، حتَّى تبقى ضمن إطارها الصحيح ليستفاد منها في إعمار قلب المؤمن بتقوى الله تعالى واستشعار عظمته وهيبته. والخوف من الله نوعٌ من السمو الروحي الَّذي يقرِّب الإنسان من خالقه سبحانه، فتراه كلَّما ازداد منه خوفاً ازداد قرباً إليه لا هروباً. فالمؤمن الوَجِل من الله يخشى أن يخالف أوامره، ولا يغترُّ بالكثير من الأعمال والقربات الَّتي يقوم بها ابتغاء وجهه؛ بل يبقى خائفاً من عدم رضا الله عنها، وعدم اختتامها بخاتمة القبول، وقد قال تعالى في حقِّ هذا المؤمن وحقِّ من كان على شاكلته: {والَّذين يُؤْتُون ما آتَوا وقُلوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون * أولئك يُسَارِعُونَ في الخيراتِ وهُمْ لها سابقون} (23 المؤمنون آية 60ـ61) فكانت هذه الآيات أعظم شهادة لهم من الله، وأصدق تعبير عن حالهم، فهم يستصغرون كل عمل يعملونه من أجله، ويرون أنه أقلُّ بكثير ممَّا يتوجَّب عليهم من فروض الطاعة والولاء لخالقهم، فتراهم يتحرَّقون شوقاً للقيام بمزيد من الطاعات، والمسارعة في فعل الخيرات، ويتسابقون إلى الخير ولا يَدَعُون لحظة تمرُّ دون أن يشغلوها، بذكر أو عبادة أو عمل صالح، أو إصلاح بين الناس، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فمن أحبَّ الله أحبَّ مخلوقاته حُبّاً به، لا فرق في ذلك بين إنسان وحيوان ونبات.
والمؤمنون الذاكرون صفوة مختارة من مخلوقات الله، تنتاب قلوبهم رعشة الإيمان المنعشة؛ كلَّما طرق سمعهم اسم الله، وتستيقظ فيهم عواطف متباينة لكنها سامية، نبيلة، أدناها الحبُّ والشوق، وأعلاها الخوف والخشية، لأنهم يستشعرون عظمة من يقفون على بابه بشكل جليٍّ، وذلك لقوَّة إيمانهم، وشدَّة قربهم منه وكأنهم ماثلون بين يديه، قال تعالى: {..وبَشِّر المُخْبِتِينَ * الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَت قُلوبُهُم..} (22 الحج آية 34ـ35). وهؤلاء المخبتـون ـ أي المتواضعـون المذعنون لله ـ الخاشـعون قد شـفَّت أرواحهم فارتقت، وصفت قلوبهم فاطمأنت، وإذا ما تناهى إلى سمع أحدهم آية من آيات الله تتلى، تواضع وخشع، ولان قلبه وفاض دمعه، واستسلم بكليَّته إلى خالقه. وهذه صورة من صور إعجاز القرآن الكريم في سرعة تأثيره في النفوس، وقوَّة جاذبيته لها؛ إنه يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، فإذا دخل نوره إلى القلب ذاق حلاوته، ووجد في كلماته النورانيَّة المنسجمة، زيادة في الإيمان تبلغ درجة الاطمئنان. وقد وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة من أهل الكتاب عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: {وإذا سمعوا ما أُنْزِل إلى الرَّسُولِ ترى أعينَهُمْ تَفيضُ من الدَّمْعِ ممَّا عَرَفُوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا آمنَّا فاكْتُبْنَا مع الشَّاهِدِين} (5 المائدة آية 83) فمن عرف صغار شأنه أمام عظمة الله، آمن به وبما أرسله إيماناً نقيّاً خالياً من كلِّ شائبة، فلا تسوِّل له نفسه أن يحيد عن دربه، ولا يسوِّغ له قلبه أن يشرك معه شيئاً من مخلوقاته، أو أن يتوكَّل على أحد منها في تصريف شؤونه وأحواله، بل يتوكَّل على الله وحده، ويبذل الأسباب الَّتي يملكها تنفيذاً لتعاليمه سبحانه وتعالى، في حسن التوكُّل، ثمَّ يفوِّض أمره إليه.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {واذكر ربَّكَ في نفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودون الجهرِ من القولِ بالغُدُوِّ والآصال ولا تكن من الغافلين(205) إنَّ الَّذين عندَ ربِّكَ لا يستكبِرونَ عن عبادَتِهِ ويُسبِّحونَهُ وله يَسجُدون(206)}
ومضات:
ـ خير الذكر وأفضله الذكر الممزوج بالخوف، الَّذي يصحبه التضرُّع والتذلُّل لله، مع السكينة والخشية منه عزَّ وجل.
