الفصل السادس:
صفات المعرضين عن الدعوة
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ومنَ النَّاسِ مَن يقولُ آمنَّا بالله وباليومِ الآخِرِ وما هُم بِمُؤمنين(8) يُخادِعونَ الله والَّذين آمنوا وما يَخدَعون إلاَّ أنفُسَهُم وما يَشعُرون(9) في قلوبهم مَرضٌ فزادَهُمُ الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يَكْذِبون(10) وإذا قيلَ لهم لا تُفسدوا في الأرضِ قالوا إنَّما نحن مُصلِحون(11) ألا إنَّهم همُ المفسدونَ ولكن لا يشعُرون(12)}
سورة التوبة(9)
وقال أيضاً: {المنافقونَ والمنافقاتُ بعضُهُم مِن بعضٍ يأمرونَ بالمنكرِ وينْهَوْنَ عن المعروفِ ويقبِضونَ أيْدِيَهُم نَسُوْا الله فَنَسِيَهُم إنَّ المنافقين همُ الفاسقون(67)}
ومضات:
ـ هناك نفر من الناس يدَّعون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وضمائرهم، يخشَوْن الناس ولا يخشون الله، يَرْتَدُون ثوب الإيمان، ليخفوا به ضلالهم وغيَّهم، بينما قلوبهم جوفاء خالية من محبَّة الله وخشيته؛ هُمُ المنافقون بلا جدال.
ـ يظن المنافقون أنهم يخدعون الله والمؤمنين، وهم في الواقع يخدعون أنفسهم، ويسيئون إليها، لأنهم واقعون تحت سيطرة الضلال والهوى، اللذَيْن يقودانهم إلى الانزلاق في مهاوي التردِّي والهلاك.
ـ يفتقر المنافقون إلى يقظة الشعور، فقد تعطَّلت في نفوسهم كلُّ الأحاسيس الَّتي تُميِّز الصواب من الخطأ، ولولا ذلك لأَنصفوا أنفسهم وحاسبوها، وراقبوا أفعالهم بدلاً من أن ينجرفوا في ريائهم وخداعهم.
ـ يتسلَّط المرض على قلوب المنافقين، فيُضْعِفُ إدراكهم وتعقُّلَهم في فهم الدِّين ومعرفة حقائقه وحِكَمِهِ، ممَّا يؤدِّي إلى استفحال الشكِّ والريبة والنفاق في أنفسهم بشكل عميق، حتَّى إنهم لا يحاولون الاستماع إلى من يرشدهم إلى الطريق المستقيم، ويفتح بصائرهم أمام نور الحقيقة، وعلى النقيض من ذلك فإنهم يشيحون بوجوههم عنه، ويبرِّرون ضلالهم بمبرِّرات واهية، ويجعلون له وجهاً مغايراً لحقيقته بادِّعائهم الصلاح والإصلاح.
ـ الإفساد صفة أقام عليها المنافقون، وقد تمكَّـنَت منهم وتغلغلت في أعماقهم، وبدت على صفحات أعمالهم، ولكنَّهم لا يشعرون بها، لأن حسَّهم الإيماني قد تعطل عن أداء وظيفته بسبب ما غشيه من ظلام الكفر والنفاق. ومهما اجتهدوا في إخفاء معتقداتهم الباطلة المزيَّفة بتغليفها بأجمل القشور، فإن حقيقتها ستنكشف قريباً وسيعلم الناس جميعاً بأن هؤلاء هم المفسدون.
ـ القاسم المشترك الَّذي يجمع بين المنافقين والمنافقات هو دفعهم للخير وحبُّهم للأذى، وكثرة الشرِّ، وشدَّة البخل، وهم يجتمعون على ذلك لتحقيق نواياهم الفاسدة الَّتي أبعدتهم عن طريق الله تعالى وأنستهم ذكره، فتخلَّى عنهم وأوكلهم لشرور أنفسهم وأعمالهم.
في رحاب الآيات:
عندما أصبح للدعوة الإسلامية كيانها المستقل، وبدأت نواة الدولة الإسلامية تظهر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، التفَّ حوله عليه السَّلام الكثير من الناس، منهم المخلصون الَّذين أتوا رسول الله بقلب سليم، ومنهم المخادعون الَّذين كانوا يُظهرون الإيمان، ويُبطنون الكفر، لتحقيق غايات في نفوسهم، كالوصول إلى مكاسب معينة، أو الحفاظ على مراكزهم الاجتماعية، أو الإبقاء على مناطق نفوذهم ومنافعهم الخاصَّة. وقد شكَّلوا بذلك خطراً على المؤمنين، إذ أتوهم من مأمنهم، فصلَّوْا معهم، وعبدوا الله على مرأى منهم.. ولكنَّهم عندما يخلون بأنفسهم أو بأمثالهم كانوا يُظهرون كفرهم على حقيقته، ويخططون لإفساد بنية المجتمع الإسلامي الطاهر النظيف، القائم على المحبَّة وعلى مظاهر العطف والتسامح، بل وأكثر من ذلك فإنهم كانوا يطَّلعون على أسرار المؤمنين ويذيعونها لأعدائهم، بغية تقويض دعائم هذه الدولة الفتية.
وتأتي الآيات الكريمة لتكشف حقيقة أمرهم، ولتظهر زيف إيمانهم، ولتقرر بأنهم غير مؤمنين، بل هم قوم مخادعون لله وللدعوة وللمؤمنين كافة، وأنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم، وهم لا يشعرون بأن الله تعالى عليمٌ بخداعهم، وأَنْ لا سبيل لهم على المؤمنين فهم في رعايته وحفظه.
إن هذه الفئة من الناس قد استفحل في قلوب أفرادها المرض، واستقرَّت فيها علل خبيثة؛ فالقلب هو ملتقى المدارك والإرادات في الذات الإنسانية، ومرضه هو التشتُّت في حقل الأهواء، وانقياد الجوارح لسلطة الغرائز، ممَّا يَخْرُجُ بالإنسان عن حدِّ الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، ويحيد به عن الطريق المستقيم، ثمَّ يودي به إلى الهلاك الروحي، ممَّا يجعله محلاً لمقت الله، مستحقاً لما يتفاقم فيه من العلل والآفات.
ومن كمال حكمة الله جلَّ جلاله أنه يُعبِّر عن جرائم المنافقين بصفة المرض، فكأنه يريد أن يجعل من المسلم الداعية طبيباً يعالج أمراض الناس، وليس قاضياً يحاكمهم ويدينهم. فالبحث عن العلَّة والشروع بالعلاج أمرٌ لا بدَّ منه، لأن المرض يبدأ هيِّناً ثمَّ يستفحل ويصبح مستعصياً. وقد بيَّن الله تعالى أن سبب عذاب هؤلاء المنافقين هو كذبهم الَّذي لا مبرِّر له، للتحذير من الكذب وإظهار آفاته؛ لأنه ما فشا في أُمَّة إلا كثرت فيها المفاسد، وشاعت فيها الجرائم، فهو مصدر كلِّ رذيلة ومنشأ كلِّ كبيرة.. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرَّى الكذب حتَّى يكتب عند الله كذَّاباً» (أخرجه الستة).
وحين كشفت العناية الإلهية أمر هؤلاء المخادعين، أخذهم المؤمنون بالنصح والإرشاد، وحاوروهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيَّنوا لهم أن في خداعهم إفساداً ونشراً للفتن وزرعاً للأحقاد، لكنَّهم أعرضوا. وكذلك لم يقفوا عند حدِّ تجاهل تلك النصائح وصرف آذانهم عن سماعها فحسب، بل تمادوا في غيِّهم وادَّعَوا بأنهم مصلحون، وتجاوزوا دائرة الكذب والخداع، إلى السفه والتزوير والادِّعاء بأنهم إنما يعملون من أجل صالح المجتمع ومنفعته. وهم يقولون ذلك لأن الموازين مختلَّة في عقولهم، ولأنهم لا يخلصون سريرتهم لله، فيتعسَّر عليهم أن يشعروا بفساد أعمالهم، لاسيَّما وأن ميزان الخير والشرِّ، أو الصلاح والفساد، يتأرجح في نفوسهم، حيث يميل مع الأهواء الذاتية والمصالح الآنية، ألا ساء ما يحكمون.
لقد كان ما تقدَّم عرضاً لصور جرت في المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنَّنا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان، نجدها نموذجاً متكرِّراً في أجيال البشرية جميعاً. إننا نجد هذا النوع من المخادعين يلتفُّون حول كلِّ دعوة أو قضية، تحمل صراعاً بين الخير والشَّرِّ، في أي مكان من العالم؛ أعمالهم الظاهرة تخالف بواطنهم، وإفسادهم متواصل باستمرار، تؤجِّجه نار الحقد والحسد اللذَيْن يوغران صدورهم ضد المصلحين الحقيقيين، معتقدين أنهم بذلك قد يطفئون نور العدل والخير في الأرض، والله مُتِمُّ نورِهِ ولو كره الكافرون، ولهم في الآخرة عذابٌ ذو وجهين مثل عملهم. جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة إلى الجنَّة حتَّى إذا دَنَوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعدَّ الله تعالى لأهلها، نُودوا: أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع بمثلها الأوَّلون والآخرون، فيقولون يا ربَّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك، فيقول الله تعالى: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم فإذا لقيتم الناس لقيتوهم مخبتين تراؤون الناس وتظهرون خلاف ما تنطوي قلوبكم عليه، هِبْتُم الدنيا ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلُّوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي» (رواه الطبراني والبيهقي مرفوعاً).
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {بَشِّرِ المُنَافِقينَ بِأنَّ لَهُم عذاباً أليماً(138) الّذين يَتَّخِذونَ الكافِرينَ أولياءَ من دونِ المؤمنين أَيبْتَغونَ عندَهُم العزَّة فَإنَّ العزَّة لله جميعاً(139)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً:{إنَّ المنافقين يُخادِعون الله وهو خادِعُهُم وإذا قاموا إلى الصَّلاة قاموا كُسالى يُراؤونَ النَّاس ولا يذْكُرونَ الله إلاَّ قليلاً(142) مُذَبذبينَ بين ذلك لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ ومن يُضللِ الله فلن تَجدَ لهُ سبيلاً(143) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّخذوا الكافرينَ أولياءَ من دونِ المؤمنينَ أتريدونَ أن تجعلوا لله عليكم سُلطاناً مُبيناً(144) إنَّ المنافقينَ في الدَّرْكِ الأسفلِ من النَّارِ ولن تَجدَ لهم نصـيراً(145) إلاَّ الَّذين تابوا وأصْلَحوا واعتصموا بالله وأخْلَصُوا دينَهُم لله فأولئكَ مع المؤمنينَ وسوفَ يؤْتِ الله المؤمنينَ أجراً عظيماً(146)}.
ومضات:
ـ يستكمل الشارع الحكيم في هذه الآيات إشادة القاعدة العريضة والأساسية للمجتمع الإسلامي، حيث يبيِّن أشدَّ خطرٍ يمكن أن يتعرض له هذا المجتمع، ألا وهو سوء تصرُّف المتظاهرين بالإسلام من أجل غايات خبيثة، قد تؤدِّي إلى زعزعة الإيمان في قلوب معتنقيه، وترسم صفاتهم بدقَّة لكشفهم والتحذير منهم. وأهمُّ هذه الصفات ممالأتهم لأعداء الإسلام والتذلـّل لهم؛ طمعاً في مكاسب دنيوية وعزٍّ زائل.
ـ تعلن الآيات أن من علامات المنافقين التكاسل عن الصَّلاة، والرياء، والإعراض عن ذكر الله تعالى، وعدم الالتزام بمبدأ أو عقيدة، لأنهم يمالئون كلَّ فكرة ونقيضها، لعلَّهم يجدون مصلحتهم في هذه أو تلك، ويتسقَّطون المنافع الدنيوية العاجلة غير مبالين بالآجلة.
ـ الوليُّ الحقيقي للمؤمن هو أخوه المؤمن، فهو يَصْدُقُه ويشدُّ من أزره ويحرص على مصلحته، أمَّا غير المؤمن فهو أسير هذه الجهة أو تلك، وهو عند حاجته ومصلحته.
ـ يزداد العذاب الإلهي للمؤذي والمخرِّب كلَّما ازداد ضرره واشتدَّ خطره على مخلوقات الله.
ـ باب الرجاء والتوبة مفتوح دائماً، ولا أمل للإنسان في النجاة من العذاب إلا بالإخلاص لله عزَّ وجل، وإصلاح الفساد والاعتصام بالإيمان الَّذي هو حبل الله المتين.
في رحاب الآيات:
النفاق نوعان: نفاق اعتقادي، وآخر سلوكي. فالأوَّل يتعلَّق بجوهر مُعتقَد الفرد، حيث يضمر صاحبه الكفر الصريح، وهو يُظهر الإيمان في قوله وظاهر أمره. أمَّا الثاني فهو مرتبط بالسلوك والتصرُّفات البعيدة عن القيم الإسلامية عند التعامل مع الآخرين.
وتتنزل الآيات الكريمة لتكشف النوع الأوَّل من المنافقين الَّذين يُؤدُّون دورهم بإتقان، ظناً منهم أنهم يخادعون الله تعالى، وأن تصرُّفاتهم تنطلي عليه عزَّ وجل، ولكنَّه في الحقيقة هو خادعهم حيث يكشف أمرهم ويفضح سرائرهم، وينزِّل فيهم وحياً يُتلى إلى قيام الساعة، لأن أمثال هؤلاء نراهم في كلِّ مجتمع وفي كلِّ زمان ومكان.
ويذكر الله تعالى لنا مواصفات هؤلاء المنافقين بإسهاب لكي لا نقع في حبائلهم، ولا نتأثَّر بآرائهم وأفكارهم، فهم يقومون إلى الصَّلاة بكسل وخمول ظاهرين، لا أثر في وجوههم للشوق إلى التعبُّد، بل همُّهم أن يراهم الناس يؤدون ظاهر العبادات، أمَّا قلوبهم فملتوية عن طريق الإيمان الخاشع، وألسنتهم تردد القليل من كلمات الذكر بما يكفي لتأدية دورهم وتمثيلهم له.
