الـبــاب الثاني
دلائل الإعجاز في خلق الله
دلائل الإعجاز في خلق الله
مقدِّمة
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ والأَرضِ واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولي الألبابِ(190) الَّذين يَذكرونَ الله قِياماً وقُعُوداً وعلى جُنُوبِهم ويَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأَرضِ ربَّنا ما خَلَقتَ هذا باطلاً سبحانكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ(191)}
/ ومضات:
ـ إن إبداع هذا الكون وتناسقه قد أوجدته يدٌ حكيمة، أحكمت صُنعه بحيث يجري وفق نظام مبرمج ودقيق للغاية، فشكَّلت من ذلك الإحكام لوحات رائعة تحمل في طياتها أجمل صور الإبداع وألوانه، ممَّا يهدي المتأمِّل فيها إلى قدرة الله، فتتفجَّر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلبه على لسانه.
ـ لقد كرَّم الله تعالى الإنسان بالعقل، وهيّأ له السُّبل كي يبحث في هذا الكون بالنظر والتأمُّل والتفكُّر.
ـ كلُّ ما في هذا الكون يجذب النفوس للإيمان، حتَّى إذا جاءها نداء الأنبياء، محرِّكـاً كوامن عقولها وقلوبها، استجابت لما يُحييها ويُسعِدها، قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا استَجيبُوا لله وللرَّسول إذا دعاكم لما يُحْيِيكُمْ..} (8 الأنفال آية 24).
/ في رحاب الآيات:
لا يمكن لمن يسعى إلى معرفة الله عزَّ وجل وتَبَيُّنِ صفاته العليَّة أن يبلغ غايته؛ ما لم يتفكَّر في مخلوقات الله ابتداءً بأقربها وانتهاءً بأبعدها، لينتقل من دائرة التفكير بها إلى كمال اليقين بأنها أدلَّة ناطقة بعظمة الخـالق، وروعـة صنعته، وبديع إتقانه. وفي القرآن الكريم إشارات جمَّة إلى تلك الدلالات، وحضٌّ على التفكُّر والتأمُّل فيما أبدع الخالق، من سماء وأرض وجبال وبحر.. وملائكة وجنٍّ وإنس.. وغيرهم من العوالم والمخلوقات.
ويهدف القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته إلى لفت أنظار الناس لمعرفة الإله الحق، وإنارة قلوبهم بأدلَّة التوحيد، وذلك بدعوتهم وحثِّهم على التفكير في ملكوت السموات والأرض ليخلُصَ الإنسان إلى الاعتراف بوحدانية الله وقدرته الباهرة، بعد أن تأمَّل في خلقه المنظور، وتدبَّر معاني كتابه المسطور؛ فعرف خالقه وأحبَّه، وحاذر أن يعصيه. وفي ذلك قال أحد الحكماء: [لو تفكَّر الناس في عظمة الله تعالى لما عَصَوْه]، وقال آخر: [من نظر إلى الدُّنيا بغير عين العبرة والموعظة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة].
وللنظر في هذا الكون وظيفة أخرى هي تتبُّع الإبداع الإلهي ودقَّته، وتصوُّر قدرة الله الَّتي تحرِّك نواميسه وتحكم موازينه، لنلمس بذلك جمال الطبيعة، وسحرها وغموضها، إلى جانب عظمتها الَّتي تنبئ عن عظمة مُبدِعها، فيكون لنا فيها الراحة والسرور من جهة، واليقين والإيمان من جهة أخرى. فالدعوة إلى النظر في الكون دعوة للإنسان ليهتدي إلى مبدعه وخالقه، وليعرف حقائق الأشياء وخصائصها؛ كي يتسنَّى له الانتفاع بما أودع الله فيها من قُوى. وكان من نتاج الاستجابة لهذه الدعوة الَّتي دعا إليها القرآن، أن أخذت العقول حريَّتها في النظر والتأمُّل، ونهض كلُّ إمام من أئمَّة العلم يبحث ويدرس ويجتهد في سائر العلوم والفنون، دون أن يجد في ظل الإسلام ما يعوِّق نشاطه الفكري واستقلاله العقلي، وكانت حصيلة ذلك كلِّه، ظهور الحضارة العربية الإسلامية الرائعة، الَّتي كانت أساساً للنهضة الأوربية، وذلك بشهادة أحد المنصفين منهم عندما قال: [لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخَّرت نهضة أوربا الحديثة عدَّة قرون].
