الفصل الثالث:
مكانة المرأة في الإسلام
سورة الممتحنة(60)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ إذا جاءكَ المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شيئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنين ولا يَقْتُلْنَ أولادهنَّ ولا يأتِينَ ببهتانٍ يفتَرِيْنَهُ بين أيدِيهِنَّ وأرجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ فبايعْهُنَّ واستَغْفِر لهنَّ الله إنَّ الله غفورٌ رحيم(12)}
ومضات:
ـ في هذه الآية تكريس لدور المرأة المؤمنة الموحِّدة، الطاهرة الشريفة الأمينة، المحافظة على حدود الله، المطيعة لأوامره. وفي مضمونها تشجيع لها لتأخذ دورها البنَّاء للنهوض بأعبائها تجاه المجتمع وأبنائه.
في رحاب الآيات:
كان المجتمع قبل الإسلام يمتهن كرامة المرأة، فلم تكن في نظره إلا مجرد أداة لإرواء الغرائز والإنجاب، فكان يوكل إليها جميع أعمال الخدمة، بينما يخص الرجل بالمزايا، فيعتبره السيِّد المطلق في أسرته، فهو للفروسية والقتال، وللحبِّ والشعر، وللزعامة والمفاخرة، أمَّا النسوة فما خُلقن إلا لخدمته وتأمين متطلباته. ثمَّ جاء الإسلام ليأخذ بيد المرأة، ويضعها في المكان اللائق بها، شريكة لا خادمة، أُمّاً مكرَّمة لا جارية، فحفظ لها كرامتها، وصان لها أموالها الخاصَّة بها، وكلَّف الرجل بالإنفاق عليها، سواءً كان أباً أو زوجاً أو ابناً، أو أخاً أو عماً أو خالاً؛ بحيث يكون كلٌّ من هؤلاء ملزماً بها في حال فقدان سابقه أو عجزه. وبالمقابل طلب منها التعهُّد بصيانة نفسها وتربية أولادها على مكارم الأخلاق، وأن تكون مؤمنة موحِّدة، طائعة في مرضاة الله، وبذلك حقَّ للصحابيات المؤمنات التشرُّف بمبايعة النبي الكريم، مع ما في ذلك من إقرارٍ بقيمتهن في المجتمع، وبدورهن في المحافظة على بنيته طاهرة نظيفة من كلِّ دنس. تلك البيعة الَّتي كانت عهداً على صيانة المقوِّمات الأساسية لبناء العقيدة والمجتمع وهي:
1 ـ عدم الشرك بالله.
2 ـ عدم ارتكابهن ما يُخِّل بأمانتهن وشرفهن كالسرقة والزنا.
3 ـ عدم قتل الأولاد، بما في ذلك الإجهاض دون مبرر شرعي، فهنَّ مؤتمنات على ما في أرحامهن.
4 ـ ألاَّ يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم، وأن يحافظن على العفة صيانةً لأنفسهن ولأُسَرهن.
5 ـ ألاَّ يعصين الرسول صلى الله عليه وسلم في معروف، وهذا يشمل العهد بطاعته في كلِّ ما يأمرهن به، وهو لا يأمر إلا بمعروف. أخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: «كان فيما أُخِذَ على النساء من المعروف ألاَّ يَنُحن، فقالت امرأة: لابدَّ من النَّوْح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنتن لابدَّ فاعلات فلا تخمشن وجهاً، ولا تخرقن ثوباً، ولا تحلقن شعراً، ولا تَدْعُنَّ بالويل، ولا تقلن هجراً إلا حقاً».
