الفصل الثالث:
رعاية الدعوة للمستضعَفين من أتباعها
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {واصبِرْ نَفْسكَ مع الَّذين يَدْعونَ ربَّهم بالغَداةِ والعشيِّ يُريدونَ وَجْههُ ولا تَعْدُ عيناكَ عنهم تُريدُ زينةَ الحياةِ الدُّنيا ولا تُطعْ من أغفلنا قلبَهُ عن ذِكرنا واتَّبعَ هواهُ وكان أمْرُهُ فُرُطاً(28)}
ومضات:
ـ لابدَّ من ترسيخ جذور الشريعة في قلوب المؤمنين الصادقين، لتكوين جيل من الدُّعاة، يتابعون المسيرة في سبيل إنارة الدرب للأجيال القادمة.
ـ على الرغم من الدور الفعَّال لأصحاب المال والجاه في تنشيط عملية الدعوة، فإن الأولويَّة تبقى لأصحاب القلوب المنكسرة، والنفوس الطيِّبة ذات النوايا الصافية، ليكونوا القواعد الثابتة للمجتمع الإيماني السليم، نظراً لصدق سرائرهم وعدم تقيُّدهم بقيود المال ومتع الحياة.
ـ إن عدد الَّذين يدخلون في دين الله وينتسبون إليه هو من الأهميَّة بمكان، ولكن الأهمَّ منه هو عدد الصادقين منهم والمخلصين في حمل الرسالة ومتابعة الدعوة، فهؤلاء هم الَّذين يجب أن نصبر أنفسنا معهم ونلازمهم من أجل القيام بالعمل المثمر، مبتعدين عن المراوغين الَّذين يرومون الجاه والأهواء الشخصية من وراء الانخراط في صفوف المؤمنين.
في رحاب الآيات:
نزلت هذه الآية الكريمة في عُيَيْنَةَ بن حصن وأصحابه، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء، منهم سلمان الفارسي، وعليه شملة صوف قد عَرِق فيها، فقال عُيَيْنَةُ للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ ونحن سادة مُضَر وأشرافها، إن أسلمنا يسلم الناس، وما يمنعنا من اتِّباعك إلا هؤلاء، فنحِّهم حتَّى نتَّبعك، أو اجعل لنا مجلساً، ولهم مجلس. فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم إلى ما طلبوا رغبة في إسلامهم، لولا أن نزلت الآية الكريمة، عندها خرج رسول الله يلتمس هؤلاء الفقراء، إلى أن رآهم فجلس معهم وقال: «الحمد لله الَّذي جعل في أمَّتي من أمرني ربِّي أن أصبر نفسي معهم» (أخرجه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوَّة، والبغوي في شرح السنَّة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ). والسؤال الَّذي يطرح نفسه: أين هو المكان الحقيقي للأنبياء والرسل والدعاة؟ وأين هو مجلسهم؟ هل في قصور مشيَّدة، وأبراج شامخة مع أغنياء الأمَّة وزعمائها، أم مع من؟.
