الـبـاب الثاني عشر
الدار الآخرة
الفصل الأوَّل:
الـمــوت
سورة ق (50)
قال الله تعالى: {ولقد خلَقْنا الإنسانَ ونعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُهُ ونحن أَقْرَبُ إليه من حَبلِ الوريدِ(16) إذ يتلقَّى المُتلَقِّيانِ عن اليمينِ وعن الشِّمالِ قعيدٌ(17) ما يَلْفِظُ من قولٍ إلاَّ لديهِ رقيبٌ عتيدٌ(18) وجاءتْ سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ ذلك ما كُنتَ منه تَحيدُ(19) ونُفِخَ في الصُّورِ ذلك يومُ الوَعيدِ(20) وجاءتْ كلُّ نفْسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ(21) لقد كُنتَ في غَفْلةٍ مِن هذا فَكَشَفْنا عنكَ غِطاءَكَ فبصَرُكَ اليومَ حديدٌ(22)}
/ ومضات:
ـ ليس هناك من حواجز ولا عوائق تحول دون مراقبة الله لعبده؛ لأنه أينما حلَّ وارتحل فهو في دائرة ملكوت الله، وتحت سمعه وبصره سبحانه، يعلم منه ما أَسَرَّ وما أخفى، ويكلؤه بألطاف رعايته وعنايته، لأنه قريب منه ومحيط به.
ـ أوكل الله تعالى بكل إنسان ملَكَيْن كريمَيْن عن يمينه وشماله، يرصدان حركاته وسكناته وكلماته، ويراقبانه دون كلل ولا ملل، لا لحاجته سـبحانه إلى من يخبره عن أحوال عبده ـ فهو غنيٌ عن ذلك ـ بل ليكون ما يسجِّلانه أحد الأدلَّة الَّتي تشهد له أو عليه يوم العرض الأكبر.
ـ عند حلول سكرات الموت تتكشَّف للمُحْتَضر حقائق العالم الآخر، ويقف وجهاً لوجه أمام ما كان يتحاشاه ويتجنبه طيلة حياته، فيواجه الحقيقة الكبرى بانتقاله إلى الدار الآخرة، والَّتي يتبعها بدء الحساب.
ـ عندما يجيء يوم القيامة وتحين ساعة الجزاء، يبعث الله الحياة في الخلائق من جديد، وتسوقهم الملائكة إلى المحكمة الإلهية.
ـ يُمضي الإنسان عمره وهو مشغول عما خُلق من أجله، وهو الاستعداد ليوم الفصل فإذا ما مات انزاحت الغشاوة عن عينيه، وتلاشت خيوط الوهم الَّتي كان يتعلَّق بها في الدنيا، لتنكشف له حقائق الأمور الَّتي كان رسل الله يسعون إلى توضيحها وترسيخها في الأذهان.
/ في رحاب الآيات:
يقع الكون بما فيه من مخلوقات، في قبضة الله تعالى، ولا يغيب عن علمه وسيطرته شيء، ومن ذلك شعور الإنسان وتفكيره ونواياه، فهي واقعة تحت سمع الله وبصره، فلا شيء مغلق أمام عظمة الله وقدرته، فهو عالم بجميع ما خلق، حتَّى إنه يعلم ما توسوس به نفس الكائن البشري من الخير أو الشر. وهو سبحانه وتعالى أقرب إلى عبده من حبل الوريد الَّذي يجري فيه دمه، وهو تعبير يمثِّل ويصوِّر القبضة المالكة والرقابة المباشرة. وحين يتصوَّر الإنسان هذه الحقيقة فإنه يرتعش ويحاسب نفسه، ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها، لما تجرأ على التفوُّه بكلمة لا يرضى الله عنها، بل ما تجرأ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول عنده، وإنها وحدها كافية لأن يعيش بها الإنسـان في حذر دائم وخشية دائمة، ويقظة مستمرَّة، بحيث لا يغفل لحظة عن محاسبة نفسه، فهو يخشى أن يعصي الله، ويحاذر أن يلفظ بلسانه منكراً، أو أن يسيء لأحد من مخلوقات الله.
إن هذا القرب الإلهي، وهذه المعيَّة الربَّانية هي في مصلحة الإنسان، فهو بهذا الشعور يطمئِنُّ لحماية الله وعنايته، فيقطع رحلة الحياة وهو مطمئن، واثق بأن العناية الإلهية ترعاه في كلِّ حركة وفي كلِّ سكنة. أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل الله من ابن آدم أربع منازل: هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كلِّ دابة، وهو معهم أينما كانوا». ثمَّ ذكر سبحانه أنه مع علمه بابن آدم، وَكَّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاماً للحُجَّة، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله يتلقَّيان منه كلَّ كلمة وكلَّ حركة ويسجلانها، مع أن الله سبحانه غني عن استحفاظ الملكين لشدَّة قربه من عباده. فلا يلفظ الإنسان كلمة من فمه إلا والملكان حاضران لكتابة ثوابها أو عقابها، فقد روى محمَّد بن عمر وابن علقمة الليثي عن بلال بن الحارث المُزَني رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» (رواه مالك في الموطأ والترمذي)، وأخرج ابن أبي شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عند لسان كلِّ قائل فلْيتَّق الله عبدٌ ولينظر ما يقول» (أخرجه أبو نعيم في الحلية عن عمر رضي الله عنه )، وأخرج ابن أبي الدنيا عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: (لسان الإنسان قلم المَلك وريقه مداده)، ومع ذلك فقد روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل العبد حسنة كتبها ملك اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال ملك اليمين لملك الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبِّح أو يستغفر» (أخرجه البغوي وأخرجه ابن حجر في تغليف التعليق)، والحكمة في هذا أن الله لم يخلق الناس لتعذيبهم، بل خلقهم لتربيتهم وتهذيبهم، وإمهالهم للتوبة قبل محاسبتهم.
