الفصل الرابع:
حشراتٌ... بل آيات
سورة الأنعام (6)
قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون(38) }.
ومضات:
ـ الإنسان ليس الكائن الحضاري الوحيد في هذا الكون، بل إن كلَّ ما حوله ممَّا خلق الله تعالى يعيش حياة حضارية بشكل ما مختلف عن الآخر، وهذا الأمر ينطبق على كلِّ مخلوق يدبُّ في الأرض أو يطير في السماء.
ـ أثبتت الدراسات والتجارب الحديثة أن لكلِّ نوع من الحشرات والطيور والحيوانات أسلوبَ تفاهم خاصاً بها، وكأنه لغة تداول بينها، ويكون ذلك عن طريق الرقص، أو احتكاك القرون الشعرية، أو بالأمواج تحت الصوتية، أو بإفراز رائحة معينة. وهذا ما أثبته القرآن الكريم، وهذا ما علَّمه سبحانه وتعالى لسليمان وداود عليهما السَّلام.
ـ عالم الحشرات عالم مليء بالأسرار، ودلائل الإعجاز، فلكل منها قصة وسلوك مثير ومدهش. وقد اخترنا بعضاً منها ممَّا ورد ذكره في القرآن الكريم، لعلَّنا بما أوردناه نستثير همم من رضوا بالحياة الدُّنيا؛ متخاذلين أو متكاسلين، ونصحوَ من سبات عميق، فلا تكون الهوام أشدَّ عزيمة من العوام.
سورة النَّحل(16)
قال الله تعالى: {وأوحى ربُّكَ إلى النَّحل أن اتَّخذي من الجبالِ بُيوتاً ومن الشَّجرِ وممَّا يَعْرِشون(68) ثمَّ كُلِي من كلِّ الثَّمراتِ فاسْلُكي سُبُلَ ربِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ من بطونِها شرابٌ مختلِفٌ ألوانُهُ فيه شِفاءٌ للنَّاسِ إنَّ في ذلك لآيةً لِقومٍ يتـفكَّرون(69)}
ومضات:
ـ ما أجمل أن نتَّخذ من حياة النَّحل وكفاحه وتعاونـه، وإنتاجه الطيِّب الشهي، نموذجاً نقتدي به، ونتعلَّم منه الإخلاص والتضحية، والإيثار وفناء الأنا، في سبيل حياة المجموعة وسلامتها.
ـ كلَّما تقدَّم علم الأغذية، نرى للعسل مكانة الصدارة من حيث قيمته الغذائية، وفعاليَّته المدهشة في معالجة كثير من الأمراض، وهذا مصداق قوله تعالى: {فيه شفاءٌ للنَّاس}.
في رحاب الآيات:
يعرض القرآن الكريم أمثلة قريبة من واقع حياتنا، لنتعرَّف من خلالها عظمة الخالق، ولنأخذ دروساً نستفيد منها في بناء مجتمعنا. ولعلَّ في حياة النَّحل ما يكفي عظة ودرساً للإنسان، فإذا دخلنا عالمه أدهشنا ما فيه من نظام، فمجموعة النَّحل تتحرَّك بإلهام من الغريزة الَّتي أودعها الخالق لديها، وهي تعمل بدقَّة عجيبة قد يعجز عن مثلها كثير من البشر، سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفَّى. وهي تتَّخذ بيوتها، بوحي من الله عزَّ وجل، في الجبال والشجر، وما ارتفع من الكروم وغيرها، وقد ذلَّل الله لها سبل الحياة، وجعـل نتيجة جهدهـا، غذاءً شـهيـاً ودواءً شـافيـاً. وكـلُّ هـذه المهمَّـات تقوم بها إناث النحل ـ العاملات ـ ولهذا خاطبهنَّ الله بقوله: {أَنِ اتَّخِذِي}، ولو عمل ذكر واحد في شؤون الخلية لكان الخطاب بصيغة المذكَّر؛ وهذا من إعجاز القرآن الكريم.
