البواسل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذو الجلال والجمال الازلي القديم بلا زوال العادل فى حكمه بالموت بين الدونى والعال ولو فدي احد منه لكان الاحق بالفداء سيدنا محمد وصحبه واللآل والحمد لله الذي شرف العابدين بعبادته ، وميّز الطائعين بطاعته ، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه ، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه ، وأومن به وأتوكل عليه . من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ..وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله رحمةً للعالمين ، وسراجاً للمهتدين ، وإماماً للمتقين ، فبلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة .. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين .. أما بعد :
إن موضوع العبادة في الإسلام متشعب فله مجالات شتّى من حيث أحكام هذه العبادات ، وله مباحث واسعة من حيث معطياتها ، فإن لكل عبادة من هذه العبادات عطاءاً مدرارا ً. والعبادة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على الإنسان فيها قوام حياته ، ذلك لأن الإنسان ميّزه الله سبحانه وتعالى عن سائر الخلق بما أعطاه من المواهب الحسية والمعنوية ، ومكّن له في هذه الأرض ، فحياته فيها تختلف عن حياة أي كائن آخر ، ولذلك تدركون جميعاً أن الإنسان استطاع بما أعطاه الله عز وجل من هبات أن يسخر سائر الكائنات الموجودة في هذه الأرض لمصلحته بينما هذه الكائنات لم تستطع أن تسخر الإنسان لمصلحتها مع ما آتى الله سبحانه وتعالى بعضها من طاقات وقوى ، فكثير من الحيوانات تفوق الإنسان من حيث القوى الجسدية ، ولكن مع ذلك ما استطاعت أن تسخر الإنسان ، بينما الإنسان هو الذي استطاع أن يسخرها.
وهذه الكائنات المختلفة ما استطاعت أن تستغل منافع هذه الأرض كاستغلال الإنسان لها ، فالإنسان هو الذي استخرج معادن الأرض من مكامنها ، والإنسان هو الذي استطاع أن يسخر طبيعة الأرض وطبيعة الكون من حول الأرض لمصلحته ، وهو الذي شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل من بين سائر الكائنات الموجودة في هذه الأرض مطبوعاً بطابع التطور والإرتقاء من حال إلى أخرى.
فالإنسان في هذا اليوم يختلف عن الإنسان فيما قبله ، فالناس فيما تقدّم من القرون كانوا يسخرون الوسائل البدائية لمصالحهم ، بينما إنسان هذا اليوم تطور حتى استطاع أن يسخر الكهرباء للمنافع المتنوعة له ، فاستطاع أن يسخرها في التعمير وأن يسخرها في التدمير ، واستطاع أن يسخرها في التبريد وأن يسخرها في التسخين ، وأن يسخرها في التحريك وأن يسخرها في الإسكان ... وهكذا.
واستطاع الإنسان في هذا العصر أن يقطع المسافات الطويلة في مدد قصيرة ، كل ذلك راجع إلى طبيعة التطور الكامنة في فطرته ، فتمييزه بين سائر المخلوقات يدل على مكانته ، تلكم المكانة التي أخبر الله تعالى بها في قوله: (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )) { الإسراء/70 }.
الإنسان خليفة الله في أرضه :
والإنسان الذي أعطاه الله هذه الكرامة واختصه بها من بين سائر المخلوقات ، فكان أرفع منها شأناً وأجل منها منزلاً .. أُُوتَي ما أُوتيه من تلك المواهب لأن الله تعالى اختصه بمنصب في هذه الأرض ، ذلكم المنصب هو "الخلافة" التي أخبر الله بها في قوله سبحانه : (( وإذ قال ربك للملائكة إنِّ جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون )) ، { البقرة/30 }.
فالإنسان إذاً يتحمل أمانة ... هذه الأمانة هي الخلافة في هذه الأرض .
ومن المستخلِف ؟! .. المستخلِف هو الله سبحانه وتعالى ، وإذا فعلى الإنسان أن يكون موصولاً بالله سبحانه .
والصلة بالله تتم بأمرين :
أولهما : العقيدة الصحيحة وثانيهما : العمل الصالح
فإن الإنسان إن لم يكن معتقدا الإعتقاد الصحيح لا يمكنه أن يقوم بواجبات هذه الخلافة ... ذلكم لأن الإنسان إن لم يكن معتقده صحيحاً كان بمثابة الحيوان الأعجم لا يرى قيمة لهذه الحياة إلا بقدر ما يكسب فيها من منافع نفسه .. ولا يعرف امتداداً لهذه الحياة إلا بقدر هذه المرحلة القصيرة المحدودة بين المبدأ والمصير ، ولكنه إن آمن الإيمان الصحيح الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على الخلق ، إيماناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله كان هذا العبد موصولاً بربه .. ولكن هذا الإيمان سرعان ما يتأثر بمؤثرات مختلفة ، فطبيعة النفس الإنسانية طبيعة فيها الشره والأنانية والرغبة في الإستئثار ، إلى ما وراء ذلك من العادات السيئة التي يكسبها الإنسان من خلال احتكاكه بالناس ، وما يقع بينه وبينهم من الخلافات والمنازعات ، فالتغلب على ذلك كله أمر صعب ، وذبالةُ الإيمان التي تشع في نفس الإنسان سرعان ما تنطفئ عندما تغشاها هذه الغواشي وتعصف بنورها هذه الطبائع ، لذلك كان الإنسان بحاجة إلى أن يكون موصولاً بالله سبحانه وتعالى أيضاً من خلال عمله ، وذلك من خلال القيام بهذه العبادات المختلفة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على الإنسان إذ هي بمثابة الوقود لهذه الشعلة .
وبأداء هذه العبادات يمكن لهذا الإنسان أن ينظم حياته كلها فتكون متناسقة لا يطغى جانب منها على جانب ، ولا يؤثر مصلحة نفسه على مصلحة غيره .
العبادة بُعِثَ إليها جميع المرسلين:
إن العبادة التي جعلها الله سبحانه وتعالى صلة بينه وبين خلقه ، وجعل فيها غذاء للأرواح والقلوب ، قد بعث للدعوة إليها جميع المرسلين ، فما من نبي أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه إلا وكانت دعوته بينهم أن يفردوا الله تعالى بالعبادة وألاّ يشركوا مع الله أحداً .. يقول الله سبحانه وتعالى: )) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون ِ)( }الأنبياء ، 25{ وقد أخبر الله تعالى عن نوح وعن هود وعن صالح وعن شعيب عليهم السلام أنهم قالوا لقومهم: (( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) .
وحكى عن عبده المسيح عليه السلام أنه قال : (( اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )) } المائدة/117 {. وبيّن سبحانه أن الغاية من خلق الإنسان والجن هي العبادة ، فقد قال عز من قائل : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) } الذاريات /56} .
العبادات ليست خاضعة لعقول الناس وتجاربهم :
لم يكل الخالق سبحانه وتعالى أمر العبادات إلى الناس أنفسهم ، فيعبدوا الله كما تملي عليهم عقولهم وأفكارهم ، وإنما جعل أمر العبادة أمراً غير خاضع للتجارب ولا للنظريات ، فهو أمر خاص بتوجيه الله سبحانه وتعالى .. لأن العقول مهما استنارت ، والأفكار مهما تطوّرت ، والبصائر مهما تفتحت فإنها لا تستطيع أن ترسم الطريق الصحيح لعبادة الله سبحانه وتعالى وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدينا إلى عبادته عز وجل.
والعبادة – بجانب كونها امتثالاً من العبد لربه سبحانه وتعالى ، وصلة بين العبد وخالقه – هي رباط بين الفرد ومجتمعه ، ومع ذلك كله هي استجابة لمطلب ملّح ، ونداء متتابع من أعماق نفس الإنسان ، فإن كل أحد يشعر بالخواء الروحي والفراغ الفكري إذا لم يعبد الله سبحانه وتعالى .. ولذلك فإن الناس الذين لم يتلقوا طريقة العبادة من الوحي هاموا في هذا الأمر واتبعوا أهواءهم فسلكوا طرائق قدداً ، فمنهم من صار يعبد الظواهر الكونية الطبيعية ، ومنهم من صار يعبد القوى الروحانية الخفيّة ، ومنهم من صار يعبد أنواعاً من المخلوقات الظاهرة .. ومنهم .. ومنهم ... وفي هذا كله ما يدلنا على أن كل أحد يشعر بالضرورة الملحة ، والحاجة التي لا تقف عند حد إلى العبادة .. لأجل إدرك الناس ضرورة العبادة من حيث أنهم أدركوا أن وراء هذا العالم قوة غيبية تُهيمن عليه ، وأدركوا ضرورة الإتصال بها فأخذوا يبحثون عن طرق العبادة ، وحاول بعضهم أن يتصل بهذه القوة الغيبية بطريقة أو بأخرى .. فمنهم من أتخذ الوسائط إلى تلك القوة والظواهر الكونية ، ومنهم من اتخذ الوسائط إليها القوى الطبيعية ، ومنهم من اتخذ الوسائط إليها القوى الروحانية الخفيّة .. وكل منهم لسان حاله يقول : (( ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زُلفى )) { الزمر/3 }.
ومن ذلك نتبين أن العبادة الصحيحة لا يهتدى إليها بالفكر البشري و لا بالتجربة وإنما يهتدى إليها بوحي من الله سبحانه ، كما أنه يتبين أن الإنسان ولو تفتحت له آفاق المعرفة ، وتفنن في طرائق الفلسفة وبلغ أوجه في التطور لا بد له من الدين ، فإن الدين كما قيل ضروري للسعادة والنظام.
العبادة الصحيحة تنسق بين جوانب حياة الإنسان المختلفة :
لقد جعل الله سبحانه وتعالى في هذا الإنسان خصائص وأشياء تجعل من حياته مزيجاً من تفاعلات وتداخلات مختلفة الجوانب متعددة الظواهر شديدة التأثير فيه وفي من حوله .. وذلك لأن الإنسان يجمع بين أشياء قد يكون بينها شيء من التضاد والإختلاف ، فهو يجمع ما بين الروح والجسد ، وهو يجمع ما بين العقل والوجدان وهو يجمع ما بين العواطف والضمير ولكل من ذلك مطالب ودوافع.