ثمَّ تحين ساعة الرحيل بالموت، الَّذي هو أشدُّ ما يحاول المخلوق البشري أن يتناساه، ولكن أنَّى له ذلك والموت طالب لا يملُّ الطلب ولا يخلف الميعاد؟: {وجاءَتْ سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ}. وهذا التعبير يوحي بأن النفس البشرية ترى الحقَّ كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك ما كانت تجهل منه وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان. إنها حقيقة واقعة مهما حاول الإنسان أن يتعامى عنها أو يتجاهلها، فإنه لابُدَّ أن يأتيه يوم، ينكشف فيه غطاء بشريته، ليرى لحظة خروج روحه من جسده، وأن كلَّ ما حادَ عنه جهلاً وعُتُوّاً، أصبح اليوم أمراً واقعاً وحقيقة ماثلة فيندم، ولاتَ ساعة مندم.
وبعدها تنقلنا الآيات نُقْلة سريعة إلى يوم الحساب والجزاء، وما يسبقه من النفخ في الصور إيذاناً بحلول هذا اليوم العصيب، الَّذي توعَّد الله الكفار أن يعذِّبهم فيه أشدَّ العذاب، ووعد المؤمنين المتَّقين أن يثيبهم فيه خير الثواب.
ففي هذا اليوم تأتي كلُّ نفس ربَّها عزَّ وجل، ومعها سائق من الملائكة يسوقها إليه، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر، وهو مَشهدٌ أشبه بالسَّوق إلى المحاكمة، ولكن في محكمة قاضيها خالق الكون. وهناك يقال للإنسان: لقد كنت في غفلة عن عالم الآخرة، فجلَّينا لك ذلك، وأظهرناه لعينيك حتَّى رأيته وعاينته فزالت عنك هذه الغفلة، فأبصرت ما لم تكن تبصره من الحق.
والخلاصة: إنَّ الله سبحانه مُطَّلع على السرائر، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقال ذرَّة، وإن الإنسان مراقَب في أعماله كلِّها لتُقام عليه الحُجَّة، وأن الموت حقٌّ والبعث حقٌّ والحسـاب حقٌّ، وأن لحظة الموت هي اللحظة الَّتي تتجلَّى فيها الحقيقة للإنسان دون لَبْسٍ ولاشك.
آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وما كان لنفسٍ أن تَموتَ إلاَّ بإذنِ الله كِتاباً مؤَجَّلاً ومن يُرِدْ ثَوابَ الدُّنيا نؤتِهِ منها ومن يُرِدْ ثَوابَ الآخرةِ نؤتِهِ منها وسَنَجزي الشَّاكرينَ(145)}
سورة المؤمنون(23)
وقال أيضاً: {حتَّى إذا جاءَ أحدَهُمُ الموتُ قال ربِّ ارجعونِِ(99) لعلِّي أَعملُ صالحاً فيما تركْتُ كلاَّ إنَّها كلمةٌ هو قائِلُها ومِن ورائِهِم برزخٌ إلى يومِ يُبْعَثون(100)}
سورة المنافقون(63)
وقال أيضاً: {وأنفِقُوا ممَّا رزقْناكُم من قبلِ أن يأتيَ أحدَكُم الموتُ فيقولَ ربِّ لولا أخَّرْتني إلى أَجَلٍ قريبٍ فأصَّدَّقَ وأكن من الصَّالحين(10) ولن يُؤخِّرَ الله نفْساً إذا جاء أَجَلُها والله خبيرٌ بما تعملون(11)}
/ ومضات:
ـ الحياة الأرضية معبر إلى حياة الخلود، وكلُّ مَنْ على هذه الأرض فان، والمهمُّ هو الاستفادة من رحلة العمر هذه، في تهيئة أرواحنا للحياة الأبدية، حيث حصاد زرعنا ونتاج أعمالنا، دون الالتفات إلى بريق الدنيا الكاذب وزخارفها الخدَّاعة.
ـ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، ومن يكفر به وبآلائه فإنه لا يضرُّه ولا ينقص من ملكه شيئاً، وأمَّا من آمن به حقَّ الإيمان وشكره على أنعمه فإنه سيُجزل عطاءه ويُحسن مثواه.
