الفصل السادس:
الصِّـدق
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقُوا الله وكونوا مع الصَّادقين(119)}
سورة الزمر(39)
وقال أيضاً: {فمن أظلمُ ممَّن كَذَبَ على الله وكَذَّبَ بالصِّدق إذ جاءَهُ أَلَيْسَ في جهنَّمَ مثْوىً للكافرين(32) والَّذي جاءَ بالصِّدق وصَدَّقَ به أولئك هُمُ المتَّقون(33) لهم ما يشاؤونَ عندَ ربِّهمْ ذلك جزاءُ المُحسنين(34)}
سورة الأنعام(6)
وقال أيضاً: {ومن أظلمُ ممَّنِ افترى على الله كذِباً أو كَذَّبَ بآياتِهِ إنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالمون(21)}
/ ومضات:
ـ الصِّدق هو المِحَكُّ لمعرفة درجة الإيمان، وهو الفضيلة الَّتي يجب أن تصطبغ بها كلُّ أعمالنا وتصرفاتنا أثناء توجُّهنا إلى الحضرة الإلهية، حتَّى تُتوَّج أعمالنا كلُّها بالنور والفلاح.
ـ أشدُّ الناس ظلماً هو من يعتدي على حقوق الله تعالى وتشريعاته وتعاليمه، سواء بالتقوُّل عليها كذباً وبهتاناً، أو بالتكذيب المباشر لما أنزله تعالى من الرسالات السماوية.
/ في رحاب الآيات:
الصِّدق خُلقٌ من أجلِّ الأخلاق الَّتي يتَّصف بها المؤمنون، وتاج مرصَّعٌ تُوِّج به النبيُّون والمرسلون. وهو الطريق لكلِّ خير وبرٍّ، وعنوان للرقيِّ المادِّي والروحي في كلِّ جيل وعصر، ومِحَكٌّ دقيق يميِّز المؤمن ـ الَّذي يتحرَّى هذا الخلق في أقواله وأعمالـه ـ عن المنافق الَّذي يكثر من الكذب حتَّى يصبح علامة من علامات نفاقه، ويسلك به الطريق الضيِّق، فينزلق من خلاله إلى أودية الشرور والآثام. وقد بيَّن لنا الصَّادق المصدوق نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم عاقبة الأمرين عندما قال: «عليكم بالصِّدق فإن الصِّدق يهدي إلى البِّر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدق حتَّى يكتب عند الله صِدِّيقاً، وإيَّاكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتَّى يكتب عند الله كذَّاباً» (رواه الأربعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ).
ولما كانت القدوة الصالحة خير طريق لاكتساب الخُلقِ الحسن؛ فقد أمرنا الله عزَّ وجل بصحبة الصَّادقين من المؤمنين في قوله: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله وكونوا مع الصَّادقين}، وقد امتدحهم الله في آية أخرى فقال: {مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه..} (33 الأحزاب آية 23) فهم الوجه المشرق المنير للإنسانية، وفيهم تتجلَّى الرجولة الحقيقية لأنهم صدقوا قولاً وعملاً، ونشروا راية الإيمان شرقاً وغرباً، فسكنت قلوبَهُم سعادةٌ يحسدهم عليها ملوك الدنيا وأباطرتها، وعُمِّرت بيوتهم المتواضعة بذكر الله ونوره، فغدت تضاهي بسكينتها والسعادة الَّتي فيها، قصور الأمراء والمترفين.
فالصِّدق بُغية المؤمنين ولا يزالون يتحرَّونه حتَّى ينالوا رتبة الصدِّيقين، ولا يحيدون عن دربه إلى أن يلقَوُا الله فيحشرهم مع النبيين والشهداء والصالحين. ويسألون الله أن يثبِّتهم على هذا الخلق العظيم أسوة بحبيبهم الصَّادق الأمين صلى الله عليه وسلم الَّذي كان يدعو كما علَّمه الله: {وقُلْ رَبِّ أدخلني مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخرجني مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعلْ لي من لدُنْكَ سلطاناً نصيراً} (17 الإسراء آية 80) أي ربِّ أدخلني كلَّ مدخل في الحياة دخولاً حسناً مَرْضِيَّاً تجعلني فيه من الصَّادقين، وأخرجني إخراجاً حسناً مؤيداً بتوفيقك واكتبني فيه من الصَّادقين، واجعل رحلة حياتي من بدئها إلى ختامها، ميسَّرة ومسدَّدة وآمنة، في ظلِّ عنايتك الَّتي تظلُّني؛ إلى أن ألقاك وقد أدرجتني في ديوان الصَّادقين الأبرار.