ولا يستطيع الإنسان أن ينسق ما بين هذه المطالب ، وما بين هذه الدوافع وأن يجعلها جميعاً تسير في الطريق الموصل إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة إلاّ بالعبادة الصحيحة لخالقه وبارئه سبحانه وتعالى التي من خلالها يستعلي على نزوات نفسه ورغباتها ،وبالإيمان الصحيح الراسخ الذي يتحكم في طاقاته المختلفة حتى تتسخر لما فيه خير هذا الإنسان في عاجلته وآجلته ،ولما فيه مصلحة بني جنسه أيضا الدنيا والآخرة .
العبادة الصحيحة توائم بين حركتي الإنسان (الإضطرارية والإختيارية) :
لهذا الإنسان نوعان من الحركات :
أولهما : حركته الفطرية الإضطرارية ، وثانيهما : حركته الكسبية الإختيارية .
وبالعبادة الصحيحة- وهي التي تؤدى كما شرع الله سبحانه وتعالى يتم التواؤم بين حركتيه الفطرية والكسبية فالعبادة هي التي تنسق المعاملة بين الحركتين فإن الإنسان يتحرك تحركا اضطراريا مستمرا بحسب سنة الله تعالى في خلقه ، هذا التحرك لا فكاك له عنه ، ولا مخلص له منه .. كتحرك النفس ، وتحرك النبض ، وما وراء ذلك من الحركات التي لا يمكنه أن يسكنها .. وهناك حركات إختيارية يتحركها الإنسان في إطار ما أعطاه الله سبحانه وتعالى من قوة وما أولاه من اختيار ، فبالعبادة يكون التواؤم بين الحركتين ، وكما أن بالعبادة يتواءم تحرك هذا الكون الذي يسبح بحمد الله ويسبح لجلال الله .
يقول الله سبحانه وتعالى: (( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ )) { سورة الجمعة/1} وقال سبحانه: (( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ )) {سورة الحشر/1 ، الصف/1} وقال عز وجل: (( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )) {سورة الإسراء/44}.
ويقول عز من قائل : (( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ )) {الحج/18}.
أما إذا شذّ الإنسان فلم يعبد الله تعالى حق العبادة على ما يحب ربُّنا ويرضى حصل نشاز وتصادم بين حركتيه الفطرية الإضطرارية والكسبية الإختيارية ، وأيضاً سيكون شاذّاً عن الكون الذي يجري في سَنَن واحد، والذي جعله الله خليفةً فيه، إذ كيف يحصل الوفاق بين كون يؤمن بالله سبحانه وتعالى ويخضع ساجداً لجلال الله ربِّ العالمين ويسبِّحُ بحمد الله وبين إنسان يأبى ذلك ويأنف من عبادة الله ويستكبر استكباراً .. إن الوِفاق والتناسق مستحيلان قطعاً في هذه الحال.
وذلك على العكس تماماً من أولئك الذين يعبدون الله حق عبادته ويسجدون له سبحانه ويمتثلون أوامره ويجتنبون نواهيه فإنَّهم يسيرون وفق النظام الصحيح الذي يسير فيه هذا الكون بأسره .. لأنهم أدركوا غاية وجودهم في الحياة ومآلهم بعدها ، وشعروا بما عليه من واجب الشكر لله عز وجل ، الذي سخر هذا الكون لمصلحة وخير هذا الإنسان ، الذي ما من خليّة فيه ، ولا ذرة في هذا الكون ولا أقل من ذلك من جزئيات إلا وهي ألسن تُسبح بحمد الله وتعلن الإنقياد لأمره والتسليم لقضائه.
وهذا أمر يدركه العارفون بالله ، وقد تحدثوا عن ذلك قبل أن تكتشف هذه الخلايا وما تنطوي عليه ... لنسمع أحد العارفين بالله عز وجل وهو الإمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله ( من علماء القرن الثالث عشر الهجري ) يقول:
أعاين تسبيحي بنـــــور جنانـــي ****** فأشهـد مني ألــفَ ألــفِ لسانــي
وكلُّ لسانٍ أجتلــــي من لغاتِــــه ****** إذا ألفِ ألفٍ من غريــب أغـــان
ويُهدى إلى سمعي بكلِّ لُغَيَّــــــةٍ ****** هُــدى ألفِ ألفٍ من شتيتِ معاني
وفي كل معنى ألفُ ألفِ عجيبـةٍ ****** يُقصــر عـن إحصائها الثّقــــلان
ولم أذكر الأعــدادَ إلا نموذجـــاً ****** كأنــّي في أوصــافِ ميططـــرانِ
وإلاّ ففـوقِ الــعــدِّ أمرٌ مُـنَــــزَّهٌ ****** عــن الحد يَـفْـنَـى دونـه الملـــوانِ
ولا تتعجــب إن عجبــتَ فإنهــا ****** حقائــُــق صــدقٍ ليــس بالهذيــانِ
فهذا أمر يدركه من أخلص عبادته لله العلي القدير ، يُحسُ من أعماق نفسه أن كل ما ينطوي عليه جسمه يتجاوب معه في تسبيحه لله سبحانه وتعالى لأن هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
أما إذا امتنع المرء عن عبادة الله عز وجل أو أشرك غير الله في عبادته لله سبحانه ، فإنه يُحَـرم من هذا الخير ويُحال بينه وبين هذا الإنسجام ، ولذلك فإن الذين لا يعبدون الله سبحانه يشعرون باضطراب النفس ، وعدم الإستقرار وتتناوبهم الأمراض العصبية والأمراض النفسية نتيجة البعد عن ذكر الله تعالى .. يقول سبحانه: (( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )) { الرعد/28 } ، وإذا كان الإنسان قد أُتي ما أُوتي من الخيرات وبُوِّئ هذا المنصب العظيم منصب الخلافة في هذه الأرض ، وخُلِقَتْ له المنافع الأرضية المختلفة وسخرتْ له المنافع الكونية المتعددة كما يدل على ذلك قول الله تعالى: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً )) { البقرة/29 } ، وقوله: (( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ )) { الجاثية/13 } فإنـّـه حَرِيٌّ بهذا الإنسان أن يكون عابداً لربه وذلك بأن يتبع منهج الله سبحانه وتعالى فيكون إماما للعابدين في هذا الكون .. فالكون كله سخره الله تعالى للإنسان وهو يعبد الله فكيف بهذا الإنسان الذي أوتي هذه النعمة العظيمة ، أليس هو أحرى أن يكون أحرص على عبادة الله من غيره وقد خلق لأجلها كما يدل على ذلك قوله عز من قائل: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )) { الذاريات/56-58 }.
وإذاً فالمنافع الكونية خلقها الله سبحانه وتعالى للإنسان وخلق الإنسان للعبادة فعلينا أن نعبد الله سبحانه وتعالى كما افترض علينا وأن نفرده بعبادتنا وأن نبتغي بها ما عنده ، وألاّ نشرك فيها أحداً من خلقه فلا نشرك فيه هوى نفوسنا ولا نشرك فيها هوى أحدٍ غيرنا ، ولا نشرك فيها الأوهام ولا نشرك فيها الشياطين ، ولا نشرك فيها الطواغيت ، وإنما علينا أن نعبد الله سبحانه وتعالى وحده مخلصين له الدين. وبذلك كله يحصل التوافق والتواؤم لدى كل منا ما بين حركتيه الإضطرارية والإختيارية أو بعبارة أخرى الفطرية والكسبية ، وتواؤم أيضاً ما بين حركة العبد منّا وحركة هذا الكون الواسع الأرجاء المترامي الأطراف.
ما هي العبادة المطلوبة؟
لكن ما هي هذه العبادة المطلوبة من الإنسان ؟!
العبادة المطلوبة من الإنسان هي الخضوع المطلق والشعور بالحاجة والفقر إلى من بيد ملكوت كل شيء والإستيقان أن صاحب هذا السلطان العظيم هو الذي يدبر كل شيء فلذلك يشعر الإنسان من أعماق قلبه بالإفتقار إليه ، هذه هي روح العبادة .. والأعمال المختلفة إنما هي ترجمة لهذه العقيدة الصحيحة التي هي متمكنة راسخة في نفس العابد.
يقول الله عز وجل: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) { البيّنة/5 }.
فلا بد من إخلاص الدين لله سبحانه وتعالى ، وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين فالعبادة هي الخضوع المطلق مع الشعور بالحاجة والإفتقار إلى المعبود الذي بيده كلُّ شيء والذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض.
أفعال الإنسان وعاداته يمكن أن تتحول إلى عبادة:
لهذا الإنسان أفعال وعادات عديدة متنوعة ، منها ما يختص بجانب الفعل ومنها ما يختص بجانب الترك ، ويمكن أن يحول الإنسان أفعاله وعاداته إلى عبادة لله عز وجل يؤجره عليها. وعلى ذلك فجميع الأعمال الصالحة داخلة في ضمن العبادة ، ولذلك جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن العبد يؤجر حتى على الأمور العادية التي يراها تلبية لحاجته واستجابة لضرورته ، فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (( في بضع أحدكم صدقة ، قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: أرأيتم أن لو أصابها في حرام ألم يكن يؤزر؟ قالوا: بلى .. قال: كذلك إن وضعها في الحلال فهو يُــؤجر )).
هكذا بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأعمال العادية مع خلوص النية وصفاء الطوية تكون من ضمن العبادات.
وجاء في الحديث: (( في كل ذي كبد رطبة أجر )) وفي رواية: (( في كل ذي كبد حرّاء أجر )) فعمل الخير الذي يقدمه الإنسان إلى الإنسان أو الحيوان مع خلوص النية لله سبحانه وتعالى وصفاء السريرة يؤجر عليه العبد ويكون في ميزان عباداته ، ولقد شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه العبادات لها أعمال ظاهرة تجسّدها ، هذه الأعمال الظاهرة الكبرى هي أمهات العبادات ولا بد من كل ، فإن الإنسان بحاجة ملحة إليها إذ بدونها لا يستقيم إعوجاجه أبداً.