ـ الوقت سلاح ذو حدين، إن أحسنَّا استعماله ذلَّلنا الصعاب ووصلنا إلى الغاية المرجوَّة، وإذا أسأنا اسـتعماله خسـرنا وندمنـا، وإن عجلة الزمن لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وما كان لندم ـ مهما اشتدَّ على ما فوَّتنا أو ضيَّعنا من عمرنا ـ أن يعيد دورة الزمن لنأخذ فرصتنا من جديد.
ـ إن التجارب اليومية كثيرة وهي تمرُّ بنا وبسوانا، وعند كلِّ تقصير أو إهمال نبديه، تفوتنا فرص عديدة في الحياة قد نعجز عن استدراكها، وهكذا هو قانون الله تعالى، حيث أعطى الإنسان كلَّ الفرص للاستفادة منها في إعمار قلبه وعقله ومحيطه المسؤول عنه، فمن ضيَّعها فقد فاتته هذه الفرص، وليس أمامه سوى الندم والويل والثبور وفظائع الأمور.
/ في رحاب الآيات:
الموتُ هو النهاية الَّتي ينتهي إليها كلُّ حيٍّ على هذه الأرض، فلكلِّ نفس موعد مؤجَّل إلى وقت لا يعلمه إلا الله تعالى، ولن تموت نفس حتَّى تستوفي أجلها، وبذلك تستقرُّ حقيقة الأجل في النفس، فلا تنشغل بالتفكير فيه عن أداء واجباتها، والوفاء بالتزاماتها، وتكاليفها الإيمانية. فليس المهم إذاً موعد الموت، بل أن نكون جاهزين في كلِّ لحظة لهذا الرحيل، وذلك بأن نكون مستغفرين من ذنوبنا، تائبين منيبين إلى الله، مؤدِّين ما علينا من حقوق لعباده، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحَّتك لمرضك ومن حياتك لموتك» (رواه البخاري). فالإنسان الموفَّق هو الَّذي يصحو من سُبات الجهل، ويبتعد عن طريق الشرور والآثام في الوقت المناسب، وقبل أن يمضي قطار العمر، بحيث يبادر وما زال أمامه متَّسع من الوقت لترميم ما أفسد، ولتعويض ما فاته من الطاعات والعمل الصالح. فما الفائدة من أن يصحو المرء من سكرة ذنوبه ومعاصيه، ليقع في سكرة الموت، ويجد نفسه وقد أضاع ماله وشبابه وصحَّته وعمره.
إن المرء ليتمنَّى عندما تنتابه صحوة الموت، وينكشف له الغطاء عن عالم الآخرة، أن يُعطى ولو ساعة من حياة، ليَهَبَ كلَّ ما يملك من مال في سبيل الله، أو أن يعيد كلَّ ما اغتصبه من حقوق لأهلها، ولكنَّه موعد مع القدر الإلهي لا يستقدم لحظة ولا يستأخر: {وَلِكُلِّ أُمَّةٌ أَجَلٌ فإذا جاءَ أَجَلُهُم لا يَسْتأخِرونَ ساعةً ولا يَسْتَقْدِمون} (7 الأعراف آية 34). وماذا بوسع المُحْـتَضر أن يفعل فيما إذا طلب تأخير موته عن موعده المحدد ولو لساعات أو لأيام؛ بعد أن بدأت ظواهر عالم الغيب تتكشَّف له؟ وهل يكفيه أن يسجد طيلة مدة التمديد، صائماً مسبِّحاً لله ومستغفراً؟ وهل يكفيه إذا أُعطي مهلة تأخير التنفيذ، أن ينفق جميع ما يمكنه أن ينفقه في سبيل الله، كفَّارةً لذنوبه واستدراكاً لما تأخر عن إنفاقه؟. ذلك المال الَّذي ضيَّع عمره بحثاً عنه، وتهالُكاً على جمعه، هل هو مستعدٌّ الآن أن ينفقه في لحظة واحدة في سبيل إرضاء الله؛ بعد أن تحقَّق من وجود الحساب واليوم الآخر؟ وهل هو مستعدٌّ أن يعيد كلَّ مال حرام اغتصبه إلى أصحابه؟؟. أما وإن الروح لن تعود إلى الجسد في الحياة الدنيا بعد أن حان أجلها، وأنَّ الموت حقٌّ، والحساب حقٌّ، واليوم الآخر حقٌّ، فلماذا لا ننفق ما فرضه علينا الشارع الحكيم، أثناء حياتنا وبهدوء ورويَّة، وعلى أفضل وجه يرضاه الله، من أجل مصلحة المجتمع وتحقيق توازنه وسلامة بنيته الأخلاقية؟. إن من أهمِّ المعوِّقات عن مثل هذا الإنفاق هو تعلُّقنا بالمزيد من الكسب وتجميع الثروات، ورغبتنا بإشباع شهواتنا بالمزيد من المتع الحسيَّة، مما يغلِّف قلوبنا بأستار كثيفة تبعدنا عن حضرة الله، وعن تذكُّر تعاليمه الَّتي ما فُرضت علينا إلا لأجل سعادتنا في الدارين.