فلما بايعت النساء على هذه الأسس الخمسة قُبلت بيعتهن، واستغفر الرسول لهن عما سلف. أمَّا كيفية البيعة، فقد أخرج ابن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثمَّ يغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعته.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذين كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادِنا صالِحَيْنِ فخانَتَاهُمَا فلم يُغنيا عنهُما من الله شيئاً وقيلَ ادخُلا النَّارَ مع الدَّاخلين(10) وضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذين آمنوا امرأةَ فرعونَ إذْ قالتْ ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنَّة ونجِّني من فرعونَ وعَمَلِهِ ونجِّني من القومِ الظَّالمين(11) ومريمَ ابنةَ عِمْرانَ الَّتي أحصنَتْ فرجها فنفخنا فيه من روحِنا وصدَّقَتْ بكلماتِ ربِّها وكُتُبهِ وكانت من القانتين(12)}
ومضات:
ـ إن هذا النص القرآني يسلِّط الضوء على نموذجين متناقضين من النساء، وهذا التناقض بينهما قائم على أساس التناقض بين الكفر والإيمان. يتجسَّد النموذج الأوَّل بزوجتي نَبِيَّيْن صالحين هما نوح ولوط عليهما السلام، عاشت كلٌّ منهما في بيت النبوة وتنعمت فيه، ولكنَّ الشقاء غلب عليهما فلم تنفعهما قرابتهما الجسدية للأنبياء شيئاً، ووقعتا في شرِّ أعمالهما وكفرهما.
أمَّا النموذج الثاني فيتجلَّى بآسية زوجة فرعون، والصدِّيقة مريم العذراء؛ فالأولى عاشت في بيت فرعون مدَّعي الألوهية، وهي توحِّد الله وتعبده وتبتهل إليه ليخلِّصها منه ومن أعوانه الظالمين، والثانية لم تكن زوجة لنبي أو ابنة له، ومع ذلك فقد كانت عابدة، تقيَّة، ورعة، استحقَّت أن تكون أمَّ النبي الرسول عيسى المسيح عليه السلام. فالفرق ما بين النموذجين بيِّن شاسع، كالفرق ما بين عمليهما ومصيريهما.
في رحاب الآيات:
أي نوع من النساء تلك الَّتي عاشت في بيت النبوة والعلم والحكمة، وكانت زوجة النبي وشريكة حياته، لكنَّها لم تؤمن به ولم تستجب له، ولم تتعرض للنفحات الربَّانيَّة الَّتي كانت تُغدق عليه من غير انقطاع!. لقد جعل الله هذه المرأة الكافرة مثالاً يبيِّن به حال الكافرين الَّذين لم ينتفعوا بعظات النبيين والمرسلين، لظلمة قلوبهم، وسوء أعمالهم، وفساد نفوسهم، فكانت امرأة نوح وامرأة لوط، مثلاً بيِّناً على أن النسب والقرابة، لا يحولان بين الكافر وبين عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ لقد كان جديراً بهما وهما في عصمة نَبِيَّيْن أن تنتفعا بهديهما، وتحصلا على ما فيه سعادتهما في المعاش والمعاد، لكنَّهما رفضتا ذلك، وارتكبت كلُّ واحدة منهما خيانة في حقِّ الدعوة والنبوة، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وأرشدت الثانية قوم لوط إلى ضيوفه ليكونوا هدفاً لمآربهم الخبيثة، فلم تدفع عنهما صلتهما بالنبيَّيْن شيئاً، وحاق بهما سوء عملهما، وستدخلان النار في زمرة داخليها جزاءً وفاقاً.
وجعل الله تعالى زوجة فرعون، ومريم ابنة عمران نموذجاً رائعاً للمرأة الصالحة، فقد عاشت آسية بنت مزاحم زوجة فرعون في قصره، وهو راعي الكفر ومدَّعي الألوهية فلم تعبَأْ بكفره وتسلُّطه؛ بل فتحت قلبها للهداية فراح يشرب من مناهل الإيمان، ويحلِّق في أجواء التعبُّد لله الواحد الأحد العزيز القهار. فقد آمنت بموسى عليه السلام ولما بلغ ذلك فرعون أمر بقتلها، فدعت ربَّها قائلة: ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنَّة النعيم، وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه، ومن أتباعه الطغاة؛ فنجّاها الله من شره، ولم يضرَّها اتصالها به وهو زعيم الكافرين. وفي هذا دليل على أن سنن الله تقضي بألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكلِّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ودعاؤها هذا وموقفها هما مثلٌ للاستعلاء على عَرَض الحياة الدنيا في أزهى صورة، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان رضي الله عنه قال: كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت تَرى بيتها في الجنَّة.
