b11-f2

الفصل الثاني:

مفهـوم الجـهــاد

سورة العنكبوت(29)

قال الله تعالى: {والَّذين جاهَدوا فينا لنَهديَنَّهُمْ سُبُلَنا وإنَّ الله لَمَع المحسنين(69)}

سورة الحج(22)

وقال أيضاً: {وجاهِدوا في الله حقَّ جهادِهِ هو اجتبَاكم وما جَعلَ عليكم في الدِّينِ من حرج.. (78)}

سورة الفرقان(25)

وقال أيضاً: {فلا تُطِعِ الكافرينَ وجاهِدْهُم به جهاداً كبيراً(52)}

ومضات:

ـ جهاد النفس والهوى يزرع الخشية في القلوب والتَّقوى في النفوس، ويحرِّك الفكر لما هو أرقى؛ فيوصل إلى سبل السعادة والنجاح، والصَّادق الملتزم بهذه المسيرة محسن يحظى بعطاء الله وقُربهِ عزَّ وجل.

ـ الجهاد الحقيقي هو مجاهدة المؤمن نفسه وأهواءه، فإن تمكَّن من الانتصار عليها، كان ذلك النصر أساساً ومقدِّمة لانتصاره على الطغيان والطغاة المعتدين عند المواجهة معهم.

ـ بعد تهذيب النفس، وجَعْلِهَا مطمئنة بالله عزَّ وجل، يبدأ الجهاد بالقرآن؛ في تعلُّمه وسبر أغواره، واستخلاص تعاليمه الربَّانية المسعدة للبشرية، ومن ثمَّ عرضها على الغافلين عنه، أو الجاحدين به، ليأخذوا بها، وتكون الدواء الشافي لأمراضهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية.

في رحاب الآيات:

لا يكاد الناس يسمعون كلمة الجهاد حتَّى تتبادر إلى أذهانهم صور القتال والحرب واستعمال العنف، حتَّى إن الرأي العام العالمي لا يدري عن الجهاد في الإسلام إلا أشباه هذه المعاني، الَّتي تُدخل الرُّعب والفزع إلى القلوب، دون إدراك لمعناه الحقيقي الشامل.

إن الجهاد في الإسلام هو بذل الجهد الممكن والطاقة في سبيل أمر من الأمور؛ وهو بهذا المعنى يشمل ثلاثة أنواع من الجهاد: مجاهدة المعتدي، ويكون بالنفس والمال وبكلِّ ما يملك المسلم من طاقة، وهو فرض كفاية، إذا قام به المُؤَهَّلون له، أجزأ عن الآخرين وعن أهل الأعذار الَّذين لا يستطيعون أن يجاهدوا. وهناك جهاد آخر هو جهاد النفس والهوى وهو الأعظم، وهذا الجهاد فرض عَيْن على كلِّ مسلم، وقد عُدَّ جهاداً أعظم، لأنه جهاد مستمرٌّ دائم مادامت الحياة، أخرج البيهقي وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: «قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه». والنوع الثالث والأهم، هو الجهاد بالقرآن الكريم، وهو الجهاد الكبير {..وجاهدْهُم به جهاداً كبيراً}، إنه جهاد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومقارعة الجهلاء بالحجج والبراهين المستنبطة من حنايا القرآن، في سبيل إنارة عقولهم، وفتح مغاليق قلوبهم، عسى أن يهديهم ربُّهم صراطاً مستقيماً، فيؤمنوا بالله ربّاً وبالقرآن إماماً، وبجميع الأنبياء والمرسلين هداة وأدلاَّء.

وعلى هذا فشتَّى أنواع سعي المؤمن في سبيل الوصول إلى المستوى الأفضل يكون جهاداً إذا قصد به وجه الله، وسواء أكان في تهذيب نفسه وسلوكه، أم في حياته المعاشية، أم في علاقاته مع مجتمعه، ومن ثمَّ مع الأسرة الدولية. والجهاد يبدأ من مقارعة النفس والهوى وفق الأساليب التربوية الربَّانية، وتتوسَّع دائرته لتشمل الدعوة في سبيل الله، الَّتي تتحقَّق بها سعادة العالم بأسره، كثمرة من ثمار الجهد المشترك، الَّذي بذله ويبذله المؤمنون في سبيل توحيد القلوب، وتشابك الأيدي وتعاونها، وتنوير العقول وتلاقحها، والرقي بالمجتمع نحو الخير والنجاح، وإنقاذ الإنسان من الفقر والجهل والمرض والتخلُّف، وكذلك لتخليصه مما عشَّشَ في ذهنه من خرافات فاسدة، وأباطيل ضالَّة انحرفت به عن جادَّة الصواب.