لذلك فإن الله جلَّ وعلا يردُّ على هذا السائل المتمني الرجوع إلى الدنيا كي يعمل صالحاً بقوله: كلا، وهو حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى طلبه ولا نقبل منه، فسؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو قول لا عمل معه، ولو رُدَّ لما عمل صالحاً، ولكان كاذباً في مقالته كما قال تعالى: {..ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنَّهم لكاذبون} (6 الأنعام آية 28).
فعودة الناس إلى الحياة الدنيا بعد الموت أمر مستحيل، فَمِنْ أمامهم حاجز يحول بينهم وبين هذه العودة وهو عالم البرزخ، قال مجاهد: (البرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة) وقال محمد بن كعب: (البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يُجازون بأعمالهم). وقد حذَّر الله تعالى عباده من هذه اللحظة العصيبة، لحظة الموت، وما وراءها من حياة البرزخ، وما بعدها من الحساب والعقاب، وجاء هذا التحذير على ألسنة الأنبياء وفي الكتب السماوية المقدَّسة، وحضَّ عباده على أن يلهجوا بذكره آناء الليل وأطراف النهار، وأن يؤدُّوا ما فُرِضَ عليهم من العبادات، فلا يشغلهم عن ذلك زخرف الحياة الدنيا من مال ونسب وولد وجاه وسلطان، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. وكذلك أمرهم أن ينفقوا أموالهم في أعمال البرِّ ووجوه الخير، وألا يؤخِّروا ذلك حتَّى يفجأهم الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، ويتمنَّوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوِّضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنَّى لهم ذلك، ولكلِّ نفس أجل محدود لا تتعدَّاه، والله خبير بأعمالهم، وهو مجزيهم عليها، إن خيراً فخير وإن شراً فشر؟. فمن جعل الدنيا همَّه فقد يصيبه حظٌ منها ويخسر نصيبه في الآخرة، لأن حيازة الإنسان على الدنيا ليس بموضع غبطة لأنها مبذولة للبَرِّ والفاجر على السواء، أمَّا من أراد الآخرة وجعلها همَّه فإنه يُوفَّى أجره كاملاً، ولا يُنْقصه ما قد يحصل عليه في الدنيا، وسيجزي الله الشاكرين الَّذين يدركون نعم الله ويؤدُّون حقَّها من الشكر.
هذه هي ميزات الإسلام الحنيف، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا مادِّيين يتكالبون على جمع حطام الدنيا، ولا أن يكونوا روحانيين يجرِّدون أنفسهم من لذَّات الحياة، ويدلُّ على ذلك قـوله تعـالى: {قـلْ من حـرَّمَ زينَـةَ الله الَّـتي أخـرَجَ لـعبـادِهِ والطَّيِّبـاتِ من الرِّزق..} (7 الأعراف آية 32). ومِنْ أكثر ما يقرِّب العبد من ربِّه، ويجعله يفوز برضوانه، رحمته بالبائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه الَّتي فيها سعادة الأمَّة، وإعلاء شأنها، ونشر الدعوة. جاء في الحديث الشريف: «لأن يتصدَّق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدَّق بمائة عند موته» (أخرجه أبو داود وابن حبان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رجل يارسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال صلى الله عليه وسلم : أن تتصدَّق وأنت شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمْهِل حتَّى إذا بلغت الحلقوم قلتَ: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» (رواه البخاري). ومن أَلْهَتْهُ الدنيا وشغلته عن حقوق الله والعباد، فقد باء بغضب من ربِّه، وخسرت تجارته، إذ باع خالداً باقياً، واشترى به فانياً زائلاً، فكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وهو الَّذي يَتَوفَّاكُم باللَّيلِ ويعلَمُ ما جَرَحْتُم بالنَّهار ثمَّ يَبعَثُكُم فيه ليُقْضى أجلٌ مسمَّىً ثمَّ إليه مرجِعُكُم ثمَّ ينبِّئُكم بما كنتم تعملون(60) وهو القاهِرُ فوقَ عبادِهِ ويرسِلُ عليكم حَفَظةً حتَّى إذا جاء أَحَدَكُمُ الموتُ توفَّتهُ رسلُنا وهم لا يُفرِّطون(61) ثمَّ رُدُّوا إلى الله مولاهُمُ الحقّ ألا له الحكم وهو أسرَعُ الحاسبين(62)}
سورة الزمر(39)
وقال أيضاً: {الله يَتَوفَّى الأنفُسَ حين مَوْتِها والَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فيُمْسِكُ الَّتي قضى عليها الموتَ ويُرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مسمَّى إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون(42)}
/ ومضات:
ـ إن في حالتي النوم والاستيقاظ اللتين يمارسهما الإنسان بشكل اعتيادي، خفايا كامنة، وسرّاً من أسـرار عظمة القدرة الإلهية قد لا يدركها الإنسان العادي. علاوة على ما يتبدَّى له من الفوائد والراحة الجسدية والنفسية الَّتي يجنيها من وراء ذلك، حيث تتجدَّد قواه، وتنتعش طاقاته وكأنه يُبعَثُ من جديد بعد كلِّ نوم ليكمل رسالته في هذه الحياة.