وقد تتبَّع العلماء أحوال النَّحل، وكتبوا فيها المؤلفات الكثيرة، وتوصَّلوا من ذلك إلى أمور عديدة منها:
1 ـ يعيش النَّحل ضمن مجموعات كبيرة، وتسكن كلُّ مجموعة منها في بيت خاصٍّ يسمى خليَّة.
2 ـ كلُّ خليَّة يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة، وعدد يتراوح بين أربعمائة نحلة وخمسمائة تسمَّى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفاً إلى خمسين ألف نحلة تسمَّى العاملات.
3 ـ تعيش هذه الفصائل الثلاث ـ في كلِّ خلية ـ عيشة تعاونيَّة على أدقِّ ما تكون نظاماً، فعلى الذكر تلقيح الملكة، وعلى الملكة وضع البيض، ويتمُّ التلقيح دائما في الطبيعة وفي الهواء الطلق، حيث تطير الملكة محدثة لصوت تنجذب إليه الذكور، ومفرزة لمادَّة ذات رائحة خاصَّة؛ حيث يُلقِّحها أسرعها طيرانا، ولكنَّه سرعان ما يلقى حتفه من جرَّاء عملية التلقيح هذه. وعلى العاملات خدمة الخليَّة ومن فيها؛ فتنطلق في المزارع طول النهار لجمع الرحيق، ثمَّ تعود إلى الخلَّية فتفرز عسلاً يتغذَّى به سكَّان الخليِّة، وتفرز الشمع وتبني به بيوتاً تخزن في بعضها العسل، وتربِّي الصغار في بعضها الآخر، كما عليها أن تنظِّف الخلية، وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها الدفاع عن الملكة والمملكة وحراستها من الأعداء. وتهتمُّ العاملات بخزن العسل وغبار الطلع فيجعلنه في خلايا، ثمَّ يُحكمن إغلاقها، ويتولَّين صنع أقراص الشمع من المادَّة الشمعية، الَّتي تفرزها غدد أربع تقع بين قطع البطن، وتكون هذه المادَّة أوَّل الأمر سائلة، ثمَّ تتصلَّب بتعرُّضها للهواء، فتتحوَّل إلى قشور تلوكها العاملة بالأجزاء الساحقة من فكَّيها، ثمَّ تبني بها سلسلة من الخلايا السداسية الشكل، ذات القعر المحدَّب والمتَّصل بعضها ببعض، وهذا الشكل يعطي أكبر فراغ ممكن بأقل كمية من مواد البناء، وهو في الوقت نفسه من أشدِّ الأشكال متانة وقوَّة. ويتألَّف من مجموع هذه الخلايا القرص. ومن مهام العاملات أيضاً دعم جدران الخلية لتكون صامدة، وهن يستعنَّ على ذلك بالمواد الراتنجية، الَّتي يجمعنها من أشجار الصنوبر والتنوب وبراعم الحور.
أمَّا كيفية صنع العسل، فالعاملات يلعقن رحيق الأزهار، حتَّى إذا وصل إلى حواصلهنَّ، امتزج بالأنزيمات اللعابية وتحوَّل إلى عسل، ثمَّ إنهنَّ يُسلِّمن هذا العسل إلى عاملات أصغر منهنَّ سنّاً، ليقمن بتكثيفه باستبعاد الماء عنه، وحين يصبح عسلا مركَّزاً يضعنه في خلايا الأقراص، ومن ثمَّ يُجففنه بأجنحتهن. وقد أثبت الطبُّ الحديث ما للعسل من فوائد، حيث تبيَّن أنه يتركب من: 20% ماء، 70% سكريات بسيطة غلوكوز وفركتوز، 5% سكريات مركَّبة وخاصَّة سكروز، 5% بروتينات وأملاح معدنية، وأنزيمات هاضمة، وأحماض عضوية، ومضاد حيوي، ومركَّبات عطرية، وصبغيات مختلفة، وحبوب طلع.
