الفصل الرابع:
تحريم أكل المال بالباطل
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ولا تأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالباطِلِ وتُدلوا بها إلى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فريقاً من أموالِ النَّاسِ بالإثمِ وأنتُم تعلمون(188)}
ومضات:
ـ العدالة هي الميزان الَّذي يضبط سائر المعاملات والعلاقات بين البشر، والجنوحُ إلى الظلم، إخلال بهذا الميزان، من شأنه أن يُشيع الفوضى والاضطراب بينهم، وينزع الثقة من صدورهم تجاه بعضهم بعضاً.
ـ الحاكم أو القاضي يحتلُّ دوراً شديد الأهمِّية والخطورة، إذ أن مهمَّة إقامة العدالة ملقاة على كاهله بالدرجة الأولى، ممَّا يُخضِع مسألة اختيار القاضي من قِبَلِ المجتمع لشروط ومعايير دقيقة. وعلى القاضي أن يعي حقيقة مسؤولياته، ويعمل على أن يكون جديراً للاضطلاع بها، قادراً على قهر أيِّ محاولة لإغرائه أو الضغط عليه، بل ومجاهداً من أجل نُصرة الحقِّ والعدالة.
في رحاب الآيات:
إن طبيعة المعاملات الفردية تنعكس على المجتمع ككل، فإذا حُفظت الحقوق بين الأفراد ظهر المجتمع سليماً معافى ممَّا يشجِّع المجتمعات الأخرى المجاورة له على احترامه والتعامل معه، وإذا هُدرت هذه الحقوق، ظهر المجتمع مريضاً متفكِّكاً، وحَمَل المجتمعات الأخرى على الاستهانة به والتطاول عليه.
ولا
يمكن للإنسان بصفته فرداً في المجتمع
أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا
إذا توافرت له جميع عناصر النُّمو،
في مناخ تتساوى فيه
الحقوق والواجبات، وفي
طليعتها حقُّ التملك،
وهو حقٌّ واجب له بصفته إنسان، بغضِّ
النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو
وطنه. وقد احترم الإسلام هذا الحقَّ
وعدَّه مقدَّساً، لا يحلُّ لأحد أن
يعتدي عليه؛ فقد خطب رسول الله r الناس في
حجَّة الوداع، وبعد أن وجَّهَ
انتباههم إلى حرمة اليوم الَّذي
هم فيه، وحرمة الشهر الَّذي
هم فيه، وحرمة البلد الَّذي
هم فيه، قال: «فإن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة
يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا
وستلقون ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم»
(متفق عليه). وبناءً على ذلك فقد عُدَّ
كلُّ مال أُخذ بغير سبب مشروع
تعدِّياً على حقوق الإنسان وكرامته؛
كالسرقة والغصب والاختلاس والربا
والغش وتطفيف الكيل والوزن والرشوة.
وجعل إقامة العدل قيمة عليا من قيمه،
وهي تعني إشاعة الطمأنينة في المجتمع
ونشر ظلال الأمن فيه، بما يوثِّق
علاقات الأفراد فيما بينهم، ويعمِّق
الثقة بين الناس. والعدلُ هو الحُكم
بمقتضى ما شرَّع الله من أحكام، وإقامة
النظام القضائي الَّذي جاء به
الإسلام، وجعله جزءاً من
تعاليمه وركيزة من ركائزه الأساسية.
وقد نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، والتقاضي بخصوصها أمام ذوي النفوذ والسلطة، اعتماداً على المغالطة والبراعة في القول، أو من خلال التلاعب بالألفاظ واستغلال العواطف، أو اللجوء إلى الرشوة، أو التستُّر على الحقائق، ودفع القاضي ليقضي بما يظهر له ممَّا هو بعيد عن الحق.