وقد كان همُّ هؤلاء المنافقين منحصراً في الحفاظ على المكاسب الدنيوية، لذلك كانوا يحاولون كسب وُدِّ المسلمين أملاً في مستقبل يحقِّق لهم النصر ويصون مصالحهم ومكاسبهم، ولكنَّهم كانوا في الوقت نفسه يمالئون أعداء الله، ويواصلونهم سراً ويُطلعونهم على أسرار المؤمنين، حفاظاً على خط الرجعة، ولتبقى مصالحهم أيضاً مصونة في حال انتصار الكفَّار على المسلمين، حسبما يوهمهم الشيطان ويزيِّن لهم. ومن هنا نستطيع أن نتصوَّر تذبذبهم وتأرجحهم بين الفريقين، وقد أعماهم حبُّ ذواتهم عن إدراك الحقِّ والبقاء إلى جانبه، فإذا كسب الكفار جولة انتسبوا إليهم، وإذا انتصر المسلمون انحازوا ظاهراً إليهم. وبذلك اختاروا لأنفسهم طريق الغواية والضلال، فكان مصيرهم الخسران والوبال، وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم، فاختلطت عليهم الأمور وفقدوا القدرة على التمييز.
وتتابع الآيات الكريمة تحذيرنا من محاباة الكفار، وإلقاء الود إليهم، والتعامل معهم على أنهم ولاة لنا من دون المؤمنين، وكأنها تصوِّر حال المجتمع الإسلامي المعاصر، فهو منقاد اقتصادياً وسياسياً وفكرياً وعسكرياً وأخلاقياً للمجتمع غير المسلم، الَّذي يجهد نفسه لإبقاء مجتمعنا مجتمعاً ممزقاً متخلِّفاً فقيراً، يستنزف ثرواته وطاقاته ليحوِّلها إلى أسلحة فتاكة تُغمد في صدور أبنائنا؛ حيث يشهرونها في وجوه بعضهم بعضاً، وكأن بصائرهم قد عميت، على الرغم من أن كتاب الله بين أيديهم يُحذِّرهم.
وتعود الآية الكريمة مرة أخرى إلى ذكر النفاق والمنافقين، لنَحْذرهم أكثر من الكفَّار، لأنهم أشدُّ ضرراً وأذى، فالكفَّار لم يُخفوا كفرهم وعداوتهم، ولم يدلسوا على الآخرين، بينما المنافقون استهانوا بأوامر الله، واستهزؤوا بدينه، وخدعوا القائمين على أمر الأمَّة، وعاشوا بوجهين، فهم أشدُّ مقدرة على إيصال الأذى إلى شرايين المجتمع الإسلامي لأنهم يعيشون ضمنه، ويتصرَّفون وكأنهم منه، لذا كان عذابهم أشدَّ وأمضى، وهم في الدرك الأسفل من النار حيث منتهى التعذيب الإلهي.
أما النوع الثاني وهو النفاق السلوكي فهو ما حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كشف النقاب عنه تَبْصِرَةً للناس فقال: «ثلاث من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (أخرجه البخاري وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنه وأخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) فالكذب جبن، وإخلاف الوعد مراوغة، والخيانة غدر ونذالة، ولا يمكن أن تجتمع مثل هذه الصفات في قلب مؤمن بالله عاشق له ومنتسب إلى حضرته. وما تفشَّت هذه الأخلاق في مجتمع متماسك، إلا مزَّقته وقوَّضت أركانه وفرَّقت شمله، فيصبح لقمة سائغة بأيدي الطامعين المخرِّبين.
وفي الختام يبيِّن الله سبحانه وتعالى لنا أن أبواب المغفرة مازالت مفتوحة، وطلبات القبول الصادقة مقبولة؛ فليبادر من أسرف على نفسه إلى الدخول في رحاب الله، وليصلح ظاهره وباطنه، فيجعل قلبه ولسانه سواءً، ويُنقِّي يقينه من الشرك، وعبادته من الشوائب، فإذا تمَّ له ذلك أُدرج اسمه في قائمة المؤمنين الأبرار، الَّذين سيعطيهم الله من الأجر والثواب ما يتفق مع سعة كرمه وعظيم سلطانه.
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {والَّذين اتَّخَذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً وتفْريقاً بينَ المؤمنينَ وإرْصاداً لِمَنْ حاربَ الله ورسولَهُ من قبْلُ وليَحلِفُنَّ إنْ أردْنا إلاَّ الحسنى والله يشهدُ إنَّهم لكاذبون(107) لا تَقُمْ فيهِ أبداً لَمسجدٌ أُسِّسَ على التَّقوى من أوَّلِ يومٍ أحقُّ أن تقومَ فيهِ فيهِ رجالٌ يحبُّونَ أن يَتَطهَّروا والله يحبُّ المُطَّهِّرين(108) أَفَمَن أَسَّسَ بُنيانَهُ على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أم مَن أَسَّسَ بُنيانَهُ على شفا جُرُفٍ هارٍ فانهارَ به في نارِ جهنَّمَ والله لا يهدي القومَ الظَّالمين(109)}
ومضات:
ـ إن أكبر خطر كان وما يزال يهدِّد بنية المجتمع هو ظهور من يتظاهر بحمل راية الدِّين ورفع شعاراته، في سبيل تجميع المؤمنين البسطاء والمتحمِّسين حوله، بغية استخدامهم كمعاول تخريب وهدم لسائر نشاطات المجتمع الآمن المسالم. وقد نجحت هذه الفئة الباغية المضللة في تنفير الناس منهم، بعد أن أظهروا الدِّين على هيئة أداة للتعصب والتنكيل والتفريق.
ـ بيت الله، هو البيت الَّذي حوى المؤمن الحقيقي، طاهر القلب صافي النوايا، والَّذي تكون حياته سلام، وعمله سلام وإنتاجه سلام، وهو التقي النقي الوَرِع، الَّذي يربط القلوب ويوحِّدها بكلامه وتصرُّفاته، ممَّا يعطي ما يبنيه صفة الديمومة والأفضلية.
ـ من ينتهك حرمة بيت الله ويتخذ منه مجلساً للنفاق وإثارة الخوف وبثِّ الذعر في صفوف المؤمنين فإنه يقوم بعمل متصدِّع الأركان، سُرْعان ما ينهار أمام قوَّة الحقِّ والإيمان، ومصيره الخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الدار الآخرة، وهذا هو مصير الظالمين.
في رحاب الآيات:
إن الإسلام دين يعارض التفرقة والتشرذم، ويدعو إلى الوحدة والانسجام، لتكون الأيادي متشابكة معتصمة بحبل الله المتين. ومنذ أهَلَّ على العالم، وقامت دولته تحت إشراف متعهِّدها وبانيها محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، نجد أناساً يحاولون تفريق المسلمين وهم يدَّعون حمل راية الإسلام، إمَّا عن طريق المزايدة على المسلمين، بالتعصب والتشدُّد والقسوة على أنفسهم عند تطبيقهم مبادئ الإسلام، مدَّعين أن ذلك أقرب للتقوى، وإما بإقامة تَجَمُّعات منعزلة بعيدة عن قلب الدعوة ومركزها، بغية تحقيق مآرب عدوانية، وهم يتستَّرون وراء أقدس حرم للمسلمين ألا وهو المسجد.
وقد وُجد أشباه هؤلاء المنحرفين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وبَنَوْا لأنفسهم مسجداً تحت سمعه وبصره، وقد اشتُهِرَ باسم مسجد الضِّرار، لأنهم جعلوا منه وِكْراً ومركزاً يجتمع فيه معارضو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيدبِّرون المكائد الشرِّيرة والضرر ضد الإسلام والمسلمين، بغية تفريق المؤمنين وتمزيق وحدتهم، وتقوية الكفر وتسهيل أعماله، والتَّشاور فيما بينهم للكيد لرسول الله والطعن به وبصحابته، واستقطاب كلِّ من حارب الله ورسوله حيث يجد في ذلك المسجد مقرّاً له، وقوماً مستعدِّين للتحالف معه. والهدف من ذلك كلِّه هو تفريق المسلمين والحيلولة دون اجتماعهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد واحد، كي لا يتمَّ لهم حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، فيكون نواةً لتحقيق مقاصد الإسلام الاجتماعية. إن هذه الحركة النفاقية الخبيثة لم تصرِّح عن هدفها جهاراً، بل راحت تستر غاياتها الهدَّامة بمظهر إسلامي كي تموِّه باطلها بقناع محبَّب جميل. ولكنَّ الله الَّذي لا تخفى عليه خافية، والَّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم وحيداً في هذه المعركة، بل أيَّده بروح القدس جبريل، ويهبط الوحي الأمين فيعرِّيهم، ويكشف بُرْقُعَ ادعائهم للإسلام، ويفضح حقيقة الكفر الكامن في أعماقهم، لذلك يَأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهدم مسجدهم، ولو فعلها غيره لقامت الدنيا ولم تقعد، ولكن فعلها الَّذي يحرص كلَّ الحرص على سلامة البناء الداخلي للمسلمين، ويعلم بوحي الله تعالى أين تكمن مصلحتهم، ولو كانت في هدم بناء يَتَّخِذ اسم المسجد. فوجود المنافقين شريحةً في المجتمع الإسلامي أمر طبيعي، لأن الإسلام على الرغم من عظمته ونصاعته ووضوحه،لم تتقبله جميع القلوب بمستوى فعَّال واحد، فبعضها دخل الإسلام إليها ونجح في قلب تربتها، واقتلَعَ أشواكها وزرع مكانها ورداً وريحاناً، وبعضها الآخر كان صلداً استعصى على التغيير، فبقيت أرضها قاحلة لا تنبت إلا الأشواك الَّتي تدمي يد من يحاول لمسها.
وهذه سُنَّةُ الله في خلقه حيث ترك كلَّ إناء ينضح بما فيه، وبذلك يظهر فضل الطائعين على العاصين، وامتياز الأخيار عن الأشرار. لكنَّ عناية الله تعالى اكتنفت الفئة الصالحة، فلم يُمكِّن أصحاب النفوس الخبيثة والقلوب المغلَّفة بالنفاق من تفريق جموع المسلمين، لذلك حاربهم النبي الكريم بأمر منه سبحانه وتعالى على الرغم من ادعائهم الإيمان، وأنهم يجمعون ولا يفرِّقون، ويُسَهِّلون ولا يشدِّدون، ومهما كان طابَعُ عملهم إسلامياً، وفي ظاهره خدمة لدين الله وأتباعه، فإنه في حقيقته تفريق للمسلمين وتمزيق لوحدتهم، وسعي لهدم المبادئ الَّتي جاء بها الدِّين الجديد.
ولا تزال هذه الصورة تتكرَّر، ويبنى مثل هذا المسجد حتَّى يومنا هذا، على أشكال تلائم تقدُّم الوسائل الخبيثة الَّتي يتَّخذها أعداء هذا الدِّين، وكلُّها تظهر في صورة نشاط بريء ظاهره مصلحة المسلمين وخدمتهم، وباطنه أبعد ما يكون عن ذلك. فمسجد الإسلام هو مسجد الفئات المتحابَّة المتراصَّة المتراحمة، الَّتي تعانقت قلوبها على حبِّ الله وطاعته، إنه مسجد اللُحْمَةِ المتماسكة والوحدة بأكمل صورهما، ويبقى هذا المسجد شامخاً بنيانه، متيناً أساسه إلى قيام الساعة، لأنه شُيِّدَ على أسس قوية ودعائمَ راسخةٍ من حبِّ الله وإقامة شعائره، وتأليف قلوب المسلمين، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. ورواد هذا المسجد رجال مؤمنون عابدون، طهَّروا أنفسهم بدموع الخشية من الله، وزكَّوها بنور الذكر والقربى إلى الله، وتجاوزوا شهواتهم في سبيل الوصول إلى خالقهم، فهؤلاء يحبُّون الله ويحبُّهم الله، وإنَّ هذا التفاعل يُتَرْجَم في أخلاقهم وسلوكهم وأعمالهم وأقوالهم ومعاملاتهم مع الجميع. أمَّا مسجد التفرقة والنفاق فهو ركام شُيِّد فوق ركام، ينهار تحت أوَّل ضربة معول تُوَجَّهُ إليه ليصبح هباءً منثوراً، وكأنما بُنيَ على طرف مكان شاهق أرضه رملية غير متماسكة، فلا يكاد يرتفع حتَّى يتداعى وينهار، فهو محكوم عليه بالسقوط قبل بنائه، وهذا السقوط مادي ومعنوي، فالأوَّل هو انهيار بنائه، والثاني دخول أفراده جهنم، ليَصْلَوا نارها، هم ومن وراءهم، من المنافقين والمغرضين، أعداء الحقِّ الَّذين سلكوا طريق الغواية، وابتعدوا عن طريق الهداية.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {وقد نزَّلَ عليكُم في الكِتابِ أنْ إذا سمعتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بها ويُسْتَهْزَأُ بها فلا تَقْعُدوا معهُم حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيرِهِ إنَّكم إذاً مثْلُهُم إنَّ الله جامِعُ المنافقينَ والكافرينَ في جَهنَّمَ جميعاً(140)}
سورة الأنعام(6)
وقال أيضاً: {وإذا رأيتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتنا فأعْرِضْ عنهُم حتَّى يخوضُوا في حديثٍ غيرِهِ وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيطانُ فلا تقعدْ بعد الذِّكرى مع القومِ الظَّالمينَ(68)}
ومضات:
ـ إنَّ المؤمن يعافُ حضور مجلسٍ تُتَّخذ فيه آيات الله تعالى سخرية وهزواً، فهو غيور عليها لأنها تمثل صلب عقيدته، والإطار الروحي الَّذي يَحْكُمُ جميع تصرُّفاته.
ـ إن كلَّ من يتجرَّأ على آيات الله تعالى بالاستهزاء، هو منافق أو كافر، وإن أقام على ذلك كان مصيره إلى جهنم جزاءً وفاقاً.
ـ لا يجوز للمؤمن أن يتغاضى عن انتهاك المنافقين والكافرين لحرمة آيات الله في حضوره، فهو أمام أحد خيارين: إمَّا أن يغيِّر مجرى حديثهم إذا كان يملك القدرة على ذلك، وإما أن يترك مجلسهم حتَّى لا يكون شريكاً معهم في الإثم.
ـ إن قول الله تعالى: {حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيره} يدلُّ على أنه لا مانع من أن يتحادث المؤمن مع الكافر، بوصفه إنساناً مثله، شريطة ألا يمسَّ ذلك عقيدته، ولعلَّ ذلك لإبقاء جسور الحوار قائمة معه بدلاً من نبذه والتجافي عنه، بما يبعده أكثر فأكثر عن الإيمان والمؤمنين.
