الفصل الرابع:
مشروعيَّة القتال
دفاعاً عن النفس
وفي سبيل الله
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {أُذِنَ للَّذين يُقاتَلونَ بأنَّهم ظُلِموا وإنَّ الله على نَصرِهِم لَقديرٌ(39) الَّذين أُخْرِجوا من ديارِهِم بغيرِ حقٍّ إلاَّ أن يقولوا ربُّنا الله.. (40)}
سورة البقرة(2)
{وقاتِلوا في سبيلِ الله الَّذين يُقاتِلونَكُم ولا تَعتَدوا إنَّ الله لا يُحبُّ المُعتَدينَ(190)}
/ ومضات:
ـ الإسلام دين الرقيِّ الأخلاقي، كما أنه دين الإعمار والازدهار المادِّي، وليس دين الهدم والتخريب والإفساد، ومن هذا المنطلق كان يدعو دائماً إلى الدفاع عن الأمَّة، والمحافظة على عقيدتها وأخلاقها وثرواتها، من المعتدين والمغرضين، مؤكِّداً أن الاعتداء عمل غير أخلاقي، يكرهه الله تعالى، وتأباه النفس المؤمنة.
/ في رحاب الآيات:
[الإسلام دين السيف] إنها عبارة ظالمة مغرضة، طالما ردَّدها المستشرقون المغرضون طعناً في الإسلام وتشويهاً لحقيقته. ونحن بدورنا نسأل هؤلاء المستشرقين: هل أسلم الصحابة الأوائل بالسيف؟ هل أسلم أبو بكر وعلي وعثمان وعمر ومئات مثلهم بالسيف؟ وهل شُرِّع حَمْلُ السيف في الإسلام للهجوم، وحَمْلِ الناس على الدخول فيه بالقوَّة، أم للدفاع عنه وحماية بنيانه في حال تعرُّضه للاعتداء والخطر؟. إن الإسلام شأنه شأن كلِّ دعوة في الأرض، فكرية كانت أم علمية، روحية أم مادِّية، لابُدَّ لها من أن تلقى معارضة من ذوي النفوذ وأرباب السلطان؛ الَّذين يقوم نفوذهم وسلطانهم على أسس فكرية ودينية مغايرة لها، فهم يرون أنَّ أيَّ دعوة جديدة تحمل الحياة للعقل، سوف تهدِّد مصالحهم الانتهازية، وسيسعون جاهدين إلى محاربتها والقضاء عليها. لذلك كان لابُدَّ لكلِّ رسالة أو دعوة فاضلة من قوَّة تحميها وتصونها، وليس الإسلام بدْعاً بين الرسالات، بل يجري عليه ما يجري عليها كلها، ولهذا يتعيَّن على كلِّ مسلم أن يقوم بدوره في حماية رسالة الإسلام، وأن يبذل كلَّ ما يملك من مال وجهد ووقت في سبيل نشر أهدافه وتعميمها، وهي تحقيق السَّلام والسَّعادة في أرجاء الأرض؛ فالسَّلام هو غاية الإسلام، ولكنه السَّلام الَّذي لا يسكت عن الاعتداء والظلم.
وقـد شُـرِّع القتال في الإسلام لرفع الظلم، وليس تحريضاً عليه؛ فعندما يقع البغي والعدوان على أيِّ حقٍّ من حقوق الإنسان المعروفة، في أية صورة من الصور، سواء وقع من قِبَلِ فردٍ على فرد، أو من قبل فرد على جماعة، أو من قبل جماعة على فرد أو على جماعة، أو من قبل دولة على دولة، فالإسلام لا يرضى حينئذ بسلام يقوم على أساس هذا العدوان، فليس السَّلام في الإسلام مهادنة ولا استسلاماً، وإنما هو تحقيق الخير والعدل على النهج الَّذي رسمه الله للعباد. والقانون الإلهي في هذه الآية يُقرر، أنه من اعتُدي عليه وأُخرِج من دياره فقد ظُلم، ومِنْ حقِّ المظلوم ألاَّ يسكت على ضيم أو ظلم.