لقد كانت الحروب الَّتي خاضتها الأمم عبر أعصر التاريخ، وسيلة يفتعلها المستكبرون لاستعمار الشعوب، واستنزاف خيراتها وامتصاص دمائها، ودفعها للتخلُّف والجهل. وإذا كان المسلمون قد خاضوا الحروب، فقد خاضوها مجاهدين في سبيل الله، ولم يخوضوها ليستعمروا الشعوب ولا ليقهروها ويستنزفوا خيراتها، وإنما يشهد التاريخ على أنهم حرَّروها من قبضة المستبدِّين، ومن ربقة الفقر والجهل، حتَّى تخرَّج منها أعظم علماء الأرض في زمانهم، وازدهرت الحضارة لدى تلك الشعوب حتَّى أصبحوا قادة الدنيا ومعلِّميها. وعندما جاهدوا ضد الغزاة، فإنما جاهدوا انتصاراً للحقِّ على الباطل، وللعلم ضد الجهل، وللحرِّية ضد الاستعباد، وللكرامة ضد الذلِّ، وللعدل ضد الظلم، وفي سبيل نشر جميع القيم العليا والدفاع عنها، والَّتي ما كانت لتتحقَّق إلا بتحرير الناس من كلِّ أنواع العبودية المذلَّة، ليدخلوا في عزِّ عبادة الله الواحد القهَّار.

وكلُّ نشاط للمؤمن، يعدل أجرَ الجهاد، متى توجَّه القلب به إلى الله، حتَّى الحاجات اليومية من نوم وطعام وشراب، تتحوَّل إلى عبادات متى ذَكَرَ الله ونَوى أن يتقوَّى بها على طاعته وعبادته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» (أخرجه أحمد والطبراني والقضاعي عن فضالة بن عبيد مرفوعاً)، وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه قرأ الآية ثم قال: (إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف).

وبعد كلِّ هذا نستطيع الخروج بنتيجة مُفادُها أن الجهاد في الإسلام ليس مجرد لقاء بين عدوَّين يريد كلٌّ منهما الغدر بالآخر والوقيعة به لكسب المعركة لصالحه؛ بل هو صراع بين الخير والشرِّ، بين الفضيلة والرذيلة، بين الهداية والضلالة، بين العلم والجاهلية.

لقد أتى رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدنيا بهذه الهدية الربَّانية، فمن قَبِلها طائعاً مختاراً عن قناعة فيها ورضاً بمحتواها فقد رشد، ومن رفضها استكباراً واعتزازاً بالإثم والجاهلية، ومنع إيصال هديَّة الله إلى عباده الَّذين يريدونها، فقد وجب على أمناء هذه الهديَّة، إزاحة هذا المنع، الَّذي يحول دون وصول الهديَّة المقدَّسة إلى عباد الله.

إن هذا الكلام كان حقيقة ماثلة للعيان عبر تاريخ الإسلام الحافل بمآثر الرقي والتهذيب، الَّذي حمله المسلمون لإخوتهم في الإنسانية، والتاريخ خير شاهد على أن المسلمين ما قاتلوا يوماً من الأيام لانتزاع لقمة العيش من أفواه غيرهم، كما فعل المستعمرون المستكبرون في شعوب الأرض، إنما خرجوا محرِّرين لإخوانهم من الظلم الَّذي كانوا يرزحون تحت وطأته، وهادين إيَّاهم إلى موارد الخير الَّتي وردوها، فسعدوا بعد شقاء، واغتنوا بعد فقر، وتعلَّموا بعد جهل، واهتدوا بعد ضلال، وتوحَّدوا بعد فرقة، وتآخوا بعد عداوة، إنه الإسلام دين الحياة الآمنة المطمئنَّة على هذه الأرض، ومن ورائها حياة أبدية في نعيم يجلُّ عن الوصف.

ولابدَّ أن نُشـير في ختـام هـذا الفصـل، بأن مهمَّة الجهاد الأصغر ـ جهاد المعتدي ومقارعته ـ يجب أن تكون منوطة بالدول الإسلامية وحكوماتها وجيوشها النظامية، ولايحقُّ لأيِّ فرد القيام باختراقات ضدَّ العدو، دون الحصول على التفويض بذلك من أصحاب السلطة الشرعيين، تجنُّباً لحدوث ردود فعلٍ غير محسوبة، لايستطيع هؤلاء الأفراد صدَّها أو مقاومتها، ويكون ضحيَّتها بالتالي عموم الناس.