الفصل الثاني:
الوصيّـَة
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {كُتِبَ عليكُم إذا حَضَرَ أحدَكُمُ الموتُ إن تركَ خيراً الوصيَّة للوالِدَينِ والأقربينَ بالمعروفِ حقّاً على المتَّقينَ(180) فمن بَدَّلَهُ بعد ما سمِعَهُ فإنَّما إثـْمُهُ على الَّذين يُبَدِّلُونَهُ إنَّ الله سميعٌ عليمٌ(181)}
ومضات:
ـ الآيات الكريمة تُرسي قاعدة من قواعد الترابط والتكافل الاجتماعي بين الناس، فهي تحضُّ على من أشرف على الموت وله مال أن يوصي ببعضه لمن يستحقُّه، تكفيراً عن سيئاته وزيادة في حسناته، على أن تستوفي الوصيَّة شروطها ولا تحمل ظلماً للورثة الشرعيين. وفي هذا توازن واعتدال دعا الله تعالى إليهما، من أجل إقامة المحبَّة والمودَّة بين الناس من جهة، وحفظ حقوقهم وكرامتهم من جهة أخرى.
ـ من يبدِّل الوصيَّة سواء كان من الشهود عليها أو من منفِّذيها بعدما عَلِمَها فهو آثم، لأنه يعطِّل الغاية الَّتي أرادها الله تعالى من تشريعها، ويعتدي على حقوق غيره.
ـ ليس للمؤمن أن يُحجم عن كتابة الوصيَّة مخافة أن يُبدِّلها بعض المستفيدين، لأنهم إن فعلوا فإنما وزرهم على أنفسهم، أمَّا هو فقد قام بواجبه وسينال الثواب عليه؛ فالله يعلم ويرى ويشهد ولن يضيع لعامل عمله ولو كان مثقال ذرَّة من خير.
في رحاب الآيات:
المال عصب الحياة الدنيا، لذلك اهتمَّ الإسلام به، وشجَّع على كسبه بوجه حلال، وأقام له نظاماً مرتَّباً منسجماً، وهذا مظهر من المظاهر العملية للإسلام. وما التشجيع على العمل والكسب الحلال، وفرض الزَّكاة في مال الأغنياء، وإباحة البيع، وتحريم الربا، والنهي عن كنز المال، إلا صور عن واقعيَّة الإسلام، وتعامله مع الإنسان على أساس فطرته ونوازعه واحتياجاته في كلِّ زمان ومكان. واستكمالاً لدور المال في بناء المجتمع، فقد أنزل الله تعالى أحكام الميراث الَّتي جعلت للوارثين حقوقاً شرعية يرثونها، ووجَّه الإنسان إلى أن يترك وصيَّة للأقربين الَّذين لا يرثون بسبب وجود ورثة أَوْلى منهم، صدقة وقربى؛ بل إن في الوصيَّة تعويضاً للفقراء عمَّا تقاعس المسلم عن دفعه من زكاة ماله. والوصيَّة هي أن يمنح الإنسان لغيره عيناً أو منفعة، على أن يملك المُوصَى له هذه المنحة بعد موت الموصي، وهذه الوصيَّة تؤخذ من التركة على أن لا تتجاوز الثلث؛ والتركة هي ما يتركه الميت من الأموال مطلقاً والَّتي لها قيمة في نظر الشرع.
وقد حضَّ الإسلام على الوصيَّة فيما يخلِّفه الإنسان بعد موته من مال كصورة من صور التكافل العائلي والاجتماعي العام في خارج حدود الوراثة، وكنوع من أنواع المعروف والإحسان إلى الناس وجعلها من جملة الحقوق الأساسية المتعلقة بالتركة وهي:
1 ـ تكفين الميت وتجهيزه.
2 ـ قضاء ديونه.
3 ـ تنفيذ وصيَّته.
4 ـ تقسيم ما بقي من مال بين الورثة وهم: كل من ينتمي إلى الميت برابطة نسب أو زوجيَّة.
أمَّا رابطة الزوجيَّة فتشمل كلاً من الزوج والزوجة وأمَّا رابطة النسب فتشمل الأقرباء كافَّة والَّذين يمكن تصنيفهم فيما يلي:
كلُّ من كان من فروع الميت وهم أبناؤه وبناته وأولادهم مهما تفرَّعوا، وكلُّ من كان من أصول الميت وهم أمُّه وأبوه وأجداده وجدَّاته مهما علوا، وكلُّ من كان من فروع أبويه وهم الإخوة والأخوات مهما تفرَّعوا، وكلُّ من كان من فروع أجداده وجدَّاته وهم الأعمام والعمَّات والأخوال والخالات مهما تفرَّعوا، على ترتيب وتفصيل في توريث بعضهم من بعض أو حجب بعضهم ببعض ممَّا هو من اختصاص علم الفرائض والمواريث.