ولو أردنا أن نتعرَّف المرحلة الَّتي أُذن للمؤمنين فيها بالقتال، وألقينا نظرة موضوعية حول سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه قد لبث في مكَّة مدة ثلاثة عشر عاماً، يدعو إلى الله باللين والرفق والموعظة الحسنة، على الرغم من كلِّ ما لقيه من مناوأة شديدة من قِبَلِ دعاة الوثنية، الَّذين رأوا في دعوته خطراً على كيـانهم المادِّي والاجتماعي، والله تعالى يأمره ـ أثناءهـا ـ بأن يقابـل المعاداة بالصبر والحكمة والصفح الجميل، وأن يجادل بالقرآن والحجَّة والبرهان، ولم يأذن له بأن يقابل السيِّئة بالسيِّئة، حتَّى استنفد صلى الله عليه وسلم جميع الفرص المتاحة له في عرض أُخوَّة الإسلام وأهدافه، من أجل بناء الإنسان الواعي، المتحرِّر من الجهل والتخلف والتقليد الأعمى.
ولـمَّا تجاوز موقف المشركين مرحلة التنفير والإيذاء، إلى مرحلة التصفية الجسدية للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أَذِنَ الله لِحَمَلةِ السَّلام والإخاء بالهجرة، فكانت الهجرة المؤقَّتة الأولى والثانية إلى الحبشة، ومن ثمَّ كانت الدائمة إلى المدينة حيث هاجر النبي عليه السَّلام ولحق بأصحابه الَّذين سبقوه إليها، بعد أن لاقَوا صنوفاً من الإيذاء قبلها وأثناءها، حيث لم يَسلموا من شرور المشركين، فصودرت معظم أموالهم وممتلكاتهم. وبعد هذه الهجرة استقرَّ المسلمون، وصار لهم معقلٌ يحتمون به ويتمكَّنون فيه من استمرارية مهمَّتهم في الدعوة إلى دين الله، وحينها فقط أُذن لهم بِرَدِّ كلِّ اعتداء يوجَّه ضدَّهم، وشُرِّع لهم حقُّ الدفاع عن النفس، وقتال من يقاتلهم. وجاء هذا التشريع في الوقت المناسب، لأن المسلمين كانوا في مكَّة قلَّة أمام المشركين، ولو أُمروا فيها بقتالهم لشقَّ ذلك عليهم، ولهذا لـمَّا بايع أهل يثرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بيعة العقبة الثانية وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتان قالوا: «يارسول الله! ألا نميل على أهل الوادي ـ يعنـون أهل منى ـ فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أُؤمَر بهذا».
ولقد كانت الآية الكريمة: {أُذِنَ للَّذين يُقاتَلونَ بأنَّهم ظُلِموا وإنَّ الله على نصْرِهم لقدير} أوَّل ما نزل في مشروعية الجهاد، وبعد نزولها وغيرها من الآيات، ازداد يقين النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بأنهم على حقٍّ، وأنهم أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ظلماً وبغياً بغير حقٍّ، إلا أن يقولوا ربُّنا الله، فمن حقِّ المظلوم أن ينتصر، ولهذا كانت أوَّل بادرة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم لاسترجاع تلك الحقوق؛ أن عزم على اعتراض قوافل قريش ـ حصراً ـ التجارية الَّتي تمرُّ بيثرب أثناء طريقها إلى مكَّة.
ولما علم صلى الله عليه وسلم بقدوم قافلة على رأسها أبو سفيان، ندب أصحابه للخروج معه للاستيلاء عليها، ومصادرة ممتلكاتها، مقابل أموال الصحابة الَّتي صودرت أثناء هجرتهم. فخرج معه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وذهبوا إلى المكان الَّذي تمرُّ به القافلة عادةً وهو بدر. فلما علم أبو سفيان بالخبر أرسل إلى قريش يُعْلِمُها، لترسل له نجدة تمكِّنه من النجاة، ثم سلك طريقاً غير الطريق المرصود. وسارعت قريش إلى إعداد جيش كبير بلغ عدده تسعمائة وخمسين مقاتلاً ومعهم سلاحهم وزادهم. ولكن أبا سفيان عندما نجا بقافلته أرسل إليهم يطلب منهم الرجوع، فرفضوا وأصرُّوا على الحرب وانتهزوا الفرصة للخلاص من المسلمين، وَوضعِ حَدٍّ لانتشار دعوتهم. فلما بلغ المسلمين الخبرُ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في المواجهة والقتال، ليرى مدى استعدادهم المعنوي لذلك، وأخبرهم أن الله وَعَدَهُ بالنصر عليهم، فتردَّد بعضهم لأنهم لم يخرجوا معه للقتال وإنما لمصادرة الأموال فقط، فنزلت الآية وفيها عتاب لهم {وإذ يَعِدُكُمُ الله إحـدى الطَّـائفتَيْنِ أنَّهـا لكم وتـوَدُّون أنَّ غيرَ ذاتِ الشَّـوكةِ تكونُ لكم..} (8 الأنفال آية 7). فرجع المتردِّدون عن تردُّدهم، وعزموا جميعاً على ملاقاة جيش قريش للدفاع عن أنفسهم وردِّ العدوان بالقوَّة. وهكذا كانت معركة بدر، الَّتي هي أوَّل معركة جرت بين المسلمين والمشركين، وسُجِّل فيها النصر للمسلمين فُرقاناً بين الحقِّ والباطل.
