الفصل الخامس:
القـنـــاعـة
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رحمةَ ربِّكَ نحن قَسمْنَا بينَهُمْ معيشَتَهُمْ في الحياةِ الدُّنيا ورفعنا بعضَهُمْ فوق بعضٍ درجاتٍ ليتَّخِذَ بعضُهُمْ بعضاً سُخْريّاً ورحمةُ ربِّك خيرٌ ممَّا يَجمعون(32)}
/ ومضات:
ـ القناعة كنز لا يملكه إلا من آمن بحكمة الله قولا وعملا فيما قَسَم لخلقه.
ـ تسجِّل هذه الآية الكريمة استنكاراً للقول الَّذي يتقوَّله بعض الناس حين يتكلَّمون بما ليس لهم به علم، فيدَّعون أنه ليس من العدل أن يكون هناك فقراء بين الناس، وأن العدالة تقتضي أن يقسم الله تعالى الأرزاق بالتَّساوي، فلا يكون هناك فقير ولا غني. وهم بذلك يتطفَّلون ويدَّعون القدرة على تغيير موازين المجتمعات البشرية، وتبديل القواعد الَّتي ترتكز عليها، ولو أنهم أمعنوا النظر في الأمر لوجدوا أن استمرارية الحياة على هذه الأرض تقتضي وجود التفاوت بين الناس، في المال والعقل والقدرات، ليتمَّ التعاون فيما بينهم، لئلا تتعطَّل أمور الحياة أو تخرج عن مسارها الصحيح.
ـ إن رحمة الله تعالى لا تقتصر على توزيع الأرزاق على الناس بل هي أوسع من ذلك وأشمل، فكم من فقير قنوع، سعيد في حياته؛ ينعم برحمة الله تعالى، وكم من غنيٍّ طامع سُلب هذه الرحمة، فلا يهدأ له بال ولا يطمئن ولا يعرف للسعادة طعماً.
/ في رحاب الآيات:
يبدو بعض أدعياء الفكر والثقافة وكأنَّهم شركاء للخالق عزَّ وجل في تصريف أمور الكون؛ إذ يريدون أن يغيِّروا شرائح المجتمع وأسلوب الحياة، وفق موازينهم المختلَّة ونظرتهم القاصرة، والَّتي تنظر إلى الأمور من زاوية ضيِّقة، ولا تنظر إليها نظرة دقيقة شاملة، لذلك لم يدركوا ما سيلحق الناس من ضرر وإفساد، وتفتيت للعلاقات القائمة بينهم، لو تمَّ لهم ما أرادوا.
إن الله تعالى قدَّر شؤون هذا الكون أحسن تقدير، من ذلك أنه أحاط الكرة الأرضية بقوانين ثابتة حكيمة تكفل استمرار الحياة عليها، وقد أحكم دورانها حول نفسها وحول الشمس، وهو الَّذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوَّده بالعقل، ومنحه الإرادة والقوَّة ليتمكَّن من التعايش مع الآخرين وكسب العيش؛ كذلك قدَّر قوانين الرزق والعطاء، وخلق الأسباب والمسببات لئلا يتواكل الناس، وينقطعوا عن السعيِّ والعمل. فكما أن الله قدَّر هذه الأشياء فأحكم التقدير، فكذلك قدَّر وجود الطبقات الاجتماعية المتفاوتة الَّتي لا يدلُّ وجودها على فساد تركيبة المجتمع، ولا يعني تفضيل قوم على قوم، بل هي أقوام مسخَّرة لخدمة بعضها بعضاً، تتساوى جميعها في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية، كما تتساوى أمام الله في الجزاء على العمل والعبادة، فتعمل بشكل منسجم يتمِّم بعضها بعضاً، بحيث يشعر كلٌّ في موقعه بالسرور والقناعة إذا أدَّى دوره المنوط به بنجاح وإتقان.