ـ إن القوَّة الإلهية الَّتي تأخذ الروح وتردُّها ما بين النوم والاستيقاظ، لها من الهيمنة والقدرة ما يمكِّنها من أن تراقب كلَّ عمل يقوم به صاحب هذه الروح وتسجِّله عليه. حتَّى إذا ما أزفت ساعة الرحيل الَّتي لا مردَّ لها ولا عودة بعدها إلى هذه الحياة، وآن أوان اليقظة الَّتي تتبع سكرة الموت، وما كان وراءها من سُبات طويل، وانكشف الحجاب المادِّي، وتجلَّى عالم الملأ الأعلى، رُدَّ المرء إلى ربِّه لينال حسابه بأسرع وأدق من أي حاسوب عرفه البشر، إنها قدرة الله الواحد القهَّار، والمهيمن الجبَّار.
/ في رحاب الآيات:
تتجلَّى عظمة الخالق في خلقه أمام أعيننا، بدءاً من الذرَّة وانتهاءً بالمجرَّة، في كلِّ ما يقع تحت حواسِّنا كشريط مرئي ومسموع، ينبِّه الإحساس، ويوقظ العقل والسمع والبصر. ومن آيات الله ودلائل عظمته، الموت المؤقت، الَّذي هو النوم؛ فهو صورة من صور الموت لما يعتري الحواس من غفلة، والإحساس من سهوة، والعقل من سكون، والوعي من سُبات. إنه الغيب في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان، هذا الغيب الَّذي يجعل البشر مجرَّدين من كلِّ حول وقوَّة حتَّى من الوعي، لأنهم في سُبات وانقطاع عن الحياة، إنهم في قبضة الله كما هُمْ دائماً، لا يردُّهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله. روي عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ في تحليله لعملية النوم أنه قال: (يخرج الروح عند النوم، ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة).
والآية الكريمة من سورة الزمر تشير إلى أن آليَّة الموت والنوم واحدة، وهي خروج الروح عن نطاق الجسد، غير أن الروح تعود إلى الجسد حين انتهاء مدة النوم، بينما تبقى في عالم الأرواح دون عودة إليه حين الوفاة. ولعل ماهيَّة النوم من أقوى البراهين الدالَّة على وجود سرٍّ عظيم للروح، يتجسَّد بأحاسيسها ومشاعرها وحركتها، وكذلك الرؤى الَّتي يراها النائم في حلمه، حيث يقابل أناساً آخرين، والَّتي يتحقَّق بعضها على أرض الواقع.
والمقصود من الآية أن الله يتوفَّى النفوس على وجهين: أحدهما وفاة كاملة دائمة هي الموت، والآخر وفاة مؤقَّتة هي النوم، لأن النائم كالميِّت في كونه لا يسمع ولا يبصر، ومنه قوله تعالى: {وهو الَّذي يَتَوفَّاكُم باللَّيلِ}. ويطلب الله منَّا أن نُمعن التفكير في واقعتي النوم والموت، لأن فيهما دلالات على قدرة ربِّ العالمين العظيمة الكامنة في استمرارية الحياة بعد الموت، ودليلاً على أن النوم والموت يختصَّان بالجسد دون الروح. وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهيَّة، وأنه يُحيي ويُميت، ويفعل ما يشاء، لا يقدر على ذلك سواه، ولهذا قال تعالى: {إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَتَفكَّرون} أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة على كمال قدرة الله وعلمه، لقوم يجيلون أفكارهم فيها ويعتبرون. وفي ذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل: باسمك ربِّي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكتَ روحي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».
ومن آيات عظمة الله أنه محيط بالإنسان، عالم بجميع تقلُّباته وتصرُّفاته، وحركاته وسكناته في الليل وفي النهار، في الظاهر والباطن، كما قال تعالى: {سواءٌ منكم من أَسرَّ القولَ ومَن جَهَرَ به ومَن هو مسْتَخفٍ باللَّيلِ وسارِبٌ بالنَّهار} (13 الرعد آية 10). وأعمال ابن آدم مسجَّلة في سجلات لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، فإذا رُدَّ إلى ربِّه بعد الموت الحقيقي وجد صحيفة أعماله بانتظاره، ليحاسَب على ما فعل من خير أو شر.
ولئن كان الإنسان وهو المخلوق الضعيف قد استطاع صنع آلات تسجيل صوتية فقط، أو مسموعة ومرئية معاً، تستطيع أن تستوعب الكثير من المعلومات، وضمن أفلام صغيرة للغاية (ميكروفيلم) يمكن أن تحفظ وثائق هامة يُرجع إليها وقت الحاجة، فكيف بقدرة الله في تسجيل أعمال الإنسان ما ظهر منها وما بطن؟ وحتَّى نوايا الإنسان فإنها لا تغيب عن علم الله تعالى؛ فله القوَّة والجبروت والتفوُّق على سائر مخلوقاته.