يسر العبادات بحسب الحاجة إليها:
اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون يسر هذه العبادات التي يمارسها الإنسان بحسب الحاجة إليها ، فكلُّ ما كانت الحاجة إليه أدعى كانت ممارسته أيسر وأهون .. لأن في هذه العبادات تغذيةً للروح وكما أن غذاءُ الجسد يسره الله سبحانه وتعالى بحسب حاجة الجسد إليه كذلك غذاء الروح يسره الله سبحانه وتعالى بحسب حاجة الروح إليه .. فلننظر إلى غذاء الجسد .. الهواء مثلاً ضروري للإنسان ، وهو مضطر إليه في أي وقت من الأوقات وقد يسره الله سبحانه وتعالى بدون عناء وبدون مشقة وبدون مغرم .. يتنفس الإنسان تنفساً طبيعياً في جو ملائم لطبيعته في أي وقت من الأوقات ، في حالة يقظته وفي حالة نومه ، وفي حالة حركته وفي حالة سكونه ، في حالة سيره وفي حالة وقوفه ، في حالة صحته وفي حالة مرضه .. في كل وقت من الأوقات لأن هذا الهواء لو انحبس فيه فترة وجيزة لانخنق الإنسان ، فالهواء لابد منه ، فهو يدخل إلى داخل الخياشيم والفم وينزل إلى أعماق الجسم ثم يصعد منه بعد أخذ الجسم حاجته منه فحاجة الإنسان إلى هذا الغذاء حاجة ملحة في كل لحظة ، ولا يتكلف الإنسان في مقابل هذه الحاجة ثمناً ولا عناء ، ثم يأتي بعد ذلك الماء فالحاجة إليه تأتي بعد الحاجة إلى الهواء لأنه لا يحتاج إلى استعمال الماء في كل لحظة كما يحتاج إلى الهواء ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى يسره أقل من يسر الهواء ولكنه ميسر فقليلاً ما يكلف الثمن ، ويكلف شيئاً من العناء. ثم تأتي بعد ذلك الحاجة إلى الطعام فكان يسر الطعام بحس حاجة الجسم إليه .. الجسم بحاجة إلى الطعام ولكن حاجته إلى الطعام ليست كحاجته إلى الماء فضلاً عن أن تكون حاجته إليه كحاجته إلى الهواء فلذلك كان يسر الطعام أقل من يسر الماء فيحتاج الطعام إلى عناء وإعداد ويحتاج الطعام إلى ثمن .. الطعام يحتاج إلى غرس ويحتاج إلى تسميد ويحتاج إلى مراعاة ثم يحتاج إلى جهد للحصاد .. ثم بعد ذلك كثير من الطعام يحتاج إلى الطبخ.
تيسير الأسباب مما يدعو إلى العبرة والشكر:
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الأسباب متوفرة: (( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ )) { عبس /24-32 }.
فالأسباب حلقات متواصلة يتبع بعضها بعضاً حتى يتيسر للإنسان هذا الطعام. فرب زارع يزرع في أقاصي الأرض إما في الشرق وإما في الغرب .. إما في أندونيسيا وإما في استراليا وإما في أمريكا ، ثم هذا الزرع يمر بمراحل .. مرحلة بعد مرحلة حتى يحصد ، ثم بمراحل النقل بعد ذلك حتى يصل إلينا وننتفع به. هذه هي سنة الله في خلقه. فضلاً عمّا وراء ذلك من تدفق الأنهار ونزول الأمطار ووجود الأسباب المختلفة .. أسباب الزرع التي هيأها الله سبحانه وتعالى ، وأسباب الحصاد .. كل ذلك مما يدعو الإنسان إلى الإعتبار والتفكر ، ويدعوه إلى الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعم الجلّى.
وبعد الطعام تأتي الحاجة إلى العلاج وإلى الدواء ، وبما أن الحاجة إلى الدواء بعد الحاجة إلى الطعام كان أقل يسراً من الطعام لأن الحاجة إليه أقل ، وهكذا كل ما كانت الحاجة إليه أدعى كان أيسر تناولاً وأيسر استعمالاً.
وهكذا العبادات المتنوعة فإن الله سبحانه وتعالى يسرها للإنسان بقدر الحاجة إليها .. ومن ذلك ذكر الله تعالى بالقلب وباللسان فإنه أيسر ما يكون لأن القلب الذي يغفل عن ذكر الله تعالى لا قيمة له: (( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )) { الكهف/28 }.
فذكر الله ميسر للإنسان ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الصلاة مشتملة على ذكره (( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي )) { طه/14 } فجعل ممارستها أيسر من ممارسة غيرها من العبادات لأن الحاجة إليها أدعى ولذلك أمر الله تعالى بممارستها في اليوم والليلة خمس مرات.
وهكذا تأتي كل عبادة من العبادات المشروعة في الإسلام أو بالأحرى كل أم من أمهات العبادات المشروعة في الإسلام في مكانها الملائم بحسب النظام الرهيب الذي هيأه الله سبحانه وتعالى بحسب ما علمه من حاجة البشر.
الغايـة من العبــادة التقــــوى:
لقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة من هذه العبادات التي فرضها على عباده والتي ندبهم إليها في قوله عز من قائل: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )). { البقرة/21 }.
فالعبادات كلها تغرس في الإنسان روح التقوى ، لأنّ (لعل) في قوله: (( لَعَلَّكُمْ )) بمعنى (كــي) على الصحيح ، ولذلك شواهد متعددة في القرآن الكريم وشواهد في كلام العرب. فمن القرآن الكريم قوله تعالى في آيات كثيرة: (( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )) ، و (( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )) و (( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )) .. فهذه الآيات (لعل) فيها بمعنى (كــي) ،
فإذاً قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) بمعنى لتتقوا أو لكي تتقوا ، فلعل هنا كما قال كثير من علماء التفسير ومنهم الإمام الطبري وغيره ، وعلماء العربية كقطرب وابن الأنباري والآخرين هي بمعنى (كــي) ، وهذا قول الكسائي والفراء أيضاَ.
للتقـــوى مفهوم واسع جداً:
التقوى من أجمع الكلمات فهي وإن كانت من حيث مدلولها اللغوي ذات معنى سلبي فإنها من حيث المدلول الشرعي لها معنى سلبٌّـي ومعنى إيجابي.
فكلمة التقوى من حيث المدلول اللغوي بمعنى ( التجنّب ) ، اتقيتُ الشيء بمعنى تجنبته. قال الشاعر:
( اتقتنا باليد ) أي تجنبتنا باليد ، ولكن من حيث المدلول الشرعي لها معنى سلبي ومعنى إيجابي ، فالمعنى السلبي ترك ما نهى الله عنه ، والمعنى الإيجابي فعل ما أمر الله به لأن في كلا الأمرين اتقاء سخط الله وعقوبته. وعلى ذلك فمفهوم التقوى مفهوم واسع جداً فإنه يشمل ترك جميع المنهيات ، وفعل جميع المأمورات ، والتقيّد بقيود الفضيلة ، واجتناب مهاوي الرذيلة.
ولأجل ذلك كان مفهوم العبادة مفهوماً عاماً أوسع مما يتصوره الناس بكثير .. فالعبادة تعني الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى في الفعل والترك ، في الأخذ والعطاء ، في القبول والرفض ..هذه هي حقيقة العبادة وليست العبادة محصورة في الصلاة والزكاة والصوم والحج .. هذه هي أصول العبادات وأمهاتها إنْ أديت على الطريقة المشروعة التي أمر الله سبحانه وتعالى أن تـُودى بها .. وقد بين الله سبحانه وتعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز أن حقيقة التقوى وحقيقة العبادة لا تنحصر في أمهات الفرائض وأصولها وإنما تتناول أعمال القلب وأعمال الجسد كله ، فبيّـن لنا سبحانه أن العقيدة تدخل ي التقوى وأن أمور القلب تدخل في معنى التقوى فمن كانت عقيدته على إستقامة وعلى حجّـة وبرهان من الله سبحانه وتعالى كان متـّـقياً لله عز وجل بهذه العقيدة ، ومن انطوى قلبه على الإخلاص وحسن النية وسلامة الطوية كان متقياً لله تعالى ، فإنه عز وجل يقول: (( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ )) ( الحج/32 ). وقال سبحانه عندما تحدث عن البر وبين أن التقوى والبر لا يختلفان فهما بمعنى واحد قال: ((لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )) { البقرة/177 }.
فهؤلاء هم المتقون يجمعون بين العقيدة الصحيحة .. عقيدة الإيمان بالله ، وعقيدة الإيمان بما أوجب الإيمان به من ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبجانب ذلك يترجمون هذه العقيدة بالعمل الصالح.
وفي قوله: ((وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )) حصر للمتقين في هذا الصنف من الناس لأن المسنـَــد والمسند إليه عرفا ووسـِّط بينهما ضمير الفصل لأجل تأكيد هذا الحصر ((أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )).
وقال سبحانه: (( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ )) ( آل عمران15 /17)) هؤلاء هم المتقون ، وقد وعدهم الله سبحانه وتعالى جنة ً عرضها السماوات والأرض في قوله : ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )) ( آل عمران ( 133 ) ، ثم وصف هؤلاء المتقين بقوله: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) ( آل عمران 134 / 135 ).
وإذا فتقوى الله تتناول كل ما فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى ،في كل مايأتيه العبد وفي كل ما يذر .. فيعفو عمن ظلمه ، ويحسن إلى من أساء إليه ، ويعطي من منعه ،ويصل من قطعه..هذه هي صفات المتقين .
وقد قال بعض العلماء (إن العبد لا يصل إلى درجات المتقين حتى يكون بحيث لو استخرج ما في طوايا نفسه ووضع في طبق وطيف به على الناس لم يستحي منه )،وقال بعضهم : ( إن التقوى أن يتزين في الباطن بالحق ،كما يتزين في الظاهر للخلق ).
