B9-f1

الـبــاب التاسع

صور من تنظيم بعض المعاملات المالية في الإسلام

الفصل الأوَّل:

الإنفاق والقرض الحسن والصدقات

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {وأنفِقُوا في سبيلِ الله ولا تُلقُوا بأَيدِيكُم إلى التَّهلُكةِ وأحسنُوا إنَّ الله يُحبُّ المحسنين(195)}

ومضات:

ـ الإنفاق المثمر في سبيل الله هو ما كان خالصاً لوجه الله تعالى، ويشمل سائر وجوه الخير الَّتي أمر الله بها، وهو أساس التضامن العائلي والاجتماعي البنَّاء، ومن ثماره الطيِّبة تطوير الإمكانات العلمية والاقتصادية والدفاعية للأمَّة، فإذا بخل الأفراد في الإنفاق أصاب الأمَّة الهلاك وطمع بها الأعداء.

ـ ليس الإنفاق مقتصراً على بذل المال، بل يشمل بذل كلِّ ما ينفع المجتمع ويعود عليه بالخير، فهناك من هو بحاجة إلى المال، وهناك من هو بحاجة إلى الهداية والتوجيه الرشيد، وهناك من يفتقر إلى العلم والمعرفة والخبرة، وهناك من يفتقر إلى المساعدة بالجهد العضلي وغير ذلك من مصالح الضعفاء والفقراء والعاجزين.

ـ إن الله تعالى يحبُّ من المؤمن إذا قام بعمل صالح أن يؤدِّيه على أكمل وجه، دون أن يخالطه أيُّ شعور بالتعالي على مخلوقات الله، وهذا وجه من وجوه الإحسان الَّذي يثمر الحبَّ والمودَّة بين النَّاس، ويقوِّي الروابط الَّتي تؤلِّف بين قلوبهم، وتزرع في حناياها المحبَّة والرحمة والتآلف، ومن ثمارها القوَّة والمنعة والرقي.

في رحاب الآيات:

إن الإنفاق في سبيل الله يزكِّي النفس ويطهِّرها من الأثرة وحبِّ الذات، وبالمقابل فالشحُّ من الأسباب المؤدِّية إلى ظهور الأنا وإيثار الذَّات، وتقديم المصالح الخاصَّة على المصالح العامَّة، ولهذا صُنِّف السخاء في الأخلاق الحميدة الَّتي يحبُّها الله ويرضى عنها، وصُنِّف الشحُّ والبخل في الأخلاق الذميمة الَّتي يبغضها الله، فقد ورد فيما أخرجه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خُلُقانِ يحبُّهما الله، وخُلُقان يبغضهما الله، فأمَّا اللذان يحبُّهما الله، فالسَّخاء والسَّماحة، وأمَّا اللذان يبغضهما الله، فسوء الخلق والبخل، فإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله على قضاء حوائج النَّاس».

فالشحُّ والبخل والإمساك كلُّها أدوات بيد الشيطان، يحرِّكها في نفس الشحيح متى أراد وكيف يشاء، كي يزعزع ثقته بالله، ويزرع لديه الخوف غير المبرر من الفقر، ممَّا يؤدِّي إلى نتائج اجتماعية سيِّئة؛ لأن الأغنياء إذا انصرفوا إلى إيثار مصالحهم الخاصَّة من تجميع للثروات وتوسيع للعقارات والممتلكات، وتخلَّوا عن رعاية مصالح الأمَّة من الدفاع عن الأرض، وصيانة العرض، ورعاية البائس والمحروم، وإطعام الجائع، فقد ألقوا بأُمَّتهم إلى التهلُكة، ونعق فيهم ناعق الخراب، وغدت الأنانية والأثرة وحبُّ الذات طبيعة لهم، فيصبحون مطمعاً للأعداء لتفكُّك قوى الأمَّة وضعف عزيمتها، ويصير فقراؤها سخَطةً متمرِّدين، لا يهمُّهم عمران الأرض أو خرابها؛ وهم يرون جيوب الأغنياء عامرة بما يجب أن يُطعِمَ أفواههم ويشبع بطونهم الخاوية.

وكما يكون الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله إهلاكاً للنفس، فكذلك يكون الإنفاق فيما لا يُرضي الله مُهلكاً لصاحبه؛ لأنه يتلف ماله في المحرَّمات، والتهالك على ملذَّات الحياة، أو يسرف في المباحات كالطعام والشراب والتحلِّي بفاخر الثياب، ويحرم الفقراء من حقِّهم في هذا المال. لذلك أمرنا الله تعالى أن نتصرَّف بحكمة واتزان، بعيداً عن العشوائية الَّتي تعود علينا بأسوأ النتائج وتقودنا إلى الهلاك.

إن الإنفاق في سبيل الله يعبِّر عن عروج المؤمن في مراقي العلم والسير للأفضل في كلِّ مناهج الحياة، سواء في سبيل الدعوة إلى الله، والتطوُّر الفكري والسلوكي للإنسان، أو إعداد العدَّة وحشد الإمكانات في معركة التهذيب والترقية الخُلقية. ويشمل الإنفاق أيضاً بذل الإنسان ممَّا يملك؛ دعماً لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بالحقِّ بالحكمة والموعظة الحسنة. ويشمل أيضاً تسخير معظم الأوقات في سبيل الله، وتوظيفها لنشر دين الله وتطبيقه، وكذلك توظيف الفكر والمشاعر والتأمُّلات من أجل فتح مجالات متنوِّعة، يتمُّ من خلالها تقديم الدِّين الحقِّ وعرضه، الدِّين الخالي من الرواسب الطائفية والأفكار الدخيلة كافَّة، وتوجيه الأهداف والآمال لتحقيق ذلك الغرض. ولكي يؤتي الإنفاق ثماره، ويحظى بالقبول عند الله عزَّ وجل، يجب أن يتوافر في المُنفق الإخلاص وصدق النيَّة، في ابتغاء مرضاة الله في كلِّ ما ينفق؛ من مال أو جهد أو وقت أو فكر أو أي طاقة يملكها من نعم الله وفضله.

ولقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنفاق وبذل المال في وجوه البرِّ مرَّات ومرَّات، مبيِّناً أجر المنفق وجزاء الممسك فقال: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهمَّ أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهمَّ أعطِ ممسكاً تلفاً» (رواه مسلم) وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «السخاء شجرة في الجنَّة فمن كان سخيّاً أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتَّى يدخله الجنَّة، والشحُّ شجرة في النار فمن كان شحيحاً أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتَّى يدخل النار» (أخرجه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا أنفقوا ممَّا رزقناكُم من قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شفاعةٌ والكافرُونَ هُمُ الظَّالمون(254)}

ومضات:

ـ يُحسن الله تعالى إلى خلقه بالعطاء والرزق، والمؤمنون يقابلون هذا الإحسان بالإحسان إلى النَّاس؛ فينفقون من أموالهم في وجوه الخير والبِرِّ الَّتي تُرضي الخالق سبحانه.

ـ الدار الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء، ومن لم ينفق اليوم في سبيل تحقيق ما يحبُّه الله تعالى، فسيواجه يوماً تتوقَّف فيه آلة العمل عن الدوران، فلا يعود بقدرته أن يفتدي نفسه بحسنة أو عمل صالح، فقد جفَّت الأقلام وطُويت الصحف، فلا حسنة تسجَّل ولا سيئة تمحى، ولن يجد المرء في ذلك اليوم من يدفع عنه العذاب، أو يشفع له لينجو من عاقبة ذنوبه، وعليه منذ الآن أن يختار الطريق الآمن المنجي من الشقاوة الأبدية والموصل إلى السعادة السرمدية.

ـ الكافر ظالم لنفسه قبل أن يكون ظالماً لغيره، لأنه انحرف عن مسبِّبات السعادة السرمدية، واتخذ خطوات عدوِّه الشيطان مرشداً له وسبيلاً.

في رحاب الآيات:

إذا نشأ حبُّ الله في القلب وترعرع، ارتقى بالإنسان إلى مصافِّ الأتقياء ومراتب الأبرار، حتَّى يصبح كلُّ ما يملكه أداة طيِّعة يسخِّرها في سبيل هذا الحبِّ الإلهي. ولا غرابة في ذلك فإن نفس المؤمن الزكية تجود في سبيل محبوبها بالنفيس من مالها قبل الرخيص. ومن رحمة الله وسعة عطائه، أنه يرزق العبد ويهديه لينفق في وجوه الخير والبِرِّ فيُجزل له الثواب على ذلك، فهو المعطي للمال وهو المثيب على إنفاقه.

أمَّا نفس البخيل والَّتي لم يتغلغل في حناياها حبُّ الله، ولم يهذِّبها حبُّ السخاء في سبيله، فهي أسيرةُ نوازعِ الطمع والتقتير، مكبَّلَة بأغلال المخاوف والوساوس، حتَّى يغدو صاحبها عبداً لماله بدلاً من أن يكون المال خادماً له. بينما تتحرَّر نفس المؤمن السخي من هذه القيود، فينطلق إلى ما فيه إعمار مجتمعه وازدهاره. والله تعالى لم يجعل في الصدقات إرهاقاً ولا حرجاً على الغني، فقد فرض في ماله حقاً يسيراً للفقير يكفل له الحصول على مصدر للكسب والإنتاج، فيحقِّق له عيشاً كريماً ويحوِّله إلى متصدِّق بدلاً من أن يكون آخذاً للصدقات. جاء في الحديث الشريف: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الَّذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً» (رواه الطبراني).