ومن تمام عدل الله تعالى أنه يرسل ملائكة تحفظ أعمال العباد ليحاسَبُوا عليها بدقَّة، وهي تحفظهم مما غاب عنهم من العالم غير المنظور، قال تعالى: {وإنَّ عَليكُم لحافِظين* كراماً كاتبين * يَعلَمُون ما تَفعلون} (82 الانفطار آية 10ـ12)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فيكم فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون» (رواه البخاري ومسلم) وهكذا نتحسَّس هيمنة الألوهية الحقيقية الَّتي تتجلَّى بالقوَّة القاهرة فوق العباد، والرقابة الدائمة الَّتي لا تغفل عنهم، وتقرِّر مصيرهم المحتوم الَّذي لا مفرَّ منه ولا مهرب، والحساب الأخير الَّذي لاشكَّ فيه.
والحكمة من كتابة الأعمال وحفظها أن المكلَّف إذا علم أن أعماله تُحفظ في السجلات، وتُعرض على الأشهاد، كان ذلك العلم دافعاً ومحرِّضاً له على عمل الصالحات، والابتعاد عن الفواحش والمنكرات. وهذا من شأنه أن يلقي ظلاًّ من الرقابة المباشرة على كلِّ نفس، ظلاًّ من الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة، بل إنَّ هناك رقيباً يُحصي كلَّ حركة ويحفظ ما يصدر عنها، وهذا التصوُّر كفيل بأن تستيقظ به جوارح الإنسان وتنجلي به بصيرته.
إن لكلِّ إنسان دوره على مسرح الحياة، فإذا انتهى من أدائه، انتقل إلى عالم آخر بمساعدة ملائكةٍ أَوْكَلَهم الله به، وهم لا يقصِّرون فيما يؤمَرُون، والحقيقة أن القابض لأرواح جميع الخلائق هو الله، وأن مَلَكَ الموت وأعوانه هم وسائط فحسب. ولاشكَّ أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، إنما هو انقطاع تعلُّق الروح بالبدن ومفارقته، وأخطر منه الغفلة عنه. وبعد الموت يأتي الحساب، والله وحده هو الَّذي يحاسب، لا يبطئ في الحساب ولا يهمل في الجزاء، ولا يُحاسب الناس على ما عملوا في الدنيا إلا بعد أن يُنزِّل عليهم شريعة منه، تبيِّن لهم ما يحلُّ وما يحرم، قال تعالى: {..وما كنَّا مُعذِّبين حتَّى نَبعثَ رسولاً} (17 الإسراء آية 15) فإذا لم ينظِّموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم، ويؤدُّوا شعائرهم وعباداتهم وفق هذه الشريعة، فإن هذا أوَّل ما سيحاسبهم عليه. وهو يحاسب الخلائق في أسرع زمن وأقصره، لا يشغله حساب عن حساب، ومعنى المحاسبة تعريف كلِّ واحد ما يستحقُّه من مثوبة أو عقوبة، لذلك كان على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن يناقَشَ الحساب لأن من نوقِشَ الحساب فقد هلك.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {أينما تكونوا يُدْرِككُّمُ المَوتُ ولو كُنتم في بُروجٍ مُشَيَّدَةٍ وإن تُصبْهُم حسنةٌ يَقولوا هذه من عِندِ الله وإن تُصبْهُم سيِّئَةٌ يقولوا هذه من عِندِكَ قُل كلٌّ من عِندِ الله فمَالِ هؤلاءِ القومِ لا يكادونَ يفقَهونَ حديثاً(78) ما أصابكَ من حسنةٍ فَمِنَ الله وما أَصابكَ من سيِّئةٍ فمن نفسِكَ وأرسلناكَ لِلنَّاسِ رسولاً وكفى بالله شهيداً(79)}
سورة آل عمران(3)
وقال أيضاً: {كلُّ نفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وإنَّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يومَ القيامةِ فَمَنْ زُحزِحَ عن النَّارِ وأُدْخِلَ الجنَّةَ فقد فازَ وما الحياةُ الدُّنيا إلاَّ متاعُ الغُرورِ(185)}
/ ومضات:
ـ الإنسان المؤمن يعرف أين تصل تطلُّعاته، ولا يغفل عن ذكر الموت لحظة واحدة، لذا فهو في استعداد مستمرٍّ لمرحلة ما بعد الموت، ممَّا يبعده عن عذاب الجحيم، ويدخله في رحمة الربِّ الكريم.
ـ تطيَّر بعض المنافقين برسول الله صلى الله عليه وسلم واتَّهموه بأنه سبب للشرِّ الَّذي يصيبهم، مع اعترافهم بأن الله تعالى هو مصدر الخير لهم. ويدفع الله عزَّ وجل هذه التهمة عن رسوله فيجيبهم بأنه هو خالق الأقدار كلِّها، خيرها وشرِّها، ولكن اختيار الإنسان هو الَّذي يؤهِّله للقدر الَّذي يصيبه، فمن اتجه نحو الخير قادته خطواته إلى الخير، وكان الله هو الموفِّق والهادي، ومن اتجه إلى الشرِّ، فقد سلَّم القيادة إلى نفسه وأهوائه الَّتي ترمي به إلى الهلاك، فيكون ضحيَّة نفسه الأمَّارة بالسوء لأنه ابتعد عن نور الله وهدايته.
