الفصل السادس:
نبذ البُهتان واتِّهام الأبرياء
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ومن يَكْسِبْ خَطيئةً أو إثماً ثمَّ يرمِ به بريئاً فقد احتملَ بُهتاناً وإثماً مبيناً(112)}
ومضات:
ـ أراد الله تعالى للناس أن يعيشوا في ظلال مجتمع آمن طاهر نظيف من كلِّ العيوب؛ فحرَّم الكذب والافتراء واتِّهام البريء، وعدَّ ذلك من كبائر الذنوب الَّتي لا يُكْتَفَى للتوبة منها بالاستغفار، وإنما بإصلاح ما نجم عنها من فساد وإفساد.
في رحاب الآيات:
يحرص الإسلام كلَّ الحرص على تمتين أواصر المحبَّة والوئام بين أفراد الأسرة الإنسانية، ومحاربة كلِّ ما من شأنه أن يضعف هذه العلاقة الطيِّبة بينهم؛ فتراه يحارب الغيبة والنميمة والكذب والبُهتان، ويتوعَّد من يرتكبها بأشدِّ العقوبات في الدارين.
إن البُهتان من كبائر الذنوب الَّتي لا كفارة لها إلا بالتوبة الصادقة النصوح، وإصلاح ما ينجم عنها من فساد، وهو تعريفاً: ارتكاب الذنْب وإلحاقه بالآخرين، أو التعريض بالناس في أمورٍ هم بريئون منها. فليس هناك أكثر إثماً ممَّن يسرق ويتَّهم غيره بهذا الفعل، أو يقتل ويلقي بالشكِّ والاتِّهام على غيره، وجميع هذه الصفات يترفَّع عنها الخُلُق الكريم، وتأباها الفطرة السليمة، ويستحقُّ صاحبها العذاب العظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رمى مسلماً بشيء يريد شَينه به حبسه الله يوم القيامة على جسر من جسور جهنَّم، حتى يَخْرُجَ ممَّا قال» (أخرجه أبو داود).
ولا يخفى أن العلَّة في انتشار هذه الآفات الخلقية بين الناس، تكمن في ابتعادهم عن الدِّين الحقِّ، ممَّا يسبب ضعف الوازع الخلقي لديهم، والغفلة عن الأوامر والنواهي الَّتي جاءت بها الشريعة الغرَّاء. وقد استخدمت الآية الكريمة لفظ (الكسب) لمن يرتكب مثل هذه الفواحش، إشارة إلى أن مرتكبها يكسب الإثم والعقاب والضرر قبل أن يسبِّبه لغيره، ويستعجل العقوبة لنفسه قبل أن يعاقبه الله، قال تعالى: {كلاَّ بَلْ رانَ على قلوبِهِم ما كانوا يكسِبُون} (83 المطففين آية 14).
لذا نجد القرآن الكريم يضع ميزان العدالة الَّذي يحاسب كلَّ فرد على ما اجترح، ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إن ألقى بذنبه على عاتق غيره. ولعلَّ أدنى ما يصيب مثل هذا الإنسان هو تأنيب الضمير، ثم لا يلبث أن ينكشف فعله بين الناس فيتحاشَوْنه ويصبح منبوذاً غير موثوق به، وهذا ما يورثه القلق والحزن والندم، ثم يواجه عذاب الله الشديد يوم القيامة. فليحترز العاقل من تعريض نفسه لهذه المنزلقات وما يترتب عليها من عقوبات إن عاجلاً أو آجلاً.
إن هذه الأحكام المُثلى والقيم الإنسانية الفُضلى، لم تكن في ظلال الإسلام آمالاً تُرجى، ولا أحلاماً خيالية بعيدة عن الواقع التطبيقي العملي، بل جعلها دستورُ السماء واقعاً حياتيّاً ملموساً، فقد ذَكر المفسِّرون في سبب نزول هذه الآية وما قبلها، أن رجلاً من المسلمين يدعى طعمة بن أُبَيْرِق سرق درعاً ووضعها في كيس من الطحين، ولما أوشك أمره أن يظهر ويُفْتَضح، أودعه عند يهودي يدعى زيد بن السمين وبعد ذلك اتَّهمه بسرقته، وقد عُرِضَ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما ضُبطت الدرع المسروقة في حوزة اليهودي أعلن أنها ليست له، وإنما أودعها عنده طعمة بن أبيرق، ولما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله ومعارفه زَكَّوه ولم يتَّهموه، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم على اليهودي عملاً بالأدلَّة الظاهرة، إلا أن وحي السماء تدخَّل وأنقذ اليهودي البريء، وأدان المجرم الَّذي يبدو للناس بمظهر المسلم. إن هذه الواقعة وغيرها تدلُّ على أن مبادئ الإسلام قوانين للتطبيق وأنظمة وضعت ليلتزم بها الناس، وليست مجرَّد شعارات برَّاقة أو أدبيَّـات فكريَّة مجرَّدة، إنه الإسلام دين الحياة الأمثل، الَّذي يعيـش الجميع ـ على مختلف عقائدهم ـ في ظلاله آمنين مطمئنين، لا يخافون ظلماً ولا هضماً.