في رحاب الآيات:
المؤمن في انسجام كامل بين ظاهره وباطنه، بين قلبه ولسانه، بين فطرته وسلوكه، وبالتالي بين قوله وفعله، وهذا الانسجام يجعله ملتزماً بأحكام الدِّين بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين، فلا ازدواجية، ولا تناقض لديه، ولا ضعف يدفع به إلى مجالسة الخائضين والمستهزئين بشريعة الله، فكما أنه لا يبيح لنفسه أن يجترئ على حدود الله، فهو كذلك لا يسمح لغيره أن يُقْدِمَ على ذلك بحضوره، فإذا وُجِد في مجلس تُنتهك فيه حرمات الله، ويُستهزأ بالعقيدة ويُغَضُّ من قدر الدعاة إلى الله، وتُنهش أعراض غيره، فلا يجوز له أن يبقى فيه، لأنه يُعدُّ شريكاً لأصحابه في الإثم والمعصية، ويَطالُه عقاب الله كما يطالهم. والأَوْلى لمن يغار على دينه أن ينسحب من المجلس مُشعراً القوم أنه غير راضٍ عما يفعلون، ولا يحقُّ له أن يسايرهم أو يسامرهم، أو يشاركهم في المأكل والمشرب مدَّعياً المهادنة، والمسايرة، ولين الجانب، وسعة الصدر، فليس هذا موضع تلك الأخلاق. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشدَّ الناس حلماً وعفواً إلا أن تنتهك حرمات الله، فكان من أشدِّ الناس غضباً لله. والحكمة من النهي ظاهرة جليَّة، فالجلوس مع أمثال هؤلاء يغريهم بالتمادي فيما هم فيه، ويوحي بالرضا به والمشاركة فيه. فإذا خاض القوم في حديث آخر لا مساس له بالعقيدة، فلابأس بالجلوس معهم ومحادثتهم، في محاولة للبحث عن النقاط الإيجابية البنَّاءة لتعزيزها وتنميتها والاستفادة منها، بغية الوصول إلى نقاط إيجابية أخرى تضيِّق الشُّقَّة بين المؤمن الحقيقي وغيره بوصفها خطوة نحو الأمام على طريق هدايته.
والخطاب في هذه الآيات موجَّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو موجَّه من بعده إلى المسلمين كافَّة في كلِّ عصر، فإذا حدث وجلس أحدنا مع قوم يخوضون في آيات الله ويسيؤون إليها، ثمَّ تذكَّر نهي الله بعد نسيانه؛ فليقم، ولا يضمَّه مجلس واحد معهم، لأنهم ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات ربِّهم، والاستهزاء بها بدلاً من الإيمان بها والاهتداء بهديها. ومسألة النسيان أمر طبيعي يقع فيه كلُّ إنسان حتَّى الأنبياء، قال تعالى مخاطباً الرسول محمَّداً صلى الله عليه وسلم : {..واذكُرْ ربَّكَ إذا نسيت..} (18 الكهف آية 24) وقد ثبت في الصحيحين والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه )، ولكنَّ الله عصم الأنبياء من نسيان شيء ممَّا أمرهم بتبليغه، أو بالإخلال بأمر من أمور الدِّين كإضاعة فريضة، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام. ولقد أعدَّ الله للكافرين والمنافقين أشدَّ أنواع العذاب، ولعلَّ عذاب المنافقين أشدُّ لأنَّ عداوتهم للمؤمنين مستترة، وخطرهم عليهم أعظم، ولذلك قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إنَّ المنافقينَ في الدَّرْكِ الأسفلِ من النَّارِ ولن تجِدَ لهم نصيراً} (4 النساء آية 145).
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {ومنهم من عاهدَ الله لَئِنْ آتانا من فضْلِهِ لنصَّدَّقنَّ ولنكوننَّ من الصَّالحين(75) فلمَّا آتاهُم مِن فضْلِهِ بَخِلُوا به وتَوَلَّوا وهم مُعْرِضون(76) فأعقبَهم نفاقاً في قلوبِهِم إلى يومِ يلْقَونَه بما أَخلَفوا الله ما وَعَدُوهُ وبما كانوا يكذبون(77)}
ومضات:
ـ عندما يزداد يقين الإنسان رسوخاً بأن الله عزَّ وجل هو المعطي الحقيقي؛ فإنه لا يقصِّر في اللجوء إلى حضرته طالباً منه العطاء والعون والمدد، مقدِّماً له العهود والمواثيق بالالتزام بالإنفاق المجدي في أوجه الخير والإصلاح الاجتماعي.
ـ على المرء أن يؤهِّل نفسه بالصلاح والتَّقوى، لئلا تصيبه آفة نسيان المُنعِم عندما تُغْدَق عليه النِّعَم، فيتخلَّى عن التزاماته ووعوده لربِّ العالمين.
ـ نَقْضُ العهود والمواثيق مع الناس في نظر الإسلام نفاق، فكيف بهذه العهود إذا كانت مع ربِّ العالمين ثمَّ أُخلفت؟ إنه النفاق الكامل الَّذي يغلِّف القلب، فلا يمكن أن تفلح معه سوى أساليب الترهيب والعقاب، بعد أن فشلت معه أساليب الترغيب والثواب.
في رحاب الآيات:
النفس البشرية أشبهُ بسفينة تجري في عباب البحر، فتارة تسير في هدوء وسكينة، وتارة أخرى تحدق بها الأمواج الغاضبة والريح العاتية، فتضطرب مترنِّحة يميناً شمالاً، وقد تصطدم بالصخور فتتحطم، أو يعلوها الموج فتغرق، أو تدركها رحمة الله تعالى فتنجو وتسلم.
وإذا عرفنا ما انطوت عليه هذه النفس، أدركنا كم من الشهوات تعصف بها، وكم من رياح طيِّبة تهب عليها، وكم من أحاسيس متناقضة تستيقظ فيها، فتتدافع وتتصارع، ثمَّ لا تلبث أن تنحسر فاسحة الطريق أمام أقدرها على الثبات والصمود. وكما أن الربَّان الماهر هو من يحسن توجيه سفينته، فيُسْلِمُها للرياح الطيِّبة المواتية، ويجنبها العواصف العاتية، فكذلك المؤمن الراشد هو من يحسن كبح جماح نفسه، فيخضعها لإرادة خالقها ويوجِّهها نحو نوره، ويجنِّبها ما فيه ظلمتها وشقاؤها.
وأفضل الأوقات الَّتي يمكن للمرء أن يكتشف فيها حقيقة نفسه، ويدرك مواطن ضعفها، أوقات الفقر أو المرض أو المعاناة. حيث يتبيَّن مقدار عجزها وضعفها وعظيم حاجتها إلى الله القوي القادر، فيضرع إليه بالدعاء والرجاء، ليكشف عنه الكرب، ويعجِّل له بالفرج والرزق، مُطْلِقاً العنان للسانه بالوعود السخيَّة والعهود الوثيقة، على الطاعة والتسليم، والقيام بكلِّ أعمال البرِّ والصلاح. فإذا استجاب الله تعالى له وأمدَّه بالعون وأوسع عليه من رزقه، وكان من أصحاب الإيمان واليقين، زكت نفسه وازدادت جمالاً وصفاءً، فبرَّ بوعوده معترفاً لله بفضله وجميل صنعه فأحسن العمل، ووضع المال حيث أمره الله تعالى أن يضعه، وهو موقن بأن هذا المال وديعة في يده وأمانة في عهدته. أمَّا إذا كان من أهل الزيغ والنفاق، فإن المال يضلُّه ويعمي بصيرته عن حقيقة نفسه، فينسى ضعفه، وتَلُفُّ به دوَّامات الوهم وتيَّارات الغرور والاستعلاء، حتَّى يظن في ذاته القدرة على الاستغناء؛ فيتنكَّر لفضل الله تعالى، وتتنامى في داخله مشاعر الجحود والإعراض، وتنمو بذور النفاق، وتطرح ثماراً سامَّةً فتَّاكة تودي بحياة صاحبها الروحية والمعنوية. ولا تزال تلك النبتات المتنامية تعمل فتكاً وتخريباً، حتَّى تأتي على البقية الباقية منه، وهو في غفلة عنها؛ فيتناسى وهو في أحضان النعيم، لحظات ضعفه وتضرُّعه إلى الله تعالى، وجملة الوعود الَّتي أطلقها في حينها، ويتجاهل أن الله هو المعطي، وأن ما حصل عليه من رزق، لم يكسبه بذكائه أو علمه أو تعبه فحسب، بل إن وراء ذلك كلِّه قوَّة إلهية هيَّأت له الأسباب والمسببات، فالعقل منحة من الله، والقوة هبة من هباته، والصبر بعض آلائه. فيدفعه ذلك النفاق إلى البخل بما أعطاه الله، فيمنع الفقراء حقوقهم، ويسيطر عليه القلق والخوف من الفقر، فيقبض يده عن الإنفاق ويستأثر بالمال لنفسه، ويُخَيِّلُ إليه غروره أنه يستطيع أن يهرب من قبضة الله، فيتشاغل عن أداء واجباته، ويخمد صوت ضميره، ويُشيح بوجهه متناسياً أن الله محيط به، وأنه مطَّلع على عمله. ولما كان الله تعالى قد أخذ على نفسه أن يترك العباد في هذه الدنيا أحراراً يختارون أحد طريقين، لذلك فقد يمهله ولا يخرجه ممَّا هو فيه بالقهر، ويتركه يتخبَّط في ظلمات قلبه، الَّذي تتنامى فيه غراس النفاق، وتثمر ظلماً وكذباً وخداعاً، فيعيش بوجهين مختلفين، وفي خصام دائم مع ذاته ومحيطه، تبدو سيماء القسوة والاضطراب على أعماله، إلى أن يلقى الله سبحانه وتعالى حيث القصاص المؤلم الَّذي يتناسب مع سوء عمله وإعراضه.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يَشتَرونَ بِعَهدِ الله وأيمانِهِم ثَمَناً قليلاً أولَئكَ لا خَلاقَ لَهُم في الآخِرةِ ولا يُكلِّمُهُمُ الله ولا يَنظرُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهِم ولَهُم عذابٌ أليمٌ(77)}
سورة النحل(16)
وقال أيضاً: {ولا تَشتَروا بعهدِ الله ثمناً قليلاً إنَّما عندَ الله هوَ خيرٌ لكم إن كنتم تعلمونَ(95) ما عندَكُم يَنفَدُ وما عند الله باقٍ ولَنَجزِيَنَّ الَّذينَ صبروا أَجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يَعملونَ(96)}
ومضات:
ـ كثيرمن أصحاب النفوس المريضة يتعاملون مع الآخرين من منطلق المصالح المادِّية البحتة، متسترين وراء أقنعة دينية، بغية الغش وخداع أصحاب النوايا السليمة الَّذين يَنْشَدُّون بالعاطفة الدِّينية. وكلُّ من اتخذ هذه المسوح المزيَّفة يكون الله تعالى خصماً له يوم القيامة، ومصيره جهنم، وليس أمامه أي فرصة من خير أو رحمة أو ثناء؛ إن هو استمر على ذلك.
ـ عندما يلتزم المرء بعقيدة السماء، فعليه أن يتخلَّى عن نهمه المادي، ويجعل جُلَّ همِّه في العمل من أجل مالك الخزائن الَّذي لا تنفد عطاياه، وهذا التخلِّي يَلزمه صبرٌ ومخالفة للنفس وجهاد للهوى، حتَّى ينصهر هواه في بوتقة الإيمان الحقيقي مصدر الربح الدائم.
في رحاب الآيات:
تهدف الشرائع السماوية إلى بناء مجتمع تسوده الثقة المتبادلة بين الناس، في كلِّ الشؤون المادِّية منها والمعنوية، وعلى جميع المستويات، وبين مختلف الفئات والأجناس، فكلُّ من خان الأمانة، أو تراجع عن التزاماته ووعوده بغية الوصول إلى منافع خاصَّة، أو استغلَّ العواطف الدِّينية من أجل تحقيق غايات رخيصة، فهو منبوذ من ملكوت الله، ممقوت من حضرته. فالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، آية الدِّين البيِّنة، ودليل التَّقوى، والخُلُق الحسن، والمحور الَّذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس بعهودهم، زالت ثقة بعضهم في بعض، وفسدت روح المعاملات وانهار النظام العام. لذا فلا يمكن أن يجتمع إيمان بالله مع الخيانة والغدر، لأن الخيانة والغدر هما من ثمرات النفاق، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلَّة منهنَّ كانت فيه خلَّة من نفاق حتَّى يدعها، إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» (رواه الأربعة) والإسلام يشدِّد على الوفاء بالعهد، لاسيَّما ذلك العهد الموثَّق بالقسم، فإذا وعد أحدٌ وعداً وأخلفه دون عذر فهو آثم ومتصف بصفة من صفات النفاق.
أما إذا صمَّم الإنسان على الوفاء بوعده ثمَّ طرأ له من الموانع ما حال بينه وبين ذلك فلا إثم عليه. وإنَّ كُلَّ مَنْ راعى هذه القاعدة وفاءً بعهد الله تعالى والتزاماً بتقواه، أحبَّه الله وأكرمه، وكلَّ من اشترى بعهد الله وأَيْمَانه ثمناً قليلاً من عَرَض الدنيا فلا نصيب له في الآخرة، ولا رعاية له ولا قبول، ولا زكاة ولا طهارة.
هذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية، التعامل فيها أوَّلاً وأخيراً تعامل مع الله، يراعي فيه العبد رضا ربه، ويتجنَّب سخطه، وبذلك يضمن الإسلام تطلُّعَ البشرية الدائم إلى الأفق الأعلى، لتستمدَّ منه القيم العليا والمبادئ المُسعدة، ومن ثمَّ يشير إلى أن الَّذين يخونون الأمانة وينقضون العهد، إنما يقطعون الصلة بينهم وبين الله، قبل أن يقطعوها بينهم وبين الناس، ولو أنهم حكَّموا عقولهم، لوجدوا أنفسهم قد استبدلوا بخزائن الله الواسعة والمُلك الَّذي لا يبلى؛ متاعاً من الدنيا قليل. لذا فلا نصيب لهم في الآخرة من عفو ولا مغفرة، جزاء استهانتهم بعهد الله تعالى، واستخفافهم في تعاملهم مع عباده، دون أن يلحظوا غيرة الله على عباده، وحرصه أن لا يُستَغَلَّ اسمه جلَّ وعلا في خداع هؤلاء البسطاء والمستضعفين.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ومن النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قولهُ في الحياةِ الدُّنيا ويُشهِدُ الله على ما في قلبهِ وهوَ ألَدُّ الخِصامِ(204) وإذا تَولَّى سَعى في الأرضِ ليُفسِدَ فيها ويُهلِكَ الحَرثَ والنَّسلَ والله لا يُحبُّ الفَسادَ(205) وإذا قيلَ لهُ اتَّقِ الله أخَذَتْهُ العِزَّةُ بالإثمِ فَحَسبُهُ جهنَّمُ ولَبِئسَ المِهاد(206)}
ومضات:
ـ هناك صنف من الناس يتمتَّع بفصاحة وبلاغة ولسانٍ طيِّعٍ يدهش من يستمع إليه، لكنَّه يستعمل هذه النِّعَم للخداع ببراعة ومكر، فيُظْهِرُ الصداقة والمودَّة للمؤمنين، بينما يُكِنُّ لهم عداوةً وحقداً بالغَيْنِ، ويتجرَّأ على الله بالقسم بعزَّته؛ من أجل عرض من الدنيا قليل، ولا يخطر بباله أن الله تعالى عالم به، ناظر إليه، قادر على أن يفضحه.
ـ هذا الصنف من أكثر الناس سوءاً وفساداً، لأنه يسخِّر ذكاءه وقدراته من أجل بَثِّ الفتن والفساد، ونشر الضغائن بين الناس. لذلك فهو محروم من محبَّة الله، لأنه جعل نفسه في قائمة المفسدين، والله يحبُّ الإعمار والبناء، ويكره التخريب والإفساد.
ـ إن من علامات المنافق الَّتي تدلُّ على تماديه في ضلاله وطغيانه، أنه لا يستمع إلى نصيحة، ولا يرتدع بِوازعٍ، بل يدفعه غروره وتكبُّره، للغضب إذا ما اتُّهِمَ بالفساد، أو دُعِيَ إلى التَّقوى والعودة عما هو فيه من الضلال، متناسياً ربَّه غافلاً عن عذابه؛ ولكنَّ الله يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم بذنبه لا يُفْلِتُهُ.
في رحاب الآيات:
القرآن الكريم رسالة إصلاح للنفس الإنسانية، وعلاج للقلوب المريضة، وبما أنه لابُدَّ للطبيب من أن يتعرَّف حالة مريضه قبل الشروع بعلاجه، ليشخِّص الداء ويصف الدواء، لذلك كان لابُدَّ للمصلح من معرفة أحوال الناس، ودخائل نفوسهم، وكشف أساليب الضلال والفساد الَّتي يتسلَّل الشيطان إليهم بواسطتها. وقد أوضح القرآن الكريم السبيل للمصلحين وسهَّل مهمتهم، فسلَّط الضوء على صورة الإنسان من داخله، ووجَّه الدعاة إلى التبصُّر في النفوس، ودراسة طبائعها وأوضاعها، وسبر أغوارها، فالمصلحون للناس، كالأطباء للمرضى، لا يعالجون أمراضهم إلا بعد تشخيصها واختيار العلاج المناسب دون سواه.
ومن أهمِّ الأمراض النفسية والاجتماعية الَّتي أشار إليها القرآن الكريم مرض النفاق والمراءاة، حيث أنَّ من الناس من يظهر نفسه على أنه خلاصة من الخير والإخلاص والتجرُّد، ولكنَّ ظاهره يتناقض مع باطنه، فهو يخفي الكذب ويظهر الصدق، ويضمر الحقد ويدَّعي المودة، حتَّى إذا حان وقت الجد ظهر المخبوء، وانكشف المستور، ونضح إناؤه بما فيه من البغي والكذب والفساد. إن هذا الفريق يتوصل إلى خداع الناس عن طريق أمور عدَّةمنها:
1 ـ تزيين القول وتجميله بحيث يعجب السامع ويملك عليه لبَّه، فلا يُتَّهم في صدقه.
2 ـ إشهاد الله تعالى على دعواه، كنوع من القسم، للتأكيد على صدقه وحسن نواياه، مع ما في ذلك من جرأة على الله، فإذا كان يفترض انطلاء كذبه على الناس، فكيف يفترض ذلك على الله، ويتجاوز ذلك إلى إشهاده أيضاً؟! وهنا ذروة الطغيان والفسق والخداع.
3 ـ كثرة الجدل واستخدام الحجج الواهية تأييداً لكلامه ودعواه.
إن مثل هذا الفريق نجده في كلِّ أُمَّة وفي كلِّ عصر، وإن تعدَّدت أشكاله باختلاف العصور، وهو ـ بما اتـصف به من تزييف وتناقض مع نفسه ـ يدَّعي الصلاح والإصلاح، لكنَّه يسعى في الأرض بالفساد والبغي والعدوان على الناس وعلى أرزاقهم، وموارد عيشهم الَّتي هيَّأها الله لهم، لينعموا بحياتهم على الأرض، وقد يرتكب الفواحش الَّتي ينتج عنها الفساد الأخلاقي أو فساد البيئة، دون أدنى شعور بالمسؤولية. فمن عجبٍ أن يحسب المفسد أنه يحسن صنعاً، وقد يدَّعي ذلك أمام الناس، فلا يقبل نصحاً ولا إرشاداً، فما جدوى مثل هذا الإنسان الَّذي فقد القدرة على التمييز بين الخير والشر؟ وما الَّذي ينفعه إذا ربح الدنيا وخسر نفسه؟.
لقد عاقب الإنسانُ المفسدُ نفسَهُ بنفسِهِ، فكانت تلك الحروب الظالمة الَّتي صنعها بصلفه وغروره، والَّتي هدَّدت البشريَّة بإنهاء الحياة على هذه الأرض، فكانت لوناً من ألوان الجحيم الَّذي أحرق الإنسان به نفسه، قال تعالى: {يَستعجلونَكَ بالعذابِ وإنَّ جهنَّمَ لمحيطةٌ بالكافرين} (29 العنكبوت آية 54)، والكافر هو كلُّ من عطَّل قوانين الله تعالى فيما خُلِقَ من أجله، ووجَّه المنافع والنعم الإلهية إلى غير وجهتها، ليعيش في قلق واضطراب مصداق قوله تعالى: {ومن أعرَض عن ذِكري فإنَّ له مَعيشةً ضَنْكاً ونحشُرهُ يومَ القيامةِ أعمى * قال ربِّ لِمَ حَشرْتَني أعمى وقد كنتُ بصيراً * قال كذلك أتَتْكَ آياتُنا فنسِيْتَهَا وكذلك اليومَ تُنسى} (20 طه آية 124ـ126).
إن النار هي الوعيد الَّذي ينتظر هذا النوع المريض والمخرِّب من البشر غداً في الدار الآخرة، وهي في حميمها وغسَّاقها جزاءً وفاقاً، لتطهير نفسه الظالمة المظلمة، الَّتي خبا فيها نور الحق! فعشَّشَ فيها الشيطان وفرَّخ.
سورة الرعد(13)
قال الله تعالى: {أَنْزلَ من السَّماء ماءً فسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها فاحْتَمَلَ السَّيلُ زَبَداً رابياً وممَّا يوقِدُون عليه في النَّارِ ابتغاءَ حِلْيَةٍ أو متاعٍ زَبَدٌ مثلُهُ كذلك يضْرِبُ الله الحقَّ والباطِلَ فأمَّا الزَّبَدُ فيذهبُ جُفَاءً وأمَّا ما ينفعُ النَّاسَ فيمْكُثُ في الأرضِ كذلك يضْرِبُ الله الأمثالَ(17)}
ومضات:
ـ الزبد في هذه الآية الكريمة كناية عن العمل الفاشل الَّذي لا يجدي، وهو عبارة عن الوهم الَّذي يعتري المرء حول أعمال ضارَّة مؤذية يفعلها وهو يظن بها الخير والفلاح غباءً وغروراً.
ـ العمل الجادُّ المخلص البنَّاء يُعدُّ الأساس المكين الراسخ لبناء مستقبل الأمَّة الزاهر ونجاحها الباهر.
في رحاب الآيات:
إن الكثير من أوقات الناس ونشاطاتهم تذهب أدراج الرياح، دون أن يستفيدوا منها في معاشهم أو معادهم، وبالتالي تُحْرَمُ مجتمعاتهم من الإفادة منها. فالهدر في وقت الإنسان يعني الهدر في عمله المُجْدي وإنتاجه، ممَّا يجعل حصيلة العمل الَّذي يجنيه في عمره، كمثل الماء الَّذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يجمع في طريقه الشوائب والأوساخ، فتطفو على وجهه في صورة زبد كثيف، حتَّى إن هذا الزَّبد ليحجب الماء في بعض الأحيان، ولكنَّه غثاء لا فائدة فيه، والماء من تحته ساكن هادئ يحمل الخير والحياة. أو كمثل المعادن الَّتي تُذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضَّة، أو كآلة نافعة للصناعة كالحديد أو الرصاص؛ صحيح أن الخبث يطفو على وجهها، وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنَّه سرعان ما يذهب ويندثر، ويبقى المعدن في نقائه وجوهره الأصيل.
إن نقاء الماء والمعدن الثمين لشبيه بنقاء المؤمن ذي العقل الناضج، والفكر الثاقب والقلب المستنير، الَّذي يترك في كلِّ عمل يقوم به أثراً ينفع نفسه ومجتمعه ويستمرُّ حتَّى بعد وفاته، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) والصَّدقة الجارية تشمل كلَّ عمل خَيِّرٍ يمكن أن يستفيد منه المجتمع على مرِّ الأيام، كبناء مسجد، أو مدرسة، أو مصنع يعمل فيه الفقراء فيغنيهم عن السؤال. وأمَّا العلم فيشمل جميع مجالات الحياة الدِّينية والدنيوية بما ينفع الفرد والناس كافة. وأما الذريَّة الصالحة، فهي استمرار للعطاء الصالح، وهي مسؤولية الآباء ليقدِّمُوا لمستقبل بلادهم المزيد من الازدهار، من خلال تنشئة أولادهم على أسس متينة من الإيمان والعلم والأخلاق الفاضلة.
ذلك هو مثل الحقِّ والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويستكبر ولكنَّه زبد لا يلبث أن يذهب جُفاءً مطروحاً لا ثبات له ولا تماسك فيه، والحقُّ يظلُّ هادئاً ساكناً، وربَّما يحسب بعضهم أنه قد انزوى أو ضاع، ولكنَّه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي، والمعدن الصافي الَّذي ينفع الناس. فقد تطرب الآذان وتتطاول الأعناق نحو شعارات أو دعوات تحمل مظهراً حضارياً مغرياً يخطف ببريقه الأبصار، ولكن إذا ما عايَنْتَ حقيقتها، وكَشَفْتَ القناع البَرَّاق عنها، فسُرعان ما ينكشف لك زيفها واشتمالها على ما يفقد الإنسان إنسانيته، فتنبذها وتلقي بها بعيداً، وتبحث عمَّا يحقِّق لك السعادة الحقيقية. ومثال ذلك الدعوات المسعورة الَّتي تدعو إلى التهتُّك والإباحية، والَّتي تنطلق من هنا وهناك، والَّتي يتوهَّم المرء أنها تحمل له الحرِّية والسعادة، فيفاجأ بأنها تنطوي على الانحلال الخلقي، والتفلُّت من كلِّ فضيلة، ناهيك عن الأمراض المهلكة الَّتي تقدمها له كهدية مفجعة. في الوقت الَّذي يتوهَّم فيه أن للفضيلة والعفَّة قيوداً تأسره وتحُدُّ من متعته وحريته، فإذا هي في حقيقتها نظام يحمل له السَّلامة والأمان، وإن الالتزام بها والانقياد لها، كالتزام القطار سكَّة الحديد، ففي ذلك ضمان وصوله إلى غايته سالماً محقِّقاً الغاية من وجوده، ولو حاول الانعتاق من قيدها لكان في ذلك هلاكه وهلاك من فيه. إن المفكر الحرَّ والعاقل الرشيد عندما تنكشف له هذه الحقيقة، يشيح بوجهه عما كان يرغو ويزبد ثمَّ يتلاشى ويزول، ويتجه ليمسك بيده المعدن الأصيل الثمين.
وهكذا نلمس بأيدينا كيف يضرب الله الأمثال للناس ليوضح لهم ما أشكل عليهم من أمور دينهم، ويُظهِرُ الفوارق بين الحقِّ والباطل والإيمان والكفر، ليتبيَّن الناسُ طريق الهداية فيسلكوها، وطريق الغواية فيجتنبوها. جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورَعَوْا وسقَوْا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعَلِم وعلَّم، ومَثَلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الَّذي أُرسلتُ به» (متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).
سورة الجاثية(45)
قال الله تعالى: {أَفرأَيْتَ منِ اتَّخَذَ إلههُ هواهُ وأَضلَّهُ الله على عِلْمٍ وختَمَ على سمْعِهِ وقلبِهِ وجعلَ على بصرِهِ غِشاوةً فمن يهديه من بعدِ الله أفلا تَذَكَّرون(23)}
ومضات:
ـ إذا سيطرت تعلُّقات الإنسان الجسدية على أعماقه، ولم يعد باستطاعته البعد عنها أو الخلاص منها، أصبح عبداً منقاداً لها، فتنغلق حواسُّه الروحية دون الأنوار الإلهية والنفحات الربَّانية، فلا بصيرة تريه سواء السبيل، ولا قبس من هداية يخترق حجبه لينتشله من مهاوي الضلال.
ـ ينبغي على المرء أن يستفيد من تجارب الآخرين، وأن يدرسها برويَّة ويحللها بوعي، لكي يتَّسع أفقه وتزداد قدرته على فهم الأسباب والمسببات وتمييز الخطأ من الصواب.