وهكذا أَذِنَ الله للمسلمين بالقتال، للدفاع عن أنفسهم كلَّما اعتُدي عليهم، وكلَّما أحدق بهم خطر يهدِّد الدعوة الإسلامية ويهدِّد استمراريتها، وإن أيَّ موقف منهم لردِّ العدوان سيكون موقفاً سليماً من الناحية الشرعية والأدبية، ولا غبار عليه. فهم مظلومون غير معتدين ولا مستكبرين، ولهم الحقُّ في أن يَطمئنُّوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم، ولديهم ما يبرِّر خوضهم المعركة، فهم منتدبون لمهمَّة إنسانية كبيرة لا يقتصر خيرها عليهم وحدهم، بل إنه يعود على الجماعة المؤمنة كلِّها كمرحلة أولى، وعلى البشرية كافَّة كمرحلة تالية، وهذه المهمَّة هي ضمان حرِّية العقيدة وحرِّية العبادة. فقد أُخْرِج المؤمنون من ديارهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: {ربُّنا الله} وهي أصدق وأحقُّ كلمة تقال، ومن أجلها وحدها كان إخراجهم، فهو البغي المطلق الَّذي لا يستند إلى أي حقٍّ من ناحية المعتدين، وهو التجرُّد من كلِّ هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم، فمن أجل العقيدة وحدها يُخْرَجُون، لا من أجل عَرَض من أعراض الدنيا الَّتي تشتجر فيها الأطماع، وتتعارض فيها المصالح، وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع.
إن الله يعطي الإذن للمسلمين بالقتال، وقد ضمن لهم النصر والدفاع عنهم، ومن كان الله مدافعاً عنه فهو ممنوع حتماً من عدوٍّ ظاهر عليه، ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم يَكتب عليهم الجهاد؟ وفيم يُقاتلون فيصيبهم القتل والجراح، والجهد والمشقَّة، والتضحية والآلام، والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق النصر لهم بلا جهد ولا مشقَّة، ولا تضحية ولا ألم، ولا قتل ولا قتال؟ والجواب: أنه تعالى لم يشأ أن يكون حملة دعوته وحُماتها من الكسالى، الَّذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزَّل عليهم نصر الله سهلاً هيِّناً دون عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصَّلاة ويرتِّلون القرآن، ويتوجَّهون إلى الله بالدعاء كلَّما مسَّهم أذى، أو وقع عليهم اعتداء. نعم، يجب أن يقيموا الصَّلاة، وأن يرتِّلوا القرآن، وأن يتوجَّهوا إلى الله بالدعاء في السرَّاء والضرَّاء، إلا أن هذه العبادة وحدها لا تؤهِّلهم لحمل دعوة الله وحِمايتها، إنما هي الزَّاد الَّذي يتزوَّدون به للمعركة، والسلاح الَّذي يطمئنُّون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل أسلحته، ويزيدون عليها بسلاح التَّقوى والإيمان والاتصال بالله تعالى. لقد شاء الله تعالى أن يتحقَّق دفاعه عن الَّذين آمنوا بواسطتهم هم أنفسهم، كي يتمَّ نُضجهم أثناء المعركة، فالطاقات المكنونة في البنية الإنسانية تتفجَّر وتتيقَّظ وهي تواجه الخطر، عندئذ تتحفَّز كلُّ خلية بكلِّ ما أُودِعَ فيها من استعداد لتؤدِّي دورها، وتتساند مع الخلايا الأخرى لتبذل آخر ما تقدر عليه، ولتصل إلى أكمل ما في قدرتها وما هي مهيَّأة له من الكمال. ولا يخفى أن النصر السريع الَّذي لا يكلِّفُ عناءً، يعطِّل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يولِّدها، يضاف إلى ذلك أن النصر السريع الهيِّن الليِّن يَسهُل التخلِّي عنه وضياعه، لأنه أوَّلاً رخيص الثمن لم تُبذل فيه تضحيات، وثانياً لأن الَّذين نالوه لم تُدرَّب قواهم على الاحتفاظ به، فهي لا تتحفَّز ولا تحتشد للدفاع عنه.