فالسبق الحقيقي هو لمن أحسن عمله، واستقامت سيرته، وأبلى البلاء الحسن فيما يرضي الله عنه دون طغيان أو إخلال بموازين الأمانة والمسؤولية والشرف. والحكمة الكامنة في التفاوت بين الناس، وفي جميع العصور والبيئات، هي أن يتَّخِذ كلُّ فرد موقعه في معركة الحياة، حسب مواهبه ومقدرته، وحين يسير دولاب الحياة يُسَخَّرُ بعض الناس لبعضهم حتماً. وليس هذا التسخير مثار استعلاء طبقة على طبقة، أو فرد على فرد، بل هو توزيع للوظائف الحياتيَّة المطلوبة على كلِّ أفراد المجتمع، لتتوازن أمور الناس وتقضى حوائجهم، ويتابعون جميعهم مسيرة الإعمار. وهكذا فالكلُّ مسخَّرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والاختلاف في الأعمال والأرزاق، قال الله تعالى: {..هوَ أنشَأكُمْ من الأرضِ واستعمَركُم فيها..} (11 هود آية 61) وقال سبحانه: {وهوَ الَّذي جعلَكُم خلائِفَ الأرضِ ورفعَ بَعضكُمْ فوقَ بعضٍ درجاتٍ ليبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ..} (6 الأنعام آية 165).
لقد سار الإسلام بالمجتمع في هذه التعاليم إلى العدالة الاجتماعية المطلقة والسعادة الحقيقية، فقد نفى وجود العوز والفاقة في ظلال هذا التمايز بين الناس غنىً وفقراً، واستطاع أن يصل بهم جميعاً إلى حدِّ الغنى، وقضى على مشكلة الفقر عملياً. ففي عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يبقَ في المجتمع فقير محتاج إلى الزَّكاة، وبذلك أثبت الإسلام صحَّة نظريته عملاً وتطبيقاً. فلو كان جميع الناس على مستوى فكري واجتماعي واحد لما أمكن أن تقوم الحياة بهذه الصورة، ولبقيت أعمال كثيرة جداً معطَّلة لا تجد لها منجزاً. وإن الَّذي خلق الحياة هو الَّذي خلق الاستعدادات متفاوتة بتفاوت الأدوار المطلوب أداؤها، وبمقابل هذا التباين يتباين الرزق، وهكذا تسير الأمور في الاتجاه الصحيح. إن الله الَّذي مكَّن الغنيَّ من المال ومنعه عن الفقير؛ ابتلى كلاً منهما واختبره، فهل يشكر الغنيُّ نعمة الله فيضمن كفاية الفقير فيفوز في الاختبار؟ وهل يصبر الفقير على الفقر فينجح في الامتحان؟ أم أنَّ أحدهما أو كليهما يتنكَّر لقدر الله فتكون الخسارة العظمى؟. إن الله يصيب برحمته من يشاء من عباده وفق ما تقتضي حكمته سبحانه، ولا علاقة بينها وبين متع الحياة الدنيا، ولا صلة لها بالقيم المادية في هذه الحياة، فهذه القيم زهيدة عند الله، ومن ثمَّ يشترك فيها الأبرار والفجَّار، وينالها الصالحون والطالحون، بينما يختصُّ الله المحسنين برحمته في الدنيا والآخرة.
وختام القول: إن استمرار دوران عجلة الحياة متوقِّف على شعور كلِّ فرد في المجتمع بافتقاره إلى ما عند غيره، واحتياج غيره إلى ما عنده، فيتبادلون المنافع وتسير عجلة الحياة دون توقف، ولاشكَّ أنها ستتوقف عندما يشعرون بالاستغناء عن بعضهم بعضاً.
سورة طه(20)
قال الله تعالى: {ولا تَمُدَّنَّ عينَيْكَ إلى ما متَّعْنا به أزواجاً منهمْ زَهْرَةَ الحياةِ الدُّنيا لنفتِنَهُمْ فيه ورزْقُ ربِّكَ خيرٌ وأبقى(131) وأْمُرْ أهلَكَ بالصَّلاة واصطبِرْ عليها لا نسئَلُكَ رِزْقاً نحن نرزُقُكَ والعاقِبَةُ للتَّقوى(132)}
/ ومضات:
ـ الإسلام لا يدعو إلى الإعراض عن طيِّبات الحياة، ولكنه يدعو إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية، وإلى الصلة بالله والرضا بعطائه بحيث لا تتهاوى النفوس أمام زينة المال، بل تبقى القيم العليا هي الأساس، وهي المحرِّر للإنسان من عبوديَّة المادَّة والزخارف الزائفة.
ـ إن ممارسة الإنسان للعبادات لا تزيد في ملك الله شيئاً، فالله غنيٌّ عن العالمين، ولكنها تشعره بطمأنينة الصلة بالله فتستريح جوارحه وتسكن نفسه، ومن ثمَّ يُجزى عليها الجزاء الأوفى.
