الفصل الثالث:
الأمـانـة
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً(58)}
ومضات:
ـ الأمانة من أهمِّ المبادئ الَّتي يرتكز عليها الإسلام، ويدعو إلى أدائها لأهلها، لتكون ذمم المؤمنين بريئة من الشبهات على الدوام.
ـ إن ما يرشدنا إليه الله تعالى (أن نحكم بالعدل) هو سياج سعادتنا ودرع أمننا وسلامنا، وهو مُطَّلع علينا ناظر إلينا، ومراقب لحسن تنفيذنا وامتثالنا لأوامره.
في رحاب الآيات:
الأمانة تعريفاً هي: كلُّ ما يجب حفظه وتأديته إلى أهله. فهي كلمة واسعة المدلول تشمل جميع العلاقات الإنسانية؛ فالتزام الإيمان وتعهُّده بأسباب الرعاية والنماء أمانة، وإخلاص العبادة لله أمانة، وإحسان المعاملة مع الأفراد والجماعات أمانة، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه أمانة. والأمانة والعدل دعامتان من دعائم المجتمع الفاضل، فما أكرمَ المجتمعَ الَّذي يأمن فيه الناس بعضهم بعضاً! وما أعظم المجتمع الَّذي يسود فيه العدل، فلا ظالم ولا مظلوم، ولا تجاوز على حقوق العباد. والإسلام ـ بوصفه دين الحياة القويمة والتعامل السليم بين الناس ـ يرسي دعائم الأمن الاجتماعي، فيأمر الناس جميعاً بأداء الأمانة إلى أصحابها، خوفاً من أن يَفرُط بعضهم على بعض، فتختلَّ القيم الاجتماعية، وتسود الفوضى وينقلب المجتمع إلى غابة يأكل القويُّ فيها الضعيف، وقد أكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).
وللأمانة أنواع: أولها وأعظمها أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد، إنها أمانة الفطرة الإنسانية الَّتي حملها الإنسان وتعهَّدها. وكذلك حفظُ المرء ما عهد الله إليه من أوامر ونواهٍ، واستعمال جوارحه ومشاعره فيما ينفعه ويقرِّبه من ربِّه. هذه الأمانة الَّتي تنبثق منها سائر الأمانات الأخرى، فمن حفظ حقَّ الله حفظ حقوق عباده، الَّتي تتطلَّب ردَّ الودائع إلى أهلها، وكتم أسرارهم، وستر عيوبهم، والبعد عن الغش في البيع، وترك التطفيف في الكيل والوزن وغير ذلك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أنسt : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له». ويدخل في هذا الإطار أمانة العلماء مع العامَّة، بأن يرشدوهم إلى مبادئ وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة، والكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام الَّتي تقوِّي إيمانهم، وتنقذهم من الشرور والآثام، وترغِّبهم في عمل الخير، وتبعدهم عن التعصُّبات الباطلة الَّتي تمزِّق صفوفهم وتضعف شوكتهم، وكذلك أمانة الزوجة مع الزوج بحفظ ماله وعرضه وسرِّه.
أمَّا الأمر بالعدل بين الناس، فالنصُّ يطلقه عدلاً شاملاً بين الناس جميعاً، فهو حقٌّ لكلِّ إنسان بوصفه إنساناً، وهو أساس الحكم في الإسلام، وقيمة أخلاقية عليا. ذلك أن إقامة الحقِّ والعدل هي الَّتي تشيع الطمأنينة، وتنشر الأمن، وتوثِّق علاقات الأفراد، وتنمِّي الثقة فيما بينهم، وتحقِّق الرخاء في المجتمع، وتدعم أوضاعه فلا يتعرَّض لخلخلة أو اضطراب.
إنَّ مهمَّة رسل الله تحقيق العدل، وكذلك وظيفة أتباعهم في السير على هذا النهج، كي تبقى الشرائع تُظِلُّ الناس بظلِّها الظليل، بحيث يتحقَّق العدل بإيصال كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام، وبتجنُّب الهوى في القسمة بين الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الَّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص t ). وقد أُمِرَ المسلمون وخاصَّة الولاة والقضاة، بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال، لأنه فوَّض إليهم أمر النظر في مصالح العباد، يقول الله تعالى: {..وإذا قُلتُمْ فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى..} (6 الأنعام آية 152). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس t : «لا تزال هذه الأمَّة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت رحمت» (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً).