فتقوى الله سبحانه وتعالى تستدعي إرغام النفس على مكارهها لأجل التقرب إلى الله عز وجل ،وهذا يعني أن يكون الإنسان حريصا كل الحرص على أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما تكرهه نفسه ،وبما يأباه طبعه ،فقد يكون الإنسان في موقف النفس فيه تميل إلى الانتقام والتشفي ولكن تقوى الله تحول بين العبد وبين إعطاء نفسه مناها .فقد روي عن زين العابدين رضي الله عنه أنه كان في مكان من بيته وجاءت إليه أمة بطبق فيه شواء وكان شديد الحرارة فوقع الطبق على طفل له ،ومات ذلك الطفل .فماذا كان منه ؟! .. قال :إن هذه الأمة أصابها من الروع ما لا يسكنه إلا العتق ..فاذهبي فأنت حرة لوجه الله سبحانه وتعالى ..هكذا تكون رابطة الجأش ؛بحيث لا ينتقم ولا يتشفى .. هكذا شأن من يحب أن يكون من المتقين الذين وعدهم الله سبحانه وتعالى بجنة عرضها السماوات والأرض
وفي مقابل هذه القصة أذكر قصة أخرى ذكرها المؤرخ المصري الجبرتي في تاريخه وهي أن أحد حكام مصر كان له طفل ،وكان في يد أمة فوقع شيء من الخلاف ما بين تلك الأمة وأمة أخرى فإذا بالأمة الأخرى تركل الأمة الأخرى تركل هذه الأمة وتصيب رجلها الطفل فاشتد حنق ذلك الحاكم وغضبه فقال للأمتين ولكل الإماء اللواتي كن في ذلك المجلس : إن مات طفلي هذا فسوف أقتلكن جميعا .فمات الطفل ،وأخذ جميع الإماء الجانية والمجني عليها والإماء اللواتي حضرن هناك وألقاهن في النيل ..أين الفارق بين سلوك زين العابدين الذي تأثر بخلق النبوة ..بخلق جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وبين خلق هذا الجبار الذي يبطش بالمجني عليه فضلا عن الجاني ،فالأمر لله سبحانه وتعالى .
وعلى ذلك فتقوى الله سبحانه وتعالى تدفع الإنسان إلى المسارعة إلى رضوان الله وإلى تجنب ما يسخطه ، وإلى حسن معاشرة جميع عباد الله ، وإلى أن يستعلي على رغبات نفسه ونزواتها ،وأن يحرص بأن يزن جميع ما يأتيه وما يذره بموازين الله سبحانه وتعالى ،فما وجد من شيء فيه سخط الله تجنبه وابتعد عنه .
هذه هي حقيقة تقوى الله سبحانه وتعالى ..فهي ليست ادّعاءً وإنما كما قال من قال : أن يزين العبد سريرته لله سبحانه وتعالى كما يزين علانيته للخلق .فيتقرب إلى الله بتطهير نفسه أولا من أدرانها ثم يتقرب إلى الله بتزكية أعماله بحيث تكون أعماله كلها وفق أوامر الله سبحانه وقد روي في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ( من اتقى الله كفاه مؤونة الناس ، ومن اتقى الناس ولم يتق الله سلط الله عليه الناس وخذله ) .
فمن اتقى الله كفاه الله سبحانه وتعالى مؤونة الناس لأنه آوى إلى ركن وثيق , آوى إلى حمى الله فلن يضيعه الله عز وجل ،ولذلك كان السلف الصالح يعتصمون بالتقوى ويتذرون بها ، فالخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يزود جنده الوصية بالتقوى ، وقد زود قائد جنده الذي بعث به إلى المعركة في أرض فارس ؛ تلكم الوصية التي يقول فيها (( أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة على العدو ، وأوصيك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله فإن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا . واعلموا أن في سيركم عليكم من الله حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم كما سلط على بني إسرائيل إذ عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم ، اسأل الله ذلك لي ولكم )) .
وقد جاء الأمر بالتقوى في القرآن الكريم بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة ، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى في معرض الترغيب ((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )) ( البقرة / 194 ) وفي معرض التشريع يقول سبحانه في خاتمة آية الدين الأولى: ((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ )) (( البقرة 282 ) وفي خاتمة آية الدين الثانية ((وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ )) ومن ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى في معرض تشريع أحكام الطلاق : ((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) ( البقرة / 231 ) ، وقوله عز وجل : ((وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ )) ( الطلاق /1) ، وجاء الأمر بتقوى الله والوعد على تقوى الله في مواضع متعددة من سورة الطلاق في معرض بيان أحكام الطلاق وما يترتب عليه ، وفي هذا ما يدل على أن الإنسان مطالب بأن يراقب الله سبحانه وتعالى في كل حال ، وأن يتمسك بتقوى الله في كل ما يأتيه وما يذره مما كان بينه وبين ربه ، أو كان بينه وبين خلق الله سبحانه .. بل إن الحق جل وعلا يأمر بتقواه في معرض بيان إتيان الرجل لأهله ، حتى يكون مصطحبا لتقوى الله عز وجل في تلك الحالة مستشعرا الخوف من الله فلا يخالف أوامره ولا يتعدى حدوده فيما حده له ، فإن الله سبحانه وتعالى بعدما قال ((نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ )) قال : ((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )) (البقرة /194 ) .
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن التقوى فيها الخلاص من شدائد الدنيا كما أنها سبب للخلاص من شدائد الآخرة ، فقد قال عز من قائل : ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ )) ( الطلاق /2 ) وقال : ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا )) ( الطلاق /4 ) ، وأمر سبحانه وتعالى بتقواه في معرض الأمر بالجهاد وبشر عباده المتقين بمعيّته لهم في قوله ((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )) ( البقرة / 194 ) .
وفي هذا كله ما يدلنا على أهمية تقوى الله سبحانه وتعالى في السريرة وفي العلانية وفي جميع الأحوال .
أهمية العبادة (أهمية الصلاة):
بعدما تعرضنا للكلام عن العبادة إجمالا ننتقل إلى أمهات العبادات التي هي الأركان الأربعة بعد الركن الأول وهو عقيدة التوحيد, وما لهذه الأمهات والأركان من أثر نفسي واجتماعي .
وأول هذه الأركان ((الصلاة )) . ذلكم الركن العظيم الذي نوّه به القرآن الكريم في غير موضع ، وحض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ودل القرآن ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن هذا الركن العظيم هو سنام الأعمال ..... فجميع الأعمال البدنية تتقدمها الصلاة ، ولذلك نجد الصلاة تأتي في كتاب الله بعد العقيدة مباشرة ؛ فالله سبحانه وتعالى يقول : ((الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )) { البقرة 1/3 } ، فبعدما ذكر الإيمان بالغيب ذكر الصلاة لأنها المتقدمة على جميع الأعمال ، ويقول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )) ( الأنفال 2/4 ) ، بعدما ذكر الإيمان الذي هو العقيدة الصحيحة الباعثة على خشية الله سبحانه وتعالى ومراقبته ذكر أهم الأعمال وهي الصلاة . يقول الله سبحانه وتعالى: ((بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )) ( المؤمنون 1/9 ) .ذكر صفات المؤمنين وصدر هذه الصفات بذكر الخشوع في الصلاة واختتمها بذكر المحافظة على الصلاة ، لأهمية هذه الشعيرة وقدسيتها ومكانتها.
وقد بين الحق سبحانه وتعالى في كتابه أن نصرة الله عز وجل من العبد الذي يستحق بها نصرة الله تبتدئ بإقام الصلاة ،فقد قال عز وجل : ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )) ( الحج 40/ 41 ) .
وعندما وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالاستخلاف والتمكين في الأرض تلا ذلك أمرهم بإقام الصلاة فقد قال عز من قائل ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) ( النور /55 ) .
ثم اتبع ذلك قوله : ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) ( النور /56 ) ،وفي هذا إشارة إلى أن هذا النصر الذي وعد الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين إنما هو منوط بالمحافظة على الصلاة أولا والإتيان بها على الوجه المشروع . وكما أن الله سبحانه وتعالى يصدّر صفات المتقين بإقام الصلاة والمحافظة عليها فإنه يصدّر صفات أضدادهم بتضييع الصلاة ، فقد قال تعالى في الخلف السيء : (( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا )) ( مريم / 59 ) .
وذكر الله سبحانه وتعالى أن المجرمين يسألون يوم القيامة عندما يصلون النار (( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ )) وحكى إجابتهم بقوله (( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ )) ( المدثر 42 / 47 ) ، وفي هذا ما يدل على أهمية هذه الصلاة وخطورة التفريط فيها. وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك ،فقد جاء في حديث الإمام الربيع من طريق عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لكل شيء عمود وعمود الدين الصلاة وعمود الصلاة الخشوع )) ، وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة )) وفي رواية أخرى (( بين العبد والكفر ترك الصلاة )) ويقول صلى الله عليه وسلم : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) وجاء في حديث أخرجه الإمام أحمد من طريق عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوما الصلوات الخمس فقال : (( من حافظ عليها كنَّ له يوم القيامة نورا وبرهانا ونجاة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي خلف )).
وقد ذكر شُرَّاح السنة مناسبة ذكر هؤلاء الأربعة دون غيرهم من الكفار ، وما هو سبب كون من ضيع الصلاة مع هؤلاء فقالوا إن الذي يضيع الصلاة إما أن يكون مشغولا عنها بملكه إذا كان ملكا ، و إما أن يكون مشغولا عنها بماله إن كان ذا مال ، وإما أن يكون مشغولا عنها بمنصبه إن كان ذا منصب ، وإما أن يكون مشغولا عنه بتجارته إن كان تاجرا فإن كان ملكا وشغله عنها ملكه كان يوم القيامة مع أخيه فرعون ،وإن كان ذا مال وشغله عنها ماله كان يوم القيامة مع أخيه قارون ، وإن كان ذا منصب وشغله عنها منصبه كان يوم القيامة مع أخيه هامان الذي كان وزيرا لفرعون ، وإن كان صاحب تجارة وشغلته عنه صلاته كان يوم القيامة مع أبي بن خلف وهو أحد تجار قريش بمكة .
كل هذه الآيات وأمثالها ، وهذه الأحاديث وأمثالها تؤكد أهمية الصلاة في الإسلام .
أثر العبادة في الإنسان (( أثر الصلاة )):
نتبين حكمة العبادة في بيان أسرار أمهاتها حسبما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، فالله سبحانه وتعالى يقول عن الصلاة التي هي مقدمة العبادات وأصل أصولها ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) { طه / 14} ويقول (( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )) {العنكبوت / 45} ، ويبين لنا الله سبحانه وتعالى تأثير الصلاة أثرا نفسيا عميقا بحيث تأتي على أمور غير محمودة جبل عليها الإنسان فتجتثها وتبدلها بما هو خير منها ، يقول الله تعالى: (( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ )) {المعارج 19 / 23}.
ثم يذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يأتونه من أعمال ، التي هي من ثمار إقامة الصلاة والمداومة عليها ، ثم يختتم سلسلة هذه الصفات التي وصفهم بها بقوله سبحانه: (( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )) {المعارج / 34 }.