والجواب الإلهي عن هذه التساؤلات: إن مكان الأنبياء مع المحبِّين لله، الذاكرين له، مع أهل العشق الإلهي والوصال، فهؤلاء أهل الله وأحبابه، تجب مواصلتهم والعناية بهم، لأنهم جنود صامدون، يحملون الرسالة بصدق، ويتابعون المسيرة بأمانة وشرف. فقد أحاط الحواريون بالسيد المسيح، وهم من عامَّة الشعب، فأخذوا من علم النبوَّة، ورشفوا من رحيقها، وتقيَّدوا بإرشاداتها، فكانوا رسل السَّلام والمحبَّة، وكانوا نماذج صادقة أمينة لتطبيق الشريعة السماوية. وكذلك فعل الصحابة الكرام، فقد أحاطوا بالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وجُلُّهم من فقراء الأمَّة، وحملوا لواء الإسلام إلى أصقاع الأرض. لذلك يأتي الأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يصاحب هؤلاء العامَّة ويجالسهم ويعلِّمهم، ففيهم يكمن الكثير من الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات، لأنهم أصحاب القلوب المتجهة إلى الله بإخلاص، لا يبغون جاهاً ولا متاعاً ولا انتفاعاً، إنما يبتغون وجهه الكريم، ويرجون رضاه، ويطلبون منه تعالى أن يعمَّهم بفضله. ولو ذكر المستكبرون الله لاستشعروا جلاله الَّذي تتساوى في ظلِّه الرؤوس، وتتطهَّر النفوس، ولأَحسُّوا برابطة العقيدة الَّتي تذوب أمامها الفوارق بين الناس ليصبحوا إخوة في الدِّين، فقد جاء الإسلام ليسوِّي بين الناس أمام الله، فلا تفاضل بينهم بمال ولا نسب ولا جاه؛ بل بالفضائل والمكارم والتَّقوى: {..إنَّ أكرمَكُم عند الله أتقاكُمْ..} (49 الحجرات آية 13).
ثم يأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بألاَّ يُطيع من غفل قلبه عن ذِكر الله والتفت عنه إلى نفسه وذاته، وإلى ماله وأبنائه، ومتاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متَّسع لله، والقلب الَّذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لاجرم أنه غافل عن الله؛ فماذا يُرتجى من إنسان تشعَّبت به الأهواء، وتفرَّقت نفسيته، فهو مُضيِّعٌ لُباب الحياة وجوهرها، مضيِّع لحقوق ربِّه وحقوق نفسه، وحقوق الناس، لقد عاقب نفسه بنفسه قبل أن يحيق به عذاب الله؛ وهل هناك عقوبة أشـدُّ من الغربة الروحية الَّتي يعيشها من ترك قلبه خالياً من محبَّة الله، وتركه نهباً لهموم الحياة وشكوكها واضطراباتها؟. وما أكرمه من إنسان لو أنه أغنى قلبه بحبِّ الله وطاعته، كما أنه أغنى يده بمال الله، فجمع خيري الدنيا والآخرة؟.
وينبغي ألاَّ يُفهم من كلامنا أنَّ إرادة وجه الله حِكرٌ على فقراء الأمَّة، بل هي متاحة لكلِّ من أراد وجه الله بصدق، فاتَّجه بقلبه ومشاعره إلى ذات الله؛ دون أن تفتر همَّته عن عطاء الدنيا وكسبها، بل سخَّر ما أعطاه الله في سبيل خدمة دين الله، كما تحلَّى وتمثَّل بفضائل الدِّين، ليكسب بذلك قلوب الناس ومحبَّتهم بسبب صدقه في التعامل، وبذلك تزداد أرباحه الوفيرة وكأنني أسمع ترداد قول الشاعر يأتي من الأفق البعيد:
ما أجمل الدِّين والدنيا إذا اجتمعا وأقبحَ الكفر والإفلاس بالرجل
وكأنِّي أرى أغنياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنفقوا وبذلوا وأعطوا.. حتَّى طربت لعطاءاتهم السماء، وفرحت بما قدموه القلوبُ المنكسرة المعدمة...
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {ولا تطْرُدِ الَّذين يدعونَ ربَّهم بالغَداةِ والعشيِّ يُريدونَ وجههُ ما عليكَ من حِسابِهم من شيءٍ وما مِنْ حِسابِكَ عليهم من شيءٍ فتطْرُدَهم فتكونَ من الظَّالمين(52)}
ومضات:
ـ جعل الإسلام الإخلاص في العبادة، والصِّدق في العمل، حبل الأمان الَّذي يشدُّ المؤمنين كافَّة للتعلُّق به.
ـ صانت رسالة الإسلام كرامة الإنسان، ومنعت الناس من محاسبة بعضهم بعضاً فيما يتعلَّق بالعقيدة والاجتهادات الَّتي تصبُّ في مجراها، وبالتالي فإن المحاسب الحقيقي هو ربُّ العالمين، ولا يحقُّ لأحد تحقير الناس أو تجريحهم، أو تقييم مقدار التزامهم الدِّيني، أو إبعادهم عن دائرة العمل الإيماني المشترك، أو التشهير بهم، أو تكفيرهم.