ـ ذكر الله عبادة تتَّصف بكونها دائمةً، ومطلقةً عن قيود الزمان والمكان، فأينما كان المؤمن يجب أن يكون مع الله، وأيُّ وقت يمرُّ عليه يجب أن لا يغفل فيه عن ذكره، لاسيَّما في أوَّل نهاره وفي آخره، بالغدوِّ والآصال.
ـ إن الملائكة الأطهار لا يفترون عن هذه العبادة، ودأبهم التسبيح والسجود، شكراً لله على نعمائه، وتمجيداً لعظمته وكبريائه، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن وحاله.
في رحاب الآيات:
في الآية الكريمة إرشاد وتوجيه إلى مداومة الذِّكر النابض بالخوف والتضرُّع، الخافت الخفي، ويؤيِّد ذلك ما رواه أحمد وابن حبان عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الذِّكر الخفي». فيستحسن للذاكر أن يكثر من خلوته بربِّه بعيداً عن أعين الناس، استزادة في التأمُّل والتبتُّل، وابتعاداً عن الرِّياء والمفاخرة. والخلوةُ بالله هي حضانة روحيَّة، وانقطاع عن كل العلائق المادية والمشاغل الدنيوية، حتَّى إذا بلغت الروح درجة عالية في الصفاء والرقي؛ رجـع صاحبها إلى خوض غمار الدعوة إلى الله، والانتقال من مرحلة التأهُّل الذاتي إلى تأهيل الآخرين. وهذه الخلوة كانت سنَّة جميع المرسلين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر منها في غار حراء، الَّذي كان الاعتكاف فيه بمثابة الرَّحِمِ، الَّتي احتضنت روحه الشريفة، إلى أن اكتمل إعداده، وأصبح على استعداد لتلقِّي الوحي السماوي، والدعوة إلى دين الله.
فإن لم يكن للمؤمن حظٌّ كبير من ذكر الله، الَّذي يمثِّل الغذاء الأساسي للروح، خرج من الدنيا ولم يكتمل نموُّه الإيماني ونضجه الروحي، فلا تنطلق روحه في ملكوت السموات، بل تبقى أسيرة العذاب والضيق والحرج، وفي ذلك قال السيِّد المسيح عليه السَّلام: (لا يدخل ملكوت السموات من لم يولد ولادتين) أي الولادة الجسدية، والولادة الروحية. وذِكْرُ الله تعالى بوعي وخشوع، طريق يسلكه الذاكرون، فتُفْتَح في وجوههم جميع الأبواب الموصدة، وتزول من أمامهم كلُّ الحُجب المانعة، فيزول الوَقْرُ من الأسماع، وينجلي العمى عن البصائر، وتنقشع الظلمة عن القلوب والعقول. وعلى النقيض من ذلك حال الغافلين الَّذين أهملوا تغذية أرواحهم، وأسرفوا في الاهتمام بمتطلَّبات أجسادهم، فصدق فيهم قول الله تعالى: {..لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبْصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعامِ بل هم أضلُّ أولئك هُمُ الغافلون} (7 الأعراف آية 179).
وعندما يستحضر الذاكر جلال الله وعظمته، ويهيمن عليه الشعور بالخوف من غضبه وعقابه، مع رجاء رحمته ومرضاته؛ تصفو روحه، ويرِّق قلبه فيتصل بالله، ويرتبط به برباط الحبِّ الَّذي يدفعه لمراقبته في جميع أحواله، وعدم الغفلة عنه ولو للحظة واحدة. وعندها يصل لأعلى مقامات القرب والشهود، ويتحقَّق بمقام الإحسان الَّذي عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه عن عمر رضي الله عنه ).