وبهذا نجد أن أمام المؤمن فرصاً كثيرة مبثوثة في ساعات عمره كلِّها، وعليه أن يغتنمها ليجني منها ما استطاع من ثمرات الخير والبِرِّ الَّتي تعود عليه في الدارين حُسناً، مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحَّتَك قبل سُقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك» (رواه البخاري ومسلم) وإلا فاته قطار العمر، وندم حيث لا ينفع الندم، في يوم لا يجد فيه مالاً يفتدي نفسه به، وتنقطع فيه الصلة بين الأخِلاَّء إلا المتَّقين منهم، قال تعالى: {الأخِلاَّءُ يومئذٍ بعضُهُم لبعضٍ عدوٌّ إلاَّ المتَّقين} (43 الزخرف آية 67)، ولا تُقبل فيه شفاعة إلا لمن أذن له الله من الرسل والأبرار، ولا يجد إلا ما قدَّمته يداه وسيُجزى عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

ولا ريب في أن من الحكمة بمكان أن يضع المرء الأشياء في مواضعها الصحيحة ومن جملتها المال، فمن الظلم للنفس والمجتمع أن يضعه الإنسان في غير موضعه، وأن يصرفه في غير وجوهه الَّتي أمر الله بها، ويمنعه عن الملهوف فلا يغيثه، وعن المضطر فلا يكشف الضُرَّ عنه ولا يواسيه به، ولا يبذله في سبيل المصالح العامَّة الَّتي تفيد الأمَّة وترفع من قدرها.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {لن تَنالوا البِرَّ حتَّى تُنفقُوا ممَّا تُحِبُّونَ وما تُنفِقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليم(92)}

ومضات:

ـ أعظم الصدقات أجراً تلك الَّتي يبذلها المؤمن من خير ماله وأحبِّه إلى نفسه، فهي مفتاح البِرِّ وصندوقه ومحتواه.

في رحاب الآيات:

آية الصدق في العطاء وميزانه الصحيح؛ هو الإنفاق في سبيل الله تعالى من نفائس الأموال وأكرمها، وأطيبها كسباً، وذلك حباً في الله وإخلاصاً له وشكراً على نعمه.

وبما أن الصَّدقة تُبذل لتحقيق مرضاة الله، فيجدر بنا أن نجود من أفضل الموجود، وألا يكون من الرديء الخبيث الَّذي تعافه نفس صاحبه ويهون عليها تركه، والله تعالى لا يقبل إلا الطيب ويجزي عليه جزاء الراضي الشاكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تصدَّق بعدل تمرة من كَسـبٍ طيِّبٍ، ـ ولا يقبل الله إلا الطيِّب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثمَّ يُربِّيها لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّهُ ـ مهره ـ حتَّى تكون مثل الجبل» (متفق عليه).

وممَّا أُثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبُّوا شيئاً جعلوه لله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه اشتهى في مرضٍ له حوتاً، فأخذته امرأته، فصنعته ثمَّ قربته إليه، فأتى مسكين، فقال ابن عمر: خُذْهُ، فقال له أهله: سبحان الله، قد عنَّيتنا، ومعنا زادٌ نعطيه منه، فقال: إن عبد الله يحبُّه. ورُوي أن سائلاً وقف بباب الربيع بن خيثم رحمه الله، فقال لأهله: أطعموه حلوى، فقالوا: نُطعمه خُبزاً أنفع لـه، فقال: ويحكم أطعموه حلوى، فإن الربيع يحبُّ الحلوى. وقد كان عليه السَّلام يُحسن توجيه صحابته إلى محلِّ الإنفاق ويحثُّ على إعطاء الأقارب والاهتمام بهم، لأن الإنفاق العشوائي لا يحقِّق الغاية المرجوَّة منه، أمَّا الإنفاق الموجَّه فإنه يصل بصاحبه إلى البِرِّ الَّذي هو جوهر محبَّة الله لعباده المصطفين الأخيار. وتدخل الصدقات في دائرة الإنفاق، وكلُّ ما ينفقه المرء فالله به عليم، ويجازيه عليه بحسب ما يعلم من نيَّته ومن موقع ذلك في قلبه.

سورة التغابن(64)

قال الله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم واسْمَعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسِكم ومنْ يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك همُ المفْلِحون(16) إن تُقْرِضوا الله قرْضاً حسناً يُضاعِفْهُ لكم ويغْفِرْ لكم والله شَكورٌ حليم(17) عالمُ الغيبِ والشَّهادةِ العزيزُ الحكيم(18)}

ومضات:

ـ يبيِّن الله تعالى مبادئ أساسيَّة ليلتزم المؤمنون بها، تبدأ باتِّقاء محارمه كلِّها وامتثال أوامره ضمن الطاقة البشرية، فلا يُكلِّف الله أحداً بأكثر من طاقته، ومن ثمَّ فقد أوجب علينا سبحانه السمع والطاعة لأمر الله عزَّ وجل وأولي الأمر منَّا، والإنفاق السخي ونبذ الأثرة والأنانية. وبالمقابل فقد منح الطائعين المهديين وعداً بالفلاح والنصر ما داموا ملتزمين بذلك.

ـ إن تقديم القرض لله تعالى يعني الإنفاق على المحتاجين زيادة عن حدود التكليف، والله تعالى يبارك في هذه الأموال المنفَقَة وينمِّيها ويردُّها مضاعفة لمقدِّميها، مقرونة بالمغفرة والشكر وحسن الثواب.

ـ الله تعالى رؤوف بعباده حليم عليهم، أعطاهم من نعمه ورزقهم من فضله، ثمَّ طلب إليهم أن يتصدَّقوا بشيء من هذا العطاء، وهو العالم بما يجهلونه، الشَّاهد على ما يقدِّمونه، وهو العزيز في سلطانه الغني في ملكه، الحكيم في تقديره ولا يشرِّع إلا ما فيه خير النَّاس جميعاً.

في رحاب الآيات:

إن طموحات الإنسان المؤمن إلى المزيد من الكمال وفضائل الأعمال لا حدود لها، لكنَّه لن يستطيع أن يدركها كلَّها بجهده البشري المتواضع، وطاقاته المحدودة، لذا أحاطت به عناية الله وتوفيقه فعامله بفضله، فكان له ثواب ما عمل من الطاعات والقربات، وثواب النيَّة على ما لم يتمكَّن من عمله. فالله جلَّ وعلا يدعو الَّذين آمنوا ليتَّقوه في حدود الطاقة والاستطاعة، {فاتَّقوا الله ما استَطَعْتُم} وفي هذا الحنوِّ {ما استطعتم} يتجلَّى لُطف الله بعباده، وعلمه بحدود طاقتهم في طاعته وتقواه. ومع ذلك فلابدَّ للمرء من أن يقوم بالجهد الممكن المقرون بالبذل والإنفاق، لأنه لا يمكن لأي عمل فاضل أن يستمرَّ ما لم يُدعم مادياً ومعنوياً وعملياً.

إن الإنفاق في سبيل الله أوَّل ما يعود بالنفع على المنفق نفسه، وهذا ما أكَّده قوله تعالى في هذه الآية: {وأنفقوا خيراً لأنفسِكُم} فجعل ما ينفقونه وكأنه نفقة مباشرة لذواتهم، ويعدُّها خيراً لهم حين يفعلون، ويريهم شُحَّ النفس بلاءً خطيراً، والسعيد السعيد من يقي منه نفسه فينجو من شرِّه. ولا يخفى أن التكافل الاجتماعي قد يحتاج إلى مزيد من البذل والإنفاق، ممَّا يستلزم المزيد من التضحية، ولهذا دعانا الله تعالى إلى الإقراض وعَدَّ نفسه هو المسـتقرض، حيث يردُّ للمقرض الجواد ما أنفقه أضعافاً مضاعفة، مقروناً بالمغفرة والعفو الإلهي، ولولا حلمه تعالى وفضله على عباده ما أثابهم على إنفاقهم لشيء هو مالكه الحقيقي، وهو الَّذي وضعه تحت تصرُّفهم ليحسنوا التصرف فيه فيضعوه في الجهة الَّتي يرضاها.

إن إنفاق المسلم على أخيه المسلم تفريجاً لكربه، وإزالةً لهمِّه ومواساةً له في ضائقة أَلمَّت به؛ هو عمل لله يراد به وجهه، وكأن العبد يقدم قرضاً لله عزَّ وجل، وهو خير من يكافئ على هذا التقديم. فتبارك الله ما أكرمه وما أعظمه! فهو ينشئ العبد ثمَّ يرزقه، ثمَّ يسأله فضل ما أعطاه، قرضاً يضاعفه، ثمَّ يشكر لعبده الَّذي أنشأه وأعطاه، كما أنه يعامله بالحلم في حال تقصيره عن شكر مولاه. إن الله يعلِّمنا بصفاته كيف نتسامى عن الضعف والنقائص، ونتطلَّع دائماً إلى الخير والإحسان، لنشهد فضله سبحانه، ونحسن إلى خلقه كما أحسن إلينا في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة. والله عالم بكلِّ شيء، بما غاب وما حضر ولا تخفى عليه خافية، كلُّ شيء خاضع لسلطانه، مدبَّر بحكمته، كي يعيش النَّاس وهم يشعرون بأن عين الله ترعاهم، وسلطانه مهيمن عليهم، وحكمته تدبِّر الأمر كلَّه حاضره وغائبه، ويكفي أن يستقرَّ هذا التصوُّر في القلوب لتتَّقي الله، وتخلص له، وتستجيب لأوامره.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {من ذا الَّذي يُقرِضُ الله قَرضاً حسناً فيُضاعفَهُ لهُ أضعَافاً كثيرَةً والله يَقبِضُ وَيَبْسُطُ وإليه تُرجَعُونَ(245)}

ومضات:

ـ المؤمن مدعوٌّ لبذل المزيد من ماله في طرق الخير، ابتغاءً لمرضاة الله تعالى وإعلاءً لكلمته، والله تعالى يلقي على هذا البذل صفة القرض لأن القرض لا إلزام فيه، وردُّه مضمون من قِبَلِهِ تعالى مضاعفاً في الحياة الدنيا والآخرة.

ـ الله تعالى يضيِّق الرزق على من يشاء ويوسِّعه على من يشاء، ابتلاءً وامتحاناً، فليـس كلُّ تقتير في الرزق نقمة، ولا كلُّ سعة فيه نعمة، بل هو وسيلة لاختبار مدى صبر المؤمن على القليل، وحسن تدبيره وشكره على الكثير.

في رحاب الآيات:

يحثُّ الله تعالى عباده على التصدُّق والإنفاق، لما في ذلك من تهذيبٍ لنفوسهم التوَّاقة بطبعها إلى جمع المال واكتنازه، باعتبار أنه الوسيلة الَّتي تحقِّق بها لذائذها الدنيوية، فتأنس به في هذا العالم الزائل، وتنفر من أجله من الموت، وتنشغل به عن الاستعداد للقاء الله عزَّ وجل.