فما أجمله من دعاء يترجم حقيقة حالهم؛ إنهم صدقوا والتزموا التَّقوى في أموالهم وأعمالهم، فأعدَّ الله لهم خير المساكن، وأكرم المنازل، وبوَّأهم الجنَّة يتمتَّعون بنعيمها المقيم، ويتلذَّذون فيها بالنظر إلى وجهه الكريم، فيغدق عليهم من فضله ورضوانه ما يسعدهم ويرضيهم؛ فهم في بساتين غنَّاء ورياض فيحاء، وأنهار جارية، وأشربة صافية لذيذة، ومجالس صادقة خالصة، لا لغو فيها ولا تأثيم وَعْد الصِّدق الَّذي وعدهم في قوله جلَّ من قائل: {إنَّ المُتَّقينَ في جنَّاتٍ ونَهَرٍ * في مقعدِ صِدْقٍ عند مَلِيْكٍ مقْتَدِرْ} (54 القمر آية 54ـ55). فما أشدَّ ظلم الإنسان لنفسه عندما يُعْرِضُ وينأى عن طريق الصِّدق والصَّادقين، ويسلك طريق الكذب ويرضى بأن يكون من المفسدين المنافقين، ولهذا فإن الله عزَّ وجل نفى صفة الكذب وافترائه عن المؤمن الَّذي يكون حريصاً على سلامة المجتمع وأمنه وسعادته فقال: {إنَّما يفتري الكذبَ الَّذين لا يؤمنونَ بآياتِ الله وأولئكَ هُمُ الكاذبون} (16 النحل آية 105).
فالكذب آفة من أشدِّ الآفات فتكاً بالمجتمع، ومن أشدِّها خطراً على سلامته، وذلك لما يخلق من عداوة بين الناس، وغرسٍ لبذور الشكِّ في نفوسهم، وتحطيم لعامل الثِّقة فيما بينهم. وما فشا الكذب في أمَّة إلا كثرت فيها المفاسد وشاعت الجرائم، فهو مصدر كلِّ رذيلة، ومنشأ كلِّ كبيرة.
إن من يفتري على الله الكذب ويكذِّب بما جاء به رسله الصَّادقون، يكون قد خرج عن دائرة الإيمان، وهوى في حمأة النفاق، لأنه بافترائه الكذب يصبح أشدَّ ضرراً وإيذاءً من الكافر الَّذي يعلن إنكار الحقيقة وجحودِها، بينما يتجاوز المفتري ذلك إلى اختلاق الأباطيل الَّتي يزرع بها بذور الفتنة والشِّقاق. ويليه في درجة الأذى الكاذب المعرض عن الحقِّ؛ فليس هناك من هو أظلم ممَّن يعرف الحقَّ؛ ثمَّ ينكره ويختلق الأكاذيب حوله وينشرها، وليس ثَمَّةَ من هو أضلُّ ممن نزع عن نفسه حماية الله العزيز القوي، ورفع راية الشيطان يستظلُّ بها، وهي لن تجلب له سوى الإحباط والمهلكات.
ولعلَّ أشدَّ أنواع الكذب خطراً وتهديماً أن يكذب الكاذب وهو يَدَّعي أنه يقول الحقَّ مدعوماً بوحي مزعوم يأتيه؛ أو رسالة سماوية تتنزَّل عليه، فهذا ظلم للحقِّ، وظلم للنفس، وظلم للناس. فهو ظلم للحقِّ لأنه تزوير للإرادة الإلهية، وهو ظلم للنفس بإيرادها موارد التهلكة، وهو ظلم للناس لأنه يصرفهم عن جادَّة الحقِّ باسم الحقِّ كذباً وبهتاناً، والحصيلة النهائية هي هدم القيم الاجتماعية والأخلاقية الَّتي يريد الله إرساءها بين عباده.
ومن الكذب أيضاً أن يزعم المرء أن لله ولداً أو شريكاً، أو يدَّعي في دينه ما ليس فيه، أو أن يُكذِّبَ بالكتب السماوية أو يحرِّفها أو ينكر بعض ما جاء فيها، أو ينكرها كلَّها مستجيباً بذلك لأهوائه وشهواته، وأبلغ مثال على ذلك كفر أبي جهل وتكذيبه للنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بصدقه، فقد روي أن الأخنس بن شُرَيْق التقى بأبي جهل فقال له: [يا أبا الحكم! أخبرني عن محمَّد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرك يخبرنا، فقال أبو جهل: والله إن محمَّداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب (بنو قصي) باللواء والسقاية والحجابة والنبوَّة فماذا يكون لسائر قريش؟]، إن هذا النوع من الكذب والتكذيب هو أشدُّه ضرراً وإيذاءً، وهو في الوقت نفسه أشدُّه عذاباً، لأنه جحد للحقِّ عن إصرار وعناد.