في رحاب الآيات:
إن في النفس البشرية مجموعة قوى تمثل مجمل النوازع والميول والاتجاهات الَّتي تتصارع في داخلها. وهي من حيث الأصل متشابهة لدى جميع بني البشر حيث إنها مخلوقة على الفطرة، قبل أن تمتدَّ إليها المؤثِّرات الخارجية، لتتبلور ضمن صفات معينة، ولتسير في اتجاهات مختلفة، تختلف من إنسان إلى آخر ومن بيئة لأخرى. والشرائع السماويةلم تأتِ لمحاربة الميول النفسية، بل لتهذبها وتسير بها نحو الأفضل. وقد ينجرف الإنسان وراء بعض الميول المنحرفة بشكل قوي، ويتعلق بها حتَّى تصبح همَّه الأوَّل وشغله الشاغل، وتأخذ بكلِّ أحاسيسه فيتحوَّل إلى عبد لها، فلا يسمع إلا من خلالها ولا يرى إلا بها، ولا يعشق غيرها، ومن ثمَّ فإنها تقوده إلى أودية الهلاك بملء إرادته واختياره، فهو يدرك أنه سائر في طريق منحرفة، لكنَّه مشلول الإرادة، منهزم العزيمة أمامها، لا يلتزم حلالاً، ولا يجتنب حراماً. والتعبير القرآني المبدع يرسم صورة دقيقة لنموذج من النفس البشرية الَّتي تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلِّب، وتتعبد في محراب الهوى، وتجعله مصدر تصوُّراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتنصِّبه إلهاً قاهراً لها، مستولياً عليها، تتلقى إشاراته المتقلِّبة بالطاعة والتسليم والقبول.
إن القرآن الكريم يرسم تلك الصورة، ويعجب من أصحابها في استنكار شديد: {أفرأيت من اتَّخذ إلهه هواه}؟ إنه كائن عجيب يستحقُّ التعجُّب من أمره، ويستحقُّ من الله الطرد والإبعاد، فلا يتداركه برحمة الهدى، لأنه ملأ قلبه بصنوف الهوى فلم يعد في قلبه مكان لسواها، وعكف يعبد هواه المريض، ونزواته الشوهاء، وهو يحسب أنه قد أحسن صُنعاً! قال أبو أمامة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عُبِدَ تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» (أخرجه القرطبي). ذلك لأن الهوى إذا استبدَّ بالإنسان انطمست فيه منابع النور من سمع وبصر وقلب وعقل، وتعطَّلت المدارك الَّتي ينفذ الهدى من خلالها، فينحط المرء إلى ما دون البهائم، ويصبح أداة تخريب بدلاً من أن يكون أداة إصلاح وتعمير، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات شُحٌّ مطاع، وهوى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب» (أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنه ) فاتباع الهوى من المهلكات لأنه الشرك الخفي بعينه، وهو الشرك الَّذي لا يمكننا الخلاص منه إلا بعون الله وقوة من لدنه، لنحطِّم أصنام تعلُّقاتنا، ولِنَحُدَّ من شهواتنا، ولنجعل قبلة قلوبنا ربَّ العالمين إلهاً معبوداً واحداً لا شريك له. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتَّى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطيب عن ابن عمر رضي الله عنه ) فما جاء به هو الحقُّ من الله، الَّذي يحمل الراحة للقلوب والنجاة للأرواح.
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {وكذلك ما أَرسلنا من قَبلِكَ في قريةٍ مِن نذَيرٍ إلاَّ قال مُتْرَفوها إنَّا وَجدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهم مُقتَدون(23) قال أَوَلَوْ جِئْتُكم بأهدى مِمَّا وَجدتُّم عليه آباءَكم قالوا إنَّا بما أُرْسِلْتم به كافرون(24) فانتقمنا منهم فانظرْ كيف كان عاقبةُ المُكذِّبين(25)}
ومضات:
ـ غالباً ما تقترن ملكية المترفين للثروات والأموال باستحواذهم على النفوذ والسلطان، ممَّا يجعلهم يسيطرون على مقدرات البلاد، ويوجِّهون الأمور العامَّة حسب مصالحهم الخاصَّة، لذلك كانوا دائماً أوَّل المعارضين لدعوات الرسل والأنبياء الإصلاحية التجديدية، وكانوا يدعون إلى محاربتها متذرِّعين بالتمسُّك بالقديم الخاطئ البالي والموروث عن ضلال السابقين، وذلك لئلا تدب الحياة من جديد في عقول الناس، فيدركوا استغلالهم لهم، ويُعَرِّضوا مصالحهم الموروثة للخطر.
ـ لم يترك رسلُ الله سبيلاً يصل بينهم وبين عقول المعرضين وقلوبهم إلا وسلكوه، وقد أقاموا عليهم الحجَّة والبرهان ولكن دون جدوى، فهم يصرُّون على ستر الحقائق، ويتمادون في الإعراض عنها. وعندما يتحقَّق الانتقام الإلهي؛ يترك بلادهم خراباً، ومنازلهم ركاماً، شاهدة على القدرة الإلهية في إنزال العقاب بالمكذِّبين، ليكونوا عبرة لمن يريد أن يعتبر.
في رحاب الآيات:
يولد الطفل وهو يحمل كثيراً من الاستعدادات الفطرية الطيِّبة والغرائز المزروعة في نفسه، وعندما ينمو ويترعرع تبدأ مرحلة اكتساب العادات من البيئة والمحيط، حيث تتكوَّن شخصيته متأثِّرة بالأب والأم بالدرجة الأولى، ثمَّ ببقية أفراد العائلة، وبعدها بالأساتذة والمربِّين، والأصحاب والأصدقاء، إلى غير ذلك من المؤثِّرات والنظم الاجتماعية المحيطة به. تلك النظم الَّتي قد تَتَّخِذُ مع مرور الوقت اتجاهاً خاطئاً، بعيداً عن جادَّة الصواب، بحيث يعتدي فيها القويُّ على الضعيف، ويبغي الظالم على المظلوم، ويعبث العابثون، ويفسق المترفون، فيبدأ المجتمع بالتفكُّك والانهيار.
ويرسل الله تعالى الرسل والأنبياء والمصلحين رحمة من لَدُنْه، ليعيدوا الخلائق إلى طريق الإيمان والخير والحبِّ والتعاون، ولكنَّ أكثر الناس كانوا يقابلون دعوات الرسل، بالاستغراب والاستنكار، لأنها كانت تبدو غريبة عما أَلِفُوه، وما اعتادوه من قِيَمٍ وعادات، وهنا يبدأ الصراع بين العقل والهوى، بين الإيمان والعادات. وأوَّل من كان يقوم بالمعارضة هم الأغنياء المترفون الَّذين أبطرتهم النعمة، وأعمتهم الشهوات والملاهي عن تحمُّل المشاقِّ في طلب الحقِّ، ويكون جوابهم التقليدي: إنا وجدنا أسلافنا على مِلَّةٍ ودينٍ، ونحن مقتدون بهم، هكذا دون تدبُّر أو تفكُّر في موضوع الدِّين الجديد، ولو كان أهدى ممَّا هم عليه وأجدى. وفي عرض هذه الصور في القرآن الكريم على هذا النحو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، ودلالة على أن هذا التقليد ضلال قديم، ومحاربة الدِّين الجديد أمر قد واجهه الرسل من قبله، وخصَّت الآية المترفين بالذكر للإيحاء بأن التَّرف غالباً ما يورث البطر، ويصرف عن النظر والتفكير المنطقي السليم، إلى المحاكاة والتقليد والإبقاء على الخطأ!.
ثم حكى القرآن الكريم ما قاله كلُّ رسول لأمته: أتبتغون ذلك وتسيرون على نهجه، مع أني جئتكم من عند ربِّكم بدين أهدى إلى طريق الحقِّ، وأدَلَّ على سبيل الرشاد ممَّا وجدتم عليه آباءكم من دين وملة؟ ثمَّ أورد إجابتهم المتكرِّرة والَّتي تُيْئِسُهُ من اتِّباعهم له: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفكُّ عنه، ولو جئتنا بما هو أهدى منه. فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جاءهم به ما انقادوا له، لسوء قصدهم ومكابرتهم تجاه الحقِّ وأهله. وبعد سطوع البرهان ووضوح الدليل لم يبق لهم عذر ولا حجَّة، فجاءهم الانتقام الإلهي بعد أن كذَّبوا الرسل، وجحدوا نِعَم الله عليهم.
فانظر أيها الرسول الكريم وكذلك أنت أيها الكافر الجاحد، كيف كانت عاقبة أمرهم حين كذَّبوا بآياتنا؟ ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم؟ فليزدد المحسن إحساناً، وليرتدع المكذِّب عما هو فيه، ولْيَؤُبْ إلى ربِّه قبل أن يحلَّ به ما حلَّ بالمكذبين قبله.
سورة العنكبوت(29)
قال الله تعالى: {مثلُ الَّذين اتَّخَذوا من دونِ الله أولياءَ كمثلِ العنكبوتِ اتَّخذتْ بيتاً وإنَّ أوْهَنَ البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون(41) إنَّ الله يعلمُ ما يدعونَ من دونِهِ من شيءٍ وهو العزيزُ الحكيم(42) وتلك الأمثالُ نضْرِبُها للنَّاس وما يعقِلُها إلاَّ العالِمون(43)}
ومضات:
ـ إن المُعرض عن دعوة الله، المتَّخذ من دونه أولياء انجذب إليهم تحت تأثير إيحاء خادع أومظهر براق، مثله كمن اتخذ من بيت العنكبوت حصناً، لأنه وقع ضحية وهمٍ زائف سُرْعان ما ينكشف ويدرك أنه يستند إلى فراغ. فإن رجع عن تعصُّبه لجاهليته فهو الحكيم العاقل، والمهتدي الراشد، وإن استمر في غيِّه وازداد تعلقاً به، فإنه يثبت لنفسه السفه والحمق وعدم الإدراك.
ـ إن دِقَّة صنع بيت العنكبوت وإتقان مظهره يلفتان النظر، حتَّى ليكاد الناظر إليه للوهلة الأولى أن ينخدع به، فيظنُّ به المتانة والمنعة، ولكنَّه سرعان ما يكتشف أنه لا يتعدَّى كونه مصيدة لذبابة أو بعوضة يقتات بها العنكبوت، وأن نسمة عليلة قد تمزِّقه وتذهب به أدراج الرياح، فما أدراك بعواصف الغضب الإلهي.
ـ تبارك الله في علمه وحلمه وتعليمه، وبورك قومٌ عقلوا وتعلموا عن الله، فصاروا من أوليائه المقرَّبين المخبتين.
في رحاب الآيات:
إنه لتصوير عجيب وعميق، لحقيقة قوى المخلوقات في هذا الوجود، تلك القوى الواهية كمثل بيت العنكبوت بالمقارنة مع قدرة الله تعالى، ومع هذا فقد ينخدع بها كثيرون ويتخذونها دعائم لهم وسنداً من دون الله، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصوُّرهم لجميع الارتباطات، وتختلُّ في أيديهم جميع الموازين ولا يعرفون إلى أين يتوجَّهون، وماذا يأخذون وما الَّذي يدعون. فقد تخدعهم قوَّة الحكم والسلطان، فيحسبونها القوة القادرة الفاعلة في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفُّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حِمَاها. وقد تخدعهم قوَّة المال فيحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدمون إليها في رغبٍ وفي رهبٍ، ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها، ويتسلطوا على الرقاب كما يشتهون. وقد تخدعهم قوَّة العلم فيحسبونها أصل القوة، وأصل المال، وأصل سائر القوى الَّتي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عُبَّاد في المحاريب. تخدعهم هذه القوى الظاهرة في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات، وفي أيدي الدول، فيدورون حولها ويتهافتون عليها، كما يتهافت الفراش على النار ليموت فيه! وينسون القوة القادرة الوحيدة الَّتي تخلق سائر القوى الأخرى، وتملكها وتمنحها وتوجِّهها وتسخِّرها كما تريد وحيثما تريد.
ويغيب عن أذهانهم أن الالتجاء إلى تلك القوى أيّاً كانت كالتجاء العنكبوت إلى بيته، فهو بحد ذاته حشرة ضعيفة، رخوة واهنة، لا حماية لها ولا وقاية لها في بيتها الواهن، وليس هنالك إلا حماية الله وحِمَاه، وإلا رُكْنُهُ القوي المتين، هذه الحقيقة الجليلة هي الَّتي عُنِيَ القرآن الكريم بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى الَّتي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة المتسلِّطين في الأرض، ودكَّت بها المعاقل والحصون. هذه الحقيقة استقرَّت في كلِّ نفس مؤمنة، وعمرت كلَّ قلب ذاكر، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق ولم تعد كلمة تُقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل بل هي بديهة مستقرِّة في النفس لا يجول غيرها في حسٍّ ولا خيال. فقوَّة الله وحدها هي القوَّة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبَّر وطغى، ومهما مَلكَ من وسائل البطش والطغيان والتنكيل؛ فما هي إلا بيت العنكبوت. وإنَّ أصحاب الدعوات الخيِّرة الَّذين يتعرضون للفتنة والأذى والإغراء لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الناصعة، ولا ينسَوْها لحظة وهم يواجهون القوى المختلفة تضربهم، وتحاول أن تسحقهم، وأخرى تستهويهم وتحاول أن تشتريهم، وكلُّها كبيت العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة، حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى، وتحسن التقويم والتقدير.
والله يعلم حقيقة الَّذين يستعينون من دون الله بأولياء من الأوثان والأصنام والجن والإنس، ويعلم حقيقة ما يوالون، وإنها في عجزها عن مساعدتهم ونصرتهم كمثل بيت العنكبوت في عجزه عن حماية صاحبه، والله عزيز في انتقامه ممَّن كفر به أو أشرك في عبادته، وهو الحكيم في تدبير خلقه، مهلكٌ من قضت حكمته تعجيل إهلاكه، وممهل من قضت حكمته إمهاله، تمكيناً له من التوبة والإنابة.
إن هذا المَثَلَ ونظائره من الأمثال الَّتي اشتمل عليها كتاب الله، يضربها الله سبحانه للناس، تقريباً لما بَعُد عن أفهامهم، وإيضاحاً لما أشكل عليهم أمره، أو استعصى عليهم فهمه، ولا يفهم مغزاها ومدى تأثيرها، واستتباعها لكثير من الفوائد إلا الراسخون في العلم، المتدبِّرون عواقب الأمور، ولا يفهم هذه الأسرار إلا الَّذين آمنوا بالله، وصدَّقوا رسوله، لأنهم هم الَّذين يستدلُّون بالآثار على مُؤثِّرها ويعلمون حقائق الأمور ولا ينشغلون بالمظاهر.