وافتتاح صفات هؤلاء الذين استثناهم الله سبحانه بالمداومة على الصلاة واختتامها بالمحافظة على الصلاة يدل على أن المداومة على الصلاة والمحافظة عليها كما شرع الله سبحانه سبب لحفظ الأعمال الصالحة وبقائها على ما هي عليه بحيث لا تؤثر عليها نزغات الشيطان.
وهنا يعرض سؤال: كيف تكون الصلاة بهذا القدر وهذه المكانة مع أنّ كثيراً من الناس يلازمون الصلاة ولكن الصلاة لا تؤثر عليهم ، فهم كما وصفهم الله تعالى هلوعون ، منوعون ، ومتصفون بكل الصفات الخسيسة ، ولا يترفعون عن الدنايا ولا يجتنبون المنهيات ، فلا يتورعون عن الخيانة والكذب والخداع ، ولا يتورعون عن التحايل ولا يتورعون عن أكل أموال اليتامى وأكل مطلق أموال الناس بالظلم .. فكيف يقال مع ذلك إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
والجواب: إن الصلاة المأمور بها هي الصلاة ذات الأثر النفسي البالغ وتلك الصلاة هي التي يؤديها الإنسان وقد استكملت بنيتها واستجمعت روحها ، فبنية الصلاة هي هيئاتها الظاهرة التي يأتي بها الإنسان واستكمال هذه البنية إنما يكون بعدم الإخلال بشيء منها .. وروح الصلاة هو الخشوع ، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الفلاح للخاشعين في الصلاة من عباده.
يقول الله عز وجل (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ )) {المؤمنون/1 ، 2}. ويبين لنا الله سبحانه وتعالى أن كثيراً من المصلين يأتون للصلاة ولكن صلاتهم لا تصدّهم عمّا هم عليه من الأعمال التي تنافي صلاح النفس وصلاح المجتمع ، وذلك إذا ما كانوا ساهين عن الصلاة ، يقول الله سبحانه وتعالى: (( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ )) {الماعون: 1/5}.
لقد كان سياق الكلام يقتضي أن يقول: فويل لهم ، ولكن بدلاً من أن يأتي بالضمير جاء بالإسم الظاهر ، وكان هذا الإسم الظاهر هو (المصلين) الذين هم عن صلاتهم ساهون لأجل الإشعار والتنبيه بأن السهو عن الصلاة هو السبب فيما ذكره الله سبحانه وتعالى من التكذيب بالدين ودعّ اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين إلى ما وراء ذلك ، ويدل على ذلك هذا الربط بالفاء في قوله (( فَوَيْلٌ )) والفاء تقتضي ربط ما بعدها بما قبلها.
كل ذلك يدل على أهمية الصلاة ومكانتها وأثرها ، وعلى أن الصلاة هي التي تأتي على تلك الصفات المذكورة في الآيات السابقة من سورة المعارج ومن سورة الماعون وفي غير ذلك من المواضع وهي صفات خسيسة جبل عليها الإنسان فتجتثها الصلاة وتبدلها بما هو خير.
وعلى ذلك فالصلوات تختلف ، فليست كل صلاة لها وزن عند الله تعالى ، ومن أحسن ما قيل في هذا قول أحد علماء الإسلام وهو العلامة الكبير الإمام محمد عبده فيما دوّنه عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا في تفسير (المنار) حيث قسم الصلاة إلى قسمين: عادة وعبادة.
وقال: إن صلاة كثير من الناس لا تتجاوز أن تكون عادة من العادات ، وذلك أنّـك ترى أحدهم في شيخوخته إذا قام يصلي لم تختلف صلاته عنه يوم كان طفلاً يحاول أن يقلد أباه في الصلاة ، فهذه الصلاة مجرد عادة من العادات .. أما الصلاة التي هي عبادة فتنقسم إلى قسمين: إلى روح وجسم.
فالجسم هذه الأعمال الظاهرة التي يأتي بها المصلي من تلاوة وتسبيح وسجود وقعود وقيام إلى غير ذلك من الأعمال ، هذه الأعمال لا تعدو أن تكون جسماً للصـلاة ، ولكن الجسم نفسه بدون روح لا حراك له ولا يجدي شيئاً ، وإنما روح الصلاة الخشوع كما في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن لكل شيء عموداً ، وعمود الدين الصلاة ، وعمود الصلاة الخشوع ) ، فعمود الصلاة الخشوع وهو الإتيان بالصلاة على وجهها المشروع مع استشعار عظمة الخالق الذي يتوجّه إليه الإنسان بهذه الصلاة .. ولذلك يقول الله عز وجل: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ )) {المؤمنون/1-2} ، وهنا إذا كانت الصلاة مستجمعة روحها تكون كل كلمة منها نابضة بمعنى حيوي مهم ، كل كلمة من كلماتها تؤثر أثراً نفسياً عميقاً. فالمصلي عندما يمثل أمام الله سبحانه وتعالى ينتقل من الحِــل إلى الإحرام بالتكبير وهو قوله الله أكبر.
فإذا ما أتى الإنسان بهذه التكبيرة استشعر أن الكبرياء لله سبحانه وتعالى وحده وأن كبرياءه سبحانه لا يمكن أن يُكتـَنـَــه ، هذه الكلمة تسكب معنى حساساً في نفس هذا المصلي إذا وعاها وأدرك مغزاها ، فهي تعني تفرد الله سبحانه وتعالى بالكبرياء ، ويعني ذلك أنه لا كبير إلاّ الله ، وأن الناس متساوية أقدامهم بين يدي الله سبحانه وتعالى لا يتفاضلون بشيء إلا بقدر ما يتقربون به إلى الله سبحانه من التقوى وحسن العمل. وكما قلت ليس هناك فكر يمكن أن يدرك كنه كبرياء الله ، فأفكار البشر كلها قاصرة عن إدراك عظمة الحق سبحانه وتعالى ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )) {الحج/74}.
فعظمة الله سبحانه وتعالى أجل وأكبر من تصورات عقول البشر وأفكارهم. فإذا ما أتى الإنسان بالصلاة على هذه الطريقة وشعر عند تكبيرة الإحرام أن الكبرياء لله وحده تفاعلت في نفسه عوامل شتى بحيث يتلقى شعوراً جديداً عندما يأتي بهذه الكلمة ، هذا الشعور يجعله إن كان مهانا في مجتمعه بسبب من الأسباب ، من فقر أو ضعة في نسب أو أي سبب آخر فإنه يعتز بصلته بالله سبحانه وتعالى الذي هو واقف بين يديه وخاشع له وراجٍ لفضله وخائف من عقابه ، يعتز بهذه الصلة فلا يرجو غير الله ، ولا يخشى إلا الله ولا يتوكل إلا على الله ، ولا يُحب من يحب إلا في الله ، ولا يكره من يكره إلا في الله. يعتّــز بصلته بالله عز وجل بسب إدراكه أن الكبرياء لله فلا يُطأطئ رأسه إلا لله ، ولا يحني ظهره إلا لجلال الله ، ولا يتعلق إلا بالله رجاءً وخوفاً ولا تقرباً بعمل من الأعمال ، إنما يرجو من الله ويخشى من الله تعالى وحده ، فتتحرر رقبته من الخضوع لغير الله سبحانه وتعالى .. هكذا تكون الصلاة إذا جاء بها الإنسان استشعر المعنى الذي يأتي بلفظه على لسانه.
وإذا كان المصلي بعكس ذلك كأن يكون من ذوي السلطة والمكانة في الأرض ، أو أن يكون صاحب مال أو صاحب قوة من القوى فإنه بمجرد ما يأتي بهذه التكبيرة يخشع ويتطامن ويدرك أن الكبرياء لله سبحانه وتعالى ، فليس له أن ينازع الخالق العظيم في كبريائه ، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الكبير المتعال وجميع الناس هم أذلة بين يديه سبحانه لا فضل لأحدهم إلا بقدر الإقتراب من الله بالطاعة وحسن العمل ، والإقتراب من الله ينافي التعالي على عباده ، فلا يتعالى على أحد من خلق الله بسبب ضعفه وهوانه وفقره وضعته بين الناس ، فليس له أن ينازع الله تعالى في كبريائه ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ومن نازعني فيهما أدخلته النار ولا أبالي ) ، وعلى هذا الإنسان أن ينظر أن ما آتاه الله سبحانه وتعالى مما يظنه كثير من الناس ميزةً له ورفعة لقدره ، إنما هو ابتلاء من الله عز وجل واختبار له –وهو أعلم به- كيف يفعل فيما آتاه أيشكره أم يكفر ...
ومن ذلك نتبين أن تلفظ المصلي بتكبيرة الإحرام تورثه خشوعاً وخضوعاً لله سبحانه وتعالى وتواضعاً لعباد الله ووقوفاً عند حدوده البشرية وعدم التطاول على الخلق.
أثر الإستعاذة والبسملة :
وإذا أراد المصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب – بعد تكبيرة الإحرام – استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، فتذكره هذه الإستعاذة بالحرب الضروس الدائرة بينه وبين الشيطان الرجيم ... هذه الحرب اشتعلت نارها وتأججت منذ أن أعلن الشيطان الرجيم التمرد والعصيان لأمر الله سبحانه وتعالى وأعلن العداوة لهذا الإنسان ، فإنه قد أقسم بعزة الله ليضلن الإنسان وليردينه في جهنم إلا إن كان من عباد الله المخلصين ، وهذا يجعل الإنسان يعد العدة في كل وقت لمكائد الشيطان ويقاومه كل ما حاول أن يسوس له بشرٍّ ، ويقاوم جميع إغراءاته على اختلاف أنوعها ... فاستعاذة هذا العبد بالله سبحانه وتعالى من الشيطان الرجيم تعني الإلتجاء إلى الله تعالى خوفا من مكائد الشيطان ، هذا الإلتجاء يجب ألا يكون قولياً فحسب ، بل يجب أن يكون قولا باللسان ، وعقيدة في القلب وعملا بالجوارح ، بحيث يكون حذرا متنبها لمكائد الشيطان ، مدركا خطورة وسائله التي تؤدي بهذا الإنسان إلى معصية الله تبارك وتعالى .