وهناك آخرون يتَّخذون من الكذب وسيلة لتحقيق مصالحهم الشخصية، ويستترون بستار التديُّن والصلاح؛ كأن يدَّعي بعضهم أن له مع الله حالاً أو كشفاً أو مشاهدة، ليخدع مخلوقات الله ويوهمهم بالفوقيَّة عليهم، وأنهم محتاجون لبركاته وتوجُّهاته، ليشتري بذلك ثمناً قليلاً من متاع الدنيا وزخرفها.
وتندرج في أنواع الكذب صفة الإخلاف بالوعد، كأن يقول المرء قولاً لا يفي به. وقد عُدَّ هذا النوع من الكذب من أفظع الأفعال الَّتي يبغضها الله ويكرهها، وقد أنكرها سبحانه وتعالى على من يتَّصف بها من المؤمنين ووبَّخهم في كتابه العزيز على هذا التَّصرف المذموم فقال: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لِمَ تقولونَ ما لا تفعلون * كَبُرَ مَقْتاً عندَ الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (61 الصف آية 2ـ3) فجاء الخطاب من الله لهم بصيغة استفهام يتضمَّن الإنكار والتوبيخ لكلِّ من يَعِدُ وعداً ويُخلفه، ويتفوَّه بكلام لا ينجزه. وقد استدلَّ السلف بهذه الآية على وجوب الوفاء بالوعد لأنه دليل على كريم الشِّيم، وجميل الخصال، وبه تتولَّد الثِّقة بين الجماعات فترتبط برباط المودَّة والمحبَّة حين يتعامل أفرادها مع بعضهم بعضا، ويكونون يداً واحدة فيما قرَّروا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا في أُمَّة إخلاف الوعد قلَّت الثِّقة بين أفرادها وانحلَّت عُرى الروابط بينهم، وأصبحوا عِقْداً متناثراً لا يُنتَفعُ به، فلا يهابهم عدوٌّ إذا اشتدَّت الأزمات، وعظُمت الخطوب.
وقيل في معنى هذه الآية: هي أن يأمر الإنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه، كقول الله تعالى: {أَتأْمُرونَ النَّاسَ بالبرِّ وتَنْسَونَ أنفسَكُمْ وأنتمْ تتلونَ الكتابَ أفلا تعقلون} (2 البقرة آية 44) فهذا فعل يبغض الله صدوره من المؤمنين وخاصَّة ممَّن يكونون في مقام الدعوة والإرشاد والتهذيب؛ فلا يعقل أن يعظ واعظ بترك الموبقات وهو غارق فيها إلى أذنيه، أو يرشد إلى طريق الجنَّة من هو مترنِّح على طريق النَّار، فهذا من أكبر الموبقات عند الله، لأن المسيء في عمله لا تتجاوز عظته الآذان؛ بل قد يوقع الناس في الفتنة والإعراض عن طريق الإيمان كُلِّيةً، حيث يتساءلون في أنفسهم: إذا كان القدوة يفعل بخلاف ما يقول فكيف بمن هم دونه؟، وإذا كان ما يتفوَّه به الواعظ من الحكمة والمواعظ لا يؤثِّر فيه شخصياً، فهل يعقل أن يؤثِّر في عامَّة الأشخاص؟، إنه إذن القدوة السيئة، والأداة المنفِّرة عن طريق الله. فلو كان يرتكب ما يرتكبه دون أن يجعل من نفسه واعظاً وقدوة، لخفَّ الضرر الصادر عنه فيما يتعلَّق بالناس الباحثين عن الدليل إلى الحقِّ، وعن القدوة الصالحة. فما بالك بإنسان واعظ مرشد ينبِّه الناس إلى أضرار الغيبة، وآثارها السلبية والسيئة في المجتمع ثمَّ تراه في مجالسه الخاصَّة سمَّاعاً للغيبة، مشاركاً فيها، منغمساً في آثامها؟، أليس الله بقادر على هؤلاء جميعاً وغيرهم ممَّن يملك من الكذب ألواناً وأصنافاً؟! أليس في جهنَّم مكان يتَّسع لهم ويكون مستقرّاً دائماً لهم؟! بلى إن جميع الفئات من الكاذبين المدجِّلين، لهم مقت شديد وعقاب مروِّع من الله، لما جنَوْه بحقِّ أنفسهم وحقِّ الآخرين!.
وحول هذه المعاني يقول الشاعر:
يا أَيُّهـــا الرجــل المعلِّـم غيرَه هلاَّ لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفسـك فانْهَهَا عن غيِّها فـإذا انتهـــتْ فأنتَ حكيمُ
لا تَنْـهَ عن خُلُــقٍ وتأتي مثلـه عارٌ عليـك إذا فعلت عظيمُ
#######
بعونه تعالى
«تمَّ الجزء الأوَّل من الكتاب»