وممَّا تجدر الإشارة إليه في رحاب الآيات القرآنية السابقة؛ أنها قَرنَتِ التفكُّر في خلق السموات والأرض بالتوجُّه القلبي لذكر الله وعبادته حق العبادة، ليُعلم من هذا بأن الفكر والذكر جناحان لا استغناء عنهما ولا عن أحدهما لمن يريد أن يحلِّق للوصول إلى معرفة الله. فالمؤمنون الَّذين يذكرون الله على اختلاف حالاتهم، قائمين وقاعدين ومضطجعين، ويتفكَّرون في خلق السموات والأرض تتفتَّح بصائرهم على الحقائق الكبرى، ويُغمرون بالعشق الإلهي. فلحظات الذكر عندهم تمثِّل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتُّح الإدراك واستعداده لتلقِّي بركات السماء، كما تمثِّل التأثُّر والاستجابة، فهي لحظات العبادة، والوصال والتلقِّي، وبالتالي فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر، وأن يكون التفكُّر مُلْهِماً للحقيقة الكامنة فيها؛ وهي أن هذا الكون لم يُخلق عبثاً ولا باطلاً، فلا يملك المرء بعد كلِّ هذا إلا أن يتوجَّه إلى الله متضرِّعاً معلناً قناعته بحكمته تعالى في خلق المخلوقات قائلاً: {ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً}. وهذا من أدب المؤمن مع الله؛ فهو حين يهتدي إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه في بديع خلقه، ويستشعر عظمته، ينطلق من الإقرار إلى الدعاء طالباً من مولاه أن يجنِّبه عذاب النار وأن يوفِّقهُ إلى صالح الأعمال، لتكون وقاية تحول دون سخطه، ووسيلة تقرِّب إلى رضاه.
فمن أوائل الدلائل على عظمة الله عملية الخَلْق، وقد تحدَّى الله من يدَّعون الألوهية وينسبونها لغيره؛ عن طريق مَثَلٍ ضربهُ لهم بواحدة من أحقر مخلوقاته شأناً، ألا وهي الذبابة، ليقيم عليهم الحُجَّة والبرهان؛ فيتوصلوا إلى الإقرار بعظمته والاعتراف بالعجز عن تقديره حقَّ قدره.
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له إنَّ الَّذين تدعون من دون الله لن يَخلُقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له وإن يَسلُبْهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه منه ضَعُفَ الطَّالبُ والمطْلوبُ(73) ما قَدَرُوا الله حقَّ قَدرِهِ إنَّ الله لقويٌّ عزيز(74)}
/ ومضات:
ـ عندما ظهرت رسالة الإسلام كان الوثنيون يعبدون الأصنام من دون الله، فتحدَّاهم تعالى في هذه الآيات بدليل منطقي واقعي يدحض شِرْكَهم واعتقادهم بألوهيَّة الأصنام؛ وهو ثبوت العجز في حقها من ناحيتين: إنها عاجزة عن استرداد ما يُسلب منها ولو كان المسلوب ذرَّةً، ولو كان السَّالب ذبابة، وهي أشدُّ عجزاً عن القدرة على خلق شيء، ولو كان ذبابة أيضاً.
ـ هذه الآيات قد تضمَّنت مثلاً ضربه الله بمخلوق من أضعف مخلوقاته لإثبات قدرته تعالى على الخلق، وعجز المخلوقات عن هذه القدرة مهما أوتوا من علوم وإمكانيات.