على أنَّ حُكْمَ القاضي بما يظهر له لا يرفع إثماً عن منتهك حرمة ما حرَّم الله، ولا يخلِّص من عقاب الآخرة، لأن حكمه لا يُحِلُّ حراماً ولا يحرِّم حلالاً. قال صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النَّار» (رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أم سلمة رضي الله عنها) فإذا ادَّعى إنسان على آخر ادِّعاءً، وأقام الشهادة والحجَّة على دعواه فحكمَ القاضي له، فإنه يُتاح له أن يأخذ ما حكم به القاضي طالما أنه جاء بالبيِّنة، فإذا كانت هذه البيِّنة كاذبة، كاستشهاده بشهداء زور، فإن الحكم الَّذي حصل عليه لا يُحلُّه من الإثم، ولا يُنجيه من العقاب، ولا يُبيح له أن يأخذ حقَّ غيره لأن هذا اعتداء وبغي، فالقاضي يأخذ بالظاهر والله يتولَّى السرائر.
إنَّ كُلاً من الراشي والمرتشي لا حظَّ لهما من رحمة الله، لأن الرشوة تُفسد أداة الحكم، وتدفع المنحرفين من القضاة للتلاعب بالأحكام والانقياد للهوى فيضلُّون عن الحقِّ، وإذا وصلوا إلى هذا الدَّرْك ولم يجدوا من يقوِّم انحرافهم، ألقَوْا بالأمَّة إلى التهلُكة، قال صلى الله عليه وسلم : «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» (رواه أحمد وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان). ولقد نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، وتقديمها إلى القضاة للاستعانة بهم بغير حقٍّ، فقد روى مسلم عن أبي أمُامة y أن رسول الله r قال: «من اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النَّار وحرَّم عليه الجنَّة. فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يارسول الله؟ فقال: وإن كان قضيباً من أراك». وغنيٌّ عن القول أن هذا الحديث وإن خصَّ المسلم، إلا أنه يمكن تعميمه لحفظ حقوق جميع الناس، مهما كانت جنسياتهم ودياناتهم، بدليل الأحاديث الشريفة الأخرى في هذا المجال، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : «من ظلم معاهَداً، أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه ـ خصمه ـ يوم القيامة» (رواه أبو داود) علماً بأن أيَّ عمل مجيد، ولو بلغ الاستشهاد في ميدان الجهاد، لا يكفِّر خطيئة أخذ المال بغير حق.
والآية تلقي بالمسؤولية العظمى على كاهل القاضي كي يكون أميناً في حُكمه، عادلاً في قضائه، متقصِّياً للحقيقة، ومبتعداً عن التحيُّز. وتُهيب به ألا يقبل هدية أو رشوة في قضية ما، لأنها لا تتعدَّى كونها متاعاً زائلاً ومالاً حراماً يعقبه العقاب الشديد، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله مع القاضي ما لم يجُر، فإذا جار تخلَّى الله عنه ولزمه الشيطان» (رواه ابن ماجه والترمذي)، وهذا ينطبق على سائر العاملين بالقضاء، ممَّن يمكن لهم أن يُدلوا بدلوهم في توجيه الحكم في حقوق الناس نحو هذا الطرف أو ذاك، سواء كانوا محامين أم شهوداً أم محكَّمين أم مستشارين.
ولم يترك الإسلام القضاة لأهوائهم، بل حذَّرهم وهدَّدهم أفظع تهديد إن هم انساقوا وراء أهوائهم وشهواتهم فظلموا عباد الله، قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامينَ لله شهداءَ بالقِسْطِ ولا يجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تعْدِلوا اعدِلوا هوَ أقربُ للتَّقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون} (5 المائدة آية 8).
وقال النبي r محذِّراً من القضاء بغير علم ومن الجور والمحاباة: «القضاة ثلاثة واحد في الجنَّة واثنان في النَّار، فأمَّا الَّذي في الجنَّة فرجل عرف الحقَّ وقضى به، وأمَّا الَّذي في النَّار فرجل عرف الحقَّ فجار في الحكم فهو في النَّار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النَّار» (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن بريدة عن أبيه).