والله جليس الذاكرين ما ذكروه منفردين أو مجتمعين، مُسرِّين أو معلنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (متفق عليه). وما من جماعة يجتمعون على ذكر الله إلا حفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وعمَّهم بمغفرته ورحمته. روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عزَّ وجل، تنادَوْا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم، ما يقول عبادي: قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني: قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة وأشدَّ لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يقولون: يسألونك الجنَّة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ياربُّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصاً وأشدَّ لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فممَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً وأشدَّ منها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم».
وأفضل أوقات الذِّكر طرفا النهار، حيث يُحسُّ الذاكر شدَّة ارتباطه بما حوله، ومن ثمَّ شدَّة ارتباطه بخالقه. ومن افتتح نهاره بذكر الله، واختتمه به كان جديراً بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ولقد كثر في القرآن الكريم التوجيه إلى ذكر الله وتسبيحه، في الآونة الَّتي تشارك فيها ظواهر الكون، في التأثير على القلب البشري وترقيقه، وإرهافه، وتشويقه للاتصال بالله، قال تعالى: {فاصبرْ على ما يقولونَ وسَبِّح بحمدِ ربِّك قبل طُلوعِ الشَّمسِ وقبل الغروب} (50 ق آية 39) وقال: {واذكر اسمَ رَبِّك بُكْرَةً وأَصِيْلاً * ومن اللَّيلِ فاسجدْ له وسبِّحهُ ليلاً طويلاً} (76 الإنسان آية 25ـ26).
وينبغي أن يقترن ذكر الله بالصحوة الفكريَّة واليقظة الروحيَّة، فلا يذكره اللسان، ويغفل عنه القلب، فالإنسان أحوج ما يكون للاتصال بربِّه ليتقوَّى على نزغات الشيطان. فالله تعالى يقوِّي عزيمة عباده المؤمنين، ويشحذ همَّتهم لإحسان عبادته، والتوجُّه إليه، والاتصال به، فيزوِّدهم بما يغنيهم عمَّن سواه. ويضرب الله لعباده مثلاً بالملائكة الأطهار الَّذين هم دائبون على عبادته، يسبِّحونه، ويقدِّسونه، ويسجدون لجلاله، وقد اختصَّ السجود بالذِّكر لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ياويله! أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنَّة، وأُمرت بالسجود فأبيتُ فلي النار» (أخرجه مسلم وابن ماجه والبيهقي). وفي هذا قال أحد العارفين المحبِّين: [اعلم أنه لا شيء أنكأ على إبليس من ابن آدم في جميع أحواله في صلاته من سجوده، لأنه خطيئته، فكثرة السجود وتطويله يحزن الشيطان وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده، لأنه حينئذ يذكر الشيطان معصيته فيحزن، فيشتغل بنفسه عنك]، ولذلك أصبح دأب الشيطان المستمر، وشغله الشاغل الترصُّد للمؤمنين، والحيلولة بينهم وبين الذِّكر، قال تعالى: {إنَّما يُرِيْدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُمُ العداوَةَ والبَغْضَاءَ في الخمر والميسرِ ويَصُدَّكُم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاة فهل أنتم مُنْتَهُون} (5 المائدة آية 91).
وتُخبرنا الآية الكريمة بأن الملائكة الأطهار دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصِّرون. وهم الَّذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، ولا تستبدُّ بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة لأنهم مبرَّؤون من ذلك. فما أحوج الإنسان إلى الاقتداء بهم في كثرة ذكر الله وتسبيحه؛ وهو المخلوق الَّذي فُطِرَ على حبِّ الخير ولديه القابليَّة للشر، وفيه لمَّة من المَلَكِ ونزعة من الشيطان؛ فإنْ أَكثر من ذكر الله، غلب عليه الخير واتَّصف بالصفات الملائكيَّة، وإن غفل عن ذكره تعالى، تحكَّم به الشرُّ وصار الشيطان له قريناً، يأمره بالسوء والفحشاء، حتَّى يرديه في أودية الشقاء.