ـ من يخالف هذه التعاليم فإنه يظلم نفسه ويظلم الآخرين.
في رحاب الآيات:
لقد كانت غالبيَّة الأتباع الَّذين سارعوا للاستجابة إلى دعوة النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم في بدايتها من الفئة المستضعَفَة الفقيرة، كما كانت صفة الأتباع الأُوَل لجميع الرسل. وقد شاءت حكمة الله أن ترفع من شأنهم، وأن يكونوا بمثابة القاعدة الأساسية الَّتي يستند إليها الرسل في مهامِّ الدعوة والتبليغ، قال تعالى: {ونريدُ أن نَمُنَّ على الَّذين استُضْعِفوا في الأرضِ ونجعَلَهم أئمَّةً ونجعلَهم الوارثين} (28 القصص آية 5). وكثيراً ما كان يُشكِّل هذا التعامل الإنساني العادل ـ الَّذي منح هؤلاء الأتباع حقوقهم وكرامتهم ــ عقبة في طريق إقبال المترفين من الناس على الاستجابة للدعوة، ووجدوا أنه من غير اللائق بحقِّ أنفسهم وكبريائهم أن يجتمعوا وإيَّاهم في مجلس واحد على قدم العدل والمساواة. فكانوا يقترحون على أنبيائهم طَرْدَهُم وإبعادهم، كما حدث مع نبي الله نوح عليه السَّلام عندما قالوا له: {..وما نراكَ اتَّبَعكَ إلاَّ الَّذين هم أراذِلُنَا بادِيَ الرَّأي..} (11 هود آية 27)، وذلك ظنّاً منهم بأن الحقَّ سيتَّبع أهواءهم، ويُصوِّب آراءَهم الجاهلية ومعتقداتهم الزائفة، فما كان من نوح عليه السَّلام إلا أن ازداد بالحقِّ تمسُّكاً، وعلى الدفاع عن المؤمنين إصراراً، فأجابهم بقوله: {..وما أنا بطاردِ الَّذين آمنوا إنَّهم مُلاقوا ربِّهم ولكنِّي أراكم قوماً تجهلونَ} (11 هود آية 29). وقد جرت مثل هذه الأحداث مع كثير من الأنبياء، فقُدِّر لخاتمهم محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام ما قُدِّر عليهم من مواجهة المعترضين والمتكبِّرين، فقد روى أحمد وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مرَّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمَّار وخبَّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يامحمَّد، أرضيتَ بهؤلاء من قومك؟! أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتَّبعك)، فنزلت الآية الكريمة لتقطع على الكفَّار السبيل إلى ذلك، وتُنَبِّه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يستجيب لأهوائهم بطرد المؤمنين من مجلسه بسبب فقرهم، فلا تفاضل بين الناس إلا بالتَّقوى والعمل الصالح، وبيوت الله مفتَّحة الأبواب لكلِّ مسلم، والعلم فيها ثروة للجميع على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومراتبهم الاجتماعية؛ فمن أقبل غَنِم وله أجر ما عمل، ومن أعرض خسر وعليه إثم ما فرَّط. وبناءً على ذلك، تمكَّن من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقراء الجيوب أغنياء القلوب؛ الَّذين لا يبتغون غير الله، وأعرض عن الاستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم المستكبرون وهم يقولون: كيف يمكن أن يختصَّ الله بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء من دوننا؟، وهكذا وقعوا في فتنة غرورهم وإعجابهم بأنفسهم دون أن يدركوا طبيعة العلاقة بين المؤمن والرسول، وبين الرسالة ومُنزل الرسالات سبحانه وتعالى.