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {ومن أظْلَمُ ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ ربِّهِ فأعرَضَ عنها ونَسِيَ ما قدَّمَتْ يداهُ إنَّا جعلنا على قلوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يفقَهوه وفي آذانِهِم وَقْراً وإن تَدْعُهُم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً(57) وربُّكَ الغفورُ ذو الرَّحمَةِ لو يؤاخِذُهُم بما كَسَبوا لعجَّلَ لهمُ العذابَ بلْ لهم مَوْعِدٌ لن يجدوا من دونِهِ مَوْئِلاً(58)}
ومضات:
ـ في كلِّ خَلْقٍ من خَلْقِ الله آية ومعجزة، من الذَّرة إلى المَجرَّة، ومن البعوضة إلى الفيل، في نفس الإنسان وذاته، في مئات الملايين من الأعصاب الَّتي تدير جسده وحواسه. وعلى الرغم من ذلك كلِّه فقد أعرض بعض الناس متناسين أصلهم المنوي، وأيام حملهم في أرحام أمهاتهم، ومدة رضاعهم وطفولتهم ثمَّ ربيع عمرهم في شبابهم وقوتهم، فأغلقوا بأيديهم أبواب الرحمة الإلهية أمام وجوههم.
ـ لابُدَّ للإنسان كي يستوعب طريق الهداية، من قلب نابض بالحياة الروحية، مبتعد عما يُغَلِّفُهُ من التعلُّقات بغير الله تعالى، ولابُدَّ له من آذان واعية متفتحة مرتبطة بهذا القلب، لكي يعمره بنور ذكر الله.
ـ في كلِّ مناسبة يذكِّرنا الله عزَّ وجل بعظيم رحمته، ليشدَّ قلوبنا إليه في لحظة يصحو فيها ضميرنا، ويتحرك فؤادنا لهفة للمحبوب وتوبة صادقة إليه، فإن لم نغتنم هذه الفرص، فليس أمامنا مَفَرٌّ من مواجهة نتائج أعمالنا في اليوم الموعود.
في رحاب الآيات:
إن للظلم درجات، ولعلَّ أشدَّ أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه وهو يعلم، وأن يقودها في دروب التعاسة والشقاء مدَّعياً أنه يُحْسِنُ صنعاً، وإذا حدثَ ونبَّهه أحد إلى هذا، أشاح بوجهه وأعرض عنه، وإذا قُدِّمت له البراهين والدلائل سخر وتشاغل. والله تعالى ينعى على هذا الإنسان المقصِّر الَّذي أعلن الحرب ضد نفسه، ويصفه بأنه أظلم من في الأرض، وذلك لأن من يحارب نفسه فلا يعقل أبداً أن ينصف أحداً ممن حوله، فقد فسدت فطرته وتعفَّن قلبه، فأَنَّى للخير أن ينبثق وسط هذا العَفن، وأَنَّى للنور أن يومض وسط هذه الظلمة؟.
ولكن كيف يظلم الإنسان نفسه، وما مظاهر هذا الظلم؟ إنها تبدو في إعراضه، وفي قسمات وجهه، وتقطيب جبينه؛ كلَّما دُعي إلى الله، أو سمع آياته تتلى، فهو يتجافى عنها وكأنها لا تعنيه، فلا يستوعبها ولا يستفيد منها، مع أنها قوى فاعلة لإنقاذه وتأمين السعادة له. فهو يظنُّ أنه في مستوى رفيع يحول بينه وبين التواضع لسماع كلمة الحقِّ، وتأخذه العزَّة بالإثم، فلا يهتزُّ قلبه حين يسمع بيان السماء يُلقَى في ضمير الكون، فإذا الجبال والأشجار والبهائم والحجارة كلُّها تصغي، وكلُّها تُسَبِّحُ بحمد الله، وتقدِّس له، وهو وحده الغريب عن نشيد الوجود، قد تقوقع في دائرة صغيرة جداً هي دائرة الذات، ورأى الوجود على انفساحه من خلال بؤرة ذاته الضيِّقة، فما راق له وتناسب مع أفكاره، فهو الجليل والعظيم، وما تعارض مع ميوله ورغباته، فهو المستنكَر المستقبح. لقد انغمست نفسه في مستنقع الأنانية فتناثر الرذاذ على قلبه، وأُحيط بطبقة كتيمة تحول بينه وبين نور الله، فانحبس ماء الحياة فلم يترشح شيء من جدرانه، ووصل بعض من هذا الرذاذ إلى أذنيه فأصيب بالصمم المعنوي، فهو لا يسمع ولا يعقل، وإن سمع فلا يحاول أن يفهم. لقد سدَّ أذنيه برتاج التكبُّر والغطرسة، إمَّا بسبب إقباله على الدنيا، أو بسبب غنى يورثه غروراً واستكباراً، وربَّما دون سبب ما يجعله يُعْرِضُ عن نداء الله. والله جلَّ وعلا لا يترك عباده ـ حتَّى العصاة منهم ـ دون دليل، فهو يرسل الأنبياء للتذكير ومن بعدهم المصلحين والمعلِّمين والدعاة، الَّذين يدأبون على محاولة تصحيح مسيرة المنحرفين، ولكنَّهم قد لا يفلحون في ذلك؛ لأن القلوب إذا صَدِئَت فسدت، والأرواح إذا تلوثت بالدنايا احتجبت، والنفوس إذا طغت تمردت على أصحابها.
إن تصرُّفات الإنسان الَّتي تخالف شرع الله وتؤذي صاحبها، وتُلحِق الضرر به، أو الَّتي تؤذي الآخرين مادِّياً، أو معنوياً، تُعْرَضُ جميعها على محكمةِ ربِّ العالمين، ولو شاء الله لحاسب فاعلها على الفور، ولكنَّه يمهله رحمةً به إلا أنه لا يهمله، وذلك من أجل أن يتوب ويصلح ما أفسده بذنوبه وأخطائه. فالله جلَّ وعلا أرْأفُ بالإنسان من أمه وأبيه ومن نفسه على نفسه، فهو خالقه وموجده من العدم، لقد اختاره عند الحمل من بين ملايين الحيوانات المنوية من أمثاله، ليكون إنساناً سويّاً، ونفخ فيه من روحه، وكرَّمه بالعقل، وأسجد لأبيه ملائكته، فهل يعقل أن يُنْزِلَ به عقابَه لأقلِّ هفوة؟ إنه يؤخره ليثوب إلى رشده، وتعود الحياة إلى ضميره، والله سبحانه يهيئ له الفرصة من أجل أن ينتفض قلبه ويطرح ما علق به من أوزار، فيندم ويستغفر وتجري دموعه سخية بين يدي مولاه، فإذا لم يحدث منه هذا وأَصَرَّ على مخالفته، فإن الإرادة العليا قد تعطي الإذن بإنزال العقوبة بهذا المخالف، في الدنيا بالابتلاء بالمرض أو الفقر أو غيره، وقد تؤجِّله إلى يوم القيامة، حيث لا يجد العاصي ملجأً من الله إلا إليه، وينزل به العقاب جزاء ما اقترف في حقِّ نفسه، وحقِّ ربِّه، وحقِّ إخوانه في الإنسانية، إحقاقاً للحقِّ الَّذي رفعه الله فوق كلِّ القِيَم، وجعله ميزانه في الأرض وفي السماء على السواء.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {وضَرَبَ الله مثلاً رجُلَيْنِ أَحَدُهُما أبْكَمُ لا يقدِرُ على شيءٍ وهو كَلٌّ على مولاهُ أينما يُوَجِّههُ لا يأتِ بخيرٍ هل يستوي هو ومن يأمرُ بالعدلِ وهو على صراطٍ مستقيم(76)}
ومضات:
ـ إن إنتاج الإنسان وعطاءه ينبعان من القوى الفاعلة لديه، فإذا أعيقت هذه القوى أو شُلَّت، تلاشى وجوده الإنساني ليتحوَّل إلى وجود ناقص غير مسؤول، وليصبح حِملاً ثقيلاً على مجتمعه. ولكنَّ هذه القوى إن تحرَّكت وفاضت ينابيعها، كان وجوده نافعاً يحقِّق الخير للجميع.
ـ العطاء الحقيقي الَّذي يمكن للإنسان أن يقدمه لمجتمعه، هو أن يشيع العدل والاستقامة بين صفوف الناس، ويدعو إليهما، لأنهما قوام كلِّ خير.
في رحاب الآيات:
إن طبيعة الحياة تقوم على وجود المفارقات في كلِّ مجال، ومن هذه المفارقات ما نلاحظه من تمايز بين فرد وآخر، فهذا ذكي وذاك غبي، وهذا حليم وذاك أحمق، وهذا شيطاني وذاك ملائكي، ومن تجمُّع هذه العناصر المتباينة يتشكَّل هذا العالم الَّذي ينبض بالحيوية، ويتواصل على الرغم من كثرة الاختلافات والتناقضات بين أفراده، لتستمر دورة الحياة وتدوم.
وقد عرض القرآن الكريم بالتمثيل الهادف، وَجْهَي الحياة المتضادَّين مجسَّدين في رجلين: أحدهما عاقل عامل، نشيط دؤوب على خدمة نفسه وخدمة من حوله، لا يدرك وجوده إلا في إطار العمل المنتج البنَّاء، ولا يستطيب طعم الحياة إلا إذا كانت مفعمة بالحركة والسعي المثمر، قد سخَّر قواه الجسدية والفكرية للبحث والإنتاج والإعمار، وهو أبعد ما يكون عن الأنانية، يسوؤه ما يسوء مجتمعه، ويؤذيه ما يؤذي إخوانه وبني جنسه، لذلك رفع شعار العدل والاستقامة ودافع عنه، وأرسى قواعده في سلوكه ومعاملاته، بـإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
والآخر: عاجز عن القيام بأي عمل، قد انتقص من سلامة حواسِّه، على الرغم من توافر كلِّ مقوِّمات العمل لديه، من صحَّة جسدية وصحَّة فكرية ونفسية، فهو عالة على غيره، يعيش في الحياة دون هدف، وهو دائم التذمُّر والشكوى، يستهلك ولا ينتج، يداه مغلولتان وقواه معطَّلة وحواسُّه مجمَّدة. إن نظر فنظرته محدودة لا تتجاوز حدود أنفه، وإن حلم فلا يحلم إلا بالراحة والدعة على حساب غيره، فهو كالنبات المتطفل الَّذي يتسلق على النبات المثمر فيمتص غذاءه لينمو دون أن يثمر شيئاً.
فالتعامل معه في الحقيقة هدر للوقت ومضْيَعة، وهو حِملٌ ثقيل على من يعوله ومن يلوذ به. فمن يعطِّل طاقاته الجسدية أو الفكرية ولا يسخِّرها لخدمة المجتمع، فهو إنسان أبكم كما صوَّرته الآية الكريمة، وهو عديم الإنتاج لا جدوى منه، وإنَّ كثرة أمثال هذا الإنسان العقيم في المجتمع، يجعل المجتمع مشلولاً ومنهاراً. وعلى النقيض من ذلك فإنَّ وجود كثير من أمثال الرجل المنتج يعني البناء والازدهار، والفرق بيِّن شاسع بين الرجلين كالفرق بين النور والظلام.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ومنهم من يُؤمنُ به ومنهم من لا يُؤمنُ به وربُّكَ أعلَمُ بالمفسدين(40) وإن كذَّبوكَ فقل لي عَمَلي ولكم عَمَلُكُم أنتم بريؤون ممَّا أعملُ وأنا بريءٌ ممَّا تعمَلون(41) ومنهم من يَستمعونَ إليك أفأنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولو كانوا لا يعقلون(42) ومنهم من يَنُظرُ إليك أفأنتَ تَهدي العُمْيَ ولو كانوا لا يُبْصِرون(43) إنَّ الله لا يَظلمُ النَّاسَ شيئاً ولكنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يظْلِمون(44)}
ومضات:
ـ يؤمن بالقرآن الكريم من يملك العقل المفكر، والقلب الندي، والذوق السليم، والحس المتميِّز، ويكفر به من تحجر تفكيره، وفترت عواطفه فقسا قلبه وتصلبت أحاسيسه.
ـ يجب أن يبقى العمل الإيماني طاهراً نقياً لا تشوبه شائبة من شوائب الكفر وأهله.
ـ الكافر برسالة الإيمان أشبه بصنم متحرك، أو إنسان آلي أفقده كفره القدرة على التفكير؛ فأعمى بصيرته، وأصمَّ أذنيه، وسلبه حسَّ الإدراك والتدبير.
في رحاب الآيات:
خلق الله تعالى للإنسان عقلاً يفكر به، وقلباً يستهدي بهديه، وتركه حراً يبحث عن أسباب سعادته بموجب ما أعطاه من إمكانات وقدرات على البحث والاستكشاف. فأقبل بعض الناس على الله حباً له وإيماناً به، واعترافاً بقدرته، وتولَّى بعضهم وأدبر مفسداً في الأرض غير مصلح. فكانت ثمرة المقبلين على الله مجتمعاً سليماً، ونشراً للعلوم والثقافة، وصحة نفسية وجسدية، وكانت حصائد المفسدين حُجُباً على الأبصار، منعتهم من رؤية الحقِّ والنور الإلهي، وصَمَماً في الآذان أبعدهم عن سماع جوهر الإرشاد والموعظة.
وقد شبَّه الله تعالى المكذِّبين المصرِّين على التكذيب بالصُّمِّ العُمْي، من حيث أن شدَّة إعراضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتهم من إدراك محاسن كلامه، ومشاهدة دلائل نبوته، كما يمنع الصمم من إدراك محاسن الكلام، والعمى عن مشاهدة روائع المشاهد والصور. فهم ينظرون إليه ولكنَّهم عُمْيُ البصائر، ويستمعون إليه ولكنَّهم لا يتدبَّرون قوله ولا يفقهون المراد منه، وجلُّ همِّهم أن يختبروا القوافي في نظم القرآن، وجرس صوته، كمن يستمع إلى الطائر يغرِّد على غصن ليتلذذ بصوته دون أن يفهم مُراده، وقد وصف الله حال هؤلاء بقوله: {ما يأتِيهِم من ذِكْرٍ من ربِّهم مُحْدَثٍ إلاَّ استمَعوهُ وهم يلعبون} (21 الأنبياء آية 2).