ويتوافر الغلوكوز في العسل بنسبة أكبر من وجوده في أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله مستمرٌّ بتقدُّم الطبِّ، فيُعْطى بصفته مقوياً ومغذياً، ومعالجـاً دوائيا. والعسل يفيد بشكل عامٍّ في معالجة الحروق، ولسعات الحشرات، والجروح الملتهبة، والآفات الجلدية. كما أنه مضادٌّ للجراثيم والتعفُّنات، ويُستخدم في معالجة الالتهابات وخاصَّة الرئوية منها والكلوية والكبدية والقلبية والحصيَّات المرارية، وفي حالات الإرهاق والضعف العام، وهو مضادٌّ للغازات والتخمُّرات والتهاب القولون، وطارد للديدان. كما يُستخدم العسل في معالجة بعض أمراض العيون وخاصة التهاب القرنية، وفي بعض الالتهابات المزمنة في الأنف والبلعوم وجفاف الحنجرة.
لقد عرفت خواص العسل وفوائده، في العصور التاريخية القديمة، سواء عند الفراعنة، أو الرومان أو الهنود أو العرب... ولاتزال هذه المعرفة تزيد وتتطوَّر، مع وضع دراسات لهذه المعرفة حسب أنواع العسل. والَّذي لا خلاف عليه أن العسل هو معالج وشافٍ لبعض الأمراض، والشيء الأهمُّ من ذلك أنه يقي من الأمراض ويقوِّي جهاز المناعة في الجسم، وكلتا الصفتين أشار إليهما رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم حيث قال: «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» (أخرجه ابن ماجه وابن مردويه والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه). وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : «من لعق العسل ثلاث غدوات كلَّ شهر لم يصبه عظيم من البلاء» (أخرجه ابن ماجه وابن السني والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وللعسل أنواع منها الأحمر والأبيض والأصفر، والجامد والسائل، وفيه دليل على أن القدرة الإلهية نوَّعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي، ونجد أن كلَّ نوع منه يفيد في حالة أو حالات معينة.
والآن، وبعد أن عرفنا الدقَّة اللامتناهية لحياة النَّحل، من حيث توزيع الصلاحيات والاختصاصات، وعلمنا أن الكلَّ مؤهَّل لما يقوم به من عمل، وينفِّذه بإخلاص وتفانٍ، فإذا اعتدى على جماعة النَّحل طارق غريب، قامت كلُّها يداً واحدة للدفاع، متماسكة متفانية مضحِّية بحياتها، مقابل سلامة مملكتها ومليكتها. فهل لنا أن نستخلص العبر والنتائج، حيث يرينا الله تعالى درساً عملياً نموذجياً في سلوك حشرة ضعيفة؟ فكيف بالإنسان العاقل، المدرك، المتكامل البنيان الروحي والفكري؟ فهل يصعب عليه أن يتَّخذ من هذا المخلوق البسيط، مثالاً له، في التعاون والتفاني في سبيل الأسرة الإنسانية؟.
سورة النَّمل (27)
قال الله تعالى: {حتَّى إِذَا أَتَوا عَلَى وَادِ النَّمل قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمل ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُون (18)}
ومضات:
ـ كما في النَّحل، رصد العلماء، طرق معيشة النَّمل، وأدهشهم عملهم الجاد الدؤوب في تحصيل أرزاقهم، متعاونين مع بعضهم بعضاً، موزِّعين الوظائف والمهمَّات بينهم بكلِّ دقَّة وجدِّية.
ـ لم تفكِّر النَّملة في إنقاذ نفسها بشكل أناني، بل حذَّرت أصحابها من تحطيم سليمان وجنوده لهم، مما يدُّل على روح الجماعة والتعاون والتفاني المفطورين عليها.