ـ هيـَّأ الله تعالى فُرَصَ الخير لعموم الناس، إلا أنَّ إعراض الإنسان عنها يؤدِّي به إلى الإساءة لنفسه.
/ في رحاب الآيات:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكثروا ذكر هادم اللذات» (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ) كلام مختصر جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة. فالموت حقٌّ ولكنَّنا نتغافل عن وجوده منساقين وراء الهوى، ومنشغلين بحبِّ الدنيا الَّذي هو رأس كلِّ خطيئة، والأَوْلى أن تستقرَّ هذه الحقيقة في نفوسنا، حقيقة أن الحياة على الأرض موقوتة، محدودة الأجل، وأن الكلَّ ميت لا محالة، لا فارق بين نفس وأخرى في تذوُّق هذه الجرعة، الَّتي سيطوف بها الساقي علينا جميعاً، إنما الفارق في المصير الَّذي يجب أن يُحسبَ له ألف حساب. والموت ينزل بالإنسان حيثما كان، ولا علاقة له بحصانة المكان الَّذي يحتمي به أو قلَّة حصانته، فقد يقتحم المرء غمار الحرب ولا يُصاب بأذى، وقد يموت المعتصم في البروج المشيَّدة. والبروج كلمة ذات مدلول واسع، فقد تدلُّ على القلاع المنيعة، وقد يُقصد بها الأقنعة النفسية الَّتي يختبئ وراءها كثير من الناس، كاعتقاد القوَّة والصحَّة في الذات، أو سعة الغنى أو غير ذلك من الأمور الَّتي يغترُّ بها الإنسان، ولكنَّ هذا كلَّه لا يجدي أمام الموت، ومهما كانت الدلالة فالنتيجة واحدة، وهي أن الموت حقٌّ ولا مفرَّ منه. ويعني ذلك أن يأخذ الإنسان حذره وحيطته، وكلَّ ما يدخل في طوقه من استعداد ووقاية لحماية نفسه، الَّتي هو مؤتمن عليها، فالإنسان مُلزمٌ بالعناية بنفسه وصحَّته وعليه ألا يوردها موارد التهلُكة، لكن إذا جاء الأجل فلا يحول دون الموت حائل.
أما بعد الموت فلابدَّ من الحساب، حيث تُوفَّى كلُّ نفس أجرها كاملاً يوم القيامة، فمن نُحِّيَ عن النار وأُبعد عنها، وأُدخل الجنَّة فقد فاز بالسعادة السرمدية والنعيم الخالد، ولفظ (زُحزح) ذو إيحاء، فكأن للنَّار جاذبية تشدُّ إليها من يقترب منها، فهو بحاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً، ليخلِّصه من براثنها وحبائلها، ويدخله الجنَّة وعندئذ يكون قد فاز.
إن مباهج الدنيا ليست إلا متاعاً من شأنه أن يخدع الإنسان، ويشغله عن تهذيب ذاته بالمعارف والأخلاق الَّتي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة. فعلى العاقل أن يحذر من الإسراف في هذه المباهج، وأن يُعرِضَ عن إنفاق المال فيما لا يفيد، والأجدر به أن يسعى لكسب عِلْمٍ يرتقي به عقله، أو عمل صالح ينتفع منه وينفع به غيره مع إصلاح السريرة وخلوص النيَّة، قال بعض الصالحين: [عليك نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر].
وقد أوحت النفس الأمَّارة بالسوء للمنافقين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسبوا إليه كلَّ ضرر يصيبهم، فكانوا إذا أصابتهم حسنة من نصر أو غنيمة، قالوا هذه من جهة الله ومن تقديره، ولِما عَلِمَ فينا من الخير، وإن أصابتهم سيئة من مرض أو جوع، قالوا هذه بسبب اتِّباعنا محمَّداً ودخولنا في دينه. وقد أرادوا بذلك تجريح قيادة الرسول عليه السَّلام في محاولة للخلاص من التكاليف الَّتي يأمرهم بها، ونتيجة لسوء تصوُّرهم وقصور فهمهم لحقيقة ما يجري في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله، وطبيعة أوامر الرسول لهم، وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى.
فنسبة الحسنة أو السيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر، نسبة غير حقيقية، تدلُّ على عدم فهمهم مثل هذه الأمور، ولو فهموا لعلموا بأن الكلَّ من عند الله. أما المؤمن الحقيقي فهو يجد الله محيطاً به في دائرة حياته كلِّها، لذلك يتقيَّد بقوانينه ويقطف ثمراتها، فإن أجاد التقيُّد والالتزام، أصابته الحسنات والخيرات، وإن قصَّر أو أخطأ في التنفيذ، ناله سوء تقصيره.