وقد قضى الله تعالى بامتحان النفس البشرية لبيان صدقها في محبَّته من كذبها، وذلك بدعوتها إلى التصدُّق بأجزاء من بعض محبوباتها الدنيوية ومنها المال ابتغاءً لمرضاته، وما سُمِّيت الصَّدقة صدقةً إلا لأنها تدلُّ على صدق العبد في محبَّة ربِّه.

إن الحضَّ على الإنفاق يأتي هنا في صورة عقد القرض بين الله والعبد، وقد سمَّى الله تعالى المال المُنْفَق، والزائد عن حدود الزَّكاة، قرضاً له ليشير إلى أن نماءه سيأتي مضاعفاً في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وإلا لسمَّاه تبرُّعاً أو هبة لا يتوجَّب سدادها في المستقبل المنظور. أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ملكاً بباب من أبواب السَّماء يقول: من يقرض الله اليوم يُجْزَ غداً، وملك بباب آخر ينادي اللَّهم أَعطِ منفقاً خَلَفاً وأعطِ ممسكاً تَلَفاً، وملك بباب ثالث ينادي يا أيُّها النَّاس هلمُّوا إلى ربِّكم، ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى».

ثمَّ إن لله تعالى طريقاً آخر يمتحن به عبده فهو يقلِّل المال بين يديه ليختبر صبره وثباته، وليُبقي قلب المؤمن متعلِّقاً به سبحانه لا يشغله عنه شاغل. وربَّما عاقب الله العاصي من عباده بتقتير الرزق عليه ليدفع به إلى لحظة الصحو والتنبُّه من غفلته، والتضرُّع إليه جلَّ وعلا ليعيده إلى جادَّة الصواب وينتشله من ضيقه. ولربَّما منع الرزق أيضاً عمَّن هو جاهلٌ بسنن الحياة، متوانٍ عن الأخذ بالأسباب، قاعدٌ عن السعي في مناكب الأرض ليعلِّمه أن الرزق لمن يعمل ويتعب، لا لمن يتقاعس ويتواكل. فالله تعالى يبسط المال إنعاماً وانتقاماً، ينعم به على من أناب وعمل صالحاً، وأنفقه حيث أمره أن ينفقه، ويفتن به من جحد واستكبر. وهكذا يكون المال وسيلة ابتلاء للأغنياء والفقراء على السواء، المؤمنين منهم والضالِّين، والفائز هو من تعمل يده في الدنيا، بينما قلبه معلَّقٌ بالله وعينه متطلِّعة إلى يوم الحساب.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {مثَلُ الَّذين يُنفِقُونَ أموالَهُم في سبيلِ الله كمثَلِ حَبَّةٍ أَنبتَت سَبعَ سنابِلَ في كلِّ سُنبُلَةٍ مائةُ حَبَّةٍ والله يُضاعِفُ لمن يشاءُ والله واسِعٌ عليمٌ(261)}

ومضات:

ـ من يبذل المال ابتغاءَ مرضاة الله تعالى لا يخشَ الفقر أو الحاجة، لأنه بذلك يدير تجارة ناجحة مضمونة الأرباح، تصل عائداتها إلى سبعمائة ضعف لرأسمالها وربَّما أكثر إذ أن فضل الله غير محدود.

ـ ذكر الله تعالى أن المال يجب أن ينفق في سبيله على وجه العموم ولم يقيِّده بكيفية أو صيغة محدَّدة، إشعاراً بأن أوجه البِرِّ كثيرة وجميعها توصل إلى طاعته ورضوانه.

ـ بعد أن ذكر الله تعالى أن ثواب الإنفاق في سبيل الله يصل إلى سبعمائة ضعف قال: {والله يُضاعِفُ لمن يَشاءُ} إيذاناً بأن هذا هو الحدُّ الأدنى للثواب، بينما الحدُّ الأقصى لا نهاية له، وهو متاح ومبذول لكلِّ من ضحَّى وصدق النيَّة والعزيمة من أجل طاعة الله الَّذي وَسِعَ علمه وفضله كلَّ شيء.

في رحاب الآيات:

من خلال سعي الإسلام إلى بناء مجتمع متعاضد متلاحم، يرغِّب بإنفاق المال في أوجه الخير كوسيلة لتهذيب نفس معطيه وتفريج كرب آخذه، ليتحوَّل المجتمع بذلك إلى أسرة يسودها التعاون والتراحم. وقد دعا الشارع الحكيم إلى البذل وحثَّ عليه بأسلوب يستهوي الأفئدة، ويثير في النفس كوامن الخير والبِرِّ والإحسان، حيث بدأ بالحضِّ والتأليف، ولم يبدأ بالفرض والتكليف. وهو في هذه الآية يحفز المشاعر والانفعالات الخيِّرة في الكيان الإنساني، من خلال صورة من صور الحياة الفَيَّاضة المعطاء، صورة الزرع، هبة الأرض الَّتي هي هبة الله، الأرض الَّتي تعطي من الزرع أضعاف ما تأخذ من البذار.

وتَجسَّد مشهد الحياة النابضة، والطبيعة المتجدِّدة، في صورة العُودِ الَّذي يحمل سبع سنابل، في كلِّ سنبلة منها مائة حبَّة، فتكون الحبَّة قد تضاعفت سبعمائة ضعف، تمثيلاً لمضاعفة أجر من أخلص في صدقاته وأعماله الصالحة، فالله تعالى يربِّيها كما تربِّي الأرض الطيِّبة الزرع. وقـُيِّد الإنفاق بأن يكون خالص النيَّة في سبيل الله، وسبيل الله مدخل واسع يتَّسع لكلِّ حاجات المجتمع، فيشمل الإنفاق على الفقراء والمساكين والأقارب وطلبة العلم، وكذلك وجوه البِرِّ كالمستشفيات والمدارس، كما تدخل فيه أي نفقة تعود بالرقي الفكري والنُّمُوِّ الاقتصادي على المجتمع، وإزالة أسباب التخلُّف والجهل ورفع المستوى الحضاري للناس جميعاً.

والله سبحانه يضاعف العطاء لمن يشاء من عباده، وهو عطاء لا يعلم حدوده إلا هو، ويضاعف من رحمته الَّتي لا يعرف أحد مداها، ويجعل من فضله للناس بذاراً في مزرعة الدنيا تنضج فيها ثمَّ تُحصد في الدار الآخرة.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {ولا يحسبَنَّ الَّذين يَبخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فضلِهِ هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلوا به يومَ القيامة ولله ميراثُ السَّمواتِ والأرضِ والله بما تعملونَ خبير(180)}

سورة الحديد(57)

وقال أيضاً: {وما لكم ألاَّ تُنفِقوا في سبيلِ الله ولله ميراثُ السَّمواتِ والأرضِ لا يستوي منكم من أنفقَ من قبْلِ الفتْحِ وقاتلَ أولئك أعظمُ درجةً مِنَ الَّذين أنفَقوا من بعدُ وقاتَلوا وكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسنى والله بما تعملونَ خبير(10) من ذا الَّذي يُقرِضُ الله قرْضاً حسناً فيُضاعِفَهُ له وله أجرٌ كريم(11)}

سورة محمَّد(47)

وقال أيضاً: {هاأنتم هؤلاء تُدْعَونَ لِتُنفقوا في سبيلِ الله فَمِنكُم من يَبْخَلُ ومن يَبْخَلْ فإنَّما يَبْخَلُ عن نفسه والله الغنيُّ وأنتم الفقراءُ وإن تَتَولَّوا يستبدِلْ قوماً غيرَكُم ثمَّ لا يكونوا أمثالَكُم(38)}

ومضات:

ـ يخطئ البخيل التقدير إذا ظنَّ أن كنزه للمال وإمساكه عن الإنفاق في سبيل الله يحفظ عليه ماله ويحقِّق له الخير والربح، لأن بخله سينقلب في النهاية وبالاً عليه، حين يتحوَّل ماله إلى قيد يحكم وثاقه ويزيد من عذابه في الآخرة.

ـ إن إعراض كثير من النَّاس عن البذل والإنفاق في أوجه الخير يثير الاستغراب والاستنكار، لأنهم يدركون تماماً أن الله تعالى خالق السموات والأرض، قد أعطى خلائقه ما أعطاهم على سبيل الوديعة، فهو يقلِّبها ويداولها بين أيديهم كيفما يشاء، وفي النهاية سيعود كلُّ شيء إليه، لأنه هو المالك الحقيقي لكلِّ شيء، ولن يتملَّك أيُّ فرد، كائناً من كان، مُلْكاً خالداً في هذه الأرض، ففيمَ يتشبَّثون وعلامَ يحرصون؟.

ـ الإنفاق الأكمل هو ما كان في وقت الحاجة الماسَّة إليه، وهو أهم بكثير من الإنفاق حين الرخاء والبحبوحة، ولكلٍّ أجره مع التفاوت؛ فالمؤمن الحقيقي ينفق في الحالين، فلا الضرَّاء تُنسيه حقَّ الفقير، ولا السرَّاء تُطغيه.

ـ الدعوة إلى إقراض الله تعالى، هي دعوة المؤمن إلى البذل طوعاً أكثر ممَّا هو مفروض عليه، بلا حدود أو قيود، وهذا القرض يردُّه الله تعالى للمنفق في الحياة الدنيا أضعافاً مضاعفة، ثمَّ يُجزِلُ له الثواب في الدار الآخرة.

ـ الله تعالى قادر على إنفاذ أمره، وإتمام نور شريعته، ومن تقاعس عن حمل الرسالة وتولّى عن شرف خدمة دينه، يستبدله بمن هو أشدُّ حرصاً على إعلاء كلمته ونُصرة دينه.

في رحاب الآيات:

الإنسان يحبُّ المال بطبعه، وقد يتطوَّر هذا الحبُّ ليصبح شغفاً ونهماً، وهذا التعلُّق يدفع صاحبه إلى البخل والجشع وحبِّ الأثرة وغير ذلك من المساوئ الخُلُقية، ولا يمكن للمرء أن يتخلَّص من ذلك إلا بتربية النفس وتزكيتها وتمرينها على البذل، وتدريبها على العطاء، وبقدر ما يملك المرء من قوَّة الإيمان وعمق اليقين، يستطيع مغالبة نفسه والانتصار عليها بإخراج المال المحبوب من دائرة تعلُّقاته القلبية.