ثم إن هناك التربية الوجدانية والتدريب العملي والمشاعر المصاحبة لهما، والَّتي ينشأ عنها النصر أو الهزيمة، وسواء في ذلك الأمل أم الألم، وكلُّها ضرورية للأمَّة الَّتي تحمل الدعوة. من أجل هذا كلِّه، ومن أجل غيره ممَّا يعلمه الله، جعل الله دفاعه عن الَّذين آمنوا يتمُّ بواسطتهم هم أنفسهم، ولم يجعله منحة تهبط عليهم من السماء بلا عناء. على أن النصر قد يبطئ على الَّذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: {ربُّنا الله} وهذا الإبطاء يكون لحكمة يريدها الله تعالى؛ وهي أن بنية الأُمَّة المؤمنة لم تنضج بعد، فلو نالت النصر حينئذ لما استطاعت أن تحافظ عليه؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. وقد يبطئ النصر حتَّى تجرِّب الأمَّة كلَّ قواها، وتدرك أن هذه القوى وحدها، دون سند من الله، لا تكفل لها النصر، فتبذل ما في وسعها ثمَّ تَكِلُ الأمر إلى الله. وقد يبطئ أيضاً لتزيد صلتها بالله، أو لأنها لم تُخلص النية في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحقِّقه، أو حَمِيَّة لذاتها، أوشجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً ممَّا يمكن أن يداخله من العُجْب والاستعلاء: «سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حَمِيَّةً، والرجل يقاتل شجاعةً، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فأيُّها في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). وقد يبطئ النصر لأن في الأمر الَّذي تكافحه الأُمَّة المؤمنة بقيَّةً من خير، ويريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها، لِيذهب وحدَهُ هالكاً، ويبقى الخير. أو لأن الشرَّ الَّذي تكافحه لم ينكشف زَيفه للناس بَعدُ، فلو غلبه المؤمنون حينئذ لوجد له أنصاراً من المخدوعين به، والَّذين لم يقتنعوا بعدُ بفساده وضرورة زواله، فتظلُّ له جذور في نفوس الأبرياء والسُّذَّج، فيشاء الله تعالى أن يبقى الباطلُ حتَّى ينكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لم تصلح بعدُ لاستقبال الحقِّ والخير والعدل الَّذي تمثِّله العقيدة الإيمانية المؤمنة، فيظلُّ الصراع قائماً حتَّى تتهيَّأ الظروف لاستقبال الحقِّ الظافر. وقد يبطئ النصر بسبب بقايا خَفِيَّةٍ مازالت عالقة من آثار الماضي في نفوس بعضهم، فقد يُبْتَلون بهزيمة لينكشف لهم هذا المرض، فيعملون على مداواته كما حدث في غزوة أحد، وهذا ما صرَّحت به آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولِيُمَحِّصَ الله الَّذين آمنوا ويَمْحَقَ الكافرين} (3 آل عمران آية 141) وقوله تعالى: {ولقد صدَقَكُم الله وعدَهُ إذ تَحُسُّونَهُم بإذنه حتى إذا فَشِلْتُم وتنازعتم في الأمرِ وعصَيْتم من بعدِ ما أراكم ما تُحبُّون منكم من يريدُ الدُّنيا ومنكم من يريدُ الآخرةَ ثمَّ صَرَفكُم عنهم ليبتَلِيَكم..} (3 آل عمران آية 152) من أجل أحد هذه الأسباب وغيرها ممَّا يعلمه الله تعالى، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات والآلام، ويدافع الله عن الَّذين آمنوا ويتحقَّق النصر لهم في النهاية.