سورة الزُّمَر(39)
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صدرهُ للإسلامِ فهو على نُورٍ من رَبِّهِ فويلٌ للقاسيةِ قُلوبُهُم من ذكرِ الله أولئك في ضلالٍ مبين(22) الله نَزَّل أَحْسَن الحديثِ كتاباً متشابهاً مَثَانِيَ تقشَعِرُّ منه جلودُ الَّذين يخشونَ ربَّهُم ثمَّ تَلينُ جلودُهُمْ وقُلوبُهُمْ إلى ذكْرِ الله ذلك هُدى الله يهدي به من يشاءُ ومن يُضْلِلِ الله فما له من هَادٍ(23)}
ومضات:
ـ إن انشراح الصدر للإسلام يعني تفتُّح خلايا العقل والقلب والنفس، لاستقبال العلم الإلهي المودع في رسالة الإسلام، ومن ثمَّ هضمه واستيعابه ليتمثَّل عملاً وأخلاقاً.
ـ مَثَلُ القلوب القاسية الَّتي تراكمت عليها الحجب، وحالت دون وصول نور الله وهدايته إليها، فأضحت صلدة ميتة كمثل البئر المهجورة الَّتي سدَّتها الصخور، فحالت دون نزول الغيث فيها، فجفَّت وغارت مياهها.
ـ إن لذكر الله حلاوة وعذوبة ترتعش لها أوصال الذاكر، وتُسْتقى منها برودة اليقين، وإن حلاوتها لتزيد في كلِّ مرة أكثر من سابقتها.
ـ من تعرَّض للهداية الإلهية وفتح لها مغاليق قلبه أخذ بقسط وافر منها، ومن أعرض عنها تشعَّبت به المسالك فلا هادي يرشده، ولا نور يضيء له الطريق.
في رحاب الآيات:
الكآبة والانقباض، والسرور والانشراح، حالات متباينة ومختلفة تعتري النفس البشرية، وتعود في أصلها لأسباب كثيرة، قد تكون ظاهرة يسهل على الإنسان تحديدها ومعالجتها، وقد تكون خفيَّة وغامضة يصعب عليه معرفتها وإدراكها. والقرآن الكريم يعطينا من خلال هذه الآيات، تفسيراً واضحاً لهذه الحالات، الَّتي تنتاب أحدنا فتجعله يشعر بالانشراح أو الانقباض؛ فالانشراح علامة من علامات دخول النور للقلب المتصل بالله، أمَّا الانقباض فهو أثر يخلِّفه البعد عن الله، والإعراض عن ذكره.
وإن جوهر الإسلام نور إلهي يخترق حجب الصدور، ليشيع في القلوب أجواء الراحة والسعادة النفسيَّة، وهذا النور القدسي عندما لا يجد في القلب مستقراً، يعود من حيث أتى، تاركاً المُعرض عنه في ظلمات بعضها فوق بعض، ويصبح من العسير إزالتها. فالعاقل من يتفقَّد قلبه ويتأكَّد من سلامته من التلوُّث، ويراقب تقلُّباته خشية أن تتراكم عليه الآفات، فتحيله إلى قلب أجرد قاحل، لا ينبت إلا الشوك والضريع، كما يسعى جاهداً لوقايته والمحافظة عليه بكثرة الذِّكر، الَّذي يستمطر به أنوار الله، فتتفجَّر ينابيع الحكمة المودعة في أعماقه على لسانه، وتتندَّى تربة هذا القلب فيشدُّها الحنين والشوق إلى بارئها، ويطلب صاحبها الصلة والوصال بإرادة المحبِّ الظمآن، وبعزيمة العاشق الولهان!! فياحسرة على القاسية قلوبهم الَّذين إذا ذكر الله عندهم، وذُكِرَتْ دلائل قدرته وبدائع صنعته أمامهم، أعرضت نفوسهم، وازدادت قلوبهم قسوة، فحُرموا من تذوُّق حلاوة الإيمان، مثلهم في ذلك كمثل المريض الَّذي تعاف نفسه أطايب الطعام. أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي»، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُوْرِثُ القسوةَ في القلب ثلاثُ خصال: حبُّ الطعام، وحبُّ النوم، وحبُّ الراحة». وكما أن للقسوة أسبابها، فللانشراح علاماته وأسبابه، أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يارسول الله! أيُّ المؤمنين أَكْيَس؟ قال: أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقال: وما آية ذلك يانبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