إن البُخل مرض نفسي واجتماعي خطير، من آثاره الضارَّة نشوء فئتين من النَّاس، فئة غنية مترفة تتكدَّس الأموال في خزائنها وبين أيديها، وتبذل كلَّ وقتها من أجل تنميتها والحفاظ عليها، ولا تحتاج منها إلا القليل، وفئة أخرى فقيرة مُعوِزة بحاجة ماسَّة إلى المال لتأمين ضروريَّات العيش، تنفق جُلَّ وقتها في طلبه ولا تحصل عليه. ولو بسط البخيل يده وأنفق قسماً من ماله لوجد الفقير حاجته فالتقت بذلك مصلحة الطرفين، ولَعَمَّ الجميعَ حبٌّ وتفاهم وتعاون ولعاش النَّاس جنَّة الأرض قبل جنَّة السماء. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر مُنصف أن ما يمكن تصوُّره بذلك، من سعادة وأمن ورفاهية على مستوى الأشخاص؛ ينطبق تماماً على مستوى الأمم والدول، ولو تحقَّق ذلك عملياً لامتنعت الحروب ولعمَّ السَّلام، ولعاش النَّاس كلُّ النَّاس متآخين متعاونين متواسين.

ومن ناحية أخرى فإن الَّذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله يبخلون بما لا يملكونه فعلاً؛ لأنهم جاؤوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئاً، فمنَّ الله عليهم وأغناهم، حتَّى إذا طلب إليهم أن ينفقوا بعضاً ممَّا أعطاهم بخِلوا ونَسُوا فضله عليهم، وحسِبوا أن في كنزه خيراً لهم، وهو شرٌّ كبير لهم، ينعكس على حياتهم الخاصَّة وترابطهم العائلي والاجتماعي. إن حبس المال عن المحتاجين يؤدِّي إلى فساد بُنية المجتمع وظهور تيَّارات يتبنَّاها أناس آذاهم الفقر وأَقَضَّ مضجعهم الجوع، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشحَّ فإن الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلُّوا محارمهم» (رواه مسلم) وهم بعد ذلك كلِّه ذاهبون وقد خلَّفوه وراءهم، والله وحده هو الوارث الحقيقي للكون كلِّه {ولله ميراث السموات والأرض}.

ولعلَّ وِقفة تأمُّلٍ لمصير ما نملك ومآله إلى غيرنا من بعدنا، ومن ثمَّ ميراث الله تعالى للأرض وما عليها، يعطينا الباعث لأن نعيد حساباتنا ونفكر بمدَّخراتنا للرحلة الأبدية، فكلُّ ما ننفقه اليوم في سبيل الله يُدَّخر لنا مضاعفاً لدى المصارف الإلهية، وأمَّا ما ننفقه في سبيل ملذَّاتنا الدنيوية فهو ذاهب إلى العدم، وكلُّ ما نكنزه ونحجبه عن مساعدة النَّاس وإسعاد المؤمنين، سينقلب إلى طوق يُشدُّ حول أعناقنا ويضيِّق عليها الخناق، ويذيقنا العذاب الَّذي لا يطاق. فما حَرِصنا عليه في الحياة الدنيا وبخلنا به وعشنا في همِّ الاستزادة منه وقلقنا في سبيل المحافظة عليه، يتحوَّل إلى أثقال تَرزحُ كواهلُنا تحتها في الدار الآخرة، ليصبح كلُّ مكسب حصلنا عليه في رحلة الحياة القصيرة هذه همّاً في الحياة وهمّاً بعد الممات.

إن الله تعالى الرحيم بعباده لم يرتضِ لهم هذا المآل فأرشدهم إلى طريق الخلاص من الشُّحِّ وآثاره، ولهذا نجد أن الآيات الَّتي تحثُّ على الإنفاق في كتاب الله العزيز كثيرة جداً. فالمال مال الله، والإنسان مُستخلَفٌ فيه، لا يجوز له أن ينفقه إلا فيما أباح الله، ولله ميراث السموات والأرض، والمال سيؤول إليه في النهاية ضمن هذا الميراث، فما الَّذي يعيق النَّاس عن الإنفاق في سبيله حين يدعوهم إلى ذلك؟. إن الآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها توضح أفضلية الإنفاق وأولويته، وترشد المؤمن متى ينفق، وأين ينفق، وكيف يحسب جدوى الإنفاق، والعائد من هذا الإنفاق. وتُبَيِّن كذلك أنَّ مَنْ يُنفِقُ وهو في ضيق وفي وقت الحاجة الماسَّة أفضل ممَّن ينفق عن سـعة أو في وقت الرخاء، وفي كلٍّ خير. وقد بذلت النُّخبة المصطفاة من المهاجرين والأنصار وُسعها من النفس والمال في ساعة العسرة ـ قبل فتح مكة ـ حين كان الإسلام غريباً مُحاصَراً من كلِّ جانب، فكان هذا البذل خالصاً لا تشوبه شائبة من طمع أو رياء، وعلى الرغم من أن ما بذلوه من ناحية الكمِّ كان قليلاً بالقياس إلى مَنْ أنفق من بعد الفتح، فإن القرآن الكريم الَّذي يَزِنُ الأمور بميزان الحقِّ، يقرِّر أن الكمَّ ليس هو الراجح في ميزان الله، بل الراجح هو الباعث على الانفاق وما يمثِّله من حقيقة الإيمان؛ فالَّذين آمنوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وأنفقوا في سبيل نشر دعوته، وهو لم يزل بعد في بداية أمره ـ ودَعوَتُه ما زالت في مهدها ضعيفة الوسائل ـ خيرٌ من أولئك الَّذين آمنوا به وأنفقوا في سبيل دعوته بعد أن أصبحت ذات سطوة ومنعة. فبينما حمل الأوَّلون الدعوة على كواهلهم، حتَّى وصلت إلى ما وصلت إليه، دون أن يعلموا ما الَّذي كانت تخبِّئه لهم الأقدار، دخل المتأخرون في الإسلام منتفعين به بعد أن عرفوا وأدركوا النصر الَّذي حقَّقه بالفتح. فالَّذي ينفق والعقيدة مطاردة، والأنصار قلَّة، وليس في الأفق بشائر أمل منظورة، غير الَّذي ينفق والعقيدة آمنة، والأنصار كثيرون، والنصر قريب المنال، لأن إنفاق الأوَّل متعلِّق مباشرة بالله، متجرِّداً تجرُّداً كاملاً لا شُبْهة فيه. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخِلالٍ، فنزل عليه جبريل عليه السَّلام فقال: يانبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلال؟ فقال: قد أنفق عليَّ ماله قبل الفتح، قال: فإن الله يقول لك: اقرأ على أبي بكر السَّلام، وقل له: أَرَاضٍ أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن الله عزَّ وجل يقرأ عليك السَّلام ويقول: أراضٍ أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربِّي؟؟ إني عن ربِّي لراضٍ، إني عن ربِّي لراضٍ، إني عن ربِّي لراضٍ!! قال: فإن الله يقول لك قد رضيتُ عنك كما أنت عني راض، فبكى أبو بكر، فقال جبريل عليه السَّلام: والَّذي بعثك يامحمَّد بالحق، لقد تخلَّلت حَملةُ العرش بالعُبيِّ منذ تخلَّل صاحبُك هذا بالعباءة» (أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، والقرطبي).

ومن ينفق عندما تدعو الحاجة للإنفاق خير ممن ينفق في وقت يَعُمُّ فيه الرخاء والخير بين النَّاس. ومن ينفق لإغناء عائلة ونشلها من دائرة الفقر خير ممن يوزِّع إنفاقه بين عدد كبير من النَّاس، بحيث يبقى الجميع محتاجين، ولو أننا أمسكنا عليهم الرمق لوقت قصير. والخير فيمن ينفق لشراء أدوات الإنتاج ليضعها بين يدي الفقراء المحتاجين ويحوِّلهم إلى عناصر منتجة، يعملون ويسدِّدون قيمة هذه الأدوات من حاصل إنتاجهم. والإنفاق على عالِمٍ ليتفرَّغ للعلم والتعليم وهداية الخلق إلى الحقِّ خير من الإنفاق على جاهل فقير مُعْرِضٍ عن العلم والتعلُّم.

وأفضل أنواع الإنفاق وقمَّة العطاء، حين يعطي المرء حسب الحاجة بلا حساب، ولا قيود، ويقدِّم بعطائه هذا قرضاً كريماً لحضرة الله، ولوجهه تعالى، ومن أوفى منه جلَّ وعلا بتسديد القروض، وإعادتها لأصحابها مضاعفة مع حسن الثواب؟، فإذا كانت الفوائد محرَّمة حين يقرض الإنسان أخاه الإنسان فهي مباحة ودون حدود بين العبد وخالقه. وفي كلِّ الأحوال، فإن هناك دائماً من هو بحاجة إلى المساعدة، سواء بسبب مصيبة أَلَمَّت به أو نازلة حلَّت بساحته، أو ضيق ألقاه بين براثن الجوع والحاجة، أو مرض أقعده عن السعي وطلب الرزق، وهناك أناس طـيِّبون يبذلون ويقدمون لهؤلاء المحتاجين ما يحتاجونه من مال أو جهد، وهناك أيضـاً من يبخـل ويتقاعـس. ولكن ـ ولحاجة ماسَّة ولظروف طارئـة ـ قد يُدعى النَّاس جميعاً إلى البذل الكثير والعطاء الوفير، لضرورات أَمنيَّةٍ أو اجتماعية تستلزم حشد الطاقات جميعها، المادية والفكرية والعلمية، وذلك للنهوض بالمجتمع من كبوته ورفع راية الإيمان والتوحيد، وحينها ينبغي على الجميع أن يُلَبُّوا داعي الحقِّ، وأن يقدِّموا الغالي والنفيس، سواء من أموالهم أم من وقتهم أم من جهدهم وعرقهم. وإذا ما تقاعس بعض الأغنياء والعلماء والقادرين عن دعم مجتمعهم، أو قصَّروا في بناء كيانه الروحي والأخلاقي والعلمي والمادي، فإن الله تعالى بحكمته وقدرته العليَّة سيستبدلهم بأناس مُتحمِّسين ومندفعين لمتابعة المسيرة، وحمل شُعلة الإيمان بعزم وتصميم يسبقون به من جاء قبلهم، ويكونون خيراً منهم في حُسن العمل وجودة البناء. وخير مثل على موقف المجتمع المؤمن عند الحاجة العامَّة ما فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دعا داعي الجهاد والبذل والتضحية بالمصالح وبالمال والأنفس، حيث هبَّ المجتمع كلُّه ودون استثناء ليدافع عن وجوده وكيانه ودينه، واسترخص في سبيل هذه الغاية العظمى كلَّ تضحية فلم يمسك تجاهها شيئاً، بل جاد المجتمع كلُّ المجتمع المؤمن المربَّى بكلِّ ما يملك، فكان أهلاً للنصر والعزَّة والكرامة وقد فاز بها في الدنيا، وله في الآخرة ما هو أَعزُّ وأكرم وأبقى.