وأمَّا مريم ابنة عمران العفيفة، الطاهرة الشريفة، الَّتي حفظت فرجها وصانته عن مقارفة الفواحش، وآمنت بشرائع الله القدسية وكتبه، وكانت من الطائعات العابدات، حتى أثنى الله عليها لكثرةخشوعها وتضرُّعها، وتعبُّدها، ثمَّ أرسل جبريل الأمين إليها لينفخ في جيبها فحملت بعيسى عليه السلام، وأصبحت أُمّاً لرسول كريم.
إن إفراد امرأة فرعون بالذِّكر هنا مع مريم ابنة عمران، يدلُّ على المكانة العالية الَّتي جعلتها قرينة مريم في الذِّكر، بسبب معاناتها وبلائها، فكلاهما نموذج للمرأة المتطهرة المؤمنة القانتة، يضرب الله بهما المثل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنات من بعدهن في كلِّ جيل. أخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل نساء أهل الجنَّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
فكلُّ نفس رهينة بما اكتسبته في الدنيا؛ فلا القرب من الصالحين ينجي مع ارتكاب الذنوب، ولا القرب من العصاة يضر مع الامتثال والطاعة، فلتنظر كلُّ نفس ما قدمَّت لغدٍ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والخلاصة: أن الإسلام يقدِّم صوراً زاهية للقنوت وحسن العبادة من خلال امرأتين كريمتين، ولا يخفى على كلِّ ذي لبٍّ ما في هذا من تكريم للمرأة عموماً، حين يجعل منها مثلاً يُضرَب للمؤمنين، رجالاً ونساءً، ليحثَّهم على الاقتداء بهما.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {وإذا بُشِّرَ أحدُهُمْ بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مُسْوَدّاً وهوَ كظيم(58) يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّرَ به أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرابِ ألا ساءَ ما يحْكُمون(59)}
ومضات:
ـ لو نظر الوالد إلى ابنته الوليدة بعين البصيرة والتدبر، لرأى فيها وجه أمِّه الَّتي احتضنته وأحسنت إليه، ورأى فيها أمَّ المستقبل، الَّتي في حجرها يستمر النوع البشري ويتواصل، ولشعر بالسرور الغامر، لأنه يمكنه من خلال ابنته أن يتابع رسالة البناء والإعمار بحُسن تربيتها وتزويدها بالعلوم والفضائل.
في رحاب الآيات:
إن نظام الحياة قائم على قانون الزوجية، ومن التزاوج بين الذَّكر والأنثى يستمر النسل وتتكاثر الأحياء. وإذا ما تأمَّلنا عالم الحيوان، وجدنا الذَّكر منه يتعاون مع الأنثى، ويرعى أولاده من الجنسين، ويذود عنهما بخوف واندفاع واحد، وبدرجة اهتمام واحدة، فلا فرق عنده بين ذكر وأنثى. فما بال الإنسان يتمرَّد على قانون الله، وينحطُّ في هذا الشأن إلى رتبة دون رتبة الحيوان، فيتألَّه على الله يحيي ويميت، يستحيي الذكور ويقتل الإناث، لا لشيء إلا لأن مجتمعه ينبذ الإناث ويفضِّلُ الذكور، ولأن العُرف الجائر يقضي بمثل هذا الظلم والتعسُّف الَّذي يهدر قيمة الإنسان، الَّتي رفعها الله وأعلى قدرها، فقال: {ولقد كرَّمنا بني آدم..} (17 الإسراء آية 70).