/ في رحاب الآيات:
لو عمدنا إلى إحصاء ما خلقه الله تعالى من نجوم وكواكب ومجرَّات وعوالم لما استطعنا إليه سبيلا، ولو أردنا تركيز أبحاثنا عن هذا الكون لمعرفة ما يحتويه من الكائنات؛ لاستغرق ذلك آلاف السِّنين وملأ ملايين المجلَّدات دون أن نبلغ غايتنا. ولذلك يُنَحِّي تعالى في هذه الآية الكريمة كلَّ عظيم من مخلوقاته جانباً، ويختار الذُّبابة الضئيلة الحجم والمكانة، ويطرح علينا سؤالاً منطقياً مُعجزاً: هل يستطيع من ألَّهناهم وقدَّسناهم من دون الله ـ مجتمعين متكاتفين ـ أن يخلقوا واحدة مثلها؟ والجواب: إنهم أضعف وأقلُّ شأناً من أن يخلقوا ذبابة واحدة وهم الأحياء العقلاء! فكيف بالأصنام الحجريَّة الصمَّاء الَّتي كان الوثنيون يعبدونها؟.
لقد أراد الله بهذا المثل أن يثبت عجز تلك الأرباب المُدَّعاة، والَّتي كان الناس يتَّخذونها آلهة من دون الله، في صورة مثال معروض للأسماع والأبصار. فخلْقُ الذباب من قِبل أيٍّ من المخلوقات مستحيل، مثله مثل خلق الجمل والفيل، ولكنَّ أسلوب التحدِّي القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الضئيل الشأن ويبيِّن العجز عن خلقه؛ ليلقي في النفس مشاعر الضعف أكثر ممَّا يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل، وبهذا يضعنا تعالى في مواجهة عجزنا أمام قدرته العظيمة، دون أن يُخلَّ بالمعنى، وهذا من بديع إعجاز القرآن الكريم.
وتستمر العظمة الإلهية في تحدِّي المشركين والكشف عن حال أصنامهم ومعبوداتهم الَّتي لا حول لها ولا قوَّة، فيسألنا تعالى: لو أن ذبابة حطَّت على طعام أو متاع ثمَّ طارت بعد أن علقت بأرجلها ذرَّات قليلة ممَّا حطت عليه، فهل تستطيع هذه الأصنام مجتمعة أن تستردَّ منها ما علق بها؟.
ولا يخفى أننا نتحسَّس في الآية الكريمة موقعاً آخر من البلاغة الرفيعة نتذوَّقها في الأسلوب القرآني، فلو أنه قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها، لأوحى ذلك بأن المانع هو أن قوَّة تلك الأصنام لا تضاهي قوَّة السباع، ولكنه ذكر الذباب كي لا يخطر في البال أي لون من ألوان القدرة الَّتي يمكن أن تُنسب إلى تلك الأحجار الجامدة.
فما أضعف هذا العابد الَّذي يطلب الخير من غير الله، وما أضعف هذا المعبود العاجز عن إنجاز ما يُطلب منه. وما أشقى هؤلاء الَّذين سلكوا طريق الوثنيَّة والشِّرك بالله لأنهم لم يقدِّروا الله حق قدره، فأَشركوا معه في العبادة ما لا يستطيع خلق ذبابة حقيرة، في حين أنهم يرون آثار قدرته، وبديع خلقه، وعظيم سلطانه. والقرآن الكريم يوجِّه أنظار الناس إلى التأمُّل في عجائب صنع الله في الكون، وهي مبثوثة في كلِّ الوجود، فكيف لا يؤمنون، وكلُّ ما حولهم يقود إلى الإيمان بالخالق المدبِّر الحكيم؟.
سورة الشورى(42)
قال الله تعالى: {ومن آياته خَلْقُ السَّمواتِ والأَرضِ وما بثَّ فيهِما من دابَّةٍ وهو على جمعِهِم إذا يشاءُ قدير(29)}
/ ومضات:
ـ من الدلائل على عظمة الله وقدرته عزَّ وجل خلْق السموات والأرض، وما أوجد فيهما من مخلوقات تسعى، لا نعرف إلا بعضاً منها ولا ندري عما تفرَّق منها في ملكوت الله الواسع إلا الشيء القليل.
ـ أشارت الدراسات والأبحاث العلمية إلى وجود كائنات تحيا وتعيش في الكواكب الأخرى. وقد قال بعض العلماء في هذا الشأن: [إن من يعتقد بأنه لا توجد حياة ومخلوقات على غير كوكبنا الأرضي كمن يعتقد بأن قطَّـته تَلِد دون سائر قطط العالم]. والحقيقة أن القرآن الكريم له السـبْق في هذا المجال وذلك بصريح قوله تعالى: {وما بثَّ فيهِما من دابَّة} أي في الأرض وفي السماء.