وأخيراً فإن الله تعالى لا يأمر عباده إلا بما فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في الدارين، فعليهم أن يَعملوا بأوامره، فهو أعلم منهم بالمسموعات والمرئيات، فإذا حكموا بالعدل فهو سميع لذلك الحكم، وإذا أدَّوْا الأمانة فهو بصير بذلك، وفي هذا وعد عظيم للمطيع، ووعيد شديد للعاصي، وفي ذلك إشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم عن عمر t ).
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنَّه كان ظَلُوماً جَهُولا(72)}
سورة الأحزاب(33)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون(27)}
ومضات:
ـ أشار الله تعالى إلى ثقل الأمانة وعظم مسؤوليتها، حيث رمز إلى أن لها وزناً معنوياً، لا تستطيع السموات والأرض والجبال الرواسي أن تحمله، لأنها تتعلَّق بأداء الحقوق إلى أصحابها سواء منها المادية أم المعنوية.
ـ ينبغي على الإنسان أن يدرك عظم الأمانة المنوطة به قبل أن يتعهَّدها، حتَّى يحسن تقدير تبعاتها، ويعمل على حفظها؛ فأيُّ إساءة بتأديتها تخلُّ بإيمانه بالله ورسوله، فيسيء بذلك إلى نفسه ومجتمعه.
في رحاب الآيات:
إن حمل الأمانة يعني صيانتها والقيام بأعبائها وتكاليفها، فهي تحتاج إلى وعاء يستوعبها، ولا تضيق جوانبه باحتوائها، وهذا الوعاء هو العقل وحريَّة الإرادة؛ لذلك اختار الله الإنسان ـ على ضعفه ـ لحملها، في حين عجز ما في الكون من أجرام عظام عن حملها، وخشي من التقصير في أدائها؛ فقد روى الترمذي عن ابن عباس t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: ياآدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها». فلا الجبال الرواسي، ولا السموات الطباق، ولا الأراضي المرساة مؤهَّلة لهذه المهمَّة، لذلك ارتعشت ارتعاشة الخوف والقلق حين عرضها الله تعالى عليها، فهي لا تملك المقوِّمات لتَحَمُّل هذه التبعات. وهذا هو الفرق بينها وبين الإنسان، فهو حرٌّ يملك العقل، وبالعقل يستوعب ويفهم ويدرك ما يُلقى إليه، وبالحريَّة يتمكن من اختيار ما يشاء منه ويلتزم به. لذلك كان مصير هذه المخلوقات الَّتي اعتذرت عن حمل الأمانة إلى فناء وزوال، بينما كان مصير الإنسان إلى خلود في الجنَّة أو في النار، وفقاً لحسن اختياره أو سوئه. لذا ينبغي عليه ألا يكون ضيِّق الأفق، محدود التفكير، وأن يمعن النظر في حجم الأمانة وعظيم مسؤولياتها، فيعدُّ نفسه ويتهيَّأ للنهوض بأعبائها والقيام بواجباتها، فيصونها ولا يضيِّعها، وعليه أن يدرك مقدار ضغط الشهوات ونوازع النفس ومتاهات الهوى ونزغات الشيطان، فلا يأمن جانبها ويركن إلى الغرور؛ حتَّى إذا تعرَّض لشيء من ذلك وجد نفسه أسيراً لها عاجزاً عن القيام بأعبائها فيخونها، ويخون بذلك نفسه ويلقي بها إلى التهلكة.
والأمانة بمفهومها الواسع هي المسؤولية العظيمة الملقاة على كاهل الإنسان في اختياره للطريق الَّذي يسلكه في حياته، وتقدير نتائج هذا الاختيار وتحمُّل عواقبه كاملة. فهو بين خيارين: إمَّا الامتثال لأمر الله، والنهوض بتكاليف الأمانة بالتعب والنصب، وإمَّا الاستسلام لنوازع النفس والركون إلى الأهواء ومعصية الله تعالى. وهذا هو المحكُّ لاستسلامه لأمر الله أو تمرُّده عليه، وهنا مفترق الطرق حيث يُفْرَزُ الناس إلى فريقين: فريق يقصِّر في حمل الأمانة فيفشل في الامتحان ويخسر نفسه، وفريق يحملها بعزم وصلابة، ويصل إلى المعرفة العميقة بالله، ويهتدي لنواميسه في مخلوقاته، فيطيعه الطاعة الكاملة بإرادته الكاملة. وهذه ميزة الإنسان المؤمن الفاضل على كثير ممَّن خلق الله، لذلك كان محلَّ التكريم الَّذي أعلنه الله تعالى في قرآنه الكريم حيث قال سبحانه: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُمْ في البرِّ والبحر ورزقناهُمْ من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُمْ على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70).