وقد درج المجتمع البشري القديم بأَسْرِهِ، بما في ذلك اليونان والرومان، على إهانة المرأة، فَعَدَّها بعضهم مخلوقة من نسل الشيطان، وَعَدَّها بعضهم الآخر خادمة للرجل السيِّد وجارية عنده، وكانت بعض القبائل العربية في المجتمع الجاهلي تَئِد البنات، فيدفن الأب ابنته في التراب عقب ولادتها خشية العار. فجاء الإسلام ليردَّ لها كرامتها، ويُبدِّل ظلمة قلوب الناس إلى نور وَضَّاء، ويحيل قسوتهم تجاهها رحمة؛ فهذا كتاب الله يأتي بالقول الفصل في قضية الدفاع عنها، ويغوص في أعماق العالم الداخلي للإنسان الجاهلي ليشعره بالخجل من فعلته، ويرصد حركاته الداخلية والخارجية رصداً دقيقاً، فهو حين يُبشَّر بالأنثى يَعَدُّ ذلك نعياً يعود عليه بالعار والذل بين قبيلته، فتنقبض أسارير وجهه، ويتقطَّب جبينه، ثمَّ يَنْسَلُّ من بين الناس وكأنه لصٌّ يخشى أن يُضبط متلبِّساً بجريمته، حتى إذا انفرد بنفسه، وقع فريسة صراع نفسي لا أقسى ولا أمر، هل يحتفظ بالمولودة ويعرِّض نفسه للذل والعار بين أفراد قبيلته؛ لتعيش في بيته مقهورة ذليلة، لا ترث ولا تتمتع بأي امتياز يحظى به الذَّكر؟ أم أنه يلقي بحمله الثقيل في ثنايا التراب، فيدفنها ويدفن معها ما يظنه عاراً، مخمداً صوت الحياة الَّذي يصدح في صدرها؟؛ إنه في الحالتين مجرم آثم، لأنه لم يتقبَّل هبة الله بما تستحقُّ من التكريم وحسن الوفادة. إن ما يفعله هذا السفَّاح اعتداءٌ على حقوق الله واستهانة بمخلوقاته، وخروج عن قوانينه، وقد قبَّح الله تعالى عمل هؤلاء وأظهـر فظـاعـة جـرمهـم بقولـه: {وإذا الموؤودَةُ سُـئِلَتْ * بـأيِّ ذنـبٍ قُتِلت} (81 التكوير آية 8ـ9). إن مجرد تصوُّر عملية خلق الإنسان في معمل الرحم، وكيف تتطور النطفة المهينة إلى إنسان سوي لجدير بأن يهز ضمير الإنسان، وأن يحفزه على احترام بذرة الحياة وهي تُصَنَّع في هذا المعمل العظيم، وتحمله على حُسن استقبالها حين تخرج إلى النور، فكيف يغتمُّ من يبشَّر بالأنثى، وهو لا يملك أن يخلق جناح بعوضة؟.
وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على العناية بالبنات، فورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهنَّ كُنَّ له ستراً من النار»، وأخرج أبو نُعَيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له بنت فأدَّبها فأحسن أدبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نِعم الله الَّتي أسبغ عليه كانت له ستراً أو حجاباً من النار».
