الفصل السابع:
العدل وأداء الشهادة
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذينَ آمنوا كونوا قوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهداءَ لله ولو على أنفسِكُم أو الوالدين والأقرَبينَ إن يكُن غنيّاً أو فقيراً فالله أولى بِهمَا فلا تتَّبِعوا الهوى أنْ تعْدِلوا وإن تَلْوُوا أو تُعْرِضوا فإنَّ الله كان بما تعملون خبيراً(135)}
سورة المائدة(5)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامينَ لله شُهداءَ بالقِسْطِ ولا يجرِمَنَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تَعْدِلوا اعدلوا هو أقربُ للتَّقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(8)}
ومضات:
ـ لَبِنَات جديدة تضعها الشريعة الإسلامية لتكمل إشادة بناء الشخصية المسلمة، وهي دعوتنا إلى إقامة العدل ونشر لوائه ليستظلَّ الجميع بظلاله الوارفة، وإلزامنا بمراعاة جانب الحقِّ والحقيقة في أداء الشهادة، وأن لا تأخذنا في سبيل ذلك لومة لائم سواء أكان قريباً أم بعيداً، غنياً أم فقيراً، وجيهاً أم وضيعاً.
ـ يجدر بنا كمسلمين أن نلتزم جانب الحقِّ وندافع عنه وإن كان في ذلك معارضة لمصالحنا الخاصَّة وتأييدٌ لمصالح خصومنا، فالحقُّ أولى أن يُتَّبع، والله تعالى لن يضيِّع أجر من يخشاه، ويؤثر طاعته وامتثال أوامره على كثير من مصالحه الشخصية والذاتية، لأنه سبحانه العليم الخبير بكلِّ ما يجري في هذا الوجود.
في رحاب الآيات:
العدل ميزان الله في الأرض، وهو اسم من أسمائه الحسنى، وصفة من صفاته العظمى، به ينصف الضعيف من القويِّ، والمظلوم من الظالم، وبتطبيقه يسود في الأرض التوازن والانسجام، والنظام القويم. وأهمُّ مظهر من مظاهر العدل أن يكون المخلوق عادلاً في سلوكه مع الخالق عزَّ وجل، فيعبده حقَّ عبادته، ويؤدِّي ما عليه من التزامات العبودية وتعظيم الربوبية، إذ أن النفس البشرية لا ترتقي إلا حين تتَّجه إلى حضرة الله مباشرة، متجرِّدة عن كلِّ ما سواه، فتستشعر تقواه، وتُحِسُّ أن عينه مطَّلعة حتَّى على خفايا الضمير.
ومتى ارتقى الإنسان إلى هذه المكانة في تعامله مع خالقه، أَحبَّ العدل والحقَّ والخير، وكره الظلم والباطل والشرَّ، وأصبح أداة لإحقاق الحقِّ ومحاربة الباطل، فإذا رأى مظلوماً يُعْتَدى عليه أو تُنْتَهك حرمته، أو يُسْلَب ماله هبَّ لنجدته ورفع الظلم عنه، وإذا دُعي للشهادة لبَّى الدعوة وشهد بالحقيقة الَّتي ترضي الله، فقد روى مسلم عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أَدُلُّكم على خير الشهداء؛ هو الَّذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها».
ونظراً لأهميَّة الشهادة بالعدل فقد حضَّ الإسلام عليها، وأمر الله عباده المؤمنين بأدائها على وجهها الصحيح دون محاباة، قال تعالى: {..ولا تكتموا الشَّهادةَ ومَن يكْتُمْها فإنَّه آثِمٌ قلبه..} (2 البقرة آية 283) فإذا سُئِلْتَ في الأمر فقل الحقَّ فيه، ولو أصابك من ذلك ضرر مادي عاجل أو أصاب والدَيْك، لأن برَّ الوالدين لا يتعارض مع الصدق في أداء الشهادة على أحدهما أو كليهما، لأن في هذه الشهادة منعاً لهما من الظلم وهذا برٌّ بهما، وليس من البرِّ أن نطمس حقَّ الخصم محاباة للوالدين أو الأقربين لأن في ذلك ضياعاً للحقوق، وتنشيطاً للظلم، وتشجيعاً للظالم كي يتمادى في ظلمه. ومن يَتَّقِ الله في الشهادة فإن الله سيجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، قال تـعـالى: {..ومـن يَتَّقِ الله يجعلْ له مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ من حيثُ لا يحتسبُ..} (65 الطلاق آية 2ـ3).
ولقد حضَّ الإسلام الناس على أن لا يَحْملهم الهوى أو العصبية أو عداوتهم لبعضهم على مجافاة العدل في أمورهم، بل أمرهم بالالتزام به في كلِّ حالة، فهو بهذا يكفل العدل لكلِّ الناس كما يكفله لأبنائه، وهذه المقوِّمات تجعل الإسلام ديناً عالميّاً، يمكن للناس جميعاً الاحتماء به، والالتجاء إلى تعاليمه، لنيل حقوقهم سواء أكانوا من معتنقيه أم من غيرهم. وكذلك أمر الإسلام أتباعه أن لا يُدْخِلوا الاعتبارات المادِّية في موضوع أداء الشهادة، سواء أكان أحد الخصمين غنياً أم فقيراً، فلا يجوز أن نغمطه حقَّه إن كان فقيراً، أو نتواطأ معه إن كان غنياً، فالله أَحقُّ أن نخشاه، وهذا كلُّه بخصوص حقوق العباد.
أمَّا في الحدود فقد قال الفقهاء: إن ستر الشهادة في الحدود أفضل من أدائها، لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده في الحدِّ: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» (رواه أبو داود والنَّسَائي) وقوله صلى الله عليه وسلم : «من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» (رواه الطبراني مرفوعاً ورجاله رجال الصحيح) وقال صلى الله عليه وسلم : «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات ادرؤوا الحدود ما استطعتم» (رواه الخمسة).
وحسبنا أن الله تعالى مُطَّلع على سرائرنا، وأنه حمَّلنا أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كلِّ حال وفي كلِّ مجال، القسط الَّذي يمنع البغي والظلم في الأرض، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فالعدل أساس الملْك وقوامه، بل أساس الحياة السعيدة كلِّها.