ـ كلُّ هذه المخلوقات تحت أنظار الله وفي قبضته، فهو القادر على جمعها متى يشاء وأين يشاء وكيف يشاء قال تعالى: {وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرضُ جميعاً قَبضَتُه يوم القيامة والسَّمواتُ مَطويَّاتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (39 الزمر آية 67).
/ في رحاب الآيات:
آيات الإعجاز في خلق الله لا حصر لها ولا عدَّ، وهي مبثوثة في كلِّ ناحية من نواحي هذا الكون الفسيح؛ فالإنسان ذاته آية، والسماء وما أظلَّت آية، والأرض وما أقلَّت آية.. وغيرها كثير، وما على الإنسان إلا أن يفتح عينيه متأمِّلاً ليرى، ويصغي بأذنيه متعقِّلاً ليسمع، فيتفتَّح قلبه، وتتنوَّر بصيرته، ويحدث التَّماسُّ بينه وبين الإيمان بخالق هذه الآيات العظام.
إن هذه الآية الَّتي ذَكرتْ خلق السموات والأرض ماثلة للعيان، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء به الوحي، وهي لا تحتمل جدلاً أو ريبة، لأنها قاطعة في دلالتها، تخاطب الفطرة الَّتي تشهد بأن الَّذي أنشأ هذه الآيات ودبَّرها لا يمكن أن يكون الإنسان ولا أي مخلوق غيره، مِن خلق الله أجمعين، لأن ضخامتها الهائلة، وتناسقها الدقيق، ونظامها المضطرد، ووحدة نواميسها الثابتة، كلُّ ذلك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس الإيمان بوجود إله أنشأها ويدبِّرها. والفطرة السليمة تتلقَّى هذا المنطق عن الكون تلقِّياً مباشراً، وتدركه وتطمئنُّ إليه قبل أن تسمع عنه كلمة واحدة.
وتنطوي آية خلق السموات والأرض على آية أخرى في ثناياها يُجملها عزَّ وجل بقوله: {..وما بثَّ فيهما من دابَّة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} فهذه الأحياء المبثوثة في كلِّ مكان، فوق سطح الأرض، وفي أعماق البحر، وفي أجواء الفضاء وفي الكواكب الأخرى، والَّتي لا يعلم الإنسان عنها إلا النَّزْرَ اليسـير، يجمعها الله حين يشاء للمحاسبة، ومعها خلائق أخرى أربى عدداً وأخفى مكاناً، وليس بين بثِّها في السموات والأرض وبين جمعها إلا كلمة (كُنْ) يأمر بها الله عزَّ وجل فإذا هي منصاعة لأمر ربِّها، فتبارك الله العظيم القدير.
ومن ذلك كلِّه ندرك أن الله تعالى يبيِّن الدلائل والبراهين لعباده ليؤمنوا به ويُقبلوا عليه، فيفوزوا برضاه، ويكونوا من سعداء الدارين.
وجملة القول إن الآيات الكونية تحثُّ كلَّ من يحجب عقله عن البحث في علوم الله المودعة في هذا الكون العظيم، على شقِّ الحجاب والانطلاق إلى العلم والمعرفة. فمن يتفهَّم ما جاء في القرآن الكريم تتَّضح له المعاني العلمية الَّتي تضمَّنها، وكلَّما ازداد الرَّكْب الحضاري تقدُّماً، والعلوم ازدهاراً، كلَّما تبيَّن تَطابُق ذلك التقدُّم والازدهار مع ما لفت القرآن الكريم الأنظار إليه. وهذا ما سنلاحظه في محتويات هذا الباب، من خلال دراستنا لنصوص قرآنية تتعلَّق بخلق الكون وما أوجد الله تعالى فيه من مخلوقات وعوالم. وهو يتضمَّن فصولاً أربعة، نعرضها فيما يلي:
الفصل الأوَّل : خلق الكون
الفصل الثاني : خلق الملائكة
الفصل الثالث : خلق الجن
الفصل الرابع : خلق الإنسان