إن هذا الدرس الإلهي وإن كان موجَّهاً للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بشخصه، إلا أنَّ المسلمين كلَّهم من بعده معنيُّون به، فنحن سواء كنا ضمن مجموعة، أم ضمن مجتمع إسلامي، يجب علينا أن نكون متحابِّين، متناصحين، متعاونين، وأن نحذر أن نكون بسوء تصرفاتنا سبباً في إخراج أحد المسلمين من هذه الدائرة الاجتماعية المتراحمة. لكن وياللأسف، نرى أن إساءة التصرُّف مع الآخرين قد أصبحت في الوقت الراهن أحد الأمراض المتفشِّية في معظم العلاقات فيما بين المسلمين، حتَّى إننا نجد بعض الناس يحاسب الآخرين على تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم وإن كانت في أمورهم الخاصَّة، ومنهم من نصَّب نفسه مكان القاضي أو الحاكم، حتَّى وصل بهم الأمر إلى تكفير الآخرين، وإخراجهم من دائرة الدِّين. فأيُّ إرهاب روحي هذا الَّذي يعيشه المسلم إذا وقع فريسة لأمثال هؤلاء من أصحاب النفوس المريضة المتسلِّطة؟ وكيف يُنسَبُ إلى الإسلام ما ليس منه، وهو دين الحرِّية، ودين الشورى، ودين الراحة النفسية، فيظهره بعض المسلمين، وكأنه دين التعصُّب والتزمُّت وفرض الأمور دون مناقشة أو اعتراض؟. والمحصِّلة أنهم بعملهم هذا وسوء تدخلهم يطردون الَّذين يدعون ربَّهم بصدق وخشوع، لقلب موازين حياتهم حسب رغباتهم. وما أشدَّ تناقض هذه الرغبات لدى هذه الفئات الَّتي توقع المسلم في الحيرة والقلق حتَّى يظنَّ أن راحته تكمن في الابتعاد عن مثل هذا الجوِّ المرعب، والَّذي كان يُفترض أن يكون جوّاً إسلامياً ينبع منه السِّلم والسَّلام.
إن حكومات العالم باتت تنظر بقلق وحذر لمثل هؤلاء المتعصِّبين الَّذين يسعَوْن إلى كسب عواطف البسطاء الخيِّرين، ليحوِّلوهم إلى أدوات للتنفير والتكفير، وتحت شعار الإسلام، فتراهم يُكفِّرون كل من يعارض خطَّ سيرهم، وقد يبيحون دمه وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، والإسلام منهم ومن فعلهم براء، وهم لا يدركون ـ بسـبب عدم دراسـتهم للإسلام الدراسة الصحيحة الصادقـة ـ بأن تعاليمه مبنيَّة على اليُسر والتسامح، والتِمَاسِ الأعذار للآخرين، ومعاملتهم بحسن النيَّة وسلامة الطوية، ولا يسلِّمون بأن القاضي الحقيقي هو الله الفرد الصمد الَّذي بيده مقاليد الأمور وإليه المآب، فأين يذهبون بقول الله تعالى: {وإذا جاءَكَ الَّذين يُؤمنونَ بآياتنا فقلْ سلامٌ عليكم كتَبَ ربُّكم على نفْسهِ الرَّحمَةَ أنَّه من عملَ منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تابَ من بعدهِ وأصلَحَ فأنَّه غفورٌ رحيم} (6 الأنعام آية 54).
سورة عبس(80)
قال الله تعالى: {عبسَ وتولَّى(1) أنْ جاءَهُ الأعمى(2) وما يُدريكَ لعلَّه يزَّكَّى(3) أو يذَّكَّرُ فتنْفَعَهُ الذِّكرى(4) أمَّا من استغنى(5) فأنت له تصدَّى(6) وما عليك ألاَّ يزَّكَّى(7) وأمَّا من جاءَكَ يَسْعَى(8) وَهوَ يَخْشَى(9) فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى(10)}
ومضات:
ـ في هذه الآيات الكريمة، تكريم لطالب العلم ولو كان شخصاً أعمى، وتفضيل له على سادات القوم وكبرائهم المعرضين عن رسالة الله، فالتكريم في مفهوم السماء باعتبار الفضائل والمآثر لا باعتبار الشكل والمظاهر.