إن هداية الدِّين، كهداية الحسِّ، لا تتمُّ إلا بهداية العقل، وهداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحَّة القصد، وهؤلاء انصرفوا عن استعمال عقولهم استعمالاً نافعاً في الدلائل البصرية والسمعية، فأساؤوا إلى أنفسهم لأنهم أفسدوا استعدادهم الفطري لقبول الإيمان، وأساؤوا إلى الناس حين أفسدوا أخلاقهم وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم، بما نشروه من أفكار باطلة، وما أشاعوه من ضلال. فمن فسدت فطرته لا يتورَّع عن رفض النور والهدى الَّذي يأتيه من قِبَل الله تعالى، ولن يتورَّع عن تكذيب الرسول، لكنَّه تعالى يواسي نبيَّه ويشدُّ عضده فيقول: أيُّها الرسول إن كذَّبوك فقل: لي عملي؛ وهو البلاغ المبين، والإنذار والتبشير، والدعوة إلى التوحيد، وجزاء ذلك الجنَّة والوصال من الله، ولكم عملكم؛ وهو الإفساد، وصرف القلب عن قبول الفيض الإلهي، وجزاؤه الخزي بين الأمم، والذُّل والتخلف بين الشعوب؛ في الحياة الدنيا، والنار والقطيعة في الآخرة، وهذا ما جنته أيديهم وما الله بظلاَّم للعبيد.
سورة النجم(53)
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيتَ الَّذي تَولَّى(33) وأعطى قليلاً وأكْدَى(34) أعندهُ عِلْمُ الغيبِ فهو يَرى(35) أم لم يُنَبَّأ بما في صُحفِ موسى(36) وإبراهيمَ الَّذي وفَّى(37) ألاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى(38) وأنْ ليسَ للإنسانِ إلاَّ ما سعى(39) وأنَّ سعْيَهُ سوفَ يُرى(40) ثمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الأوفى(41) وأنَّ إلى ربِّكَ المُنتهى(42)}
ومضات:
ـ ترسم الآيات صورة اجتماعية لمن أعرض، ويضع الشروط تِلْوَ الشروط لإنفاقه، أو يَمنُّ على من ينفق عليه، أو يعتقد بعدم أهليته للصدقات وفقاً لمزاجه، وكأنه مطَّلع على الغيب أو ناظر إليه.
ـ لقد جاء في الشرائع السماوية جميعها أنَّ كلَّ إنسان مسؤول عن عمله، فلا يتحمَّل إنسان وزر إنسانٍ آخر أو مسؤوليته، فليس للإنسان إلا ما أنتج وقدَّم، وسيُعْرَضُ ما قدَّمه على المحكمة الإلهية، ومن ثمَّ يُحاسب عليه وينال ما يستحقُّه من جزاء.
ـ إن مصير الخلائق والأكوان كلِّها إلى خالقها ربِّ العالمين، وهو العليم الخبير بما انطوت عليه صحائف أعمالهم ودخائل نفوسهم.
في رحاب الآيات:
يعرض القرآن صوراً اجتماعية متلاحقة للذي أدار ظهره للشريعة السمحاء، وامتنع عن الجود بماله أو كاد، بسبب بخله وتعلُّقه به وحبِّه لكنز الثروات، وكان يجدر به أن ينفق بسماحة نفس وسخاء، لأن الإنفاق هو دعوة الشرائع السماوية كلِّها.
والله جلَّ وعلا يخاطب عباده بلهجة المتعجِّب من أمر عبده، الَّذي يبدأ بدافع الإيمان، ببذل جزء من ماله أو من جهده في سبيل الله، ثمَّ يَضْعُفُ عن المواصلة ويَكُفُّ عن العطاء، وكان حريٌّ به أن يواصل عمله وإنفاقه، وأن يعيش موفِّياً حقَّ السائل والمحروم طوال حياته، وألا يبذل ثمَّ ينقطع، فلا ضمان له في الغيب المجهول إلا عمله ووفاؤه، ورجاؤه من هذا كلِّه مغفرة الله وقبوله. ويتخذ القرآن الكريم من حال هذا الإنسان مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها، فهل اطَّلع هذا الإنسان على الغيب فعلم أنه لا فائدة ترجى من إنفاقه؟ وهل علم بما جاء في شرائع الله عن دور الإنفاق وعظيم أجره، إنه لو تَتَبَّع ذلك لوجد أن الدِّين واحد، ثابتة أصوله وقواعده، متصلة عُرى أوائله بأواخره، يصدِّق بعضه بعضاً على توالي الرسالات والرسل عليهم السَّلام، وتباعد المكان والزمان بينهم، فهو في صحف موسى، وفي مِلَّة إبراهيم الَّذي وفَّى بكلِّ ما أمره به الله تعالى وفاءً استحقَّ به هذا الوصف.
إن جميع الشرائع السماوية مُجْمعةٌ على مبدأ المسؤولية الفردية، فلا مشاركة في ثواب أو عقاب، فكلُّ نفس بما كسبت رهينة، وهذا ما أشار إليه الله تعالى بقوله: {ألاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا تحمل نفس حمل أخرى، لا تخفيفاً عن نفس ولا تثقيلاً على أخرى، ولا تُؤاخَذُ نفس بجريرة غيرها، ولا تملك نفس أن تخفف من وزرها ولا أن تتطوع فتحمل عن نفس غيرها شيئاً. كذلك، فما يُحسب للإنسان إلا سعيه وعمله، وهذه الحياة الدنيا هي الفرصة المعطاة له ليعمل ويسعى، ولن يضيع من هذا السعي شيء، ولن يغيب عن علم الله وميزانه الدقيق مثقال ذرَّة، وسينال كلُّ فردٍ جزاء سعيه وافياً كاملاً، لا نقصَ فيه ولا ظلم. وبذلك يتحدَّد مبدأ فردية التبعة، إلى جانب عدالة الجزاء، فتتحقَّق للإنسان قيمته الإنسانية، القائمة على اعتباره مخلوقاً راشداً مسؤولاً ومؤتمناً على نفسه، وتتحقَّق له كذلك الطمأنينة إلى عدالة الجزاء، عدالة مطلقة لا يميل بها الهوى، ولا يقعد بها القصور، ولا يُنقص منها الجهل بحقائق الأمور.
وختاماً يؤكِّد القرآن الكريم على أن المنتهى والمصير إلى الله تعالى، فلا طريق إلا الطريق الموصل إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا مأوى إلا داره في نعيم أو جحيم، ولهذه الحقيقة أثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوُّره، فحين يُحِسُّ أنَّ إلى الله منتهى كلِّ شيء وكلِّ أمر، فإنه يستشعر من أوَّل الطريق نهايته الَّتي لا مفرَّ منها ولا محيص عنها، ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة، ويظلُّ قلبه وعمله مرتبطين بتلك النهاية منذ أوَّل الطريق وحتَّى آخره.
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ من يعبدُ الله على حَرْفٍ فإن أصابَهُ خيرٌ اطمَأنَّ به وإن أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلبَ على وجههِ خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ ذلك هو الخُسرانُ المُبين(11)}
ومضات:
ـ في هذه الآية نموذج لأناس نقابلهم كلَّ يوم، وهم في كلِّ عصر، يقيِّمون العقيدة بميزان المال من الربح والخسارة، لأنها بنظرهم بمثابة صفقة تجارية، فإن هم أصابوا مكسباً من ورائها شكروا، وإن أصابهم بلاءٌ بسببها كفروا، وأضاعوا فرص الحياة الإيمانية وثواب الدار الآخرة.
ـ العقيدة الراسخة تنبع من الإيمان الصادق والقلب المؤمن، وتمتد جذورها إلى الأعماق، لا يزعزعها شيء لأنها تغلغلت في الصميم، وهي السياج المانع من السقوط في دوَّامة الحيرة والضياع.
في رحاب الآيات:
إذا أردنا أن نعقد مقارنة بين ما نقدِّمه لحضرة الله تعالى من العبادات وبين ما نكسبه منه سبحانه، لكانت سجدة واحدة نسجدها له مدى الحياة قاصرةً عن أداء واجب الشكر له. فعطاءات الله أكثر من أن تحصى أو يدركها عقل بشري، وكلُّها مُسخَّرة لخدمة الإنسان وسعادته إذا أحسن استعمالها. ولكنَّ اعتياد الناس على النعم الإلهية ينسيهم أحياناً فضل المنعم، ويشغلهم عن أداء واجب الشكر له، فبعض الناس يشعرون بالرضا منه تعالى، طالما أن تيار النِّعَم يسير في الاتجاه الَّذي يرغبون، ومع ذلك فهم يتغافلون عن أداء حقِّه، أو تقديم الشكر العملي له كالإحسان إلى الآخرين، وكأن منحهم النعم هو واجب على الله، وقد يزيدهم هذا العطاء استكباراً وغفلة وبُعداً عن خدمة عباد الله ورعاية شؤونهم. إن أمثال هؤلاء الناس يَظْهَرُ زيفُ إيمانهم وزيغ نواياهم بمجرد أن ينقلب عنهم تيار النعمة، فيُقلعون عن عبادة الله ويبتعدون عن صالح الأعمال، فيخسرون بذلك ما فقدوه من نعم الدنيا، إضافة إلى خسرانهم الآخرة وهذا هو الأهمُّ والأعظم.
لذلك فإن حياة المؤمن لا تستقيم إلا على أسا س راسخ من العقيدة، فالعقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت، وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث بالإيمان الَّذي لا يتزعزع، وتتهاوى من حوله الأسناد، فيستند إلى قوَّة الله الَّتي لا تحول ولا تزول. هذه هي قيمة العقيدة في حياة المؤمن، لذلك فهو يتشبث بها، مطمئناً إليها، واثقاً بها، لا ينتظر عليها مكافأة ولا ثواباً، فهي في ذاتها ثواب على تفتُّح القلب للنور وطلبه للهدى. والمؤمن يدرك قيمة هذا الثواب حين يرى الحيارى الشاردين من حوله، تتجاذبهم الرياح، ويستبدُّ بهم القلق، بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله مطمئن بهذا الاتصال. أمَّا ذلك الصنف من الناس الَّذي يتحدث عنه السياق، فإنه يقيِّم العقيدة بمنظار التجارة، فإن أصابه خير مادِّي اطمأنَّ به، ووجد أن الإيمان خير يجلب النفع، وإن أصابه بلاء لم يصبر عليه، ولم يتماسك تجاهه، ولم يرجع إلى الله فيه، فخسر الدنيا، وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الَّذي كان مُيسَّراً له. وإذا كان حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة بحطام الدنيا، فإنه لا يصلح للعقيدة، فالعقيدة حقٌّ يُعتَنَقُ لذاته، وهي تَحْمِلُ مردودها في ذاتها، ولا تكتسبه من مصدر خارج عنها. فالصواب أن يشعر العبد دائماً وأبداً أنه ـ وما يملك ـ ملك لمولاه وخالقه، فإن أُعطي شكر، وإن أُخذ منه صبر، وهذا منتهى معنى العبودية لله، وفي هذا قمة الاتِّصال الوجداني المبني على الحبِّ والإيمان.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {من كفَرَ بالله من بعدِ إيمانِهِ إلاَّ من أُكرِهَ وقلبُهُ مطمئنٌّ بالإيمانِ ولكنَّ من شرَحَ بالكُفْرِ صَدْراً فعليهِمْ غضبٌ من الله ولهم عذابٌ عظيم(106)}
ومضات:
ـ ليس الانتساب إلى مدرسة الإيمان مجرد عمل شكلي أو لفظي، وإنما هو الانتظام والانضباط في مجتمع تحدِّد معالمه وترسمها المشيئة الإلهية، حيث لا مجال للتردد أو التذبذب أو التراجع. لذا يجب أن يكون قرار الإيمان نابعاً من صميم القلب، منبعثاً من إرادة حرَّة متوَّجاً بالعقل المفكر النزيه.
ـ يباح للمؤمن حين يشتد به الأذى ممَّن حوله من الناس، بسبب عقيدته، أن يتحاشى ذلك الأذى، بالحكمة والتصرُّف المناسب، الَّذي يضمن السَّلامة لعقيدته والنجاة لجسده، وإن اضطر في سبيل ذلك لأن يتَّخذ تصرُّفات تخالف بظاهرها حقيقة إيمانه.
ـ المرتد عن الإيمان إلى الكفر، بعد أن أكرمه الله بالمعرفة واليقين، هو إنسان عابث مستهتر، لا يحسن تقدير الأمور ولا يكرم جوارها، بل هو مُضَيِّعٌ أثمن جوهرة ساقتها إليه العناية الإلهية، ولهذا كان هدفاً لوعيد الله وتهديده له بعذاب أليم.
في رحاب الآيات:
نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه ، فقد روى ابن جرير عن أبي عبيدة محمَّد بن عمار بن ياسر قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتَّى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عادوا فعد». فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لمن يتعرض لمثل هذه الحال. فمن أُكره على الكفر، فتكلَّم بلسانه ما يخالف قلبه، لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه، لأن الله سـبحانه إنما يؤاخذ العباد بما انعقدت عليه قلوبهم، وقد جاء في الحديث الشريف: «وُضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه» (رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنه ). والحكمة تقتضي أن يتجنب المؤمن أذى الأعداء في التستُّر على عقيدته عندما يسبِّب له الإعلان ضرراً فادحاً، فالمجاهرة أحياناً يكون لها ردود فعل خطيرة قد تودي بالدعوة نفسها. ويضرب القرآن الكريم مثلاً على هذا التكتُّم في سورة غافر، حيث يروي ما حدث بين فرعون وموسى عليه السَّلام، فقد أراد فرعون أن يقتل موسى خوفاً على نفوذه وسلطانه الَّذي يهدده الدِّين الجديد: {وقال فرعونُ ذَروني أَقْتُلْ موسى..} (آية 26)، فالتجأ موسى لربِّه ليحميه من أذى فرعون فقال: {..إنِّي عُذتُ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبِّرٍ لا يؤمنُ بيومِ الحساب} (آية 27)، فبرز رجل مؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه خوفاً على نفسه ودينه، حتَّى إذا حانت اللحظة المناسبة لكي يقوم بواجبه، بالحكمة والدراية والموعظة الحسنة، راح يدافع عن موسى فأحسن الدفاع، لاسيَّما وأن القوم كانوا يعتقدون أنه من الكافرين: {وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ أتقتُلونَ رجُلاً أن يقولَ ربِّيَ الله وقد جاءَكُم بالبيِّناتِ من ربِّكم وإنْ يَكُ كاذباً فعليه كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صادقاً يُصبْكُم بعضُ الَّذي يَعدُكم إنَّ الله لا يهدي من هوَ مسرفٌ كذَّاب} (آية 28).