والسؤال الَّذي يطرح ذاته هو: هل تعيش المرأة اليوم في عصر العلم، حياة أفضل من تلك الَّتي كانت مثيلاتها تعيشها في العصر الجاهلي؟ وهل تتمتع بالإنصاف والإحسان، فتُستَقْبَل الأنثى بالفرح نفسه الَّذي يستقبل به الذَّكر؟ الجواب: لا. فما زالت عقدة رعاية الأنثى تلاحق بعض الآباء وكأنها آفة، فمتى يَنْفُضُ هؤلاء عن عقولهم رواسب الجهل، ويعودون إلى القرآن العظيم ليستقوا منه نور الإسلام، ويؤمنوا بأن الحياة هي هبة الله المقدَّسة، الَّتي علينا أن نصونها وفق قوانين الله تعالى ومشيئته، وأن نكرِّم مخلوقاته وفق ما يُرضيه عنا، ليبقى للحياة الديمومة مع العزَّة والكرامة؟.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيِيَنَّهُ حياةً طيِّبةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أجرَهُمْ بأحسنِ ما كانوا يعملون(97)}
ومضات:
ـ ردَّ الإسلام للمرأة كرامتها، وحفظ لها حرمتها، وحثَّها على العمل البنَّاء المنتج، شريكة للرجل، في سبيل سعادة المجتمع ورقيِّه الأخلاقي والعلمي.
ـ العمل الصالح المثمر هو ما اقترن بالإيمان، لأن ما كان من العمل لله دام واتصل، وما كان لغيره انبتَّ وانفصل.
في رحاب الآيات:
المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل أمر طبيعي، لأن المكانة الاجتماعية لأيٍّ منهما لا تقلُّ أهمِّـيَّة عن الآخر، لذلك حثَّ الله تعالى كلا الجنسين على العمل المنتج، لما فيه خير المجتمع، وعدَّ ذلك من العبادة، وقد ساوى الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً بين المرأة والرجل في أمور كثيرة تُعَدُّ أسس الحياة الكريمة، وقوام الاعتبار الإنساني الرفيع في إثبات الحقوق وإيجاب الواجبات منها:
1 ـ المساواة في الإنسانية، قال تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكُمْ الَّذي خَلَقَكُمْ من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زَوجَها وبَثَّ منهما رِجالاً كثيراً ونساءً..} (4 النساء آية 1).
2 ـ المساواة في الخَلْق، فنفس الرجل ونفس المرأة سواء قال تعالى: {ونفسٍ وما سوَّاها * فألهمَهَا فُجورَهَا وتقواها * قدْ أفلحَ من زكَّاها * وقدْ خابَ من دسَّاها} (91 الشمس آية 7ـ10).
3 ـ المساواة في حقِّ الحياة، لذا حرَّم الله تعالى وَأْدَ البنات فقال سبحانه: {وإذا الموؤودَةُ سُئِلَتْ * بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (81 التكوير آية 8ـ9).
4 ـ المساواة في التكاليف الشرعية والتحلِّي بمكارم الأخلاق والثواب على ذلك، قال تعالى: {إنَّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصَّادقينَ والصَّادقاتِ والصَّابرينَ والصَّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدِّقينَ والمتصدِّقـاتِ والصَّائمينَ والصَّائمـاتِ والحافظينَ فروجَهُمْ والحافظاتِ والذَّاكرين الله كثيراً والذَّاكراتِ أعـدَّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً} (33 الأحزاب آية 35).
5 ـ المساواة في التحذير من العقاب، قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ..} (66 التحريم آية 6).
6 ـ المساواة في فريضة العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» (رواه مسلم) وكلمة مسلم اسم جنس، وهي تشمل في اللغة العربية الذكر والأنثى.
7 ـ المساواة في العقوبات كالزنا والسرقة، إذ لاتتغير العقوبة على أية جريمة باختلاف جنس الجاني، قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة} (24 سورة النور آية 2). وكذلك المساواة في القِصاص، فالرجل يُقتَل بقتل المرأة عمداً في الشريعة الإسلامية، كما يُقتَل بقتل الرجل، كذلك المرأة تُقتل بقتل الرجل عمداً، كما تُقتل بقتل المرأة.
8 ـ المساواة في حقِّ العمل بما يتفق مع فطرتها ووظيفتها في الحياة، قال تعالى: {وقُلِ اعمَلوا فسيرى الله عملَكم ورسولُهُ والمؤمنون..} (9 التوبة آية 105).