فإذا ما أتى البسملة وقال : بسم الله الرحمن الرحيم علم أن كل شيء لا يعتد به ولا تكون له قيمة إلا إذا كان لله ، واستشعر أن هذا العمل الذي يقدم عليه إنما يقدم عليه بسم الله ، فيجب أن يكون خالصا لله لا يشرك مع وجه الله سبحانه وتعالى وجه أحد من خلقه ولا يريد على هذا العمل ثناء أو شكورا من أحد من الناس .
معايشة المصلي لمعاني سورة الفاتحة:
فإذا تلا المصلي قول الحق عز وجل (( الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) ( الفاتحة /2 ) شعر بعظم النعمة ، نعمة الله تعالى التي لا تصدر إلا عنه إلى عبده ، فلذلك حصر الحمد في الرب وحده (( الْحَمْدُ للّهِ )) كل حمد لله ، لأن كل نعمة مصدرها من الله ، (( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ )) ( النحل / 53) ، وكل تلك النعم تستوجب الشكر لله تعالى ، والشكر إنما يكون باستخدامها فيما يرضي الله لا باستخدامها فيما يسخطه ، ونعم الله عظيمة كثيرة لا تحصى سواء ما كان منها بداخل الإنسان أو ما كان حوله وسخرت لمصلحته ، والتي لو كانت خلاياه ألسنة ناطقة ، ووقفت شاكرة مدى عمر هذا الإنسان لم تؤد شكر نعمة من هذه النعم .
وبجانب ذلك يشعر بعظمة الخالق عندما يتلو قوله (( رَبِّ الْعَالَمِينَ )) .. ومعنى كونه (( رَبِّ الْعَالَمِينَ )) أن كل شيء في هذا الكون مربوب لله ، فهو سبحانه رب الكون بأسره ، رب كل المخلوقات ؛ فما من ذرة في هذا الكون إلا وهي مربوبة له سبحانه وتعالى وفي حاجة إليه عز وجل ، فلو تخلى عن هذا الكون أدنى من لحظة من اللحظات لهوى إلى حيث لا يعمله إلا الله (( اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ )) ( فاطر / 41 ) .
فكل ذرة في هذا الكون لو تخلى الله سبحانه وتعالى عنها أدنى من لحظة عين لما قر لتلك الذرة قرارا أبدا ، الكون كله بحاجة إلى الله عز وجل ، والله هو المتفضل بتدبيره .فهذه الأجرام الفلكية على اختلافها ، واختلاف أبعادها ، وعلى اختلاف أثقالها ، وعلى .. وعلى .. الله سبحانه وتعالى هو الذي ينظمها وهو الذي يسيرها وهو الذي يرعاها ، ولا يخرج شيئا منها عما يقتضيه أمر الله عز وجل ، وفي مثل هذا الموقف لابد من أن يرجف القلب وترتعد الفرائض ويشعر العبد بالإضطراب ..ولكنه عندما يتلو قوله سبحانه وتعالى (( الرَّحْمـنِ الرَّحِيم )) يشعر بالسكينة والطمأنينة تسريان في نفسه لأن هذه الربوبية هي ربوية إحسان ورحمة بالعباد .
وإذا تلا قول الله عز وجل (( مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )) خرج من هذا العالم إلى عالم آخر ، خرج من العالم المادي إلى العالم الروحاني ، واستشعر ذلك الموقف العظيم الذي يقفه الناس أمام رب العالمين ،استشعر ذلك اليوم الذي سيكون هو أحد الماثلين بين يدي الله وقد تخلى عنه كل ما أوتيه في هذه الدنيا من وجاهة وسلطان وعز وشرف ومال وبنين (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ )) { الانعام / 94} (( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) { عبس 34/37 } فالملك يومئذ لله لا يتطاول أحد من خلقه فيدعي شيئا من الملك كما هو الشأن في الحياة الدنيا.
وهذا يجعل هذا المصلي يحسب حسابه لذلك اليوم ويحاول أن يكون عمله خاضعا لمقاييس الحق التي أنزلها الله سبحانه وتعالى بحيث يكون عمله رصيدا له ينتفع به في ذلك اليوم .
وإذا تلا قول الحق تبارك وتعالى (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) أي لا نعبد إلا إياك ، استشعر وقوفه أمام عظمة الله ، واستشعر جلال الله عز وجل الذي يحيط بكل شيء في هذا الكون أمام وجهه كأنما يناجي الله تعالى وهو يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يراه .
واسشعر بالتحرر من العبادة لغير الله ومن الخضوع لغيره سبحانه وتعالى ، فالعبادة محصورة في الله الواحد الأحد .
ثم إن هذه العبادة داعية اجتماع وألفة بين الناس ، ولذلك وجهت إلى الله بصيغة جماعية لا بصيغة فردية (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) لا إياك أعبد ؛ وهذا لأن الدين الإسلامي دين اجتماعي ، فالناس في ظل الإسلام مطالبون بالوحدة والترابط والتآلف والمودة حتى في صلتهم بالله سبحانه وتعالى هم مجتمعون ؛ ولذلك شرعت صلاة الجماعة كما شرعت صلاة الجمعة .. وفي هذا ما يشير إلى وجوب صلاة الجماعة على الناس ، وذلك الذي تقتضيه الأدلة فإن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان على الصحيح ؛ يعني أنها ليست واجبا كفائيا بل هي واجب عيني يحاسب كل إنسان عليه إن تهاون به بدلالة أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ليس هذا مجال بسطها وإنما نذكر بعضها ؛ فمن تلك الأدلة قول الحق تبارك وتعالى : (( وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ )) ( البقرة / 43 ) ، وليس معنى ذلك إلا أن نؤدي الصلاة في جماعة . ومنها قوله تعالى (( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ )) ( القلم 42 / 43 ) .هذه الآية يقول فيها غير واحد من أئمة التابعين بأنها نزلت في المتخلفين عن صلاة الجماعة من هذه الأمة ، كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون يسمعون قول المؤذن حي على الصلاة .. حي على الفلاح وهم لاهون سادرون في غيهم غير مبالين بهذا النداء وما يستوجبه من الإسراع إلى تلبيته.
ونحن مع كثرة البحث لم نجد عن أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا يدل على الترخيص في عدم إقامة صلاة الجماعة لأحد غير معذور بل وجدنا عنهم ما يؤكد أنهم كانوا يحرصون على إقامة الصلاة في جماعة ويحرصون أيضا على نشر رأيهم وهو أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان ( أي على الأفراد )
وفي قوله تعالى (( وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) حصر للإستعانة بالله تعالى كحصر العبادة في الله , وفي هذا ما يشعر العبد بوجوب التحرر من الخضوع للإوهام فلا يتعلق بغير الله لأن الإستعانة لا تكون إلا بالله سبحانه وتعالى ؛ وعليه فلا تصح الإستعانة فيما لم يجعل الله سبيلا للبشر إليه بالله سبحانه وتعالى ، فلا يتعلق الإنسان بالأشجار ولا بالأحجار ولا العيون ولا الأنهار ولا بالقبور ول بأي شيء إنما يتعلق بالله سبحانه وتعالى ، لأنه يعلم أن أهل السموات والأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعونه إلا بشيء قضاه الله تعالى له ، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قضاه الله تعالى عليه .. فما للإنسان والتعلق بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا .
لقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأكرم الخلق وأعلى الناس منزلة: (( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ )) { الأعراف / 188 } .
هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت كان حيا ملء ثيابه يتحدث ويذهي ويجيء ويتحرك ، فكيف بغير النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف بالأموات الذين لاحراك لهم ولا يملك أحدهم أن يجلب لنفسه نفعا ولا أن يدفع عنها ضرا فكيف بغيره .. وكيف بالأحجار وكيف بالأشجار وكيف بالعيون والأنهار ، فكل هذه الأشياء جمادات أنى لها أن تجدي الإنسان نفعا أو تدفع عنه ضرا .... ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ) .....
على العبد أن يستعين بالله سبحانه وتعالى وحده ، وأن يرجو من الله ، وأن يخشى من الله وحده ، ولا يتعلق إلا بالله سبحانه وتعالى وحده . ومن جانب آخر فليس لأحد أن يستعين بأحد في شيء ليس له سبيل إليه ، وإنما هو من أفعال الله تعالى وحده ، فليس لأحد أن يستعين بأحد في طلب مولود ، أو في طلب مال أو في طلب سعادة ، أو في شيء من هذه الأشياء لأن هذه الأشياء لا يقدر عليها إلا الله ، فلا يقدر أن يرزقك ولدا ، ولا أن يجعلك غنيا ولا يجعلك سعيدا إلا الله ... ولا يقدر أن يهبك الذكاء إلا الله ولا يقدر أن يدفع عنك البلاء إلا الله ، ولا أن يرفع عنك المرض إلا الله .. هذه الأمور كلها ليست في مقدور البشر فاستعانة الإنسان فيها بغير الله تعالى يعني ذلك إشراكا لغير الله تعالى فيما هو من اختصاص الله ، فليس لأحد أن يشارك أحدا مع ربه في الاستعانة به فيما لم يجعل الله تعالى لأحد سلطانا عليه ، كما أنه ليس له أن يشرك أحدا في عبادته تبارك وتعالى ، والدليل على ذلك هذا العرض (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) .ولو سأل سائل ما بال الناس يستعين بعضهم ببعض في أمور شتى ؟!
والجواب عن ذلك : أن تلك الأمور جعل الله التعاون فيها من سنن الكون ومن نواميس الحياة .. كأن يستعين أحد بغيره فيما يقدر عليه من قضاء حاجاته ؛ كاستعانته به في رفع حمل ثقيل ينوء به وحده ، أو أن يطالب منه عونا على قضاء دينه باقتراض من ماله ، أو يستعين بجاهه في مخاطبة شخصا آخر له إليه حاجة يرجو قضاءها .. هذه أمور جعل الله تعالى التعاون فيها من نواميس الكون ومن سنن الحياة .
أما أن يقول أحد لغيره من البشر ارزقني مالا ، أو اجعلني من السعداء أو اجعلني من الأذكياء ، أو ارزقني ذرية أو نحو ذلك من الأمور التي لم يجعل الله تعالى لأحد سلطانا عليها فذلك من الشركيات والعياذ بالله .
وإذا كان هذا في الإنسان الحي المتكلم الواعي البصير فما بالكم بالاستعانة بالأموات أو الاستعانة بالأحجار أو الاستعانة بالعيون والأنهار ... هذه الأشياء كلها لا تصح الاستعانة بها لأنها لا تملك للإنسان نفعا ولا ضرا .وتفشي ظاهرة طلب قضاء الحاجات من هذه الأشياء دليل على ضلال العقول وانحراف الفطرة ، وقد كان ذلك من سمات الجاهلية الحمقاء التي جاء الإسلام الحنيف لاستئصالها. وقد صدق النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قال : (( لتتبعن سَـنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) قالوا : أهم اليهود والنصارى يا رسول الله ؟ قال : (( فمن )) ؟! يعني من غيرهم .
ثم إذا تلا المصلي بعد ذلك قول الله سبحانه (( اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )) .. شعر أنه أمام طريقين : طريق هدى وطريق ضلال ، طريق حق وطريق باطل .. طريق موصل إلى الرحمن وطريق موصل إلى الشيطان .. وبطبيعة الحال يحرص على سلوك طريق الحق والهدى الموصل إلى رضوان الله سبحانه وتعالى مادام استشعر خوف الله وعلم كبرياء الله وجلال الله وعزة الله ونعمة الله عليه ، وأن مرجعه إلى الله عز وجل .ويعني ذلك مجانبة مسالك أهل الفساد والبعد عن طرق الضلال لئلا يكون من المغضوب عليهم والضالين .
وهكذا شأن كل ما يتلوه المصلي أو يسمعه من إمامه من آي الذكر الحكيم أو ما يأتي به من أذكار الصلاة من تكبير وتسبيح وتعظيم وسائر الأقوال والأعمال فإنها جميعا تغرس في النفس روح الإيمان والفضيلة والتقوى ، فإذا خرج المصلي من صلاته خرج وقلبه مليء بالإيما ن بالله واليوم الآخر وبحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وسائر عباده الصالحين ، وتطهر قلبه من أكدار الحياة وصفيت نفسه من شوائب الطبع وغدا عضوا فعالا في مجتمعه وأمته .
ولكن للحياة أثر الإنسان ، فاختلاطه بالناس الذين قل من يذكره منهم بالله سبحانه وتعالى يؤثر عليه ، والحرص على مصالح الدنيا يؤثر فيه ، فتتأثر نفسيته بذلك ، غير أن ذلك التأثر لا يكاد يتعمق في نفسه إلا ويسمع المؤذن يناديه من جديد ليجدد صلته بالله سبحانه وتعالى وليرد في هذا الطهور الرباني ليخرج منه نظيفا مرة أخرى ، فيذهب إلى المسجد ويتطهر من أدرانه مرة ثانية ، وهكذا يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات ، وهذا معنى قوله عليه أفضل الصلاة والسلام : (( أرايتم لو أن على باب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه في كل يوم وليلة خمس مرات .أيبقى من درنه شيء ، قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فذلكم مثل الصلوات الخمس )) .
فالصلوات الخمس هي التي تنقي باطن الإنسان وتصفي روحه وقلبه وعقله ومشاعره ووجدانه وفكره فيخرج نظيفا ، والنهر إنما يصفي ظاهر البدن ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب مثلا للناس بالأشياء المحسوسة المعهودة عندهم تقريبا إلى الأذهان كما هي سنة الله تعالى في ضرب الأمثال لأجل التقريب للأفهام .
ذلكم هو أثر الصلاة النفسي ، وبطبيعة الحال ينتقل هذا الأثر من النفس إلى المجتمع إذا ما كان الناس كلهم يؤدون الصلاة على الطريقة المشروعة التي أمر الله تعالى أن تؤدى بها.
أثر العبادات الأخرى على الإنسان (أثر الزكاة):
وبقية العبادات آثار كبيرة في نفس الإنسان ، ومن تلك العبادات العظيمة الأثر في نفس الإنسان وفي حياته ( الزكاة ) وهي الركن المالي الإجتماعي
في الإسلام ، فإن هذه الزكاة ذات أثر نفسي عميق على المزكي وعلى المتصدق عليه ، وذلك أن الله جعلها تطهيرا لنفس البشرية التي جُـبلت على حب المال (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا )) { الفجر / 20 } (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) { العاديات / 8 } ، فالإنسان من شأنه أن يحب الإستكثار من المال فهي رغبة فطرية في نفسه ، وهذه الرغبة إذا استحكمت في النفس عادت طبيعة خطيرة يتعذر استئصالها ويتعسر علاجها ، لذلك جعل الله سبحانه وتعالى في الزكاة العلاج النفسي الناجع ، والتطهير الذي لا يبقى معه شح عن أداء حق الله وحق عباده .. فالمزكي بهذه الصدقة يطفيء سعار حب المال في نفسه الذي هو داء مستطير لا تكاد تسلم منه نفس ، ولذلك يحتاج إلى العلاج بمثل هذه النفقات التي شرعها الله سبحانه وتعالى ..
ولو أهمل الإنسان علاج هذا الداء لاستفحل وأدى استفحاله إلى استعصاء العلاج وتعذر استئصاله بحيث يكون طبيعة من طبائع النفس لا يمكن للإنسان أن ينفك عنها ، فلذلك أمر الله تعالى الأغنياء أن يخرجوا من أموالهم حقا معلوما للفقراء ليطهروا بذلك نفوسهم من أسر هذا الداء العضال ، ويشير إلى ذلك قول الله سبحانه وتعالى (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا )) { التوبة / 103 } ، لم يقل الحق سبحانه تطهر مالهم ، وإنما تطهرهم ، ذلك لأن الإنسان تتتطهر نفسه بهذه الزكاة وتزكو وإن كان في الزكاة تطهير للمال وتنمية له بإخراج حق الله تعالى وحق عباده ..
فالزكاة كما هو معلوم مأخوذة من زكا الشيء يزكوا بمعنى (( نما )) وذلك بما جعل الله فيها من نماء الخيرات ، أو أنها مأخوذة من زكا بمعنى ( طـَهُـر ) فهي تزكية للنفس وتطهير لها . والله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته في خلقه للبشر أن يكونوا متفاوتين في مواهبهم الكسبية كما يتفاوتون في مواهبهم الفطرية ، فالناس متفاوتون في المال تفاوتهم في قوى الأبدان والعقول والأفكار .. فالناس متفاوتون في الغنى ..وذو الفقر بحاجة إلى ما جعله الله سبحانه وتعالى بأيدي الأغنياء بإخراج زكاة أموالهم ، ليكون هذا القدر الذي يخرجه الغني للفقير حقا واجبا عليه .. وإلا لو شاء الله عز وجل لأغنى الكل ، وعلى ذلك فالناس كل أحد منهم بحاجة إلى الآخر حتى تكون الحياة – حياة الناس – حياة إجتماعية مدنية مترابطة ليست حياة مفككة كحياة البهائم.
وشأن الإنسان إذا أرسل لنفسه العنان لكسب المال ألا يبالي من أي طريق يكتسبه ولو أدى ذلك إلى القضاء على حياة الآخرين ، ولأجل ذلك تجدون اللصوص وقطاع الطرق ومن على شاكلتهم لا يبالون بسفك الدماء لأجل الحصول على المال لأن شهوة المال هي التي دفعتهم إلى ذلك عندما استحكمت في نفوسهم ، وقد يستعجل الولد موت والده فيسقيه السم الزعاف ، ويفعل ذلك القريب بقريبه حتى يستولي على تركته .. هذا كله من أثر شهوة المال ، فعلاج هذه الشهوة بما شرع الله سبحانه وتعالى من الإنفاق والبذل ، فإذا اعتاد الإنسان الإنفاق حُـبب إليه هذا الإنفاق ، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى من الإنفاق ما هو منظم بحيث يقوم به العبد في كل عام ، ومنه ما هو موكل إلى النظر في حاجات الناس كسائر النفقات المشروعة في الإسلام .
أثر الصوم على الإنسان:
والصوم أيضاً له أثر كبير في نفس الصائم ، والله تبارك وتعالى يبين لنا حكمة الصيام في قوله عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) {البقرة/183}. أي لتتّقوا ، فالصوم المطلوب من العبد هو الصوم الذي يروض به نفسه على الأعمال الصالحة واجتناب السيئات فيحملُ الصائم نفسه على تقوى الله عز وجل وذلك إذا ما أدى الصوم على الطريق المشروع ، فإنّ الصوم ليس هو مجرد الكفّ عن الأكل والشرب ومباشرة النساء فحسب ، بل أمر الصوم أكبرُ من ذلك ، ذلك لأن الصوم المطلوبَ هو بجانب ما ذُكر ضبط النفس وقيد الجوارح عن جميع الأعمال السيئة ،ولذلك جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " ، وهذا الكلام لا يخرج إلاّ مخرج التهديد والوعيد. واخرج الإمام الربيع من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال: " لا إيمان لمن لا صلاة له ، و لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا صوم إلاّ بالكفّ عن محارم الله " .
فالذي يصوم عن الطعام والشراب ولكنه مع ذلك لا يتورّع عن الولوغ بلسانه في أعراض الناس ليس صيامه بشيء ، وكذلك الذي يقضي سحابة نهاره في معاملات الربا ويخادع الناس ويماطلهم ويتحايل على أموالهم ليس صيامه من عبادة الله تعالى في شيء ، إنما حظّه من الصيام الجوع والعطش فحسب.
والذي يتكبّر على الناس ويستعلي عليهم ويظن أنه أرفع منهم قدراً ، وأعظمهم شأناً وأولى منهم بالإحترام والتقدير هو أيضاً ليس صيامه في شيء من عبادة الله ، لأنه خرج عن حقيقة العبادة المطلوبة.
والذي لا يؤدي حق والديه ، ويتنطّع عليهما ويؤذيهما بلسانه وبفعله ليس صيامه مقبولاً عند الله سبحانه و تعالى ، والذي يقطع أرحامه ويسيء الجوار ليس صيامه مقبولا عند الله تعالى .. ولا يقف أمر الصوم عند هذا الحد ، بل الصومُ مدرسةٌ خُلقية يتعلّم فيها الإنسان الأدب الإنساني الرفيع .. كيف يتعامل مع الآخرين ؟!
فالصوم يفرض على الصائم أن يتحمّل الأذى من الآخرين وليس مجرد كفّ الأذى عنهم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الصومُ جُـنَّـــة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإنْ أحدا سابّه أو قاتله فليقل إني صائم " ، ما أبلغ هذا الأدب الرّباني الذي يؤدِّب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته من خلال هذه الفريضة .. فريضة الصيام ، فإنه صلى الله عليه وسلم يأمر الصائم باحتمال أذى الغير ولا يجيز له رد الإساءة بمثلها فإذا تعرّض لشيء من الأذى من الغير سواءً كان قولاً أم فعلاً فعليه أن يقول ( إني صائم ) : تذكيراً لنفسه بعبادة الصوم وقدسيتها وأنها تتنافى مع إرادة التشفِّي والإنتقام ومع مقابلة الإساءة بمثلها ، وتذكيراً لذلك الذي أساء إليه بأنه أيضاً في حال صيام وأن صيامه يتنافى مع ما جاء به من الإيذاء لأخيه فعليه أن يكف أذاه وإلاّ فإن صيامه ليس مقبولاً عند الله تعالى ، فإذا كان ذلك الغير مؤمناً استشعر الخطأ وثاب إلى رشده وأقلع عن غيّه واستغفر ربّه وأرضى صاحبه ، وإن لم يكن كذلك ففي هذا الجواب وهو قوله : ( إني صائم ). دعوةُ له إلى الخير لأنّ ملتنا الإسلامية هي هذه وأدبنا الإسلامي يفرض علينا بأن نتحمل الأذى من الآخرين بجانب كفّنا الأذى عنهم .. فإذا عوّد الإنسان نفسه هذا الأدب وهذا الخلق الكريم مع ضبط النفس وكفّ الجوارح عن محارم الله من المعاصي الظاهرة والباطنة في خلال شهر من شهور العام هان عليه ذلك في سائر العام ..
فما أعظم هذا التأديب الذي يؤدب به الله تبارك وتعالى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال فريضة الصوم .. ولقد جاء في رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خمس ينقضن الوضوء ويفطِرن الصائم ويهدمن الأعمال هدماً : الغِيْبَةُ والنميمة واليمين الغموس والكذب والنظر بشهوة " ، هذه الأفعال تهدم الأعمال الصالحة هدماً وتقضي على الصوم وتنقضُ الوضوء ، وهناك الأدلةُ الكثيرة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الصوم هو طهارة نفسية يجب على الإنسان أن يغتنمها ، وبجانب ذلك فإنّ الصوم يذكِّر الأغنياء الذين بسط الله تبارك وتعالى لهم من فضله وأفاءَ عليهم من نعمه فهم يعيشون في رغد العيش وطيبه طوال أيام السنة .. يعيشون تحت الظل والتكييف المريح صيفاً وشتاءً ويتناولون أفضل أنواع الأطعمة وأشهاها .. ففي حال صيامهم شهراً في السنة وشعورهم بالحاجة إلى الطعام والشراب وترقبهم لوقت الأفطار بلهفة وحرارة يتذكرون في هذه الحالة حاجة الفقراء وحالتهم الذين يعيشون طوال العام لا يتناولون من الطعام إلاّ ما يفضل غيرهم أو ما يسد ضرورات أجسامهم على أحسن الأحوال .. يتذكرون ذلك الفقير الذي لا مأوى له يقيه لهيب الشمس وشدة الحر في الصيف ، وقساوة البرد وعنته في الشتاء.
يتذكرون ذلك الفقير الذي يضطر للعمل ليلاً ونهاراً ليحصل على قوت يومه فيدفعهم ذلك كله إلى الإحسان إليه وإلى أمثاله فيسدون حاجتهم ويرضون أنفسهم .. وهكذا يعيش المجتمع الإسلامي في تعاون وتكافل يشعر غنيهم بفقيرهم ويعين قويهم ضعيفهم فتتحقق حِكم الصوم وغيره من العبادات ، وكم هي الحِكم العظيمة والمنافع الجليلة التي يجنيها المسلم العابد لربه حق العبادة ، المتقي لخالقه حق التقوى.
أثـــــر الحـــــــج:
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى الحج في كتابه العزيز مقروناً بالتقوى في أكثر من موضع .. فالله سبحانه وتعالى يقول : (( وأتموا الحج والعمرة لله .. )) إلى أن قال (( .. واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب )) ( البقرة/196).
ويقول سبحانه (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ )) (البقرة/197).
ويقول عز وجل ((وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )) (البقرة/203).
ويقول سبحانه وتعالى في أحكام الحج أيضاً (( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ )) (الحج/32).
فإذاً الحج نستفيد منه التقوى كما نستفيد من سائر العبادات ، ذلك لأن حجّ بيت الله الحرام يبدأ بالإحرام ، وذلك هو توديع للحياة السابقة وقلب لصفحاتها إلى ناحية أخرى ؛ تحوّل من الضلال إلى الهدى ومن الغي إلى الرشد ومن الباطل إلى الحق ومن المعصية إلى الطاعة ومن التنافر إلى التآلف .. فالحجاج يهجرون بلدانهم وهم يغادرون في هذه الهجرة المعاصي والمفاسد والعادات السيئة ، فهم ينتقلون بأرواحهم قبل أن ينتقلوا بأبدانهم ، وما اجتماع الحجيج في صعيد واحد وعلى زيٍّ واحد قد تجرد كل منهم في ثوبين ، وترك وراء ظهره زيّه الخاص الذي يميّزه عن غيره إلا مظهر من مظاهر هذا التحول الذي يدعو إلى الوحدة والترابط بين هذه الأمة بحيث لا يُفضّــل أبيضُها على أسودها ولا غنيها على فقيرها ولا قويها على ضعيفها ولا حاكمها على محكومها ، وإنما الكل عباد لله سبحانه وتعالى يلتقون في ظل عبادته تعالى ليقولوا بصوت واحد (( لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك )) .. فتتجسد المساواة الإنسانية في الإسلام في تلك الرحاب المقدسة ، فالناس كلهم متساوية هناك أقدامهم أمام الله سبحانه وتعالى.
وبجانب ذلك فإن الحاج يتزوّد طاقة روحانية عندما يقف في تلك المشاهد العظام ويتذكر ذلك التاريخ العظيم الذي مرّ بها فما من شبْر في تلك الأرض الطاهرة إلا وهو سجل حافل بتاريخ مجيد.
فعندما يطوف المسلم بالبيت الحرام يتذكر مشاعر النَّبِـيين الصالحين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عندما كانا يرفعان أركان هذا البيت العتيق وهما ينظرا نظرة المؤمن الموصول بالله سبحانه وتعالى إلى المستقبل البعيد ، فكانا يرددان ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهما ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )) (البقرة 127/128).
كذلك يستشعر الحاج أيضاً بعثة ذلك الرسول الخاتم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الذي جعله الله تبارك وتعالى إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ويتذكر جهاده في الله وصدوعه بالحق في تلك العراص الطاهرة بين ضجيج الجاهلية وتحديات الكفار المتكاثرة حتى ظهر أمر الله عز وجل ووصل إلينا هذا الدين الحنيف.
وعندما يأتي الحاج إلى الصفا يتذكر الوقفة التي وقفها الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ليعلن دعوة الحق بعدما أنزل الله سبحانه وتعالى عليه قوله ((وأنذر عشيرتك الأقربين )) (الشعراء/214) ، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ونادى في قريش (واصباحاه) وكانت هذه الكلمة لا تقال عند العرب إلا إذا ألمّ بقائلها أمر فادح عظيم.
فقالت قريش: إنّ بالرجل لأمراً فأسرعت إليه من كل حدب وصوب ، فلما اجتمعوا بين يديه قال لهم : (أرأيتم أنْ لو أخبرتكم أنّ خيلاً وراء هذا الجبل مغيرة عليكم أكنتم مصدقِّي ؟ قالوا له: ما جربّنا عليك كذباً. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). فقال له أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟! فأنزل الله السورة المعروفة التي تحمل وعيداً شديداً لأبي لهب.
ولقي الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي بعد ذلك من العنت والمتاعب في سبيل هذه الدعوة وإبلاغها للعالمين .. ويتذكر الحاج أيضاً في تلك الرحاب الطاهرة المواقف العظيمة التي وقفها صحابة رسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم ، ذلكم الجيل الفريد في تاريخ البشرية ؛ الذين وقفوا مع قدوتهم وإمامهم خاتم الأنبياء والمرسلين وقفة صادقة مخلصة ضحوا فيها بكل غال ونفيس في سبيل الله تعالى ورفع راية التوحيد وإنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وضلالاتها ، وقد لاقوا العنت والشدائد المختلفة من زعماء الكفر الذين لم يتهاونوا معهم بل ابتكروا أصنافا شتى من وسائل الإضطهاد ولتعذيب فصبر أولئك الصحب الكرام وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وبلّغوا مع المصطفى عليه السلام الرسالة وأدوا الأمانة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وهكذا يتزود الحاج طاقة إيمانية روحانية إيمانية من هناك وترتبط حلقات أجيال هذه الأمة جيلاً بعد جيل متسلسلة في سلسلة واحدة كما ترتبط فئات هذه الأمة المعاصرة على اختلاف ألوانها وألسنتها ولغاتها ولهجاتها وعاداتها وبلدانها وأماكنها ، ترتبط كلها برباط الإيمان عندما تلتقي في ظلال البيت الحرام.
الخــاتــمـــــة:
هذه هي أمهات العبادات المشروعة في الإسلام ، وهذه هي جوانب من أسرارها ، وما هي إلا جوانب سطحية تحدثنا عنها وإلا فعمق العبادات وأسرارها مما لا يمكن لمثلي أن يحيط به وأن يدرك أبعاده ، فإن العبادات لها مغازي ولها أبعاد عميقة وعلينا ان نستلهم هذه الأبعاد من خلال تأملنا لطبيعة هذه العبادات ، ومن مواظبة التفكر النظر والتفكر في كتاب الله وحكمه وأحكامه.
ويجدر بنا أن نحاسب أنفسنا ونزن أعمالنا جميعها بموازين التقوى ، وعلينا أن نجعل عبادتنا خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى ، حتى نبلغ بذلك درجات المتقين.
اسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللهم إنا نسألك الاخلاص في القول والعمل ، ونسألك الخلاص في الدنيا والآخرة ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، سبحانك نستغفرك ونتوب إليك ، ونعول في إجابة دعائنا عليك ، ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وارض عنا أجمعين يا رب العالمين ، وأدخلنا في رحمتك يا أرحم الراحمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اسامه الحسيني