ويُستفادُ من ذلك أن الإيمان الحقيقي هو الثقة الكاملة بالله، والاستسلام الروحي والعقلي له، وأنه يجوز التستر على العقيدة إذا خاف الإنسان على روحه، بشرط أن يكون القلب ثابتاً على الإيمان، مطمئناً به، أمَّا من كفر حقيقة بإرادته واختياره من بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وله عذاب عظيم.
ولا يجوز أن تكون العقيدة موضع مساومة، ولا وضعها في ميزان الأرباح والخسائر، لأنها ليست صفقة قابلة للأخذ والرد فهي فوق هذا وأعز، وهي في حياة المؤمن أمر ثابت لا محاباة فيه ولا ترخيص، وهي أمانة ولا يُحْسِنُ رعايتها إلا من وعاها وأدرك حقيقتها. فلا يمكن لإنسان ذاق حلاوة الإيمان أن يرتدَّ عن دين الله، بينما الارتداد الَّذي حصل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فإنه يعود إلى عوامل يمكن اختصارها في الأسباب التالية:
1 ـ دخول أولئك المرتدِّين في حظيرة الإيمان بدافع عاطفي، وبمعزل عن التفكر والتدبُّر العقلاني لهذه العقيدة، أو بسبب دخولهم في الدِّين من أجل مصالح اجتماعية أو مادِّية أو سياسية.
2 ـ تعرُّضهم لإغراءات خارجية، لم تستطع نفوسهم مقاومتها والوقوف بوجهها، نتيجة لضعف إيمانهم، فانجرفوا وراءها وارتدُّوا عن الدِّين القويم.
3 ـ الخلافات والنزاعات الَّتي نشأت بين هؤلاء المرتدِّين وبين أقرانهم، والَّتي لعبت دورها في إثارة حميَّة الجاهلية الأولى، ممَّا أدَّى إلى انحرافهم عن جادة الإسلام.
وهكذا فإن المرتدَّ عن دين الله، بعد أن عرفه وخَبِره واتخذه عقيدة له، إن استمرَّ على كفره حتَّى مات، كان أشدَّ ظلماً وأذى من الكافر الَّذي لم يعاين الدِّين على حقيقته ولم ينتسب إليه، ولهذا استحقَّ المرتدُّ هذا العذاب العظيم كما قال تعالى: {..ومن يرتَدِدْ منكم عن دينِهِ فيَمُتْ وهو كافرٌ فأولئك حَبِطَتْ أعمالُهُم في الدنيا والآخرةِ وأولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها خالدون} (2 البقرة آية 217).
وهكذا نستخلص أن عقاب المرتدِّ حقٌ منوط بحضرة الله، فلا يحقُّ لأحد أن يدَّعيه لنفسه، وأن يأخذ زمام المبادرة لمعاقبته. وإذا نجم عن المرتدِّ أذىً، أصاب غيره من المسلمين، أو صدر عنه تجريح لجوهر العقيدة، فإن السلطة القضائية هي وحدها صاحبة الحقِّ في محاكمته، وإصدار العقوبة بحقِّه؛ بمقدار حجم الضرر الَّذي تسبب به، سواء كان مادياً أم معنوياً.
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا من يرْتَدَّ منكم عن دينِهِ فسوفَ يأتي الله بقومٍ يحبُّهُمْ ويحبُّونَهُ أذِلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرينَ يجاهدون في سبيلِ الله ولا يخافونَ لومَةَ لائِمٍ ذلك فضْلُ الله يؤتيهِ من يشاءُ والله واسعٌ عليم(54) إنَّما وليُّكُمُ الله ورسولُهُ والَّذين آمنوا الَّذين يُقيمونَ الصَّلاة ويؤتونَ الزَّكاة وهم راكعون(55) ومن يتَوَلَّ الله ورسولَهُ والَّذين آمنوا فإنَّ حِزبَ الله همُ الغالِبون(56)}
ومضات:
ـ لن تتعطَّل مسيرة تبليغ الرسالات السماوية بتقاعس بعض الأشخاص عن دعمها، أو تجاهلهم لها، وإن من يتهاون في شرف خدمة عقيدة التوحيد هو الخاسر وهو المنبوذ، والبديل عنه موجود دائماً في قوافل المؤمنين، وتبقى العقيدة هي الرابحة والمنتصرة على مدار الأيام.
ـ إن المتطوِّعين المخلصين لحمل مشاعل الهداية الربَّانية، هم بالتأكيد أفضل ممن سبقوهم من المتخلِّفين، وأكثر حماساً منهم، وأكثر استفادة من أخطائهم، وقد ثبتت بذور المحبَّة الإلهية في حنايا قلوبهم فأحبَّهم الله وأحبُّوه، وتخلَّقوا بالأخلاق الإسلامية بما فيها من رحمة ومودَّة للمؤمنين، وعزَّة وكبرياء على الكافرين، وما فيها من جهاد مستمر لنشر العلوم والأخلاق والفضائل، ضمائرهم حرَّة، وأيديهم نزيهة لا تمتدُّ إلى حرام، لذا فهم لا يخشون في الله لومة لائم.
ـ تتجلَّى عظمة الدِّين الإسلامي في عناية الله تعالى ورسوله بالمؤمنين، وفي التزام المسلمين بأمور دينهم الَّتي يؤدونها ولو في أحرج الظروف.
ـ حزب الله كناية عن جموع المؤمنين المحبِّين لله، المتراصِّين في العمل لأجل سعادة الإنسان، وهم المتعاطفون والمتراحمون، وهم صفوة المجتمع المؤمن النقي الخيِّر، وهم بالنهاية المتفوقون الظاهرون بعلومهم وآدابهم وصفاتهم النبيلة.
في رحاب الآيات:
من آيات عظمة القرآن الكريم وإعجازه، شدَّة تعايشه مع واقع البشر وتقلُّباتهم، وتصويره الحي لها، فهو يخترق الحواجز الظاهرية للنفس البشرية، ويستحضر ما وراءها من نوازع ودوافع، ويعرضها أمامنا واضحة جلية، مع كلِّ ما فيها من غيبية وانحجاب، فإذا هي أمام حواسِّنا حية نابضة أمامنا، نشاهدها كما حدثت، وكما ستحدث، ويتكرَّر حدوثها إلى قيام الساعة. ومن هذه المشاهدات إخبار القرآن الكريم عن احتمال ارتداد فئة من المسلمين عن إسلامهم، أو تهاونهم في خدمة الإسلام، وتقاعسهم عن المشاركة في الرقي بالمجتمع الإسلامي، أو انغلاقهم على أنفسهم والتقوقع ضمن دائرة الذات. إن هذه الردَّة في أي رداء ظهرت لن تضرَّ الله شيئاً، لأن الله يأبى إلا أن يُتمَّ نوره، وهو دائماً يُلهم الصفوة من عباده متابعة العمل دون ملل أو كلل، في سبيل خدمة الصالح العام.
من هنا نرى أن المتهاونين والمتقاعسين هم المتضررون أوَّلاً وأخيراً، لأنهم انسلخوا عن المؤمنين الصادقين، فنفاهم الله إلى ظلمات أنفسهم، وسراديب غفلتهم يتخبَّطون ولا يهتدون. وهكذا الحال مع كلِّ فئة تتهاون في أداء واجبها فإن الله تعالى يستبدلها بفئة أنشأت بينها وبينه جسوراً من المحبَّة والقرب، وشيَّدت قواعد إيمانها على دعائم من الصبر ومخالفة الهوى، وتنمية نوازع الخير المغروسة في نفوس أفرادها. وقد نمت محبَّة الله في قلوبهم كما تنمو البذرة الطيِّبة في الأرض الخيِّرة، فهي تؤتي ثمارها كلَّ حين بإذن ربِّها، وأيَّةُ ثمارٍ تلك الثمار؟ إنها الإحساس العميق بالرضا والاطمئنان في النفس والضمير، والانسجام التَّام مع الفطرة البكر، الَّتي لم تفسدها النظريات المشوَّهة ولا الجدل العقيم. هذا الإنسان المؤمن الَّذي باع نفسه لله ولن يبخسه الله حقَّه، بل سيفيض عليه من آلائه ما لا يدركه إلا عاشق واصل مجرِّب، فتراه وهو في أسوأ حالاته المادِّية والجسدية الظاهرة، تغمره سعادة روحية قلبية خفية، لو علم الملوك بها لقاتلوه عليها بالسيوف!.
وقد يعتقد بعض الناس بأن حُسن صلتهم بالخالق تعني إهمال صلتهم بالمخلوقين، ولكنَّ حقيقة الأمر على خلاف ما يعتقدون؛ فمن حَسُنَت صلته بربِّه فلابُدَّ أن تَحسُنَ صلته بعباده، لأن الخلق كلَّهم عيال الله، وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله. فترى هذه الصفوة تتودد للمؤمنين، يساعدون ويواسون، يتواضعون ويُؤثرون، تدفعهم الأخوَّة في الله الَّتي ترفع الحواجز، وتزيل التكلُّف، وتؤلِّف القلوب. وبالمقابل فإنهم تجاه الكفار أعزَّة، لا اعتزازاً بالذات، ولا اعتداداً بالنفس وإنما هي العزَّة بالعقيدة، والثقة بأن ما معهم هو الخير، واليقين بغلبة دين الله على الهوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية. وحزب الله هم الَّذين آمنوا أن الحياة عقيدة وعمل دؤوب لإقرار منهج الله في الأرض، وإعلان سلطانه على البشر، وتحكيم شريعته في الحياة، لا يثنيهم عن ذلك تحالف قوى الشر، فالله هو الأقوى والأبقى. إنهم لا يخافون لومة لائم، إنما يخشى اللوم من يستمدُّ مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس، أمَّا من يستمد قوَّته وعزَّته من الله، فلا يبالي بما يقول الناس وما يفعلون، لأنه تربَّى على الخُلُق الكريم، وتزكَّت نفسه وروحه بنور الله تعالى وهدايته.
إن هذا الاختيار من قِبَلِ الله تعالى، وهذا الحبُّ المتبادل بينه وبين الصفوة المختارة من عباده، وتلك الصفات الَّتي يصفُهم بها، كلُّ ذلك من فضل الله الَّذي يعطي لمن يشاء عن سعة وعن علم. فإذا أراد الإنسان أن ينتسب إلى حضرة الله فيجب أن يفرِّغ قلبه من كلِّ ما سواه، وأن يواليه ولاءً حقيقياً في المعتَقد والمنهج والسلوك، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا يؤمن أحدكم حتَّى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (رواه الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بإسناد صحيح) وكذلك أن يوالي رسوله بالسير على هداه، والاقتباس من نوره، والتمشِّي مع ما جاء به قولاً وعملاً وسلوكاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتَّى أكون أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» (رواه الشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه). إن حبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء ناجع للتخلُّص من جميع النقائص، الَّتي تقبع في نفس المؤمن وسلوكه، إذ أن الحبَّ دافع قوي إلى التأسِّي، ومن تأسى بالكمال المتمثل في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كمُل، وأصبح النهج المستقيم ديدنه في هذه الحياة، وهذا هو سرُّ أمر الله تعالى لنا بأن نحبَّ الله ورسوله أكثر من حبِّ ما سواهما، ومن ثمار هذا الحبِّ أيضاً موالاة المؤمنين الَّذين يسلكون السبيل نفسه. ويجب أن لا يغيب عن الذهن أن مفهوم موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً يتضمن التآخي، والتعايش السلمي معهم، وتأدية ما لهم من حقوق، والتجاوز عن أخطائهم، قال تعالى: {إنَّما المؤمنون إخْوَةٌ..} (49 الحجرات آية 10). هذه الموالاة مشروطة بشروط إيمانية بحتة لا تشوبها شائبة من شوائب الدنيا، فتخرجها عن مسارها الطبيعي المرسوم. وأوَّل هذه الشروط أن يكون من تُواليه مؤمناً إيماناً صادقاً، وأن يكون مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة، فهما فرعان من شجرة الإيمان، فالأوَّل تواصلٌ وتوادد مع الله، والثاني تواصلٌ وتوادد مع مخلوقاته.
وتضيف الآية سمةً أخرى من سمات أولياء الله، وهي أنهم يُؤدُّون ما عليهم من حقوق الله وهم راكعون متواضعون وقلوبهم وَجِلة، فهل ستُقبل أعمالهم أم ستُردُّ عليهم؟ وهل سيُسجَّلون عند الله من الأبرار أم لا؟ فالركوع: يعني الخضوع والتواضع، والتأدب مع الله، وتقديم فروض الطاعة له، والاستشعار بعظمته والوفاء بحقِّه، ونفي الكِبْر والعُجْب من النفس، وتذكير المؤمن بعبوديته الدائمة لربِّه، فلا يركب متن الغرور، ولا يتعـالى على مخـلوقـات الله. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: تصدَّق علـيٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بخاتمه وهو راكع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل: مَن أعطاك هذا الخاتم؟ قال: ذاك الراكع، فأنزل الله تعالى: {ويؤتون الزَّكاة وهم راكِعون..}.
إنها قلوب مُفعمة بالصدق مع الله يحملها هؤلاء الخاشعون في صدورهم، فهم إن صلَّوا فليتَّصِلوا، وإن زكَّوْا فليتزكُّوا، وهكذا فإن شعرة دقيقة جداً تفصل بين فريقين متناقضين تمام التناقض، فكلاهما يتعب وكلاهما ينصب، ولكنَّ الأوَّل عمل لله فسكن جلال الله في قلبه، فملأه من حبِّه وحكمته، والثاني عمل إرضاءً للهوى، فعشَّش الشيطان في قلبه! فالفريق الأوَّل شكَّل حزباً إيمانياً، لا حزباً سياسياً، حزباً عاملاً كخلية النحل، فالواحد للكلِّ، والكلُّ للواحد، وقد قدَّر الله لإيمانهم الفوز على الكفر، ولخيرهم الانتصار على الشر.