في رحاب الآيات:
أثبت الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن للنَّمل لغة تخاطب وتفاهم فيما بينهم.. كما عرفنا منها أن للنَّمل نظاماً دقيقاً في معاشه، فهو له قائد يوجِّهه ويأمره، وله مساكن يعيش فيها. هذه المساكن مقسَّمة إلى غرف معيشة، ومستودعات لخزن المؤن، ولها دهاليز معقَّدة، عليها حراسة مشددَّة على مدار الساعة. ويجتمع من تلك المساكن قرى كاملة، وقد تبني عدَّة قرى، كأنها مستعمرات تصل بينها طرق ومسالك، بحيث تهتدي بها إلى أعلى الأرض. كذلك هناك نوع آخر من النَّمل يبني بيوته فوق الأرض، من أوراق الأشجار وأغصانها، ويكثر هذا تحت شجر الصنوبر، أو ينحت هذه البيوت في الأشجار العتيقة، كما يتَّخذ الإنسان من الجبال بيوتاً. ومع أن النَّمل لا يملك الآلات والعُدَد، فإنه يبني أبراجا في غاية الدقة والإحكام، مستعينا بمقصِّ فمه الحاد، حيث يمضغ ما يقصُّه حتَّى يصبح كالعجين، ولعلَّ ما بناه قدماء المصريين في مساكنهم وأهراماتهم كان تقليداً للنمل.
وللنَّملة رأس ووسط وذنب أسطواني، ولها ستُّ أرجل تقدر بها على الجري السريع، ولبعضها أجنحة للوثوب، ولها خمس أعين؛ عينان مركَّبتان على جانبي الرأس مكوَّنتان من أعين بسيطة تعدُّ بالمئات، وهي ملتئمة الوضع والتركيب والترتيب بحيث ترى وكأن لها عينا واحدة، وثلاث العيون الباقية موضوعة على هيئة مثلث، يعلو العينين المركبتين، وهي أعين بسيطة لا تركيب فيها، غير أن عيون الذكر أكبر من عيون الأنثى، ومتقاربة من بعضها بسبب قوَّة المهام المنوطة به.. ولكلِّ نملة قرنان طويلان كالشعرتين، بهما تحسُّ الأشياء، ويقومان مقام اليدين والرجلين والأصابع في الحمل؛ ويسميان الحاسَّتين.
وتضع إناث النَّمل بيوضها في محال تقرب من مساكن الكبار، وتخصَّص لها مربيات يلاحظهن ليلا ونهارا، مع تأمين الحرارة المناسبة لها، حتَّى تتفتَّح البيوض وتخرج دودا صغيرا لا جناح له ولا أرجل، تلاحظه المربيات وتطعمه، حيث يأكل بشراهة لعدَّة أسابيع، ثمَّ يغزل بفمه، وينسج على نفسه كرة من الحرير وينام. فإذا مضت أيام، نهض من رقدته، وقطع خيوط الكرة، وقرض حريرها المحيط به، تساعده المربيات في ذلك، وتقوم بتنظيفه، حيث تظهر أرجله وأجنحته، والنَّمل بهذه المناسبة يحبُّ النظافة حبّاً مفرطاً.
يعمل النَّمل في قراه بموجب انضباط مدهش وصارم للغاية، وبإشراف النَّمل الَّذي كبرت رؤوسه وعظمت خراطيمه. والصبية الصغار تبقى في الديار تحفر الحجرات، وتشكِّل السراديب وتنمو وهي فيها، بالإضافة إلى وجود المربيات، وكذلك النَّمل المسؤول عن الحراسة أو التنظيف أو حفظ المؤن وتوضيبها الَّتي يحضرها النَّمل العامل. وهو يأبى كلَّ الإباء أن يطَّلع أحد على أسراره، أو يتطفَّل عليه لمعرفة نظامه العجيب في الحياة.
وقد وجد العلماء أن النَّمل حين يغادر قريته، يرسل في كلِّ مسافة معيَّنة مـادَّة كيميائية لها رائحة صغيرة حتَّى يستطيع التعرُّف إلى طريق عودته، وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادَّة لم يستطع النَّمل الاهتداء إلى طريق عودته.. فإذا رأت النَّملة شيئا مفيدا لا تقوى على حمله نشرت حوله بعض الرائحة، وأخذت منه قدرا يسيرا، وكرَّت راجعة إلى أخواتها، وكلَّما رأت واحدة منهن أعطتها شيئا ممَّا معها لتدلَّها على ذلك، حتَّى يجتمع على ذلك الشيء جماعات منها، يحملونه ويجرُّونه بجهد وعناء متعاونين في نقله؛ علماً بأن للنَّمل قوى عضلية بالنسبة إلى حجمه تزري بقوَّة أعظم المصارعين والرياضيين، بحيث تستطيع النَّملة الواحدة أن تحمل بين فكَّيها حملا أثقل من وزنها بثلاثة آلاف مرَّة من غير عناء. كما وجد العلماء أن النَّمل ينشر عند موته رائحة خاصَّة تُنبِّه بقيَّة الأفراد إلى الإسراع بدفنه قبل انجذاب الحشرات الغريبة إليه.. وعندما قام أحد العلماء بوضع نقطة من هذه المادَّة على جسم نملة حيَّة سارع باقي النَّمل إليها ودفنوها وهي حيَّة.
