الفصل السادس:
الاستعاذة بالله من الشرور وأهلها
سورة الفلق(113)
قال الله تعالى: {قٌلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ(1) من شَرِّ ما خَلَقَ(2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذا وَقَبَ(3) ومن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ(4) ومن شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسَدَ(5)}
ومضات:
ـ إنها آيات اللُّجوء إلى حضرة الله، والاحتماء بكنفه، من كل شرٍّ يمكن أن يحيط بنا، أو يجرفنا عن مواقع الإيمان، أو يحوِّلنا عن الصِّراط المستقيم.
في رحاب الآيات:
هناك سؤال مُلحٌّ يراود المؤمن عند تلاوة هذه السورة الكريمة؛ وهو كيف يمكن الاحتماء بالله من شرٍّ هو خَلَقَه وأوجده، في ساحة الحياة؟.
والجواب ببساطة: إن شعور الأمِّ حين يعدو وليدها لائذاً بها، من خوفٍ ما يطارده، شعور لا يفوقه شعور في الرَّوعة، لأنه يبعث في صدرها كلَّ الحبِّ والحنان تجاهه، لتعمل على حمايته، وإشعاره بالأمن والطمأنينة، ولا يزال هذا الشُّعور يعتمل في داخلها مادام وليدها متعلِّقاً بها وفي حاجة إليها. وهكذا أوجد الله الشرور لنفرَّ منها، ملتجئين إليه تعالى ونلوذ بكنفه، فيمنحنا الشُّعور بالأمن والطمأنينة، لا لنتعايش معها، أو نتَّصف بها. والمؤمن في لجوء دائم إلى حضرة الله؛ لأنه غوث المستغيث حيث لا مغيث سواه، وكاشف الضُّرِ، وشافي الأمراض.
وفي هذه الآيات الكريمة توجيه من الله سبحانه لنبيِّه الكريم ابتداءً، ولكلِّ المؤمنين من بعده للالتجاء إلى كنفه، والاعتصام بحماه من كلِّ ما يخيف، وكأنما يفتح الله سبحانه حماه ويقول لهم: تعالوا فأنا أعلم أنكم ضِعاف، وهنا الأمن والطمأنينة. فأنـت حين تُذْنب تلجأ إليه لأنه غفَّارُ الذنوب، وعندما تكون فقيراً تلجأ إليه لأنه الغني، وكذا عندما تخشى حسد الحُسَّاد فأنت تلجأ إلى رَبِّ الفلق، الَّذي يَشُقُّ الظلمات عن القلوب بنوره، ويردُّ كيد الكائدين وعبث العابثين بقدرته. ويَذْكر الله سبحانه نفسه بصفته الَّتي يكون بها العياذ، فهو ربُّ الفلق، والفلق من معانيه انبلاج الصبح كما قال تعالى: {فالقُ الإصْباحِ..} (6 الأنعام آية 96) وسبب تخصيص الصبح باللجوء إلى الله، أنَّ انبثاق نور الصبح بعد شدَّة الظلمة، يشبه مجيء الفرج بعد الشدَّة. وقيل الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه، وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور، لأنها تتشقَّق من خشية الله عزَّ وجل، وقيل: هو كلُّ ما يفلقه الله؛ كالأرض عن النبات، {إنَّ الله فالِقُ الحبِّ والنَّوَى..} (6 الأنعام آية 95) والجبال عن العيون، والسَّحاب عن الأمطار، والأرحام عن الأولاد، والقلوب عن المعارف.
إن الاستعاذة بربِّ الفلق من شرِّ ما خلق، جملةً وتفصيلاً؛ تعني أنَّ للخلائق شروراً، كما أنَّ لها منافع وخيرات؛ وتتجلَّى تلك الاستعاذة بالالتجاء إلى الله مستمدِّين منه العون والقوَّة، بغية اتِّقاء تلك الشرور، والتعامل مع الآخرين وفق توجيهاته سبحانه، للاستفادة من الخير الكامن في نفوسهم.
وحين نتعوَّذ بالله من شرِّ غاسق إذا وقب، فنحن نقصد غالباً الليل وما فيه؛ فالليل حين يزحف يغمر البسيطة، وهو مخيف بذاته، فضلاً عمَّا يثيره من توقُّعٍ للمجهول من كلِّ شيء، من وحش مفترس، أو لصٍّ فاتك، أو عدو متربِّص، أو من وساوس وهواجس، وهموم وأشجان، تتسرَّب في الليل وتخنق المشاعر والوجدان. وكذلك من شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء، ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام، ومن ظاهر أو خافٍ يدبُّ ويَثِبُ في الغاسق إذا وقب. أخرج الترمذي وحسَّنه البيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من عين الجان، ومن عين الإنس، فلما نزلت سورتا المعوَّذتين، أخذ بهما وترك ما سوى ذلك».
ونعوذ بالله تعالى من شرِّ النفَّاثات في العقد: وهنَّ السواحر الساعيات بالأذى، عن طريق خداع الحواس، والإيحاء إلى النفوس والتأثير على المشاعر، وهُنَّ يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل، وينفثْنَ فيها كتقليد من تقاليد السِّحر والإيحاء. والسحر لا يغيِّر من طبيعة الأشياء، ولا ينشئ حقيقة جديدة لها، ولكنَّه يُخيِّل للحواسِّ والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوَّره القرآن الكريم في قصَّة موسى عليه السَّلام: {قالوا ياموسى إمَّا أن تُلْقيَ وإمَّا أن نكونَ أوَّلَ من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالُهُم وعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهِم أنَّها تسعى * فأوجَسَ في نفْسهِ خيفَةً موسى * قلنا لا تخفْ إنَّك أنتَ الأعلى * وألقِ ما في يمينِكِ تَلْقَفْ ما صنَعوا إنَّ ما صنَعوا كيدُ ساحِرٍ ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حيث أتى * فألقي السَحَرَةُ سُجَّداً قالوا آمنَّا بربِّ هارونَ وموسى} (20 طه آية 65ـ70) وهكذا لم تنقلب حبالهم حيَّات فعلاً، ولكن خُـيِّل للنَّاس ولموسى معهم، أنها تسعى، إلى حدِّ أَنْ أوجس في نفسه خيفة، حتَّى جاءه التثبيت من الله، ثمَّ انكشفت الحقيقة، حين انقلبت عصا موسى بإذن الله حيَّة حقيقية، فلقفت الحبال والعِصِيَّ المزوَّرة المسحورة وابتلعتها، وهذه هي طبيعة السِّحر كما ينبغي لنا أن نسلِّم بها. وربَّما يراد بالنفَّاثات الَّذين ينفثون سموم الكراهية بين الناس بالنميمة والغيبة ويقطعون روابط المحبَّة، ويبدِّدون شمل المودَّة، وقد شُبِّه عملهم بالنفث، وشُبِّهت رابطة الوداد بالعقدة. فالنميمة تحوِّل ما بين الصديقين، من محبَّة إلى عداوة، بالوسائل الخفيَّة، الَّتي تشبه أن تكون ضرباً من السِّحر، ويصعب الاحتياط والتحفُّظ منها، فالنمَّام يأتي لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه.
ونعوذ بالله من شرِّ حاسد إذا حسد، والحسد انفعال نفسي عدائي، إزاء نِعَمِ الله على بعض عباده، مع تمنِّي زوالها، وسواءٌ أَتْبَعَ الحاسد هذا الانفعال، بسعي منه لإزالة النعمة، تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حدِّ الانفعال النفسي، فإن شرّاً يكمن في هذا الانفعال، والله برحمته وفضله هو الَّذي يوجِّه رسوله وأمَّته من ورائه، إلى الاستعاذة به من هذه الشرور، ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به أعاذهم. روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كلَّ ليلة جمع كفَّيه ثمَّ نفث فيهما، وقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذ بربِّ الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات». وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه، ثم قرأ {والَّذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بُهْتاناً وإثماً مبيناً}(33 الأحزاب آية 58)» (رواه الطبراني عن عبد الله بن بسر، ورمز السيوطي لحسنه). وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صنعت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأصابه منه وجع شديد، فدخل عليه أصحابه فخرجوا من عنده وهم يرون أنه ألمَّ به، فأتاه جبريل بالمُعوَّذتين فعوَّذه بهما ثمَّ قال: بسم الله أرقيك، من كلِّ شيء يؤذيك، ومن كلِّ عين ونفس حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك».
وقد جاء في صحاح السنَّة رُقى أخرى يدفع بها المؤمن شرَّ الحسد وشرَّ السِّحر وشرَّ كلِّ مؤذ، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين فيقول: أُعيذكما بكلمات الله التامَّة من كلِّ شيطان وهامَّة ومن كلِّ عين لامَّة، ويقول إن أباكم (أي سيِّدنا إبراهيم) كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحق».
والهامَّة: هي كلُّ ذات سُمٍّ يقتل، كالحيَّة وغيرها، وأمَّا اللامَّة: فهي العين الَّتي تؤذي بنظرها.