9 ـ إقراره لحقِّ المرأة في الميراث، قال تعالى: {للرِّجالِ نَصيبٌ مـمَّا تَركَ الوالدانِ والأقرَبُونَ وللنِّساءِ نَصيبٌ مـمَّا تَركَ الوالدانِ والأقربونَ مـمَّا قلَّ منه أو كَثُرَ نَصيباً مفْروضاً} (4 النساء آية 7).
10 ـ المساواة في الأهلية لإجراء العقود وسائر التصرُّفات المالية القولية والفعلية: كالتبرُّع والصدقة والدَّين والوقف والبيع والشراء والوكالة والكفالة... إلخ.
11 ـ المساواة في حقِّ التملُّك وأن يكون لها ملكيَّة منفصلة عن ملكيَّة الرجل، سواء كان أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً أو غيرهم، وأن يكون لها حرية التصرُّف في هذه الملكية بمعزل عن سيطرة الرجل وخصوصاً الزوج.
12- المساواة في الحقوق الاجتماعية مثل حقِّ البيعة بدليل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إذا جَاءَكَ المـُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ …} (60 سورة الممتحنة آية 12). وكذلك حقُّ الإجارة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ بنت أبي طالب حين أجارت الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة: «قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمَّنتِ» (رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله ابن عكرمة). وينسحب على ذلك جميع الحقوق السياسية، طالما أن في وجود المرأة المناسبة تأدية الخدمات السليمة لمجتمعها.
وبعد أن أعلن الإسلام موقفه الصريح من إنسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر إلى طبيعتها، وما تصلح له من أعمال الحياة فأبعدها عن كلِّ ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة، وخاصَّة دورها في الأمومة، ولهذا خصَّها ببعض الأحكام دون الرجل زيادة أو نقصاناً، كما أسقط عنها بعض الواجبات الدِّينية في ظروف معينة للغرض نفسه، وليس في هذا ما يتنافى مع مبدأ مساواتها بالرجل في الإنسانية والأهلية، والكرامة الاجتماعية، والحقوق والواجبات العامَّة، بل هو توفيق بين إمكاناتها وكفاءاتها من جهة، وظروفها من جهة أخرى.
والآية الكريمة تقرِّر أن من يعمل صالحاً من كلا الجنسين، بشرط الإيمان، فله الحياة الطَّـيِّبة، والجزاء الأوفى عند الله تعالى، فالله جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب، لأنه لابدَّ له من قاعدة أصيلة يرتكز عليها وهي الإيمان بالله، وعلى غير هذه القاعدة لا يقوم بناء. والعقيدة هي المركز الَّذي تُشَدُّ إليه الخيوط جميعها، وهي الباعث على هذا العمل حتى تتحقَّق الغاية المرجوَّة منه. والعمل الصالح هو ما كان لوجه الله وطلب رضاه، ليس فيه هوىً ولا رياء، وجزاؤه حياة طيِّبة على هذه الأرض؛ وفي الحياة أشياء كثيرة تطيب بها: منها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان لرعايته وستره ورضاه، ومنها الصحة والهدوء والرضا والبركة، والرزق الحلال والكسب المشروع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: « اللهم قنِّعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلُف عليَّ كلَّ غائبة لي بخير» (أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي).
وهكذا نجد أنَّ لكلِّ عمل صالح جزاءً في الدنيا والآخرة، وأن الجزاء الطَّـيِّب في الدنيا لا ينقص من الأجر الحسن في الآخرة، بشرط أن نحتسب ما نعمل لوجه الله تعالى، وأن نؤمن أن ما نقوم به من عمل هو لمصلحة الجماعة وبدافع حبِّ الآخرين، فلا فائدة من مؤمن منغلق على نفسه، منعزل عن أمَّته، لا يشاركها همومها وأفراحها، ولا يمدُّ لها يد العون متكاتفاً مع إخوانه لأن: «الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه» (رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ).