الفصل الخامس:
تحريم التطفيف
سورة المطففين(83)
قال الله تعالى: {ويلٌ للمُطَفِّفين(1) الَّذين إذا اكْتالوا على النَّاسِ يَستَوفون(2) وإذا كالوهُم أو وزنوهُم يُخْسِرون(3) ألا يَظنُّ أولئك أنَّهم مبْعوثون(4) ليومٍ عظيم(5) يومَ يَقومُ النَّاسُ لربِّ العالَمين(6)}
ومضات:
ـ إن الأمانة في التعامل التجاري مبدأ هامٌّ وحيوي، وقد أعدَّ الله تعالى عذاباً أليماً لمن يتلاعب بحقوق الناس، فيبخسهم أشياءهم بينما يستوفي حقَّه منهم كاملاً. ذلك لأنه غفل عن رقابة الله عليه وتناسى يوم الحساب، الَّذي تستسلم فيه الخلائق جميعاً لربِّ العالمين، وهي على غاية من الخشوع والذُّل والانكسار، تخشى حسابه وترتجي جنَّته.
في رحاب الآيات:
إذا ركب الطمع النفس البشرية، وأفقدها النَّهمُ إحساسها بحقوق الآخرين، أصبح همُّها الأوحد أن تكون السبَّاقة إلى الظفر بكلِّ شيء سواء أكان بحقٍّ أم بباطل، فيسيطر عليها حبُّ الذَّات فيعميها عن الحقِّ، فلا ترى إلا ذاتها. إن صاحب هذه النفس إذا باع شيئاً أكل من حقِّ المشتري فأنقص له الوزن أو الكيل، وإذا اشترى من أحد شيئاً زاد فيه، يتلاعب بالموازين، ويتغافل عن المعايير الأخلاقية والقِيَم الإنسانية الفاضلة، ولكن الله ليس غافلاً عنه بل لقد أعدَّ له عذاباً وخِزياً يوم القيامة، وقد يُعَجِّلُ له جزءاً من العذاب فيفضحه في دار الدُّنيا.
وعندما نزلت هذه الآية، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الصحابة وقال: «خمس بخمس، قيل: يارسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا فشا فيهم الموت، ولا طفَّفوا الكيل إلا مُنِعوا النبات وأُخِذوا بالسنين، ولا منعوا الزَّكاة إلا حُبس عنهم المطر» (رواه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه ).
والملفت للنظر بأن هذه الآيات سواء كانت مكيَّة أم مدنيَّة، فالتصدِّي لشأن المطفِّفين كان بمثابة إعلان الحرب عليهم، وهم حينها من طبقة السادة وذوي النفوذ؛ حيث كانوا يمارسون التطفيف معتمدين على مركزهم ونفوذهم. فهم يكتالون {على الناس} لا من الناس، فكأنَّ لهم سلطاناً يجعلهم يستوفون بالمكيال والميزان بالقسر على أكثر من حقِّهم، دون أن يستطيع هؤلاء الناس منعهم أو الوقوف في وجههم.
فكان الإسلام بهذه الصيحة المبكرة موقظاً للجماهير المستَغَلّة، معرِّياً سادة مكَّة أو المدينة المهيمنين على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم. لذلك عارض هؤلاء السادة ـ مشركين أو منافقين ـ الإسلام دفاعاً عن مراكزهم ومصالحهم، وشنُّوا حرباً عليه لاهوادة فيها، لأنه يهدِّد كيانهم الزائف وسلوكهم المنحرف. هذه الحرب مازالت قائمة إلى يومنا هذا، في كل جيل وفي كلِّ أرض، والطغاة المطففـون ـ في أيِّ صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات، وسواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو بين الدول القوية والدول الضعيفة ـ هم الَّذين يخافون أكثر من غيرهم ظهور ذلك المنهج النظيف العادل، الَّذي لايقبل المساومة ولا المداهنة، بل العدل المطلق لجميع الأفراد وجميع الشعوب، على اختلاف عروقها وأديانها.
تلك النفوس الجائرة، الجشعة الماكرة، لو أنها خفَّفت من غلوائها وتحرَّرت من أَسْر شهواتها، وفكَّرت مليّاً، لتذكَّرت بأن أمامها محكمة، قاضيها ربُّ العالمين، والقانون المعتمد فيها هو قانون العدل الَّذي قامت عليه السموات والأرض، حيث يُنصِف الله جلَّ وعلا عباده من جور بعضهم على بعض، ويُكافِئ المحسن، ويعاقب المسيء. إن هذه النتيجة الحتمية الَّتي لا مِراء فيها لجديرة بأن يقف المرء أمامها وقفة تأمُّل واعتبار، ومن ثَمَّ المسارعة إلى نبذ كلِّ ما نهى الله عنه، والتمسُّك بكلِّ ما دعا إليه سبحانه.