وللنصر تكاليفه وأعباؤه، وقد تعهَّد الله بمنحه لمن ينصره من المؤمنين الَّذين إن تحقَّق لهم النصر، وثبت لهم الأمر، أقاموا الصَّلاة فعبدوا الله ووثَّقوا صلتهم به، واتجهوا إليه خاضعين مستسلمين، وأدَّوا حقَّ المال، وانتصروا على شُحِّ النفس، وتطهَّروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وكانوا عَوناً لأممهم بإعانة فقرائهم، وذوي الحاجات منهم، وتعاونوا مع غيرهم فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم، ومنعوا المفاسد الَّتي تعوق الوصول إلى الرقي الخُلقي والأدب السامي، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، ليصلوا إلى قلوب الخلائق أملاً في هدايتها، وإلى عقولهم أملاً في إنارتها، وكانوا بذلك مثل الجسد الواحد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى» (متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ).
من خلال هذا المنظور يمكن للمتتبِّع أن يتفهَّم حروب النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه طيلة العهد المدني من عُمْرِ الرسالة، ففي بدر لجأ إلى القتال، ولم يكن ذلك في خطَّته.. وفي معركة أحد بادر المشركون إلى الاعتداء، ووصلوا إلى ضواحي المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأَخْذ ثأرهم لهزيمتهم في معركة بدر. وفي غزوة الخندق تحصَّن المسلمون في المدينة خلف خندقهم، وأُمروا بالاستتار ليأمنوا شرَّ أعدائهم دون إراقة الدماء. ولم يغزُ عليه السلام قوماً قط لم يَهمُّوا بغزوه أو يستعدُّوا لقتاله.
ولا تكاد كلمة القتال أو الجهاد تذكر في القرآن الكريم حتَّى تُقرن بعبارة: {في سبيلِ الله}، وهذا التعبير واسع شامل تنضوي تحت لوائه جميع القيم الأخلاقية، والمُثُل العليا الَّتي اتخذها الإسلام شعاراً له، فهي تشمل نشر العلم ومكافحة الجهل، والحضَّ على استعمال العقل ومحاربة الخرافات والوهم، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والارتقاء بالمشاعر الإنسانية لتتَّصل القلوب بخالقها، فلا ترضى معشوقاً سواه، بدل تَمَرُّغِها في مستنقعات المادَّة وأودية الأهواء، وتهيِّئ الفرصة للإنسان لكي يحيا الحياة الكريمة وهو عبد لخالقه لا لأحدٍ من مخلوقاته، ولتتَّضح بذلك الغاية من القتال في الإسلام وهي إعلاء كلمة الله، لا حُبّاً في السيطرة أو المغنم أو الاستكبار.
وقد حضَّ الإسلام على الجهاد، ورغَّب بالخروج في سبيل الله دفاعاً عن النفس والعقيدة والوطن، بإطلاق الوعد للمؤمن بأن ينال إحدى الحُسنيين: إمَّا النصر والعزَّة في الدنيا، وإمَّا الشهادة حيث يُحفَظُ عمله، ويخلَّد في روضات الجنان مع الأنبياء والمرسلين.
وفي الوقت الَّذي يدعو فيه الإسلام إلى الجهاد، ويحضُّ على القتال في سبيل الله، ويبيح الحرب كضرورة، نجده شرَّع آداباً للقتال فيأمر بالإحسان إلى الأسرى، وبمعاملتهم معاملة إنسانية رحيمة، ويدعو إلى إكرامهم ويُثني على الَّذين يَبُرُّونَهم ثناءً جميلاً، قال الله تعالى: {ويُطعِمونَ الطَّعامَ على حُبِّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنَّما نُطْعِمُكم لوجهِ الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً} (76 الإنسان آية 8ـ9)، كذلك يُحَرِّم التمثيل بالقتلى، والإجهاز على الجرحى، وينهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ، الَّذين لا قدرة لهم على القتال، وينهى عن تحريق الأشجار أو قتل الحيوان لغير مأكلة، لذلك فقد قرن الله تعالى الأمر بالقتال بالنهي عن الاعتداء فقال: {ولا تعتدوا} والعدوان يكون بتجاوز المحاربين إلى غيرهم من الآمنين المسالمين، كما يكون بتجاوز جميع آداب القتال الَّتي شرَّعها الإسلام.
إنه الجهاد الَّذي يؤدِّي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة، من انتصار الحقِّ والعدل والحرِّية المتجهة إلى الخير والصلاح، فإذا تحقَّق، توارت في ظلِّه الأشخاص والأنانيات، والمطامع والشهوات. وهو جهاد يقابله نصر له سببه وله ثمنه، وله تكاليفه وشروطه، فلا يُعطى لأحد جزافاً أو محاباةً، ولا يستقرُّ لأحد لا يحقِّق غايته ومقتضاه.