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {وآتِ ذا القُرْبى حقَّهُ والمسكينَ وابنَ السَّبيلِ ولا تبذِّر تبذيراً(26) إنَّ المبذِّرين كانوا إخوانَ الشَّياطينِ وكان الشَّيطانُ لربِّهِ كفوراً(27) وإمَّا تُعرِضَنَّ عنهم ابتغاءَ رحمةٍ من ربِّكَ تَرجوها فقلْ لهم قولاً ميسوراً(28) ولا تجعلْ يدَكَ مغلولةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كلَّ البَسْطِ فتقعدَ مَلَوماً مَحسوراً(29) إنَّ ربَّكَ يَبْسُطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ ويقدِرُ إنَّه كان بعبادِهِ خبيراً بصيراً(30) ولا تقتلوا أولادَكُم خشيَةَ إمْلاقٍ نحن نَرزُقُهم وإيَّاكم إنَّ قَتْلَهم كان خِطْأً كبيراً(31)}

ومضات:

ـ يجعل القرآن الكريم للقريب والمسكين وابن السبيل حقاً في الأعناق يُوفَّى بالإنفاق، وينهى عن التبذير في الإنفاق الَّذي يجعل من المنفق فقيراً معدماً. فالإنفاق الَّذي دعا إليه هو يد محسنة تمتدُّ إلى بائس فتنقذه من بؤسه، وليس ضربة قاضية تحوِّل الباذل المعطي إلى فقير معدم يحتاج إلى من يساعده.

ـ عدَّ الله تعالى المبذِّرين الَّذين ينفقون أموالهم فيما يسخط الله إخواناً للشياطين، لأنهم يندفعون وراء أهوائهم ويلقون بأنفسهم في التهلُكة، من غير توازن ولا شعور بالمسؤولية.

ـ عند تعذُّر أداء المال لذوي القربى والمساكين وابن السبيل، يمكن للمرء أن يكرمهم بالقول الليِّن والكلمة الطيِّبة بما يطيِّب خاطرهم ويشرح صدورهم.

ـ التوازن هو القاعدة الأساسية في النهج الإسلامي فخير الأمور بنظره أوسطها، والإفراط كالتفريط يُخِلُّ بسنن الحياة، فالبخل بمثابة اليد المغلولة إلى العنق، والإسراف يدٌ مبسوطة كلَّ البسط، ونهاية الاثنين على السواء الحسرة والندامة.

ـ إن الله عزَّ وجل يبسط الرزق لمن يشاء، ويَقْدِر الرزق على من يشاء فهو الخبير البصير بعباده، العالم بما فيه خيرُهم أو شرُّهم، ولو اطَّلع الإنسان على الغيب لاختار الواقع الَّذي يَنْفُذُ قَدَرُه.

ـ ما دام الرزق بيد الله فينبغي على الإنسان ألا يخاف من فقدان لقمة العيش، وأن لا يجزع من تبعة إعالة أولاده، وألا يفكر مُجرَّد تفكير بالتخلُّص منهم خوفاً من الفقر. وما عليه إلا أن يسعى في طلب الرزق امتثالاً لأمر الله: {هو الَّذي جعل لكم الأرضَ ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رِزقه وإليه النُّشور} (67 سورة الملك آية 15) لِيَجِدَ الرزق الَّذي يُصْلِحُ حاله قد سعى إليه مصداق قوله تعالى: {نحن نرزقهم وإيَّاكم}. ولا يخفى ما تصرِّح به الآية الكريمة من أنَّ ما يُرزَق به الآباء إِنْ هو إلا رزق الأبناء أصلاً، والآباء تبعاً، فلولا هؤلاء الأولاد الضعاف لما رُزق الآباء الأقوياء هذا الرزق الواسع.

في رحاب الآيات:

تزداد قوَّة الفرد بمقدار شدَّة ارتباطه بمجتمعه والرعاية المتبادلة بينهما. وتأكيد الشريعة الإسلامية على رعاية ذوي القربى من حيث الأولويَّة تمتين لهذا الارتباط، وضمان لرعاية الأفراد في الأسرة الواحدة، ثمَّ لرعاية الأفراد في المؤسسات الاجتماعية الأوسع والَّتي تكون بحاجة للعناية والمساعدة. وقد أولى الإسلام اهتمامه لذوي القربى قبل غيرهم لأنهم أقرب النَّاس للمكلَّف، وأحقُّهم بمعروفه وإحسانه، والإحسان إليهم هو من صلة الرحم الَّتي حثَّ الله عليها، وحذَّر من مَغبَّة الإخلال بها أو الإساءة إليها، أخرج البيهقي أن أعرابياً قال: «يارسول الله! إني رجل موسر، وإن لي أُمّاً وأباً وأختاً وأخاً وعمّاً وعمَّة وخالاً وخالة، فأيُّهم أولى بِصِلتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمُّك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك». وأخرج البيهقي وابن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل البيت إذا تواصلوا أجرى الله عليهم الرزق، وكانوا في كَنَفِ الرحمن عزَّ وجل».

وبعد ذوي القربى يأتي دور المسكين، وهو من عفَّت نفسه عن سؤال النَّاس، بعد أن أَلزمَته دارَهُ قوَّةٌ قاهرة، ومنعته من إمكانية العمل والسعي في طلب الرزق الحلال. ويليه ابن السبيل وهو المنقطع في دار الغُربة، والَّذي تجب نجدته ومساعدته ليصل سليماً معافى إلى أهله ووطنه. هؤلاء جميعاً لهم حقوق على الأغنياء، وإن أداء هذا الحقِّ واجب عليهم وليس تفضُّلاً منهم، وقد فرضه الله وقرَنه بعبادته وتوحيده، وهو واجب على المكلَّف يؤدِّيه فيبرئ ذِمَّته، ويصل حبل المودَّة بينه وبين من يعطيه. ومع ذلك فإنَّ الإسلام لا يدعو إلى ذلك بشكل عشوائي بل إنه يحضُّ على الإنفاق الموجَّه وبحسب الضرورة، وعلى أسس عقلية حكيمة، فلا يجوز العبث بالثروة وتبديدها حتَّى لا تفقد قوَّتها في الإنتاج والعطاء.

وكذلك فإن إنفاقك جميع مالك أو معظمه ولو في سبيل الخير وتركك عائلتك في حالة من الحاجة هو من الإسراف المرفوض، فقد ورد في الصحيحين عن سعد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لئن تترك أهلك أغنياء خير من أن تتركهم فقراء يسألون النَّاس». ومن أشكال التبذير أيضاً إنفاق المال في غير وجهه الصحيح، كالَّذين ينفقون أموالهم في معاصي الله فهم إخوان الشياطين، أي في حكمهم، لأنهم يسعون في الفساد كالشياطين، ويتَّبِعون الباطل الَّذي تُسَوِّل لهم أنفسهم.

أمَّا إذا لم يجد الإنسان ما يؤدِّي به حقَّ ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، واستحيا أن يواجههم، وتوجَّه إلى الله يرجوه أن يرزقه ليعطيهم ويؤدِّي حقوقهم، فليَعِدهم خيراً وليقل لهم قولاً ليِّناً، ولا يضق بهم ذرعاً، ففي القول الميسور عوض وأمل وتجمُّل.

إن التوازن هو القاعدة الأساسية في النهج الإسلامي، والغُلُو في الشيء كالتفريط فيه، يُخلُّ بالتوازن المطلوب، لذلك ينهى الله عن البخل كما ينهى عن الإسراف، ويكنِّي عن البخل باليد المغلولة إلى العنق فهي لا تنفق شيئاً، وعن الإسراف باليد المبسوطة كلَّ البسط فهي لا تمسك شيئاً، ويؤكِّد أن نهاية البخل ونهاية الإسراف على السواء عجز وضعف. إذن ينبغي على المرء أن يقتصد في عيشه، ويتوسَّط في الإنفاق دون بخل ولا إسراف، روى أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عال من اقتصد»، وأخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة».

والله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده عن تبصُّر وحكمة، ويقلِّل الرزق على من يشاء عن خبرة وتبصُّر أيضاً، وهو يعلم من الَّذي تصلحه السعة في الرزق ومن الَّذي تفسده، ومن الَّذي يصلحه الإقتار ومن الَّذي يفسده. وقد ورد في الأثر: يقول تعالى: [إن من عبادي المؤمنين من لا يُصلِحُ إيمانه إلا الغِنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يُصلِحُ إيمانه إلا الصحَّة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السُّقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أُدبِّر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير].

