الفصل الثاني:
الإيـثــار
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {للفقراءِ المهاجرينَ الَّذين أُخرِجوا من ديارِهم وأموالِهم يبْتَغون فضلاً من الله ورِضْواناً ويَنصُرونَ الله ورسولَهُ أولئك همُ الصَّادقون(8) والَّذين تَبَوَّؤا الدَّارَ والإيمانَ من قبْلِهِم يحبُّونَ من هاجرَ إليهم ولا يجدونَ في صدورِهِم حاجةً ممَّا أُوتُوا ويُؤْثِرون على أنفسِهِم ولو كانَ بهم خَصَاصَةٌ ومن يُوقَ شُحَّ نفسهِ فأولئك همُ المفلحون(9) والَّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفِرْ لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلاًّ للَّذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوفٌ رحيم(10)}
ومضات:
ـ يجب أن يكون في صرح المجتمع الإسلامي العالمي ركن لرعاية فئة المهاجرين في سبيل الله، وهم الَّذين يُضطرون إلى مغادرة أوطانهم وترك أموالهم وممتلكاتهم نصرة لدين الله؛ وذلك لتعويضهم وشدِّ عزائمهم.
ـ ينبغي على المستقرِّين في أوطانهم المتمتِّعين بحرِّية ممارسة العقيدة، أن يرعوا هؤلاء الوافدين إليهم، ويسعوا إلى تأمين الراحة والسعادة لهم والإحسان إليهم، حتَّى يشعروا وكأنهم في بيوتهم وأوطانهم، لينجحوا بذلك ويفلحوا في كسب رضا الله عزَّ وجل.
ـ على الأجيال المتعاقبة أن تشكر صنيع الروَّاد الأوائل في الدعوة الإسلامية، وتستغفر الله تعالى لهم، لأنهم بذلوا الكثير من التضحيات ـ الَّتي بلغت حدَّ الإيثار ـ لتصل إليهم رسالة الإسلام، وحملوا الأمانة على أكتافهم بعزيمة وصدق.
ـ المؤمنون إخوة متسامحون متراحمون، يتجاوزون عن أخطاء بعضهم بعضاً ولا يحملون ضغينة أو عداوة فيما بينهم.
في رحاب الآيات:
الآيات الكريمة تعود بذاكرتنا إلى صفحة ناصعة من صفحات تاريخ أجدادنا المسلمين الَّذين أُخرجوا من ديارهم، وأُكرهوا على التخلِّي عن كلِّ ما يملكونه فيها، تحت وطأة الأذى والاضطهاد والتنكُّر الَّذي كان يمارسه بحقِّهم قرابتهم وعشيرتهم في مكَّة، لا لذَنْب ارتكبوه إلا أن يقولوا ربُّنا الله، ممَّا اضطرهم إلى الهجرة للمدينة المنوَّرة يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله، بقلوبهم وأعمالهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، أولئك الَّذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدَّقوها بعملهم، فهم صادقون مع الله في اختيار طريقه، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم في اتِّباعه، وهم صادقون مع الحقِّ حيث كانوا، فصاروا صورة صادقة عنه تمشي على الأرض.
ثم تنتقل الآيات الكريمة للحديث عن فئة أخرى من المؤمنين، هم الأنصار، الَّذين كانت المدينة لهم منزلاً ووطنـاً، ودخل الإيمان إلى قلوبهم، فكان لهم المأوى المكين، والحصن الحصين الَّذي تسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه كما يثوب المرء ويطمئن إلى داره. ذلك الإيمان الَّذي أثمر ثمرة غالية هي الحبُّ لله وفي الله؛ فقد أحبُّوا إخوانهم المهاجرين وواسَوْهم بأموالهم وبكلِّ ما يملكون.
لقد أفرز المجتمع الإسلامي نماذج رائعة من التضحية والبذل، وصلت إلى حدِّ الإيثار على النفس وهو شيء نادر الوجود، يحتاج تحقيقه إلى سموٍّ روحي عظيم. فقد يقول قائل: إن الاشتراكية شيء رائع لأنها تلزم الفرد بأن يقدِّم فائض أمواله للدولة، والَّتي بدورها توزعه بين الفقراء والمحتاجين. وهذا أمر جيد، ولكننا نطرح عليه سؤالاً هامّاً وهو: تُرَى أيُّ نظام في العالم يستطيع أن يُلزم جائعاً، يريد أن يأكل طعاماً لا يملك غيره؛ ثمَّ يجد من هو أحوج منه إلى هذا الطعام، فيُؤثِره على نفسه ويقدِّمه له، ويبيت على الطَّوى؟؟. إن هذا السلوك مارسه الصحابة الكرام فيما بينهم يومياً وبشكل طوعي؛ بينما نحن الآن في القرن العشرين، عصر العلم والحضارة، نجد أن الأنظمة الاجتماعية الهادفة إلى إلغاء الفقر من جذوره، قد فشلت جملةً وتفصيلاً، بسبب عدم أهليَّة المنادين بهذه الأفكار لتطبيقها على أنفسهم قبل غيرهم، وقصور الوسائل الَّتي بين أيديهم عن تطبيقها.
وما من شكٍّ أن هجرة الصحابة الكرام من مكَّة إلى المدينة، واسـتقبال الأنصار لهم من أجمل الأمثلة وأصدقها على المناصرة والتعاون على مدى التاريخ. فالمؤمنون في مكَّة، وعلى الرغم من كثرة الفقراء بينهم، وتهديد كفرة قريش لهم بأنهم إذا أرادوا الهجرة إلى المدينة، فإنه لن يُسمح لهم بأخذ أي شيء ممَّا يملكون من متاع الدنيا، وبالمفهوم العصري (مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة) فقد أصرُّوا على الهجرة من دار الجهل إلى دار العلم والإيمان، حيث النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عزَّ وجل وطاعته. وكان لقاء أهل المدينة لهم عجيباً فريداً، فقد فرحوا بمقدمهم وسعدوا به، ولم يكتفوا بتقديم المساعدات والإعانات لهم فحسب، بل اتخذ كلُّ واحد من الأنصار أخاً له من المهاجرين، وقاسمه ماله، وبهذه الصورة سطع وميض الإيمان الفعلي، ليربط القلوب بمحبَّة متينة متماسكة، ظلَّت نموذجاً يُحتذى إلى يومنا هذا.
والأمثلة الَّتي ضربها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار كثيرة تفوق الحصر، وقد ورد بعضها فيما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصابني الجَهْد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة: أنا يارسول الله! فذهب إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصِّبية، قال: إذا أراد الصِّبية العشاء فنوِّميهم، وتعالى فأطفئي السراج، ونطوي الليلة لضيف رسول الله، ففعلتْ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}».
فالمفلح هو من استطاع أن يقي نفسه من الشُّحِّ، ويبذل ممَّا عنده في مرضاة الله، لأن الشُّحَّ هو المعوِّق عن كلِّ خير، والخير كلُّ الخير في بذل المال والجهد مع صدق العاطفة، وقد يتطلَّب الأمر في بعض الأحيان بذل الدم والحياة. إن الشحيح بعيد كلَّ البعد عن الفضائل فلا يملك أن يصنع الخير لأنه يطمع في الأخذ، فلا يجرؤ ولا يقدر على العطاء. ومن وُقي الشُّحَّ فقد تخلَّص من براثن الظلم لنفسه ولغيره؛ أخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم». ويتجلَّى اتقاء الشُّحِّ فيما رواه خالد بن زيد بن حارثة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَرئ من الشُّحِّ من أدَّى الزَّكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» (أخرجه الطبراني في الكبير وهنّاد في الزهد، وإسناده حسن). ولقد أنذر الله تعالى الشحيح بحرمانه من جنَّات عدن، وطرده من نعيمه، وذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خلق الله جنَّة عدن ثم قال لها: انطقي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ومن يُوْقَ شُحَّ نفسه فأولئك همُ المفلحون}» (أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الكبير والأوسط).
ثم تبرز الآيات أهمَّ ملامح التابعين، كما توضح أهمَّ خصائص الأمَّة الإسلامية عموماً، مبيِّنة صورة الأجيال اللاحقة لجيل الصحابة من المؤمنين، الَّذين تتَّسم نفوسهم بأنها تتوجَّه إلى ربِّها في طلب المغفرة، لا لذاتها فحسب، بل لسلفها الَّذي سبقها بالإيمان وزرع هذا الزرع الإيماني الرائع، فصار مثالاً يحتذى، كما تطلب من الله لنفسها براءة القلب من الغِلِّ أو الحقد على أحد من المؤمنين، مع الشـعور برأفة الله ورحمته، والتوسُّل إليه بهذه الرحمة والرأفة. فالشعور بالحقد تجاه أي مؤمن يناقض الإيمان، لأن الحبَّ من رشحات الإيمان والكراهية من رشحات النفاق، وفي هذا تنبيه من حضرة الله للمؤمنين لكيلا يُنصِّبوا أنفسهم قضاة على من سبقهم، فقد أدَّوْا رسالتهم على أكمل وجه؛ وما نملك حيالهم إلا أن نستغفر لهم، ونشكر صنيعهم ونكون صادقين في شعورنا نحوهم، ونصَفِّي قلوبنا من أي ضغينة تجاههم أو تجاه غيرهم، وأن نسلك السبيل الَّتي سلكوا، فنصل إلى الغاية العظيمة الَّتي بلغوا، وأكْرِمْ بها من غاية.
وهكذا ـ ومن وراء تلك النصوص ـ تتجلَّى طبيعة هذه الأمَّة المسلمة، وصورتها النقيَّة في هذا الوجود، فتبدو الرابطة الوثيقة الَّتي تربط أوَّل هذه الأمَّة بآخرها، وآخرها بأوَّلها، فيشكر المؤمن في العصر الحاضر كلَّ معروف أسداه إليه أخٌ مؤمن في العصر الماضي، ويقدِّم كلُّ جيل نتاج حضارته ليستفيد منه الجيل الَّذي يليه فيأخذ منه ويضيف عليه، وهكذا إلى أن تنتهي بهم دورة الحياة على وجه الأرض، ويستأنفوا حياتهم الأخرى في عالم الخلود والبقاء، وكلُّ الَّذين اجتمعوا في حياتهم الأولى على محبَّة الله والعمل الصالح، سيجمعهم الله في دار النعيم إخوة على سرر متقابلين. فهذا هو حال المؤمنين من عباد الله، وكلُّ ما يحدث على الساحة الإسلامية ممَّا هو بخلاف ذلك فالإسلام منه براء، ولاشكَّ أنه من أخطاء المسلمين وتقصيرهم الَّذي ينبغي لهم أن يتخلَّصوا منه، ويسارعوا إلى طاعة الله لتعود إليهم الحياة الإيمانية تباشر قلوبهم فتعيد إلى وجودهم الحيوية والنضرة النورانية.