ـ لقد جاء هذا الأعمى يحثُّ الخطى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبه مملوء من خشية الله تعالى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً عنه بدعوة سادة قريش ووجهائها إلى الإسلام، فأنزل الله تعالى آيات تُتلى إلى يوم القيامة، يعاتب فيها رسوله على إعراضه عنه، وينبِّهه إلى أن في صدق إيمان هذا الأعمى الفقير وأمثاله من المؤمنين، خيراً عميماً للدعوة والمجتمع معاً، فينبغي أن يكون اهتمامه بالمقبل ولو كان فقيراً أعمى دون الجاحد المدبر ولو كان غنياً قوياً.
في رحاب الآيات:
لقد كانت قضية الأعمى عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مناسبة لبثِّ التشريع الإلهي والقيم السماوية الخالدة، الَّتي جسَّدها وحي الله عزَّ وجل حول الإنسان وكرامته عند الله، وخصوصاً عندما يكون مقبلاً على الهداية طالباً لها، يأوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيراً بهدايته من ظلمات الجاهلية، فلا يمنعه والحالة هذه، رثاثة ثيابه، ولا كَفُّ بصره، ولا فقره وجوعه من قبوله في مدرسة الهداية، والإقبال عليه وترك من سواه كائناً من كان لاسيَّما عندما يكون هذا المُعرض متكبِّراً مغروراً بماله أو قوَّته. إن مهمَّة الأنبياء والرسل هي أشرف المهمَّات وأعلاها قدراً، لذلك فهي مهمَّة صعبة للغاية، فالنبي مسؤول عن كلِّ كلمة ينطق بها، وعن كلِّ عمل يعمله، وعن كلِّ موقف يسكت عنه، لأنه يُبيِّن للأمَّة دستورها بشكل عملي، ويُرسي للمجتمع قواعده السلوكية والعملية، وأي خطأ أو إهمال يصدر عنه فإنه سَيُورَّثُ للأجيال المتلاحقة من ورائه، ويمارسه الناس على أنه الصواب، وهو في واقع التشريع الربَّاني خطأ. لذلك كان لابدَّ من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار في كلِّ سلوكه وتصرُّفاته وأقواله، لكي تُرسَى قواعد الشريعة على ما يريد الله تعالى لها أن تُرسَى عليه. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً عن الخطايا والذنوب فإنه ليس معصوماً عن الزلاَّت والهفوات غير المقصودة لأنه إنسان؛ فقد يرتكبها أو يتعرَّض لها أثناء دعوته بحكم إنسانيته وبشريته، فيفعل ما هو حسن في نظره مع وجود الأحسن في نظر الله عزَّ وجل، إلا أنه بحكم نبوَّته وكونه قدوة للناس، يتعيَّن تبيين أخطائه من قبل وحي السماء وتصحيحها على الفور. فما أن يصدر عنه خطأ اجتهادي يختار فيه أمراً رآه فاضلاً من وجهة نظر ما، حتَّى تنقضه السلطة التشريعية السماوية وتُصَوِّبَ ذلك الحكم، ويتنزَّل وحيها عليه ليَعْدِل عن الفاضل إلى الأفضل. ويبدو أن مثل هذه الأخطاء لابدَّ من وقوعها ليشعر كلُّ من يسير في طريق الدعوة، بضرورة استمراره ومتابعته للعمل، ضمن منهاج تشريعي متكامل بصفته إنساناً، وفي جميع الظروف والأحوال. إن التوجيه الَّذي نزل بشأن ما حدث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل الأعمى هو أمر عظيم جداً، لأنه عتاب للنبي مسجَّل في كتاب خالد محفوظ، يُقْرَأُ ويُتَعبَّدُ بتلاوته إلى يوم الدِّين، ولكن هذا التوجيه يَرِدُ تعقيباً على حادث فردي، على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد مناسبة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطَّرد. هذه الحقيقة لا تقتصر على مجرَّد التوجيه إلى الكيفية الَّتي يُعامَل بها فرد من الناس أو صنف منهم، بل هي أبعد من هذا بكثير، إنها تعليم الناس كيف يزِنون كلَّ أمور الحياة، ومن أين يستمدُّون القيم الَّتي يزِنون أمورهم وفقاً لها.
