الفصل الرابع:
التجمُّل وحسن المظهر
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {يابني آدم قد أَنزلنا عليكم لِباساً يُواري سَوْءاتِكُم ورِيشاً.. (26)}
وقال أيضاً: {يابني آدمَ خذوا زينَتَكم عند كلِّ مسجدٍ.. (31)}
وقال أيضاً: {قُلْ من حرَّمَ زينةَ الله الَّتي أخرجَ لعباده.. (32)}
ومضات:
ـ الإسلام دين الواقع والحياة؛ لأنه الدِّين الَّذي جمع بين مطالب الروح وحاجات الجسد على حدٍّ سواء، وجعل من كلِّ ما ينسجم مع الفطرة السليمة مباحاً حلالاً، وحرَّم ما يتناقض معها ويسيء إليها.
ـ لمَّا كان التجمُّل والتزيُّن رغبة فطرية في الإنسان، جعله الإسلام أمراً مباحاً في كلِّ حين، ومندوباً وواجباً في الأعياد والصَّلوات الَّتي تجمع كثيراً من الناس في مكان واحد؛ وذلك ليكون قريباً من إخوته في هذه اللقاءات، وبعيداً عن كلِّ ما ينفِّرهم ويؤذي مشاعرهم.
في رحاب الآيات:
لقد كرَّم الله الإنسان على جميع مخلوقاته بالعقل والإرادة والتكليف، وميَّزه عنها بأشياء كثيرة وعديدة من أهمِّها اتخاذ الملابس والزينة، لأنها تدلُّ على مظهر حضاري رفيع، أمَّا التجرُّد عنها فـيُعَدُّ انحداراً عن المستوى الإنساني العالي إلى المستوى البهيمي المتدنِّي. وقد امتنَّ الله على الناس بأن خلق لهم المادَّة الَّتي يصنعون منها ثيابهم، وجعلها في متناول أيديهم كالصوف والقطن والوبر والحرير وهذا هو معنى قوله تعالى: {أنزلنا عليكم لباساً}، حيث ألهمهم طرق تصنيعه تحقيقاً لغايتين هما: الستر لعوراتهم فتسمَّى لباساً، وزينة لمظهرهم فتسمَّى ريشاً، فاللباس من الضرورات، والريشُ الَّذي ذكر في الآية الكريمة يعني الزينة من التحسينات والكماليات المباحة الَّتي فُطِرَ الإنسان على الرغبة فيها، بحيث يبدو أمام الناس بالمظهر الجميل اللائق.
فالمسلم الحقيقي حسن المظهر دائماً، حلو الكلام، عذب اللسان، يألف ويُؤْلف. وقد أحلَّ الله له الاستمتاع بالطيِّبات ملتزماً حدود الاعتدال، فلا إسراف ولا تبذير، ولا إفراط ولا تفريط. وليس من الدِّين في شيء إهمال نظافة الجسد، أو ارتداء البالي من الثياب بحجَّة الزهد والتقشُّف، فقد أخرج أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قلت: نعم، قال: من أيِّ المال؟ قلت: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله فليُرَ أثرُ نعمةِ الله عليك وكرامته».
ويشترط في التزيُّن ألا يصل حداً يفتتن الإنسان به، ولابأس في أن يتفنَّن به بما علَّمه الله وهيَّأ له من الأسباب، كي يتوصَّل إلى أنواع كثيرة من الزينة المباحة الَّتي لا يخالطها إسراف أو تكبُّر. أخرج مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبَّة من إيمان، ولا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال حبَّة من كِبْر، فقال رجل: يارسول الله! إنه يعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً، وذكر أشياء... أَمِنَ الكِبْرِ ذاك يارسول الله؟ قال: لا، ذاك الجمال، إن الله عزَّ وجل جميل يحبُّ الجمال، ولكن الكِبْرَ من سَفَّهَ الحقَّ وازدرى الناس».
فالإسلام لا يُحرِّم شيئاً من الزينة الَّتي خلقها الله لعباده، وهو ينكر على الغُلاة والمتشدِّدين تحريمهم لما أحلَّ الله، قال تعالى: {قل من حرَّمَ زينةَ الله الَّتي أخرج لعباده..} فالزينة مباحة لجميع الناس، ولكن الشكر عليها واجب لله الَّذي خلقها وأنعم بها على عباده، وذلك ليقترن نعيم الدنيا برضوان الله، ولتنقلب العادات إلى عبادات وترتفع الأعمال من الأرض وتكتب مقبولة في السموات. روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من استجدَّ ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ تَرْقُوَته: الحمد لله الَّذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلِق فتصدَّق به كان في ذمَّة الله وفي جوار الله، وفي كَنَفِ الله، حياً وميتاً».
فاتخاذ الزينة، وارتداء الثياب النظيفة والجميلة والأنيقة مستحبٌّ ومستحسن كلَّ حين، ولكنَّه أكثر استحباباً عند أداء العبادة لاسيَّما في أماكنها الخاصَّة بها لقوله تعالى: {يابني آدم خذوا زينتكم عند كلِّ مسجد}، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا صلَّى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله عزَّ وجل أحقُّ مَنْ تُزُيِّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليأتزر إذا صلَّى» (أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه ) ؛ و إقتداءً بعمله صلى الله عليه وسلم واستحبابه لبس الجميل من الثياب، فعن جندب بن مكيث رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قَدِم عليه وفدٌ لَبِسَ أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك، فرأيته وَفَدَ عليه وَفدُ كِندَه وعليه حُلَّـةٌ يمانية، وعلى أبي بكر، وعُمر مثل ذلك» (رواه أبو نعيم والواقدي). وعن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حُلَّـة حمراء» (رواه البخاري). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «مارأيت أحداً من الناس أحسن في حُلَّـة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم » (رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي) أمَّا عن الزينة في يوم الجمعة فهي سنَّة مستحبَّة يُثاب عليها صاحبها ويؤجر لقوله صلى الله عليه وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده ثم أتى المسجد فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلَّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إِمامُهُ حتَّى يفرغ من صلاته كانت كفَّارة لما بينها وبين جمعته الَّتي قبلها» (رواه أبو داود عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ).
ويُستثنى من هذا الحكم خروج المرأة إلى المساجد أو الطرقات وعليها أثر من أثر الزينة، فعن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنه قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباً» (رواه مسلم). فزينة المرأة في بيتها ولزوجها فهو أحقُّ من تتزيَّن له، فإذا خرجت من بيتها فهي مأمورة بالاحتشام وعدم إبداء شيء من تلك الزينة أمام الأجانب والغرباء عنها، حفاظاً على نفسها من أن ينالها ضرر وأذى، وحفاظاً على المجتمع من الانحراف والفساد.