فالمؤمنون يتلقَّون القرآن الكريم بمحبَّة وقبول، لأنهم يوقنون أنه كتاب الله، الَّذي لا اختلاف في طبيعته، ولا في اتجاهاته، ولا في روحه، ولا في خصائصه، بل هو كلٌ متماسك، تتكرَّر مقاطعه وقصصه، وتوجيهاته ومشاهده، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تُعاد في مواضع متعددة، وفق حكمة تتحقَّق في الإعادة والتكرار في تناسق واستقرار، على أصول ثابتة متشابهة، لا تعارض فيها ولا اصطدام. والَّذين يخشون ربَّهم ويتَّقونه، ويعيشون في تطلُّع ورجاء، يتلقَّون هذا الذِّكر في وجل وارتعاش، وفي تأثُّر شديد تقشعرُّ له الجلود، ثمَّ تهدأ نفوسهم، وتأنس قلوبهم بهذا الذِّكر، قال زيد بن أسلم: قرأ أُبَيُّ بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقُّوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدُّعاء عند الرِّقة فإنها رحمة» (أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أُبي بن كعب)، وعن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعرَّ جلد المؤمن من مخافة الله تحاتَّت عنه خطاياه كما يتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقُها» (أخرجه البيهقي في الشعب والخطيب والبزار). وقال أحد المحبِّين الذاكرين: [ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة].
وإن القلوب الطاهرة لترتعش حين تحرِّكها النفحات الإلهية نحو الهدى والاستجابة والإشراق، وهي على النقيض من قلوب الضالِّين الَّتي لا تقبل الهدى، ولا تجنح إليه؛ فتغدو قاسية غافلة لا تستشعر الأنوار الإلهية، ولا تتحسَّس العطايا الربانية.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {ألم يَأْنِ للَّذين آمنوا أن تخشعَ قُلوبُهُم لِذكْرِ الله وما نَزَلَ من الحقِّ ولا يكونوا كالَّذين أُوتوا الكتابَ من قبلُ فَطَالَ عليهِمُ الأمَدُ فقَسَتْ قُلوبُهُم وكثيرٌ منهم فاسقون(16) اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتِها قد بيَّنَّا لكُمُ الآياتِ لعلَّكم تَعقلون(17)}
ومضات:
ـ لابدَّ للمؤمنين من شحذ هممهم لاجتياز طريق الإيمان بمحبَّة الله تعالى وخشيته، حتَّى تمتزج خلاياهم الروحية بأنواره القدسية، وتتفجَّر ينابيع عواطفهم بذكره وتلاوة كتابه الكريم.
ـ لقد ابتعد الكثير من الناس عن المنابع الروحية لرسالات أنبيائهم ردحاً طويلاً من الزمن، فتحجَّرت عواطفهم الإيمانية، وانحرفوا عن السلوك القويم الموصل إلى محبَّة الله تعالى ورضوانه.
ـ إن الله تعالى قادر على أن يحيي أرض القلوب بعد مواتها.
ـ تعاليم الله تعالى واضحة؛ فإذا تدبَّرناها أدركنا ما فيها من خير ورشاد للفرد والمجتمع.
في رحاب الآيات:
بعض الصحابة الكرام توهَّجت قلوبهم بمحبَّة الله بمجرد مبايعتهم للنبي عليه السَّلام على الإسلام، ولم تمضِ عليهم أيَّام قليلة حتَّى تعرضوا لمختلف أنواع الابتلاء والتعذيب الجسدي، فصبروا وصابروا، ومنهم من استشهد، فما وهنوا ولا تراجعوا. وبعضهم الآخر أعلن إسلامه ظاهراً، ولم تنبض قلوبهم بروح الإسلام، ولم تنصهر مشاعرهم بذكر الله، فكان عليهم أن يتنبَّهوا لحسن إسلامهم، وإعمار قلوبهم بمحبَّة الله سبحانه وعشقه. وهذه الآية تحمل لهم عتاباً مؤثِّراً من المولى الكريم، واستبطاءً لاستجابة قلوبهم الَّتي أفاض عليها من فضله، حيث بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإيمان، ونزَّل عليهم الآيات البيِّنات لتخرجهم من الظلمات إلى النور.