والنَّمل من الحيوانات والحشرات القليلة الَّتي أودع الله فيها غريزة ادِّخار الغذاء. فهو يحتفظ بالحبوب في مسكنه الرطب الدافئ تحت الأرض دون أن يصيبها تلف.. ويتفنَّن النَّمل بطرق الادِّخار حسب أنواعه، فهو يقطع حبَّة القمح نصفين، ويقشِّر البقول، لئلا تنبت من جديد، أو يتركها عدَّة أسابيع في تهوية وحرارة معينة ويسمح لها بعدها بالإنبات، فتنمو ويظهر لها جذر وساق صغيران، حيث يقوم بقطعها وتجفيفها، لتصبح مادَّة جاهزة يتغذَّى عليها طوال مدَّة الشتاء، كما أنه يقوم بتسميد أوراق الأشجار المقطَّعة ببراز نوع معيَّن من الفراشات، وعندها ينمو عليها نوع من الفطريات يسمى (خبز الغراب)، يقوم النَّمل بالتغذِّي عليه. كما أن بعض أنواع النَّمل يجلب بيوض المنِّ إلى عشِّه، وعندما يفقس يحمله إلى الخارج ويضعه على النباتات الَّتي تفرز الندوة العسلية، ثمَّ يعيده إلى عشِّه في الليل ويحلب منه هذه الندوة العسلية، حيث تعطي كلُّ حشرة ما يقارب ثمانٍ وأربعين نقطة من هذه الندوة خلال أربع وعشرين ساعة، علما بأنه يبني لهذه الحشرات حجرات خاصَّة لتسكن فيها.
ويعرف النَّمل بعضه بغير علامة، والتوادد موجود بين أهل القرية الواحدة فقط، وماعدا ذلك فعداء مستحكم، حيث يمكن أن تنشب الحرب بين عدَّة قرى من النَّمل، فينتظم في صفوف قتالية وتحدث المعارك، ويقع القتلى والجرحى، ويتَّخذ النَّمل المنتصر الأسرى ليجعلهم خدماً في قراه، ويقوم بدفن موتاه في مقابر خاصَّة به، كما ينظِّف أرضه من جثث أعدائه، حتَّى قيل بأن النَّمل أقرب الحشرات إلى الإنسان في أفعاله. وقد يصبح النَّمل قوَّة مزعجة مهلكة، شديدة الخطر على الإنسان نفسه، حيث يمكن أن يقرض دعائم المساكن الخشبية؛ حتَّى تتداعى عروشها، أو يكوِّن مستعمرات في دور الكتب، حيث يقوم بإتلاف الورق أكلا وتمزيقا.
ومن طريف ما ورد في السُنة عن سلوك النَّمل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا النَّملة فإن سليمان عليه السَّلام خرج ذات يوم يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنّا خلقٌ من خلقك لا غنى لنا عن فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين اسقنا مطراً تُنبت لنا به شجراً وتُطعمنا به ثمراً، فقال سليمان: ارجعوا فقد كُفيتم وسُقيتم بغيركم» (رواه الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) .
وروي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه خرج في نزهة إلى بستان، ثمَّ عاد إلى بيته فوجد نملة قد علقت على ثيابه، فقال: لقد أَبْعَدْنَا عليها المسير، ثمَّ حملها وعاد بها إلى البستان الَّذي كان فيه.
سورة الحج (22)
قال الله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذينَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلو اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإنْ يَسْلُبهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ (73)}.