وبعد هذا البيان من الله تعالى بأنه كفيل بأرزاق العباد، وأنه هو الَّذي يبسط ويَقْدِر، نهى عن قتل الأولاد ـ وخاصَّة البنات ـ خشية الفقر، فالأرزاق بيده وحده، وخزائن السموات والأرض بيده يفتحها للبنين والبنات. وإنَّ قتلهم خوف الفقر هو من سوء الظنِّ بالله، ويُعدُّ جريمة كبرى لما فيه من انقطاع النسل واعتداء على حقِّ الحياة الَّذي منحه الله لمخلوقاته جميعاً. أخرج أحمد والترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فيتَّقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنَّة»، وهذا ردٌّ على التشاؤم من الأنثى والاستبشار بالذكر. إنها مسؤولية جسيمة، مسؤولية الإنسان نحو ماله وأولاده وأقربائه وبني جنسه، ولا يوفَّق في حملها إلا من كان ذا حظ عظيم.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {الَّذين يُنفقونَ أموالَهُم في سبيلِ الله ثمَّ لا يُتبِعونَ ما أنفَقوا مَنّاً ولا أذىً? لهم أجرُهُم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون(262) قولٌ معروفٌ ومغفِرةٌ خيرٌ من صَدَقَةٍ يَتبَعُها أذىً والله غنيٌّ حليمٌ(263) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تُبطِلوا صَدقاتِكُم بالمَنِّ والأذى كالَّذي يُنفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاس ولا يؤمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فمَثَلُهُ كمَثَلِ صَفوانٍ عليه ترابٌ فأصابهُ وابِلٌ فتركَهُ صَلداً لا يَقدِرونَ على شيءٍ ممَّا كسَبُوا والله لا يهدي القومَ الكافرينَ(264) ومثَلُ الَّذين يُنْفِقونَ أموالَهُمُ ابتغاءَ مرضاتِ الله وتَثبيتاً من أنفُسِهِم كمَثَلِ جنَّة برَبوةٍ أصابها وابِلٌ فآتَت أُكُلَها ضعفَينِ فإن لم يُصِبها وابِلٌ فَطَلٌّ والله بما تعمَلُون بصيرٌ(265)}

ومضات:

ـ إن مَن ينفق المال بِنِيَّة خالصة لله، ثمَّ لا يُعْقِبُ إنفاقه بالمنِّ على من أحسن إليه أو بالإيذاء والتشهير، سيجد ثواب ما قدَّم عند الله، وسيكون من الآمنين في ظلِّه؛ لا يعتريه الخوف في الدنيا ولا في يوم القيامة، ولن يفوته شيء من مسرَّات الدنيا ومباهجها، بل يكون من سعداء الدَّارين.

ـ إن ردَّ السائل بالكلمة الطيِّبة ومعاملته المعاملة اللائقة والدعاء له، هو عند الله تعالى أحسن وأعظم أجراً من إعطائه المال مع الإساءة إلى كرامته؛ بإغلاظ القول والتحقير والإهانة. فالإسلام دين التوادد والتراحم لذلك حمى كرامة الفقير، ومنع إهانته من قبل ضعاف النفوس ومرضى الإيمان، تحت طائلة إحباط عملهم وعدم قبوله.

ـ خزائن الله ملأى وعطاؤه لا ينضب، فهو الغني والمغني، وهو الحليم الَّذي يُمهل المسيء إلى أن يرجع عن إساءته، ويصحِّح مسيرته وأسلوب تعامله مع خلق الله.

ـ المنافق الَّذي يبذل ماله أمام النَّاس كسباً لمدحهم وثنائهم، دون أن يؤمن بالله ويرجو ثوابه، سينظر يوم القيامة إلى ما أنفقه فيجده هباءً منثوراً. فمهما كان ظاهر عمله صالحاً فإنه لا يعدو كونه رياءً ونفاقاً، فإذا ما تعرَّض للامتحان، تنكشف حقيقته وتتهاوى الأقنعة الَّتي يختبئ وراءها، لتظهر حقيقة أعماله الَّتي لا جذور لها في أرض الإيمان ولا ثمر لها من الخير، بل هي أعمال عقيمة بتراء.

ـ الإنفاق المُجدي هو الإنفاق المقترن بالرغبة الصادقة بالتقرُّب إلى الله، وتثبيت ركائز الإيمان والسعادة للمجتمع، وهو عمل خصب منتج، وثوابه مضمون بإذن الله سواء قلَّ أم كثر، لأنه محاط برعاية الله تعالى وعنايته.

في رحاب الآيات:

الإنفاق الحقُّ في الإسلام هو التبرُّع المَحْضُ الَّذي يفي بالحاجات ويهذِّب المشاعر دون أن يؤذي كرامة، أو يخدش شعوراً، وهو الَّذي يصدر عن أريحية ونقاء، ويُقصَد به مرضاة الله وحده. وكلُّ تصرُّف يحوِّل هذا التبرُّع عن هذه الغاية السامية فهو محُبِطٌ للعمل، مُبْطِلٌ للأجر. فثواب الإنفاق عند الله تعالى ومنه وحده، والإسلام يدعو المرء إلى الإنفاق من غير أن ينتظر جزاءً من النَّاس ولا شكوراً، ويُعلِّق ثواب الإنفاق على ترك المنِّ والأذى ليكون خالصاً نقيّاً ممَّا يشوبه أو يفسده، وليحفظ على الفقير كرامته ومشاعره.

فالزَّكاة أو الصَّدقة ليست مِنَّةً يهبها الغني للفقير، يستذِلُّه بها وينتظر منه مقابَلَتها على حساب كرامته ومشاعره، وإنما هي حقٌّ استودعه الله لدى الغني ليؤدِّيَه إلى أهله، وليوزِّعه على مستحقِّيه. وبذلك تتقرَّر حقيقة هامَّة هي أن المال ليس وقفاً على الأغنياء دون غيرهم، وإنما هو للجميع؛ الأغنياء والفقراء على حدٍّ سواء، يتداولونه فيما بينهم وتستقيم به حياتهم. وحين يُصْرَفُ المال في وجوهه الصحيحة، يتحوَّل المجتمع إلى أسرة واحدة، يسودها التعاون والتكافل والتوادد والتراحم، وترتفع البشرية إلى المستوى الكريم الَّذي يليق بها حيث المعطي والآخذ سواء. وهذا السلوك غير مقيَّد بزمن معين ولا بشروط محدَّدة، بل إنه يأتي تلبية لاحتياجات واقعية في المجتمع الإنساني تتكرَّر في كلِّ الأزمنة والظروف.

وبما أن الغاية الأولى للصَّدقة هي تهذيب النفوس، وتأليف القلوب، فإنه لا حاجة بالمجتمع إلى الصَّدقة الَّتي يتبعها أذى، وأولى منها كلمة طيِّبة، وشعور سَمْح، لأن الكلمة الطيِّبة تضمِّد جراح القلوب، وتُشعرها بالرضا والبشاشة، وأحسن منها أيضاً دعاء من الأعماق يغسل أحقاد النفوس ويزرع فيها الإخاء والمحبَّة.

لقد جعل الإسلام كرامة الإنسان أغلى بكثير من راحته المادية، ونهى الأغنياء عن جَرْحِ مشاعر الفقراء أو إيذائهم بعد إنفاقهم عليهم، لأن الصَّدقة الَّتي يتبعها التجريح أكثر ضرراً بالمرء من منفعتها، وهذا يقرِّر القاعدة العامَّة في الفقه الإسلامي: (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح). وقد حذَّر الله المؤمنين من مداخل الشيطان ومخارجه في الرِّياء وحبِّ الظهور والمفاخرة، ورغَّبهم بالإنفاق سرّاً حتَّى لا تعلم شمالُ أحدهم ما تُنفق يمينه، وجعل حافزهم إلى ذلك يقينهم بأنهم سيَلقَون الأجر والعوض من الله. وهذا اليقين هو الحلقة المفقودة عند أهل الرياء والمفاخرة، الَّذين يَرَوْنَ المجد مجد الدُّنيا، والثواب ثواب الدُّنيا فقط، فيفقدون بذلك نصيبهم في الآخرة. عن الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: (ما أنفقتَ على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقتَ فلك، وما أنفقت رياءً وسُمعة فذلك حظُّ الشيطان).

والرِّياء معناه طلب الجاه والمنزلة لدى النَّاس بالتظاهر بالطاعات، وقد نهى الله عنه وحذَّر منه؛ لما له من آثار سيئة في النفس والمجتمع، ولأنه نوع من الشرك المحبط للعمل. ومن يتتبَّع الآثار السيئة للرِّياء في المجتمع البشري، وفي الحياة الإنسانية جمعاء، ومدى ما يحدثه من فساد في الخُلُق، واضطراب في النُّظُم، وانحراف للعُرف، وإعاقة عن النهوض والارتقاء، يُدرك على الفور الحكمة من تحريم الرِّياء والنهي عنه. ذلك أنه قناع زائف بصورة الفضيلة، سُرعان ما يَسقطُ ليكشف عن قبح النفس الَّتي كان يسترها، فيصيب مَنْ حولها بخيبة الأمل وضياع الرجاء، ويجعلهم يشكُّون بقيم الفضيلة ذاتها.

لقد كان التوجيه القرآني من خلال الآيات الكريمة حريصاً على تسديد سلوك المؤمنين في الإنفاق بأسلوب رمزي غير مباشر؛ فضرب الله لنا فيها المثل بنموذجين متغايرين من المتصدِّقين والمنفقين، يشتركان معاً في صفة الإنفاق من حيث الصورة، إلا أنهما يختلفان من حيث المقدِّمة والنتيجة؛ فالمقدِّمة هي النيَّة الَّتي تكون خالصة لله عند أحد الطرفين، ومشوبةً عند الطرف الآخر، وحسب هذا الاختلاف بين المقدِّمتين تختلف النتيجة عند الله، فمن صحَّت نيَّته كانت نتيجة إنفاقه إيجابية فيُقْبَلُ عمله ويُثاب عليه، أمَّا من فسدت نيَّته فستكون نتيجة إنفاقه سلبية فيُحْبَطُ عمله، ويُحْرَمُ الأجر والثواب.

فمثل الَّذين يبطلون صدقاتهم بالمنِّ والأذى كمَثَل المرائي الَّذي يُظهر أنه يريد وجه الله فيما يفعل، وإنما قصدُه مدح النَّاس له، وذكرهم له بالخير مع غفلته عن معاملة الله تعالى، وابتغاء رضوانه، وجزيل ثوابه، ولهذا وَصَفتهُ الآية بأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ومثل هذا المرائي كمثل الحجر الأملس المغطَّى بشيء من التراب، يظنُّه المرء أرضاً طيِّبة منبتة، فإذا أصابه مطر شديد ذهب عنه التراب فإذا به صَلْدٌ عقيم ليس عليه شيء حتَّى الغبار، كذلك هو حال المنافق يظنُّ النَّاس أن له أعمالاً صالحة، فإذا كان يوم القيامة، انكشفت حقيقة أعماله واضمحلَّت واندثرت فلا يجد لها ثواباً. قال عليه الصلاة والسَّلام: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا يارسول الله وما الشرك الأصغر قال: الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الَّذين كنتم تراؤون لهم فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً» (رواه الإمام أحمد بإسناد جيد وابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً).