إنه عتاب فيه ودٌّ ومحبَّة لاستثارة المشاعر بجلال الله والخشوع لذكره، وإلى جانب ذلك فيه تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ، حين يمتدُّ بها الزمن دون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة، حين تغفل عن ذكر الله، وما أشدَّ العذاب النفسي الَّذي يقع فيه من قسا قلبه بعد الإيمان! وما أخطر أن يقسوَ القلب فيفسق عن أمر الله، ويبتعد عن حوض عطائه النوراني الكريم. والعِبَرُ كثيرة في قسوة القلوب عند كثيرٍ من أتباع الرسالات السماوية، الَّذين تحوَّلت عباداتهم إلى طقوس جوفاء، لا تنعش الروح ولا تغذِّي القلب؛ وكان جدير بهم أن يلتجئوا إلى الله تعالى، الَّذي يليِّن أرض القلوب بعد قسوتها، كما يحيي التربة بعد موتها.
فلنسرع إلى مجالس الذِّكر والإيمان، مجالس الحبِّ في الله مع الأولياء الصالحين، حيث تنتعش القلوب بالتجلِّيات الربَّانية والنفحات الإلهية، ولنسرع إلى صلوات الجماعة ففيها عطاء وبركة، وإلى كتاب الله نتدارس آياته بوعي وفهم، بعشق وحنين، ليتفتَّح ورد الإيمان، وتزهر أغصان العمل. عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى عليه السَّلام قال لقومه: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله تعالى، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنَّما الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَت قُلوبُكُم من بَعدِ ذلك فهي كالِحجارةِ أو أشَدُّ قَسوَةً وإنَّ من الحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأَنهَارُ وإنَّ منها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ منها لَما يَهبِطُ من خَشيَةِ الله وما الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ(74)}
ومضات:
ـ وصف الله تعالى قلوب الغافلين عن ذكره، بالصلابة والغلظة، بسبب ما تراكم عليها من ظلمات المعاصي والذنوب، فصارت لا تتأثر بالعظات والمعجزات الإلهية الَّتي تَلِيْنُ لها الصخور الصلدة.
ـ إن قلوب الغافلين أكثر عقماً من الحجارة، بل الحجارة خير منها، إذ أن بعضها مكامن للماء، تتفجَّر منها الينابيع وتحمل الخير للجميع، وبعضها الآخر يلين ويتشقق لقلَّة صلابته، بينما قلوب هؤلاء صمَّاءُ قاسية، لا يرجى منها خير، وما كانوا كذلك إلا لانقطاعهم عن الله.
ـ الله تعالى عليم بمخلوقاته، لا يغفل عن عمل مهما صغر شأنه.
في رحاب الآيات:
الإنسان مخلوق بديع التكوين، معقَّد التركيب، يتألَّف من عناصر مختلفة متباينة لكنها متكاملة منسجمة، تترك بَصَماتها الواضحة على سـلوكه وانفعالاته. فهو جسدٌ مادِّي ينتمي إلى الأرض، وروح تنتمي إلى ملكوت السموات وعالم الغيب، ومن جهة أخرى فهو يخضع لقوى يشدُّه بعضها إلى الأرض ـ منشأ جسده ـ وبعضها الآخر إلى الأعالي، حيث مصدر روحه، وفي خضمِّ ذلك تدور صراعات عنيفة في داخله، يديرها ويتحكم فيها طرفان هما العقل والقلب من جهة، والنفس والأهواء من جهة أخرى، وإن نتيجة هذا الصراع هي الَّتي تحدِّد الملامح الخاصَّة الَّتي تميِّز شخصية كلِّ إنسان.