سورة البقرة (2)
وقال أيضاً: {إِنَّ الله لا يَسْتَحْي أَنْ يَضرِبَ مَثلاً مَا بَعُوضةً فَمَا فَوْقَهَا..(26) }.
سورة الأعراف (7)
وقال أيضاً: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والـجَّرَادَ..(133) }
سورة القمر (54)
وقال أيضاً: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأنَّهُمُ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) }.
ومضات:
ـ لقد أكثر الله تعالى من ضرب الأمثلة في القرآن الكريم، ومن ذكر بعض الحشرات من أمثال الذباب والبعوض والجراد، ممَّا أدَّى إلى استهزاء المشركين وتأنُّفهم، حتَّى قالوا: ما بال ربُّك يكثر من ذكر أمثال هذه الحشرات الدنيئة، وماذا يريد من ذلك؟! وما دروا أن الإنسان قد يكون أشدَّ دناءة من أمثال هذه الحشرات، ولو أدركوا سرَّ تكوينها وغرائب حيـاتهـا، رغم صغر حجمها، لأوصلهم هذا الإدراك إلى عظمة الله وقدرته فيما خلق.
ـ لعلَّ العرب في جزيرتهم أكثر النَّاس تعايشاً مع الجراد ومشاكله.. وبسبب هذا التآلف فإنهم لا يلقون بالاً لآليَّة هذا النَّهِم المفرط في الشراهة.
ـ امتلأت الأرض بأرزاق الذباب والبعوض والجراد، وبما أنها لا تعيش للعام القادم، لذلك لم يضع الله في فطرتها غريزة الادخار، أو تشييد مساكن دائمة تأوي إليها.
في رحاب الآيات:
يُعَدُّ الذباب بالرغم من قذارته ودناءته آيةً من آيات إعجاز الله تعالى، ولولا ذلك لما ذكره في القرآن وتحدَّى به الكفار. ففي الذباب من الغرائب الشيء الكثير منها تعدُّد أنواعه الَّتي زادت عن ثمانين ألف نوع. كما أن لدى الذباب قدرات عالية في الطيران، فسرعته المدهشة تصل إلى ألف وثلاثمائة وعشرين كيلو متر في الساعة إضافة إلى أن لديه قدرة عالية على التوقُّف المفاجئ والانعطاف والانقضاض السريع. وللذبابة زوجان من الأجنحة أحدهما للمساعدة في الطيران والثاني للمحافظة على التوازن، إضافة إلى أن لها دوراً يُشبه دور المكابح. وقد وجد العلماء أن الذبابة عندما تريد لعق غذاء ما فإنها تضع فيه مادَّة كيميائية هاضمة تهضمه قبل أن تدخله إلى جوفها، وذلك تصديقاً لقوله تعالى: {وإن يَسْلِبهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ}، ولكلِّ ذبابة أربعة آلاف عين (سُطيح) بحيث لو نظرتَ إليها بالمكبر لرأيتها كهيئة ثقوب الغربال، كما أن لها خرطوما يرشف السوائل بمضخَّات رئوية، وفكِّين على شكل الخنجر تمزِّق بهما جلد فريستها، ولها ستُّ أرجل في نهاياتها زوائد لحمية تفرز غددا تستطيع الوقوف بها على السقف بالمقلوب ولو كان من الزجاج.
هذه الحشرة، مع قوَّتها وعيونها وأجنحتها، يصطادها العنكبوت الَّذي لا أجنحة له، ويصطادها النبات الصيَّاد الَّذي لا حول ولا قوَّة له إلا بالعسل الَّذي أمدَّه الله به في داخله، وفتح فيه نوافذ أشبه بالمقصورات، وجعلها مسوَّاة ومصقولة تنزلق الأرجل عليها إذا لامستها، فإذا اقتربت الذبابة منها، وشمَّت روائحها الذكيـَّة، تقدَّمت إليها، ودخلت في دهاليزها لتشرب عسلها، لكنَّها سرعان ما تنزلق أرجلها وتنغمس في هذا العسل، فيقتنصها النبات ويهشِّمها ويهضمها بالمادَّة الهاضمة الَّتي هي أشبه بالمادَّة الهاضمة في معدة الإنسان.