/ في رحاب الآيات:
زرع الإسلام في أعماق المسلم القناعة وهي: الرضا بالميسور، واليأس ممَّا في أيدي الناس، وذلك لئلا يتعلَّق قلبه بالمادِّيات فتصبح هدفه، أو يصبح الإكثار منها غاية طموحه. وطلب منه في الوقت نفسه أن يسعى للكسب الحلال بكلِّ جهده شريطة أن يسخِّر بعضاً من عطاء الله في سبيل خدمة عباد الله، بحيث تتوازن نفسيَّة المسلم، فلا يشعر بالقلق إن قلَّ نصيبه من الدنيا أو كثر، لأن الرزق الحقيقي هو غنى النفس ورضاها بما قسمه الله من عطاء مادِّي وروحي. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (رواه الشيخان والترمذي)، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنَّ أو يعلِّم من يعمل بهنَّ، قلت أنا يارسول الله، فأخذ بيدي وعدَّ خمساً وقال: اتَّقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبب للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (رواه الترمذي والإمام أحمد).
وهذا درس عملي تطبيقي يدرِّب الله عباده المؤمنين عليه لتزكو نفوسهم وتسمو فوق المادِّيات؛ فهو يأمرهم بأن يتَّجهوا إليه بالعبادة، وألا ينبهروا بما في أيدي المترفين وأن لا يتمنَّوا زواله من أيديهم ليمتلكوه هم، فإنَّما النعيم الَّذي ينعمون به زهرة ذابلة، ونعمة زائلة، كالزهرة تجدها نضرة عطرة، ولكنها سريعة الذُّبول على ما بها من رونق وجمال. فهذه النعمة موضوع اختبار لهم، بحيث تكشف عن معادنهم وسلوكهم، وكيفية تصرفهم بها أثناء جريانها بين أيديهم، وثواب الله الدائم خير من النعيم الفاني، فهو رزق للنعمة لا للفتنة، رزق طيِّب باق لا يحول ولا يزول.
وليـسـت هذه دعوة للحرمان من طيِّبات الحياة، ولكنها دعوة لتوثيق الصلة بالله، وطلب رضاه، فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، بل تعيش طليقة متحرِّرة من قيود المظاهر والشكليَّات الَّتي لا تساوي شيئاً بنظر أغنياء القلوب إذا قيِست بما عند الله. روى الطبراني أنه «لمَّا آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرآه على رمال حصير قد أثَّر في جنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يارسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه! فقال: أوَ في شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيِّباتهم في حياتهم الدنيا»، فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، وإذا جاءه شيء من رزقها وخيرها أنفقه في سبيل الله تعالى.
من جهة ثانية فقد اهتمَّ الإسلام كثيراً بإشاعة الجو التعبُّدي ضمن العائلة، وجعل ذلك مسؤولية ربِّ العائلة، فالرجل مأمور أن يتابع أفراد عائلته في صلاتهم وصومهم وسائر عباداتهم، وعليه بالصبر والحلم والأناة أثناء المتابعة، وألا يشعر بالملل واليأس في تحمُّل هذه المسؤولية، ولا يغتمَّ من أجل تحصيل الرزق، بل يتَّقي الله تعالى في سائر أموره فيأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، قال تعالى: {..ومن يتَّقِ الله يجعَلْ لهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ من حيثُ لا يحتسِبُ..} (65 الطلاق آية 2ـ3) وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدَّة أو ضيق أمرهم بالصَّلاة وتلا: {وأْمُرْ أهلكَ بالصَّلاة}». وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِ في الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيَّته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح). فأوَّل واجبات المسلم أن يحوِّل بيته إلى بيتٍ مسلم، وأن يوجِّه أهله إلى أداء الفريضة الَّتي تصلهم بالله تعالى، فتوحِّد اتجاههم العلوي في الحياة، وأن لا يخدعوا بزخارف الحياة الدنيا الفانية الَّتي يتمتع بها المترفون في هذه الدنيا، فهي حظُّهم من الوجود ثمَّ ينقلبون عنها شرَّ منقلب، قال الله تعالى: {..وسَيَعْلَمُ الَّذين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ ينقلِبُون} (26 الشعراء آية 227). إن العاقبة الحسنة والحياة الأبديَّة الناعمة هي من نصيب المتَّقين، الَّذين عزفوا عن التعلُّق بالدنيا وزخارفها على الرغم من انهماكهم بها، وأقبلوا على ربِّهم بما يحبُّ من القول والعمل والصفات فكانوا هم الفائزون.