فالشخصية الإنسانية تُصَنَّفُ في أنماط مختلفة، وفقاً لما يعتلج في وجدانها من البواعث والانفعالات، الَّتي تؤثِّر وتتأثَّر من خلالها بما حولها. والناس يتدرَّجون في الرقي والسمو، تبعاً للكيفية والمقدار الَّذي تتجاوب فيه عقولهم وقلوبهم مع شريعة الله، فأدنى الناس درجةً هم أولئك الَّذين يكادون يتساوون مع الجماد لقسوة قلوبهم؛ الَّتي لا تلين أمام آلاء الله ومعجزاته العظيمة، فلا خير يرجى منهم، لأنفسهم أو لمن حولهم، وهم بذلك يضربون مثلاً سيِّئاً في التصلُّب والقسوة يفوق قسوة الحجارة؛ إذ أنَّ الحجارة ليست كلَّها صمَّاء عقيمة، بل إنَّ بعضها قد يكون مصدراً للخير والعطاء. ويُهيب تعالى بهؤلاء أن يتفكَّروا في خلق هذه الحجارة، الَّتي تتفاوت من حيث تكوينها والدور الَّذي خلقت من أجله، فإنَّ منها ما تتفجَّر منه العيون الصافية، جداول وأنهاراً وفيرة غزيرة، تحمل أسباب استمرار الحياة إلى سائر المخلوقات، ومنها ما تنساب منه المياه بشكل يسير ضئيل، لكنه يطفئ ظمأ العطشى ويلبِّي حاجاتهم، ومنها ما يمضي عليه ردحٌ من الزمن مثبت إلى الأرض كالجبال الشامخة، حتَّى إذا أراد الله بها أمراً تكسَّرت وهبطت من علو، كما أصاب الجبل حين تبدَّى له نور الله أثناء مناجاة موسى عليه السَّلام فخشع وتصدَّع من هيبة الله وجلاله.
ولعـلَّ أولئـك يدركون ـ إذا ما تفكَّروا في ذلـك كلِّه ـ أنَّ مخلوقات الله جميعاً هي مصدر خير لهذا الكون، وإن تفاوت مقداره بينها، وحريٌّ بالإنسان أن يكون مصدراً للخير على الدوام، لأنه مؤهَّل بما لم يؤهَّل به غيره من سائر المخلوقات، فهو أكرم الخلق على الله عزَّ وجل، لذلك نجد بين الناس من هو منيب إلى الله، داعٍ إلى صراطه المستقيم، يضمُّ بين جوارحه نفساً لوَّامة توَّاقة إلى لقاء الله عزَّ وجل، وقلباً نابضاً بذكر الله يفيض بالخير والعطاء على من حوله، فتحيا قلوب الناس به، ومنهم أيضاً من لا يطيق الذنوب ويكثر من الاستغفار، فهو في عداد التائبين، تفيض عيناه بالدمع عند تذكُّرِ ضعفه أمام قوَّة الله، والتفكُّر في ذنبه أمام سعة رحمة الله وغفرانه، ومنهم من لا يتحرك قلبه بالإيمان، ولا تستكين جوارحه لعظمة الله وجبروته، إلا إذا واجهته المحن وضاقت به السبل، عندها تنطلق صيحة الرجاء من أعماقه لحضرة الله طالبة النجاة، لأنه إنسان غافل يحتاج إلى هزَّة عنيفة، توقظ مشاعره وتفتِّح بصيرته، ليستفيق ويعود إلى سبيل الرشاد.
فمعيار الخير في ذات الإنسان إذن، هو مقدار الحبِّ والإيمان وذِكْر الله الَّذي يعمر قلبه، وقد شَبَّهَتِ الآية القلب بالنبع، لأنهما كلاهما يشتركان بخاصيَّة التدفُّق ونشر الحياة، فإذا تدفَّق القلب بالحبِّ والإيمان عمَّر ما حوله بالنور والخير، وإذا تدفَّق النبع بالمياه العذبة حوَّل الصحارى القاحلة إلى واحات خضراء. وإن جفاف القلب كذلك يشبه جفاف النبع، فمن جفَّ قلبه فقد نضب من ماء محبَّة الله تعالى، وماء محبَّة الخلق، فعاش بجسد حيٍّ وقلب ميت، فلا ينفع نفسه ولا ينفع غيره.