والإنفاق الَّذي يَتْبَعه مَنٌّ يتحوَّل إلى أذىً للواهب والآخذ على السواء، فهو أذىً للواهب لما يزرع في نفسه من كِبْر وخُيَلاء ورغبة في رؤية أخيه متذلِّلاً له، كسيراً أمامه، وما ينتج عن هذا التصرُّف من نتائج سلبية حيث يُدخله في زمرة المنافقين المرائين، ويُحبط عمله ويجعله من الأخسرين. وهو أذىً للآخذ لما يثير في نفسه من الشعور بالانكسار والذلِّ والإهانة، وهذه تعدُّ دوافع للحقد والرغبة بالانتقام والثأر للكرامة المهدورة والشرف المُهان، وهذا كلُّه يناقض ما أراده الإسلام من الإنفاق، ألا وهو التهذيب، وتطهير نفس المعطي، واستثارة مشاعره الإنسانية، وتذكيره بنعمة الله عليه، وإرضاء نفس الآخذ وتلبية حاجاته، وتوثيق صلته بأخيه في الله وفي الإنسانية.

وهكذا فإن الصَّدقات تفقد ثوابها ومصداقيتها ما لم نسلك بها طريق الكرامة والفضيلة، والله ذو الغنى المطلق غنيٌّ عن عباده، فهو لا يأمرهم ببذل المال لحاجته إليه بل ليطهِّرهم ويزكِّيهم ويؤلِّف بين قلوبهم، ويصلح شؤونهم، ليكونوا أَعِزَّة؛ بعضهم لبعض ناصر ومعين.

فالصَّدقة ليست تفضُّلاً من المانح على الآخذ، بل هي تفضُّل من الله تعالى على المانح والآخذ على السواء، لأنها تفتح للأوَّل الأبواب إلى الجنَّة وتيسِّر للآخر شؤون دنياه، ويجدر بالعباد أن يتعلَّموا من خالقهم كيفية البذل والإحسان، فهو يعطي عباده عطاء كريماً بلا حساب، منزَّهاً عن المنِّ والأذى؛ فإن اقتدى المؤمنون بذلك أصبحوا يمثِّلون الوجه المشرق للمنفقين، والصورة البيضاء الناصعة للمحسنين؛ لأنهم تَبنَّوا القِيم العليا عن عقيدة إيمانية ثابتة، ثمَّ ترجموها إلى عمل مبرمج وموجَّه في أوجه البرِّ والإحسان، سمت منهم المشاعر، وتطهَّرت القلوب، فأنفقوا أموالهم في سبيل الله، تزكية لأنفسهم وتمكيناً لها في مراتب الإيمان والإحسان، فغدا البذل طبعاً فيهم، يُنقِّيهم من الشوائب الَّتي تعوقهم عن الكمال. ومَثلُ أحدهم في الكرم والعطاء الخالص لوجه الله؛ كمَثلِ الجنَّة الخصبة، العميقة التربة، تقوم على مكان مرتفع، فإذا نزل عليها المطر الغزير أحياها وأخصبها ونَمَّى زرعها. وكذلك هي الصَّدقة تُحيي قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، كما يزكو ماله ويُضاعف بقدر ما يشاء الله له. وإذا أصاب هذه الجنَّة مطر خفيف فإنه يكفيها لأن التربة جيدة، خصبة، كريمة العطاء، حسنة الموقع، وهكذا هو الإنسان الجواد، إن أصابه خيرٌ كثيرٌ أغدق ووسَّع في الإنفاق، وإن أصابه خيرٌ قليلٌ أنفق بقدر ما أصابه، فخيره دائم وبِرُّه ـ وإن قـلَّ ـ لا ينقطع. ورد عن الإمـام علي بن أبي طالـب ـ كرّم الله وجهه ـ أنَّه قال: (إنَّ الصَّدقة إذا خرجت من يد صاحبها وقبل أن تدخل في يد السائل تتكلَّم بخمس كلمات أولاها تقول كنت قليلة فكثَّرتَني، وكنت صغيرة فكبَّرتني، وكنت عدواً فأحببتني، وكنت فانية فأبقيتني، وكنت محروسة والآن صرت حارسك).

ولعلَّ أفضل أوجه الإنفاق هو الَّذي يؤهِّل الفقير لكي يكون مصدراً للعطاء في يوم من الأيام، وصورَتُه أن ينفق الغني قسماً من الزَّكاة في تأسيس نواة عمل تُوظَّف فيه الأيدي العاملة الفقيرة، ويُملَّك فيها العاملون بعض الأسهم علاوة على مرتَّباتهم، ويمكن لهذا العمل أن يحقِّق أرباحاً، وإذا ما أضيفت إلى زكاة السنوات المتتالية ساعدت في إنشاء أعمال أخرى؛ تستقطب أكبر عدد من العاطلين عن العمل، ليصبحوا منتجين ومشاركين في إنعاش الحركة الاقتصادية، ممَّا يعود بالخير على البلاد والعباد. وهذا المشروع يمكن أن يُدعم بإقامة مؤسَّسة عامَّة للزَّكاة يدفع لها المسلمون زكاة أموالهم وصدقاتهم، بحيث يتمُّ توظيف قسم من الزَّكاة والصَّدقات في مشاريع مُجدية ثابتة، ويُنفَقُ القسم الباقي لتأمين الحاجات الآنيَّة والضرورية للفقراء والمعوزين. ويمكن لهذه المؤسسة أن تتطوَّر لِتصلَ إلى الحلول المناسبة للمشاكل الاقتصادية الَّتي يعاني منها المجتمع الإسلامي، مثل تقديم القروض للمعوزين لشراء منازل تؤويهم، أو أمكنة عمل ينطلقون منها إلى العمل والبناء، وغير ذلك ممَّا يعود بالنفع على كامل الأمَّة.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {إنْ تُبدوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هي وإن تُخفوها وتُؤتوها الفقراءَ فهو خيرٌ لكم ويُكَفِّرُ عنكم من سيِّئاتِكُم والله بما تعملونَ خبيرٌ(271)}

ومضات:

ـ لا بأس في إعلان الصَّدقة المفروضة، إن كان يُرجى من إعلانها خيرٌ، وحضٌّ على الاقتداء بالصالح من الأعمال.

ـ الصَّدقة كلُّها خير، ما أُعْلن منها وما أُخْفي، إلا أن صدقة السرِّ تَفْضُلُ مثيلتها العلنية لأنها تحقِّق الهدف المرجو منها بشكل كامل، وهو قضاء حاجة من حاجات الفقير وحفظ كرامته في آن واحد، كما أن كتمانها يجعلها خالصة مخلَّصةً من شبهة الرِّياء.

ـ الصَّدقة مدعاة لمغفرة الله تعالى ورضوانه، ووسيلة للتكفير عن الذنوب.

ـ ينبغي على المؤمن حين يقوم بالعمل الصالح أن لا يغيب عن باله أن الله تعالى مُطَّلع على السرائر، وأن عمله لا يرقى إلى مرتبة البِرِّ إلا إذا حَسُنت سريرته كما حسن ظاهره.

في رحاب الآيات:

الإسلام دين الكمال والاعتدال، فهو يجمع بين الواقعية والمثالية بشكل يحقِّق السعادة لمعتنقيه، ويشيع بينهم الحبَّ والتضامن، وينزع من قلوبهم العداوة والبغضاء المؤدِّية إلى الفشل والتنازع. وينطلق الإسلام إلى تحقيق أهدافه من قاعدة أساسية هي بناء الإنسان من داخله بناءً متوازناً سليماً، يكون فيه سِرُّه كعلانيته، فإذا تناقض الظاهر مع الباطن، وتعارض القول مع العمل، حلَّ النفاق والرِّياء اللذان يُفقدان المرء شخصيته، ويُحبطان عمله.

وقد رغَّب الإسلام بالإنفاق الطوعي في السرِّ، لتحقيق التعاون الاجتماعي؛ مع حفظ الكرامة الإنسانية في آن واحد. ولكنَّه في حثِّه هذا لا يُغفِل طبيعة النفس البشرية الَّتي تهتزُّ عند المدح والثناء، بل ربَّما يكون عند بعض النَّاس مشجِّعاً ودافعاً يحفزهم لمزيد من العطاء. وممَّا لا يخفى أنَّ من سِمات الأصالة العربية السخاء والكرم، إلا أن ذلك قد لا يخلو أحيانا من أن يكون بقصد الذِّكر الحسن أو إثارة إعجاب الآخرين، فكان الأمر بحاجة إلى التربية الطويلة والجُهد الكثير مع التجرُّد والإخلاص، لذلك كان من الحكمة التعامل معها ضمن دائرة الممكن والعرف؛ كي لا يضيعَ شيء من مصالح الخير، ولا يفوتَ الفقراءَ شيءٌ من البِرِّ. وهكذا وضع التشريع الإسلامي الإنفاق الخفي والعلني في كفَّتي ميزان دقيق تَرجُحُ فيه كفَّة الإنفاق الخفي على العلني في حال التطوُّع، وتتساوى فيه كفَّة الإنفاق العلني مع الخفي في حال الفريضة، وحين يكون الهدف من الإعلان تشجيع الآخرين على القيام بها يحصل المنفق على أَجْرَي السرِّ والعلانية.

وقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه البخاري عن السبعة الَّذين يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه أنَّ منهم: «..ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: «صدقة السرِّ تطفئ غضب الربِّ، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء» (أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).

ولا يخفى ما للصدقة من دور في حطِّ الخطايا وتكفير الذنوب، فهي تطهِّر النفس ممَّا علق بها من الأدران وتزكِّيها من الآثام، قال تعالى: {خُذْ من أموالِهِم صَدَقَةً تُطهِّرُهُم وتُزَكِّيهِم بها..} (9 التوبة آية 103) وهي باب من أبواب مغفرة الله تعالى وسبيل لنيل رضاه، وأفضل الأعمال وأحبُّها إليه تعالى، لما فيها من إدخال السرور على قلوب عباده، وتفريج لكُرَبِهم، وقضاء لديونهم وحوائجهم.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {للفقراءِ الَّذين أُحصِرُوا في سبيل الله لا يستطيعونَ ضَرْباً في الأرضِ يحسَبُهُمُ الجاهلُ أغنياءَ من التَّعفُّفِ تَعرِفُهُم بسيماهُم لا يسئَلُون النَّاس إلْحافاً وما تُنفِقُوا من خيرٍ فإنَّ الله به عليمٌ(273) الَّذين ينفقونَ أموالَهُم باللَّيلِ والنَّهارِ سِرّاً وعلانيَةً فلهم أجرُهُم عندَ ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنُون(274)}

ومضات:

ـ لقد أولى الإسلام عنايته لجميع طبقات المجتمع، ومنهم الفقراء والمعوزون، لاسيَّما أولئك الَّذين غادروا بلادهم وديارهم جهاداً في سبيله وابتغاء مرضاته، ولم تعد لديهم المقدرة على كسب أرزاقهم انشغالاً بمتابعة مسيرتهم الإيمانية، وأبت عليهم كرامتهم أن يسألوا النَّاس المعونة المادية حتَّى في أشدِّ حالات الضيق؛ فهؤلاء يقع على عاتق المجتمع الإسلامي تأمين كفايتهم.