أمَّا البعوض، فهذه الحشرة الصغيرة الضعيفة، غنيَّة بأسرار علمية كبيرة، اكتشف الإنسان بعضها في العصر الحديث.. ومنها أنَّه عندما يُهاجم جسد الإنسان يبحث عن أضعف منطقة من جلده، وهي أماكن خروج العرق، ثمَّ ينفث فيها مادَّة تُشبه المخدِّر، ويغرس إبرته فيها..
والحقيقة أنه ليست هناك أدوات للجراحة أكثر دقَّة من أجزاء فم البعوضة، حيث ينتهي خرطومها الطويل بما يُشبه مشارط دقيقة، اثنان منها ذو أسـنان، وثالث ـ وهو أكبرها ـ يتكوَّن من أنبوبة مجوَّفة تمتصُّ بها الدم، وتدفع البعوضة خلال جزء رابع مُجوَّف أيضاً لُعابَها في الجرح لتزيد من تدفُّق الدم، وهذا يزيد من نقلها للأمراض والعدوى. والبعوضة مثال حيٌّ للشراهة، حيث أنها تبقى تمتصُّ الدم حتَّى تَثْقُلَ ويصعب عليها الطيران وربَّما تموت.
أمَّا الجراد فَيُعَدُّ من أشدِّ أعداء المزروعات فتكاً بالمحاصيل الزراعية، وإن هجومه على أحد المناطق الزراعيَّة يسبِّب كارثة اقتصادية أكيدة. لأن الجراد يُهاجم عادة في أسراب كبيرة قد يصل عدد أفراد السرب الواحد إلى أكثر من ألف مليون جرادة تُغطي مساحة عشرين كيلو متراً مربعا.
والجراد شرهٌ جداً في الأكل، فهو يأكل حتَّى تمتلئ معدته، ويتغوَّط مُخْرِجاً ما فيها وهو يتابع أكله دون توقُّف. ويصل ما تأكله الجرادة الواحدة يومياً إلى أكثر من وزنها، كما يقطع الجراد في أثناء رحلته مسافة قد تصل إلى مائة كيلو متر يومياً، وهو يشغل نهاره كلَّه بالطيران وليله كلَّه بالأكل.
سورة العنكبوت (29)
قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذين اتَخَذُوا مِنْ دُوْنِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثلِ العَنْكَبُوتِ اتْخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيوتِ لبَيتُ العَنْكَبُوتِ لَو كَانُوا يَعْلَمُون (41)}
ومضات:
ـ لا تنتمي العنكبوت إلى أسرة الحشرات، ولكنَّها كثيراً ما تذكر معها لتشابهها معها في كثير من الصفات الَّتي تحار لها القلوب والأبصار.
في رحاب الآيات:
العنكبوت مهندسة بارعة، حيث تقوم ببناء بيتها من خلال الخيوط الحريرية الَّتي تنسجها بشكل مُنظَّم ومُحكم، فما إن يخرج لعابهـا من فمها ويلاقي الهـواء، حتَّى يتجمَّد ويتحوَّل إلى خيوط مرنة مؤلَّفة من شعيرات دقيقة جداً، هذه الشعيرات تنبع من جسم العنكبوت، وكأن هذا الجسم كتلة متراصَّة من الينابيع، حيث سرعان ما تنضمُّ هذه الشعيرات لبعضها وتتَّحد لتشكِّل أربع خيوط متناغمة، وتتَّصف هذه الخيوط باللزوجة، لكي تلتصق بها الحشرات الغريبة، وتصبح لقمة سائغة للعنكبوت. وتبدأ العنكبوت في نسج خيوطها بشكل مشابه لعمل النسَّاج، حيث تضع أولاً خطوطاً طولية ثمَّ خطوطاً عرضية، ويقع بعيداً عن بيتها الَّذي يوصلها به خيط دقيق، يعطيها العلم بأن حشرة ما قد علقت في شباكها. وإذا قُطعت بعض خيطان هذه الشبكة قبل الغروب لسبب ما، تراها أعادت نسجها قبل شروق شمس اليوم التالي.