والحقيقة الَّتي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي أن يستمدَّ الناس في الأرض قِيَمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيَّدة بملابسات أرضهم، ولا نابعة من تصوُّراتهم المقيَّدة بهذه الملابسات. يجيء الرجل الأعمى الفقير ابن أم مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مشغول بأمر النَّفر من سادة قريش: عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل (عمرو بن هشام)، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة ومعهم العباس ابن عبد المطلب، وهم زعماؤها وكبراؤها، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في شدَّته الَّتي كان فيها بمكَّة، وأكثر هؤلاء النَّفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوَّتهم، ويصدُّون الناس عنه، ويوصدون دونه السبل والأبواب، حتَّى ليجمِّدون دعوته في مكَّة ولو ظاهراً، بينما يقف الآخرون خارج مكَّة لا يُقبلون على الدعوة الَّتي يقف في وجهها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدُّهم عصبية له، وذلك في بيئـة جـاهلية قبلية تجعل لموقـف القبيلـة كلَّ قيمة وكلَّ اعتبـار. فلو أسـلم هؤلاء ـ من وجهة نظر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ـ لانزاحت العقبات الكبيرة، ولزالت الأشواك الحادَّة من طريق الدعوة في مكَّة، ولانتشر بعد ذلك الإسلام فيما حولها بإسلام هؤلاء الصناديد الكبار. وفي الوقت نفسه يجيء هذا الأعمى فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يارسول الله، أقرئني وعلِّمني ممَّا علَّمك الله، ويكرِّر، فيكره الرسول مقاطعته لحديثه، وتظهر آثار الامتعاض على وجهه الَّذي لا يراه الرجل، ولكن يراه ربُّ العالمين الَّذي يكره كلَّ العيوب والنقائص، فيعبس صلى الله عليه وسلم ويُعْرِضُ عنه لكي لا يعطِّله عن الأمر الخطير، الَّذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير. وهنا يتنزَّل الوحي الإلهي حاملاً كلمة الفصل، الَّتي تضع بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم الميزان الَّذي توزن به القيم، بغضِّ النظر عن جميع المظاهر.
إن الأسلوب الَّذي تولَّى به القرآن هذا العتاب الإلهي، أسلوب فريد لا يمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية، جاء على شكل لمسات سريعة وعبارات مقتضبة، وتعبيرات كأنها نبرات ولمحات حية: {عبسَ وتَوَلَّى} هكذا بصيغة الغائب، فالله سبحانه لا يحبُّ أن يوجِّه العتاب المباشر لنبيِّه وحبيبه عطفاً عليه ورحمةً به وإكراماً له. ثمَّ يتحوَّل العتاب من صيغة الغائب إلى صيغة الخطاب: وما يدريك يا محمَّد أن يتطهَّر هذا الأعمى الفقير الَّذي جاءك راغباً فيما عندك من الخير، وأن يتيقَّظ قلبه فيتذكَّر فتنفعه الذِّكرى؟ وما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله فيستحيل منارة في الأرض تشعُّ بنور السماء، الأمر الَّذي يتحقَّق كلَّما تفتَّح قلب للهدى، وترسَّخت حقيقة الإيمان فيه، وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله؟!