فيا أيُّها الإنسان! ما أصابك من خير، فإنه تفضُّل من الله سبحانه، وكلُّ ما تفعله من الطاعة، لا يكافئ نعمة واحدة من نِعَمِ الله عليك، وما أصابك من بليَّة، فسببه انقيادك لأهواء نفسك، لأن النفس الأمَّارة بالسوء هي الَّتي تجلب المصائب على الإنسان بما تأمره به من المعاصي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» (أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ) وقال عمر رضي الله عنه : (إنْ أحسنْتَ فَمِنَ الله، وإن أخطأت فمن الشيطان). وينبغي للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها، لأنها تصيبه لجهله بالسنن الَّتي وضعها الله، لالتماس المنافع من أسبابها، واتِّقاء المضارِّ بالبعد عنها.
ويبيِّن الله تعالى حدود وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها التبليغ والهداية، ولا علاقة له بإحداث خير أو إبعاد شرٍّ عن الناس، فهذا من أمر الله وحده، ويبيِّن كذلك أنه أرسله للناس جميعاً لا للعرب فحسب، ليبلِّغ كلامه، ويهدي الناس إلى صراط مستقيم، وكفى بالله شاهداً لأحبَّائه وأوليائه.
سورة الفجر(89)
قال الله تعالى: {ياأيَّتها النَّفسُ المطمئنَّة(27) ارجعي إلى ربِّكِ راضيَةً مرضيَّة(28) فادْخُلي في عبادي(29) وادْخُلي جنَّتي(30)}
/ ومضات:
ـ عندما يُنجز الإنسان عملاً مميَّزاً فإن نفسه تطرب لسماع كلمات الثناء، وهاهو ذا المؤمن يتلقَّى التكريم والثناء من الله عزَّ وجل، بعد أن تنتهي الملائكة من تسجيل أعماله الَّتي عملها في الحياة الدنيا، ويبدأ رحلة الخروج من الجسد، حيث يخاطِبُ الله تعالى روحه الطاهرة بالقول: {ياأيَّتها النَّفس المطمئنَّة} فيزرع فيها الاطمئنان والأمن والأمان، لتعود مكلَّلة بالرضا إلى ديار الخُلد مع عباد الرحمن المكرمين.
/ في رحاب الآيات:
كيف يمكن للنفس البشرية أن تصل إلى مرحلة الاطمئنان بالله، وإلى مرحلة الرضا الكامل عن الله وبالله عزَّ وجل؟. إن الأنبياء والأولياء الصالحين يمضون حياتهم في عبادة مستمرَّة، وفي اتصال مستمرٍّ بحضرة الله، وعلى الرغم من ذلك كلِّه نجد لسان حالهم يقول: (اللهمَّ يامقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك وأوصلني إلى شاطئ الأمان بأمان). فالوصول إلى درجة الطمأنينة والاستقرار، هو أرفع وسام يمنحه ربُّ العالمين لعباده المؤمنين الأخيار الأطهار؛ عندما يُعْلمهم بأن لهم مقعد صدق عند مليك مقتدر، فيشعرون بالرعاية الكاملة من قبل حضرة الله، وأنهم مقرَّبون ومُصْطَفَوْن، وأنهم بأعين الله وعنايته يسيرون، ومع ذلك فإن الشكر يدفعهم لطلب المزيد من الوصال، والخوف يمنعهم من أن تغفل قلوبهم لحظة عن الاتصال، أو أن يوقعهم الشيطان في أوهام أو ظلمات. هذه النفس وهي تغادر قفصها البشري، تنطلق مغرِّدة فرحة، مستبشرة في رحاب الله وأمنه، وهي تُنادَى من الملأ الأعلى: {ياأيَّتها النَّفس المطمئنَّة} في روحانية وتكريم؛ لقد استيقنتِ الحقَّ، فلم يخالجك شكٌّ، ووقفت عند حدود الشرع، فلم تزعزعك الشهوات، ولم تضطرب بك الرغبات، لذلك لن يلحق بك اليوم خوف ولا فزع، فارجعي إلى دار الخلود بعد غربة الأرض، ارجعي إلى ربِّك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة، راضية عما عملت في الدنيا، مرضيّاً عنك، إذ لم تكوني ساخطة، لا في الغنى ولا في الفقر، ولم تتجاوزي حدود الشرع فيما لك من حقٍّ، وما عليك من واجب، فادخلي في زمرة عبادي المكرمين.
والنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة يشرق بعضها على بعض، وكأنها تُربَّى في هذه الدنيا بالابتلاءات، وتُزيَّنُ بالمعارف والعلوم، حتَّى إذا فارقت الأبدان جُعلت في أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودَّة، وحسن صلة ومحبَّة. والنفس المطمئنَّة تهتزُّ طرباً وهي تدخل في مجموعة المقرَّبين، حيث أُعدَّت لهم جنان الخلد والسرور، وحَسُنَ مثوى العاملين. أخرج الترمذي عن أبي عامر رضي الله عنه قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: «قُرِئت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ياأيَّتها النَّفس المطمئنَّة ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضية} فقلت: ما أحسن هذا يارسول الله! فقال: ياأبا بكر أما إنَّ المَلَكَ سيقولها لك عند الموت». [اللهمَّ ونحن كذلك بفضلك وإحسانك].