ويتألَّف جسم العنكبوت من قسمين في أحدهما الرأس، وفي الثاني البطن، وهما مفصولان عن بعضهما بعنيق صغير ممَّا يعطيها المرونة والسرعة في عملية الغزل، حيث يتوضَّع المغزال في البطن. ومن العناكب نوع يُعرف بعنكبوت الباب الأفقي، إشارة إلى شكل المخبأ الَّذي يأوي إليه هذا النوع. فالعنكبوت من هذا النوع تحفر بيتها في الأرض، وتستخدم من أجل ذلك فكَّيها اللذين تقطع بهما الطين، وتحمله بعيداً عن الحفرة، ثمَّ تكسوها من الداخل بغطاء من الحرير الناعم الَّذي تقوم بغزله، وإذا تداعى جانب من هذه الحفرة قوَّتْه بنسيج من الحرير ممزوج بمادَّة صمغيَّة تُساعد على تماسكه، ثمَّ تبني باباً متيناً لسدِّ الحفرة، وتجعل لهذا الباب مفصلاً لتتمكَّن من الدخول إلى بيتها.. وأحياناً تصنع لنفسها غرفتين ولهما عدَّة أبواب، حيث تتمكَّن من الاختباء بالداخل دون العثور عليها من الغرباء.. وقد تكون هذه الغرف سفليَّة وعلويَّة، حيث تقبع العنكبوت مختبئة في الغرفة العلويَّة، منتظرة فريسـتها حتَّى تدخل إلى الغرفة الأولى، حيث تصل فتحة مسكنها بأنبوبة حريرية طويلة، تُشعرِها بدخول الفريسة..
وهناك العنكبوت المائي الَّتي تصنع لنفسها عُشاً على شكل فقاعة، من خيوطها، ثمَّ تقوم بمهارة بإدخال عدد من فقاعات الهواء إليه، وتقوم برفعه وتعلِّقه بشيء ما تحت الماء، ثمَّ تلد صغارها فيه.. وتستطيع العنكبوت أن تجتاز هاوية أو نهراً بصنع جسر معلَّق من خيوطها، فتغزل خيطاً طويلاً تُعلِّق طرفه في طرف النهر، وتترك طرفه الآخر للرياح، حتَّى يستقرَّ على الطرف الآخر للنهر ثمَّ تنزلق عليه بسرعة كبيرة.. كما تستطيع أن تستعمل خيوطها في ربط أوراق الشجر لتحملها وما معها من مؤن على سطح الماء.
وقد ذكر الله تعالى أن أنثى العنكبوت هي الَّتي تقوم بصنع البيت وليس الذكر، في قوله تعالى: {...كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً..}، وهذا ما أثبته علماء الطبيعة أخيراً... ثمَّ إن أنثى العنكبوت، وبعد أن تنتهي عملية التزاوج بينها وبين الذكر، لا تلبث أن تقتل الذكر بِسُمِّها الَّذي هو أشدُّ فتكاً من سمِّ بعض الأفاعي، إن لم يفر منها فوراً، وتستقرَّ لوحدها في بيتها الَّذي صنعته.
وفي ختام هذا الفصل، وقد أوجزنا القليل من المعلومات الَّتي تحتاج بحقٍّ إلى مجلَّدات، ليكتمل شـرحها ـ بقصد إثارة فضول القارئ للاسـتزادة منها ـ يحقُّ لنا أن نشهد بقدرة الله سبحانه وتعالى، خاشعين بأبصارنا لعظمة هذا الوجود بكلِّ ما حوى، آملين أن تتفتَّح بصائرنا، وتتحرَّك عقولنا.. لعلَّنا نمتثل أوامر الله بجديَّة وحزم، وبإرادة وهمَّة تفوق همَّة هذه الحشرات ومثيلاتها، وأن نستفيد من روائع خلق الله تعالى في تنظيم برامج حياتنا بشكل علمي ومنتظم، لكي لا تضيع علينا حكمة الله فيما خلق ـ سبحانه وتعالى ـ وهو الخلاَّق العليم.