وأعظم أمانة هي أمانة الإيمان والتَّوحيد لله عزَّ وجل، فقضية التَّوحيد هي المحور الَّذي تتمركز عليه عقيدة الإنسان وتدور حوله التكاليف جميعها، وتحت هذه الأمانة تندرج كلُّ أمانات الإنسان مع محيطه، ومنها: أمانة العلم، فالعلم لديه أمانة وهو مسؤول عنه ومؤاخذ عليه من قِبَل الله تعالى إن لم يعلِّمه للناس؛ فعن أبي هريرة t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سُئِلَ عن علمٍ فكتمه ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة» (رواه أبو داود والترمذي)، وإن الحواسَّ الَّتي جعلها الله وسائل تسهم في تزويد عقولنا بالمعارف أمانة، ونحن مسؤولون عنها وعن تنمية عقلنا بالعلم والمعرفة، قال تعالى: {..إن السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً} (17 الإسراء آية 36) وقال أيضاً: {أفلم يسيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعْقلون بها أو آذانٌ يسمعونَ بها فإنَّها لا تَعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ الَّتي في الصُّدور} (22 الحج آية 46). وجسدُنا أمانة وعلينا أن نطعمه ونغذِّيه حلالاً طيِّباً، وبالقدر الَّذي أمرنا به الله تعالى بقوله: {..وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين} (7 الأعراف آية 31). ونحن بوصفنا آباءً وأمَّهاتٍ مؤتمنون على أُسَرنا، ومكلَّفون بالإنفاق عليها وحمايتها، وتربية أفرادها التربية الإسلامية المثلى، يقول صلى الله عليه وسلم : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري)، وعملنا أمانة بين أيدينا، ونحن مسؤولون عن القيام بجميع ما يتطلَّبه من الالتزامات بتجرُّد وإتقان، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه أبو يعلى وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها)، وما يودعه الناس لدينا على سبيل الأمانة فنحن مسؤولون عن ردِّه إليهم. والسرُّ الَّذي يستأمننا عليه إنسان، أمانة، وما يدور بين الزوج وزوجته، أمانة، وينبغي عليهما حفظه وعدم هتك الستر عنه، أخرج أحمد وعبد بن حُمَيْد ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثمَّ ينشر سرَّها».
ولعظم شأن الأمانة فقد اعتبرت خيانة إحدى هذه الأمانات في نظر الشرع خيانة لله ولرسوله، لذلك قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون} فالأمانة والخيانة قطبان متنافران، وخطَّان متوازيان لا يلتقيان مهما طال الطريق وتطاول الزمن. وممَّا يُرَسِّخُ في النفس الإحساس بجلال قدر الأمانة وعظمتها أن القرآن الكريم وصف سفير الرحمن جبريل عليه السَّلام بأنه الأمين فقال: {نَزَلَ به الرُّوحُ الأمين} (26 الشعراء آية 193)، كما بيَّن في أكثر من موضع أن رسل الله عليهم الصَّلاة والسَّلام أمناء، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن كلاً من هود ونوح وصالح ولوط وشعيب عليهم السَّلام قد قال لقومه: {إنِّي لكم رسولٌ أمين} (26 الشعراء آية 107).
فالأمانة سِمَةُ الأبرار والأطهار الَّذين سمعوا تعاليم الله ووعوها، فروَّضوا أنفسهم على النهوض بتكاليف الرسالة السماوية، فلا تصرفهم عن غايتهم نزغات الشيطان، أو وساوس النفس الأمَّارة بالسوء، أو فتنة الدنيا بشتَّى إغراءاتها. أمَّا الخيانة فهي سِمَة الكفَّار والفجَّار الَّذين شغلتهم احتياجات وجودهم الجسدي المحسوس عن حياتهم الروحية، فهم في شغل دائم لإروائها لا يفرِّقون في ذلك بين حلال ولا حرام، ولا بين عدل أو ظلم؛ فخانوا بذلك أمانة الله وخانوا أرواحهم بحجبها عن نور الله، وخانوا قلوبهم بإهمالها فعبثت بها الشهوات، وعشَّشت في زواياها الذنوب والأهواء، فكانوا من الخاسرين الَّذين خسروا نعيم الآخرة، فَحَسْبُهُمْ جهنَّم وبئس المصير.