الفصل السادس:
ثـمـرات الجهــاد
سورة الصف(61)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا هل أدُلُّكم على تجارةٍ تُنْجيكُم من عذابٍ أَليمٍ(10) تُؤمنونَ بالله ورسولِه وتُجاهدونَ في سبيلِ الله بأموالِكُم وأنفُسِكُم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمونَ(11) يغفرْ لكم ذُنوبَكُم ويُدخِلْكُمْ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ ومساكِنَ طيِّبةً في جنَّاتِ عَدْنٍ ذلك الفوزُ العظيم(12) وأخرى تحبُّونَها نصْرٌ من الله وفَتْحٌ قريبٌ وبشِّرِ المؤمنين(13)}
ومضات:
ـ يُرشد الله تعالى المؤمنين إلى تجارة رابحة، منجية من عذابه الأليم؛ بضاعتها الإيمان بالله والمجاهدة في سبيله بالأموال والأنفس، وثمرتها الخير الوفير الَّذي يشتمل على المغفرة الإلهية للذنوب، والبشارة من الله بالنصر المؤزَّر، والرزق الواسع، والأمن والاستقرار الدائمين، والإقامة الدائمة في مساكن طيِّبة في جنَّات عدن.
في رحاب الآيات:
جُبِلَتْ نفس الإنسان على حبِّ الكسب والربح الَّذي يحقِّقه بالتجارة، ولكنَّه في زحمة انشغاله ينسى تجارة أساسية، لها امتداد إلى عالم الدار الآخرة، ولها جسور توصله إلى شاطئ الأمان الإلهي. تجارةٌ، التَّعامُل فيها مع الله عزَّ وجل، فإن كنت بائعاً نفسك وأهلك ومالك فهو عزَّ وجلَّ المشتري، وإن كنت مشترياً الآخرة ونعيمها فهو سبحانه البائع، وفي بيعك وشرائك أنت الرابح الربح الأكيد. والآية الكريمة تعبِّر عن هذه المعاني السامية بأسلوب الاستفهام لجذب الانتباه، وإثارة عنصر التشويق في النفس البشرية، {هل أدلُّكُم على تجارةٍ تُنْجيكُمْ من عذابٍ أليم}، ثمَّ تبيِّن أن تلك التجارة هي الإيمان بالله ورسوله، إيماناً صادقاً لا يشوبه شكٌّ ولا نفاق، وإخلاص لله في القول والعمل، وجهاد بالأنفس والأموال في سبيل الله، لنشر دينه وإعلاء كلمته.
والجهاد ضروب شتَّى: جهاد بالقرآن في تعريف الناس ـ عموم الناس ـ بعلومه وتعاليمه، وجهاد العدو في ميدان القتال لصدِّه وردِّ اعتدائه، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها من الانقياد لشهواتها الَّتي تُرديها، وجهاد بين النفس والخَلْقِ، بترك الطمع في أموالهم والإقبال على الرحمة بهم، وجهاد فيما بين المرء والدنيا، بعدم التهالك على جمع حُطامها وإنفاق المال فيما حرَّم الله. هذا الإيمان، وهذا الجهاد، خيرٌ للمرء من كلِّ ما في الدنيا من نفس ونفيس ومال وولد، لأن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها. فإنْ فَعَلَ ذلك فآمنَ وجاهدَ غفر الله ذنوبه، وهذه وحدها تكفي، ولكنَّ فضل الله ليس له حدود، فقد منَّ على المؤمنين بإدخالهم فراديس جنانه، وإسكانهم مساكن طيِّبة في دار الخُلد الأبدي، ترتاح إليها النفوس، وتقرُّ بها العيون، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الَّذي لا فوز بعده. إنه لربح ضخم هائل، أن يُعطي المؤمن ممَّا في هذه الدنيا الفانية، ويأخذ ممَّا في الآخرة الباقية، فالَّذي يتَّجِرُ بالدرهم فيكسب به عشرة، يغبطه كلُّ من في السوق، فكيف بمن يتَّجر في أيام قليلة معدودة على أرض متاعها محدود، فيكسب به خلوداً ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع. وتبلغ الصفقة ذروة الربح الَّذي لا يعطيه إلا الله، الله الَّذي لا تنفد خزائنه، والَّذي لا مُمْسِكَ لرحمته، فهي المغفرة والجنَّات، والمساكن الطيِّبة، والنعيم المقيم في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يدعو يوم القيامة الجنَّة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الَّذين قاتلوا في سبيلي وقُتِلُوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنَّة، فيدخلوها بغير عذاب ولا حساب» (أخرجه أحمد بن حنبل والطبراني والحاكم والبيهقي وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ).وفوق ذلك كله ربح سريع قريب، إنه النصر على المعتدين، ونشر السَّلام وإفشاء المحبَّة والإخاء في مشارق الأرض ومغاربها، فهل هناك تجارة أكثر ربحاً؟ وأي عاقل يدلُّه الله على هذه التجارة ثمَّ يتقاعس عنها أو يحيد؟.
وما تزال الدعوة إلى الإسلام حتَّى يومنا هذا، تلاقي ما لاقاه المسلمون الأوائل، من الأذى والمحاربة من أعداء الحرِّية والخير والسَّلام. والمؤمن الحقيقي يتتبَّع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في نشر الدعوة، ويدرس مراحلها بعناية ليحسن التأسِّي بها؛ فلا قتال ولا عنف بل صبر وهجرة، ولا استئثار في عمل الدعوة لرجل دون امرأة، فالكلُّ مكلَّف والكلُّ مسؤول، قال تعالى: {فاستَجابَ لهم ربُّهم أنِّي لا أُضيعُ عملَ عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ فالَّذينَ هاجروا وأُخرجوا من ديارهِم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتِلوا لأُكَفِّرَنَّ عنهم سيِّئاتهِم ولأُدخِلَنَّهُم جنَّاتٍ تَجري من تحتها الأنهارُ ثواباً من عند الله والله عندهُ حسنُ الثَّواب}(3 آل عمران آية 195).