ويستمرُّ التوجيه وترسيخ القيم المثالية بصيغة العتاب... وكيف تنصرف عن المقبِل عليك بقلبه إلى من استغنى بماله وقوَّته عن الإيمان وعن العلوم الَّتي يشتمل عليها الكتاب المنزَّل عليك؟! فأنت تنشغل به وتمنحه جهدك ورعايتك وتحتفل بأمره، وتجهد لهدايته، وتتعرَّض له وهو عنك معرض! وأيُّ حَرَجٍ عليك في إصراره على الإعراض والتكبُّر؟ فما أنت إلا رسول مبلِّغ عن الله، وقد أدَّيتَ ما يجب عليك، فَلِمَ يشتدُّ بك الحرص على إسلامه؟. وأمَّا من جاءك مسرعاً في طلب الهداية والقرب من ربِّه، وهو يخاف الله تعالى، ويتَّقي محارمه، ويحذر الوقوع في الغواية، فأنت تتشاغل عنه وتتلهَّى بالانصراف عنه إلى رؤساء الكفر والضلال. وقد وُصف الانشغال عن الرجل المؤمن بالتلهِّي، وهذا وصف ينطوي على العتاب الشديد المؤلم.
إنه درس للدعاة إلى الله ليساووا بين الناس في وجوههم ودعوتهم وألا يستصغروا شأن إنسان ولا يميلوا إلى إكبار شخص حسب مظهره وهيئته، فلا يعلم الإنسان أين الخير، والمعوَّل عليه في القبول عند الله الصدور لا القشور، والحقائق لا الصور والأشكال.
إن المتأمِّل في هذه القصَّة يدرك أن الله سبحانه يقطع بهذا الموقف كلَّ تعلُّق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغير الله مهما كان هذا التعلُّق ضعيفاً، فالإسلام دين الله الخالد، ولن يتوقَّف انتشاره على أشخاص أو زعماء معينين، رفضوه ووجدوا فيه قيداً يكبِّل أيديهم عن التمادي في غيِّهم وظلمهم وأهوائهم، وما على الرسول إلا البلاغ، فمن استجاب فقد فاز ومن أعرض أو عادى فقد خاب وخسر، وما دور الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر إلا البلاغ المبين كما أوضح ذلك كتاب الله تعالى في قوله سبحانه: {إن أنت إلاَّ نذير} (35 فاطر آية 23) وقوله تعالى: {..وما أنت عليهم بجبَّارٍ فذكِّر بالقرآنِ من يخافُ وعيد} (50 ق آية 45) وقوله عزَّ وجل: {ليس عليك هُداهم ولكنَّ الله يَهدي من يشاء..} (2 البقرة آية 272). ولقد أشفقت عناية السماء على أمين دعوة الإسلام والسَّلام، من تحميله نفسه فوق طاقتها، رغبة في تقديم هدية الله إلى عباده، وحرصاً على قبولهم لها فقال تعالى: {فلعَلَّكَ باخِعٌ نفْسَكَ على آثارِهِم إن لم يؤمنوا بهذا الحديثِ أسَفاً} (18 الكهف آية 6) أي هوِّن عليك فقد كدت تقتل نفسك أسفاً بسبب امتناعهم عن قبول هدية الله ودينه الخالد الَّذي ارتضاه لعباده السعداء.
ما أشبه هذا الموقف التزكوي الَّذي يزكِّي فيه خالق الكون قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بموقفه الآخر في سورة الكهف، لمَّا سُئل عن قصَّة أصحاب الكهف فقال أجيبكم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فجاءته التزكية لنفسه وقلبه صلى الله عليه وسلم بسلوكين مختلفين، فقد أبطأ الوحي عليه ومنع عنه العلم بالإجابة، ليُحرج موقفه فيلتجئ إلى ربِّه، ومن ناحية ثانية عُوتب صلى الله عليه وسلم عتاباً شديداً بقوله تعالى: {ولا تقولَنَّ لشيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غداً * إلاَّ أن يشاءَ الله واذكر ربَّك إذا نسيتَ وقل عسى أن يَهْديَنِ ربِّي لأقرَب من هذا رَشَداً} (18 الكهف آية 23ـ24). إنها التربية الإلهية المُثلى الَّتي عبَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي» (أخرجه العسكري عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ وقال فيه الحافظ ابن حجر: غريب لكن معناه صحيح).