الفصل الثامن:
الشهيد والشهادة
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {ولا تَحسَبَنَّ الَّذين قُتِلوا في سَبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عِند ربِّهم يُرزَقونَ(169) فَرِحينَ بما آتاهُمُ الله من فَضلِهِ ويَستَبشِرونَ بالَّذين لم يَلحَقوا بهم من خَلفِهِم ألاَّ خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحزنونَ(170) يَستَبشِرونَ بِنِعمةٍ من الله وفضلٍ وأنَّ الله لا يُضيعُ أجرَ المؤمِنينَ(171)}
سورة البقرة(2)
وقال أيضاً: {ولا تَقولوا لِمَنْ يُقتلُ في سبيلِ الله أمواتٌ بل أَحياءٌ ولكن لا تَشعُرونَ(154)}
ومضات:
ـ الحياة الحقيقية هي اتحاد الروح والجسد في سبيل تحقيق هدف واحد، هو إعلاء كلمة الله في الأرض، بتمثُّل الإيمان في النفس، ونشره في ربوع الأرض بين الناس، وإقامة البناء الأخلاقي والإعمار. وقد يتعرَّض الجسد من أجل ذلك كلِّه للموت، إلا أن الموت هنا، في حدِّ ذاته، بداية لحياة مِلؤُها السعادة والحبور في ظلِّ عرش الله ورعايته.
ـ الفرح الحقيقي هو الَّذي لا حزن بعده، وهو الغاية المنشودة الَّتي يطلبها المؤمن من ربٍّ كريم.
ـ قافلة الشهداء تتابع مسيرتها حين يقدِّم المؤمنون أرواحهم رخيصة في سبيل الله، بكلِّ ثبات واطمئنان دون وجل ولا تردُّد، وتكون البشرى الحقيقية عندما يُغْمِضُ الشهيد عينيه، وقلبُهُ مغمور باليقين؛ بأنه سينال ما وعده الله تعالى من حسن الجزاء لقاء صدقه واستشهاده، فيجد ذلك كلَّه حقيقةً ماثلةً للعيان، جِنانٌ وربٌ كريم.
في رحاب الآيات:
يا له من موكبٍ جميل تتنزَّل فيه كوكبةٌ من ملائكة الرحمن لتحمل روح الشهيد وتَزفَّها إلى أعالي جنان الخلد، ورائحة دمائه الزكية تفوح بالمسك الأذفر! ولا عجب في أن يُستقْبَل بهذه الحفاوة والتكريم، وهو الَّذي قدَّم أغلى ما يملك لأعزِّ مالك، ألا وهو ربُّ العرش العظيم.
لقد نزلت هذه الآيات الكريمة على المؤمنين؛ لتخبرهم عن منزلة شهدائهم عند الله، فيزدادوا في الجهاد حباً، وإلى لقاء ربِّهم شـوقاً، وبمصداقية حياتهم بعد موتهم يقيناً. وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لمَّا أصيب إخوانكم بأُحُد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضْر، تَرِد أنهار الجنَّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظلِّ العرش، فلمَّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مَقِيلهم قالوا: ياليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله، أنا أبلغهم عنكم، فأنزل هذه الآية: {ولا تحسَبَنَّ الَّذين قُتِلوا في سبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزَقون}».
فإن كان الشهداء في هذه المنزلة العظيمة؛ حيث يتبوَّؤُون مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويُرزَقون مثلما يُرزق الأحياء، ويتنعمون بألوان النعيم والسرور، فإن ذلك يؤكد أن الشهادة ليست بخاتمة المطاف، وليست حاجزاً بين ما قبلها وما بعدها، بل هي استمرار للحياة الأولى، وانتقال مرحلي منها للارتقاء في معارج النعيم في الجنان الَّتي أعدَّها الله للشهداء الأبرار، الَّذين يتجاوزون عالم البرزخ، وتنطلق أرواحهم لتحيا حياة جديدة يصبح فيها الغيب مُشاهَداً مرئياً؛ فيرون ألواناً من النعيم الَّذي لا يُوصف، ويُرزقون كما يُرزق الأحياء، فكأنهم لم يموتوا. إلا أن هذه الدرجة لا يُلَقَّاها إلا المخلصون من الشهداء، والمبتغون في تضحيتهم وجه الله، وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).
وهكذا نجد أنَّ الإسلام قد أعطى ظاهرتَيْ، الموت والحياة، مفهوماً عميقاً وجميلاً ذاخراً بالمعاني السامية، الَّتي تُفْرِحُ قلب المؤمن وتجعل من حياته وموته رحلة متكاملة، طالما أنهما في سبيل الله، تحقيقاً لإرادته في نشر السَّلام والاطمئنان في ربوع العالم كلِّه.
إنها النظرة الجديدة للموت، وهي ذات آثار جليلة على مشاعر المؤمنين، حيث حثَّتهم على زيادة الطاعة والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وترك التمسُّك بالحياة الدنيوية الزائلة، للفوز بحياة أبدية لا يكدِّرها خوف من مكروه، ولا حزن ولا هموم، وهذا ما يسلِّط الأضواء على أحد شهداء الصحابة، عندما تَلقَّى بصدره طعنةً برمحٍ نفذ إلى ظهره فقال: فُزْتُ وَرَبِّ الكعبة.
فهذه النُّقلة من الحياة الدنيا إلى الآخرة أدعى إلى الغبطة، لأنها رحلة إلى جوار الله تعالى، وتعديل لمفهوم الموت وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وتوسيع لأفق الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق العاجلة ومظاهرها الزائلة، وتستقرُّ في مجال فسيح لا تعترضه الحواجز، الَّتي تقوم في أذهاننا، عن هذه النقلة من حياة إلى حياة. وقد أثمر هذا المفهوم الجديد الَّذي غرسته هذه الآية ومثيلاتها في قلوب المسلمين؛ فتسارعت خطاهم في التسابق على طلب الشهادة في سبيل الله، دفاعاً عن الحقِّ، وردّاً لكيد المعتدين، ونصرةً للمظلومين.