ـ يجب على المؤمن أن يُعمِل عقله ليتبيَّن حال أخيه وألا يكتفي بمعاينة ظاهره، وأن يطمئن إلى أنه بخير، لأن بعض النَّاس تمنعهم كرامتهم من الطلب على الرغم من شدَّة حاجتهم، فيحسبهم المرء أغنياء من التعفُّف لأنهم لا يتذلَّلون ولا يشتكون، بينما تنبِئ ملامحهم عن الجوع والفقر الَّذي يعانون منه.

ـ إنَّ المؤمن الَّذي ينفق في ليله ونهاره سرّاً وعلانية، من أجل المصلحة الإسلامية، تظلِّله الرحمة والطمأنينة، فلا يخشى الفقر في الدنيا، ويأمن العذاب ـ بمشيئة الله ـ في الآخرة.

في رحاب الآيات:

لقد قابل الجاهلون دعوة الإسلام بالصدِّ والإعراض، ثمَّ تجاوزوا ذلك إلى مرحلة إعلان الحرب والقتال، ممَّا حمل المسلمين الصادقين على الهجرة والفرار بدينهم من جهة، ومتابعة دعوتهم لنشر كلمة التَّوحيد والتَّعريف بالإسلام من جهة ثانية. وكان من نتائج ذلك حرمان هؤلاء من ممتلكاتهم فأصبحوا فقراء، إنهم فقراء، ولكن ليس عن خمول أو كسل، أو قعود وتواكل، وإنما أفقرهم السعي في خدمة دينهم والهجرة في سبيل إعلاء كلمة الله، والعمل على بناء المجتمع الفاضل وتبليغ رسالة الإسلام. فهم جماعة من المسلمين المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم في مكَّة، ووقفوا أنفسهم على العمل في سبيل نشر العلم والخير والفضيلة، فلم يستطيعوا متابعة السفر من أجل الكسب، وهم مع هذا لا يسألون النَّاس شيئاً، ويحسبهم من يجهل حالهم أنهم أغنياء لامتناعهم عن إظهار حاجتهم، وهذا خلق كريم أولاه الإسلام ما يستحقُّه من رعاية وتقدير. فالغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، وما للمال من سلطان في رفع منزلة أحد أو وضعها. وبهذا نعلم أن التسوُّل ليس من خلُق المسلم المحتاج، ومع ذلك فقد نُهينا عن ردِّ السائل والمحروم مهما كانت عقيدته وانتماؤه، قال تعالى: {والَّذين في أموالِهِم حقٌّ معلوم * للسَّائلِ والمحروم} (70 المعارج آية 24ـ25).

والنصُّ عام لا يقتصر على مهاجري مكَّة إلى المدينة فحسب، بل ينطبق على غيرهم في جميع الأزمان، من الكرام المُعْوَزين الَّذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب، كالمرض أو العجز أو الاشتغال بما فيه خير الأمَّة من التعليم والتربية وما إلى ذلك، ثمَّ تأبى عليهم كرامتهم أن يسألوا النَّاس المساعدة والعون، ولكنَّ ذا الحسِّ المُرهف والبصيرة النافذة يدرك ما يستتر وراء تجمُّلهم وتصبُّرهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس المسكين الَّذي يطوف على النَّاس تردُّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكنَّ المسكين الَّذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن له فيُتَصَدَّقُ عليه ولا يقوم فيسأل النَّاس» (رواه البخاري ومسلم). لذلك ينبغي على بيت مال المسلمين أن يكفل لهؤلاء ما يكفيهم ويجنِّبهم الحاجة، وفي الحاجة يقول أحد المؤرخين في تصوُّره للدولة المثالية: [كلُّ مَنْ حَبَسَ نفسه لخدمة المسلمين فكفايته وحاجاته مضمونة في بيت مال المسلمين على الأمَّة].

ثمَّ يُطَمئن الله تعالى أهل الإنفاق بأن أجرهم محفوظ، وأنه ـ جلَّ شأنه ـ مطَّلع على إنفاقهم سرّاً وعلانية، ليلاً ونهاراً. وقد قدَّم الليل على النهار، والسرَّ على العلانية للإشارة إلى فضل صدقة السرِّ على صدقة العلانية، لأن فيها ضمانتين أساسيتين: الأولى أنه لا يلحق بمنفقها غرور، والثانية أنه لا يلحق بآخذها مَنٌّ أو ضررٌ أو أذى، وهؤلاء المنفقون لهم مكافأتهم عند ربِّهم في خزائن فضله لما للصَّدقة من عظيم الثواب. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (متفق عليه).

هؤلاء المنفقون يغبطهم الأنام يوم القيامة على ما يَنعُمون به من الأمن والسكينة، حين يُصدِّع الخوف قلوب أولئك الَّذين بخِلوا بأموالهم وحبسوها حين الحاجة إلى بذلها في سبيل الله، وكذلك ينالون خير الثواب لأن نفوسهم سمت وبلغت حدّاً من الكمال لم يبق فيه لسلطان المال موضع في قلوبهم

هذه بعض خصائص الإسلام الَّتي لا تستطيع تشريعات الأرض أن ترقى إليها، لافتقارها للمحتوى الإيماني والأخلاقي، الَّذي يملأ وجود المؤمنين الصادقين، فالفقير في المجتمع الإسلامي غني بتعفُّفه والمنفق مُؤْثِرٌ على نفسه حتَّى ولو كانت به خصاصة.

سورة الحشر(59)

قال الله تعالى: {ما أفاءَ الله على رسولِهِ من أهلِ القُرى فلله وللرَّسولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السَّبيلِ كي لا يكونَ دُولَةً بين الأغنياءِ منكم وما آتاكم الرَّسولُ فخذوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا واتَّقوا الله إنَّ الله شديدُ العقاب(7)}

ومضات:

ـ توزيع المال في الإسلام له أهمِّية بارزة تكمن في الحفاظ على التوازن الاقتصادي في المجتمع، واجتناب تكتُّل الأموال في يد فئة قليلة تتحوَّل إلى قوَّة طاغية متحكِّمة في مصيره، وتحجزها عن الأكثرية فينعدم النفع العامُّ منها.

ـ إن في تعاليم السماء توضيحاً لمسار الإنفاق وتوزيعه، لذا وجب علينا الالتزام بما أتى به هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من عند الله عزَّ وجل ومحاذرة ما نهانا عنه، كيلا نقع في سخط الله الشديد العقاب.

في رحاب الآيات:

في الآية الكريمة إرساء لقواعد أساسية من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي وكذلك التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي. أمَّا القاعدة الأولى، فتمثِّل جانباً هامّاً من أسس النظام الاقتصادي في الإسلام، فالملكية الفردية معترف بها، ولكنَّها محدَّدة بألا يكون المال متداولاً بين الأغنياء وحدهم، محجوباً عن الفقراء. فكلُّ وضع ينتهي إلى أن يكون المال في متناول الأغنياء وحدهم، هو وضع شاذٌّ يخالف هذا النظام، كما يخالف هدفاً من أهدافه الاجتماعية، لأن الإسلام ينظِّم جميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد.

ولقد أقام الإسلام نظامه بالفعل على أساس هذه القاعدة، ففرض الزَّكاة، وحرَّم الاحتكار، وحظَر الربا، وهما الوسيلتان الرئيستان لجعل المال دُولَةً بين الأغنياء. على أن النظام الإسلامي يبيح الملكية الفردية، ولكنَّه ليس نظاماً رأسمالياً، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولاً عنه، لأنه لا يقوم دون ربا واحتكار، بينما النظام الإسلامي نظام خاص من لدن حكيم خبير، نظام فريد متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات. والفرق بين الإسلام وسائر الأنظمة الاجتماعية الهادفة إلى حسن توزيع الثروات بين أفراد المجتمع، هو أن الإسلام قد قام أوَّلاً بتربية النفوس وتزكيتها، وزرع حبِّ الخير فيها، وبعد ذلك طلب منها البذل والإنفاق فلم تتراجع، بل أقدمت باندفاع وحبٍّ، وقدَّمت الغالي والنفيس في سبيل مرضاة الله. أمَّا الأنظمة والنظريات الاقتصادية الأخرى فإنها تقدِّم للناس قوانين وقواعد جافَّة، ليس لها في الواقع أرضيَّة معطاء، فهي تُفرض قسراً ولا تنبع من نفوس من يعيشون تحت ظلالها. ولذلك فقد ظهر كثير من الأنظمة البرَّاقة، وعاشت حيناً من الزمن ثمَّ اندثرت بسبب عدم توافر الرجال الشرفاء الأمناء الَّذين يطبِّقون ما ينادون به على أنفسهم أوَّلاً ثمَّ على الآخرين. فكيف لا يرضى الصحابة بذل أموالهم وكلَّ ما يملكون، ونبيُّهم يعيش بينهم كأفقر رجل فيهم؟! وكيف يرضى النَّاس تطبيق النظريات المثاليَّة، بينما زعماء هذه النظريات يترفَّهون وكأنَّهم أباطرة؟! إن ميزان العقل والفطرة السليمة يدفعنا إلى الأخذ بما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه طبَّقه على نفسه قبل أن يُلزِمَ به غيره، وهذه هي القدوة الصالحة، وهذا ما فعله صحابته الكرام في حياته وبعد وفاته، لذلك استمرَّ الدفق الروحي للإسلام، وسيستمرُّ إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى.