الفصل الخامس:
نبذ سوء الظنِّ والغيبة والنميمة
سورة الحجرات(49)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اجتنِبُوا كثيراً من الظَّنِّ إنَّ بعضَ الظَّنِّ إثمٌ ولا تَجسَّسوا ولا يغْتَبْ بعْضُكُم بعضاً أيُحِبُّ أحدُكُمْ أن يأكلَ لحمَ أخيهِ مَيْتاً فكرهْتُمُوهُ واتَّقوا الله إنَّ الله توَّابٌ رحيمٌ(12)}
سورة القلم(68)
وقال أيضاً: {ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهين(10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم(11)}
ومضات:
ـ لقد حَظَرَ الإسلام على المؤمن إساءة الظنِّ بالناس والشكَّ بهم، أو التجسُّس على حياتهم الخاصَّة وتتبُّع نقائصهم، أو التحدُّث عنهم بما يكرهون، أو نقل كلام بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، فشبَّه الله تعالى هذه الأعمال بما فيها من قبح وأذى، بأكل لحوم الأخلاَّء المقرَّبين بعد موتهم، وأمرنا أن نتَّقي هذه الموبقات، وأن نقتلع جذورها من أعماقنا.
في رحاب الآيات:
تتابع الآيات القرآنية عملية بناء نموذج الإنسان الكامل في نفوس المسلمين، فبعد أن نَهَتهُم الآية السابقة عن السخرية واللمز والتنابز، تأتي هذه الآية لتحُدَّ من غلواء الاستنتاجات السيئة الَّتي يمكن أن يفسِّر بها الإنسان التصرُّفات الشخصية لغيره، وتلزمه أن يحمل ما يرى من ذلك، على المحمل الحسن مادام ذلك ممكناً، حفاظاً على صلة المودَّة بين المسلمين، ومنعاً للأضرار الواسعة الَّتي يمكن أن تَلحق المُتَّهم بما ليس فيه زوراً وبهتاناً؛ فجاءت الآية لتضع حداً لما يمكن أن يحدث نتيجة هذه الإساءة من مكروه، كما أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حيث جاء في الحديث الشريف: «إن الله حرَّم من المسلم دَمَهُ وعرضه، وأن يُظَنَّ به ظن السوء» (رواه مسلم والترمذي مرفوعاً). فيَحرُم سوء الظنِّ بمن شوهد منه الستر والصلاح وعُرِفت عنه الأمانة، أمَّا من يجاهر بالفجور، فلا يحرُم سوء الظنِّ به، بل إن سوء الظنِّ به أولى لحماية مَن حوله من أذاه وشرِّه. وقد علَّلت الآية الأمر باجتناب كثير من الظنِّ في قوله تعالى: {إنَّ بعض الظنِّ إثم} لأن فيه اتِّهاماً وشكّاً بالآخرين غير مبني على معطيات صحيحة، وخاصَّة إذا كان الأمر يتعلَّق بحياة الناس الشخصية وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا ظننتَ فلا تحقِّق» (رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ) ومعنى هذا أن تفترض في الناس البراءة فيما يتعلق بأمورهم الخاصَّة، الَّتي يعود نفعها أو ضررها عليهم وحدهم، صيانة لحقوقهم وحريَّاتهم؛ فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى على حرمة الحياة الشخصية للآخرين. وقد أكدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم سوء الظنِّ بالمؤمن من خلال أحاديث كثيرة منها ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والَّذي نفس محمَّد بيده، لَحُرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حُرمةً منك، ماله ودمه، وأن يُظنَّ به إلا خيراً».
كما حرَّم الله على عباده المؤمنين التجسُّس: وهو تتبُّع عورات المسلمين خفية دون علمهم، والتنقيص من كراماتهم والتشهير بهم لأي سبب كان. ويأتي التجسُّس في المرتبة التالية لسوء الظنِّ، وبه يخرج صاحب الظنِّ السيء من دائرة التفكير الداخلي الضمني، إلى حيِّز العمل والسلوك الحسِّي الخارجي، فيعمد إلى هذا التصرُّف بحثاً عن النقائص وسعياً وراء إبراز الأخطاء ونشرها. إن القرآن الكريم يحارب هذا السلوك الدنيء من الناحية الأخلاقية، ويدعو إلى تطهير القلب من هذا المرض تمشِّياً مع أهدافه وروحه، فقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي بَرزة الأسلمي قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتَّبعوا عورات المسلمين، فإنَّ من تتبَّع عورات المسلمين، فضحه الله في قعر بيته». ويحذِّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراض الفتَّاكة الَّتي إن حاقت بالمجتمع مزَّقته، وإن تخلَّلت صفوف الأحباب باعدتهم، فنهانا عن التجسُّس، وعن التحسُّس (هو الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو التسمُّع على أبوابهم)، وحذَّرنا من التباغض، والقطيعة؛ فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إيَّاكم والظن، فإن الظنَّ أكذب الحديث، ولا تجسَّسوا ولا تحسَّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام».
ولا ينبغي لأحد أن يذكر الآخرين بما يكرهون ولو كان صادقاً في حديثه عنهم، فلا يحقُّ له أن يشيع أخبار السوء عنهم، لما في ذلك من أذى لهم، وإيغارٍ لصدورهم، وتفريقٍ لشملهم. قال الحسن رضي الله عنه : (الغيبة ثلاثةُ أَوجُهٍ كلُّها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبُهتان، فأمَّا الغيبة: فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأمَّا الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأمَّا البُهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه، أي أن تختلق أنت رواية كاذبة عنه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قيل يارسول الله: ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ» (رواه الترمذي وصححه). ونرى أن القرآن يعرض مشهداً تتأذَّى منه كلُّ النفوس حتى أشدها غلظة، وجميع القلوب حتى أدناها رقة، إنه مشهد أَكْلِ الإنسان لحم أخيه ميتاً، ثم يبادر فيعلن نيابة عنهم أنهم كرهوا هذا العمل المثير للاشمئزاز، فكان لزاماً عليهم أن يكرهوا الغيبة كراهيتهم لهذا العمل. روى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما عُرِجَ بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء ياجبرائيل؟ قال: هؤلاء الَّذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الغيبة أشدُّ من الزنى. قالوا: يارسول الله! وكيف الغيبة أشدُّ من الزنى؟ قال: إن الرجل ليزني فيتوب؛ فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يُغْفَرُ له حتى يغفرها له صاحبه».
كما نهى الله تعالى المؤمنين عن النميمة؛ لكونها داءً يفتك بسلامة المجتمع، ويمزِّق وحدته وتماسكه، وهي السعي بين الناس بالكلام، أي نقل كلام بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، وهي من كبائر الذنوب، ولو كان صاحبها صادقاً فيما ينقله، كأن يَسْمَعَ شخصاً يذمُّ آخر في غيبته فينقل ما سمعه إليه دون زيادة. وقد شبَّهها النبي صلى الله عليه وسلم بالعَضْهِ وهي الذَّبيحة الَّتي تُقطَّع أعضاؤها فتفرَّق عن بعضها بعضاً، وذلك لأنها تفرِّق بين الأحبَّة، فعن عبد الله رضي الله عنه قال: إن محمَّداً صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم ما العَضْهُ هي النميمة القالَةُ بين الناس» (رواه مسلم). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنَّة نمَّام» (رواه مسلم).
والهدف من كلِّ هذه الأوامر الإيجابية البنَّاءة والنواهي التربوية الهادفة، هو تنقية المجتمع الإسلامي من شوائب الخِسَّة والضَّعة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أسس المودَّة والإخاء والنصيحة، وشغل الوقت بالإيجابيات النافعة، وصون الأُمَّة عن السلبيات المبدِّدة، فالمؤمن طاهر القلب أبداً عفيف اللسان، إذا رأى عورة لأخيه سترها، وإذا شاهد نقيصةً أعرض عن نشرها، ونبَّهه سراً للإقلاع عنها، كما قال الشاعر:
لِسَـانَكَ لا تَـذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيـكَ مَعَـايِبـاً فَصُنْـهَـا وَقُـلْ يَاعَيْنُ لِلنَّـاسِ أَعْينُ
رُويَ عن أحد الصالحين أنه شاهد شابّاً، قويَّ البنية، صحيح الجسم، يتكفَّف الناس على باب المسجد، فقال في نفسه: لو أنه ذهب وعمل عملاً انتفع منه فأصبح في غنى عن مسألة الناس. فنام تلك الليلة فرأى الملائكة تقدِّم له لحم ذاك المتسوِّل على طبق، وتطلب منه أن يأكل منه، فعرف الصالح غلطته، وقال: إنني ما اغتبته، ولكنه خاطر مرَّ على قلبي، فأجابته الملائكة: إن مثلك يُحاسب على خطرات القلوب.
وجملة القول: إن هذه الآيات الكريمة تقيم سياجاً في المجتمع الإسلامي الكريم، حول حُرُمات الأشخاص وكراماتهم وحرِّياتهم، وتعلِّم الناس كيف يطهِّرون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب متفرِّد عجيب!!.