وكما نصَّ الكتاب على الوصيَّة فقد نصَّت السنَّة عليها أيضاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات على وصيَّة مات على سبيل وسُنَّة، ومات على تقىً وشهادة ومات مغفوراً له» (رواه ابن ماجه).
وفي حديث آخر يحثُّ النبي صلى الله عليه وسلم على الوصيَّة ويحرِّض عليها فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيَّته مكتوبة عنده» (متفق عليه).
وللوصيَّة حكمة بالغة، فهي قُربة يتقرَّب بها الإنسان إلى الله عزَّ وجل في آخر حياته، كي تزداد حسناته أو يتدارك بها ما فاته، لما فيها من البرِّ بالناس والمواساة لهم. ويجب أن لا تزيد الوصيَّة على ثلث المال فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «..الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفَّفون الناس في أيديهم» (رواه البخاري ومسلم).
ويختلف حكم الوصيَّة بحسب الظروف المحيطة بها فهي:
1 ـ واجبة إذا كان على الإنسان حقٌّ شرعي يخشى أن يضيع كالزَّكاة والحج.
2 ـ مستحبَّة للأقرباء والفقراء والصَّالحين من الناس.
3 ـ مباحة للغني سواء أكان قريباً أم بعيداً.
4 ـ مكروهة إذا كان الموصي قليل المال وله ورثة يحتاجون إليه.
5 ـ مُحرَّمة إذا كان فيها إضرار بالورثة ولو كانت دون الثلث؛ روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: (الإضرار في الوصيَّة من الكبائر).
أمَّا ثبوت الوصيَّة فيتمُّ بالمشافهة وبالإشارة المُفْهمة إذا كان الموصي عاجزاً عن النطق، وكذلك بالكتابة، وهي من العقود الجائزة الَّتي يجوز فيها للموصي أن يغيِّرها أو يبدِّل فيها أو يرجع عما أوصى به، وهي لا تستحقُّ للموصَى لهم إلا بعد سداد دين الموصي، وكونها في حدود ثلث المال الباقي بعد تسديد الدَّين.
وللوصيَّة شروط أربعة:
1 ـ أن يكون الموصي كامل الأهلية لعقد الوصيَّة، متمتِّعاً بالعقل والبلوغ والحرِّية والاختيار، وعدم الحجر عليه لسفاهته أو غفلته.
2 ـ ألا يكـون الموصَى له وارثـاً إذ أنه «لا وصيـة لوارث» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
3 ـ أن يكون الموصَى له على قيد الحياة حين كتابة الوصيَّة، وألا يكون الموصى له سبباً في مقتل الموصي.
4 ـ أن يكون الموصى به قابلاً للتمليك كالمال والعقار وما يثمره الشجر.
ثمَّ يأتي التحذير الإلهي للقائمين على الوصيَّة من أقرباء وأوصياء من أن يحرِّفوها أو يزيدوا فيها أو ينقصوا منها، أو يكتموها لتحقيق مغنم شخصي لهم. والقرآن الكريم يحمِّل هؤلاء إثم ما بدَّلوه، ونكال ما غيَّروه، ويذكِّرهم بأنه إذا لم يكن هناك من شهد معهم الوصيَّة فاجترؤوا على تغييرها، فإن الله معهم يسمع ويعلم، وإذا أُفلِتُوا من عقاب الناس فإنهم لن يُفْلتوا من عقابه عزَّ وجل.
إن الوصيَّة تعدُّ إحدى شعائر ديننا الخالد، وهي لا تقتصر على التبرع بمبلغ من المال ينفَّذ بعد الموت، ولكنها يمكن أن تتناول كلَّ التزام أو حقوق للذَّات أو للآخرين. فكم من إنسان يموت فجأة فتضيع حقوق كثيرة على ورثته أو التزامات عليه تجاه غيره، ولو أن هذا الإنسان اتَّبع سُنَّة الإسلام في هذا الشأن، لبيَّن ما له وما عليه، وكتب ذلك ضمن وصيَّة مخطوطة محفوظة في داره، وبذلك يوفِّر على من بعده متاعب كثيرة ويتلافى حدوث ظلم لأسرته أو لغيرهم، فما أحوج الناس أن يصيخوا السمع لتعاليم الشرع كلِّها، سواءً منها ما كان فرضاً لازماً أو نفلاً مستحباً.