     
إن الحاجة الملحة إلى
إبداع نماذج مميزة من الحدائق المدرسة تقتضي ابتكار
أساليب متنوعة لفن البستنة واقتفاء كل ما هو
جميل في هذا الميدان ولكن بهوية مغربية
التي تراعي الخصائص المحلية والثقافية لكل
منطقة أو جهة من اجل جعل التلميذ منسجما
مع ذاته ومع الحياة التي حوله وذلك
بالاعتماد على خامات ومواد البيئة المغربية
الأصيلة في أفق ربط الإنسان المغربي ببيئته
ووطنه.
فهذه المواد والخامات تعد
طاقات للمخيلة النشيطة عند التلميذ
يتباهى بها وبأنماطها المختلفة لكونها تنم
عن عبق ورائحة التجربة المغربية التي
تمنح لكل مدرسة شخصيتها المميزة وطابعها
المتفرد، حيث يجد فيها التلميذ ما يجب من
النزهة الساحرة والمفيدة، بيد أن الأخذ بعين
الاعتبار الوجود الجغرافي والثقافي
المحلي في إعداد الحدائق المدرسية لا يمنع
إطلاقا الاستفادة من التجارب العالمية
ومن الإرث الإنساني، بمعنى أن حدائقنا
المدرسية لا يمكن صياغتها دائما صياغة
تقليدية بل يجب الانفتاح على تجارب الغير.
إلا أن هذه التجارب إن كانت هادفة إلى
التجديد لمن الممكن أن تفقد جدتها أن وقع
الاقتصار فيها على نموذج معين، غير أنها
إذا انتهجت طريق التنوع فان المكتسبات من
خلالها تبقى راسخة في المحصول التربوي
الهادف. لهذا لا بد أن تكون كل خطوة مضبوطة
ودقيقة ولا يمكن إنجاز أي عمل بدون
التوفر على المهارات الفائقة حتى لا تصبح
هذه الحدائق عديمة الدلالة ،هذا هو المبدأ
الأساسي الذي يجب أن يتبعه مصممو الحدائق
المدرسية لخلق علاقات جمالية بين جميع
المكونات والاختيار الدقيق للعناصر التي
تتفق مع المحيط الطبيعي للحديقة في التحام
تام حتى تصبح هذه الأخيرة ذات مظهر فاتن
ومتوازن الأشكال وبالتالي محل فخر
المدرسة.
ومن الواضح أن هناك الكثير من المعطيات التي
يجب مراعاتها عند تخطيط
الحدائق المدرسية في مقدمتها تنوع الغطاء النباتي
والذي يظهر كنشوة منظمة بلغة
الألوان الزاهية لتضفي جمالا إضافيا
للمدرسة، والى جانب هذا يجب اختيار أنواع
النباتات التي لا تشكل خطورة على التلاميذ
كالأشجار والنباتات الشوكية وتجنب زراعة
النباتات السامة وعدم تسميد الحديقة ببعض
الأسمدة التي تكون مصدر العدوى أو تنقل
بعض الأمراض...علاوة على هذا يجب تقليم
النباتات والأشجار للحفاظ على مظهرها
الجمالي وعلى حيويتها وتحقيق تأثير جمالي
رفيع المستوى.
كما أن الحديقة المثالية
هي التي تستلهم مناظرها من الأحجار ذات
الأشكال المميزة والتي تظهر في كتل ترتفع
فوق الغطاء النباتي حيث يتم ترتيب الصخور
حسب نوعها وشكلها ولونها في انسجام تام
وبالشكل الذي يتفق مع المحيط الطبيعي
للحديقة، أي الاستفادة من المميزات الطبيعية
لكل صخرة. كما يجب اختيار التربة الجيدة
التي تسمح للنباتات بالتنفس الجيد وتحري
عناصر غذائية مهمة إضافة إلى شكلها الجيد.
هذا بالإضافة إلى أشكال طبيعية أخرى
كالرمال والطين والحصى...دون أن ننسى عنصر
الماء باعتباره رمز الحياة والذي يظهر
داخل الحديقة المدرسية من خلال بركات مائية
صغيرة أو نافورات...ولا ضير كذلك في
تواجد بعض الحيوانات الأليفة أو بعض الطيور
المميزة الشيء الذي يحول هذه الحدائق
إلى صورة مصغرة من الطبيعة بالشكل الذي يحقق
فكرة النقل عن الطبيعة ومحاكاة ألوانها
وأضوائها وظلالها وأشكالها المتناهية
والمتداخلة في جسد الحديقة المدرسية حيث تبعث
إحساسا بالوجود في الخارج لدى التلميذ، كما
تشرح له كيفية الاستماع بالحياة في
الأرياف.
هكذا يكون شعور الطفل الذي لا تشرق عليه
الشمس إلا اشتد طمعه في لقاء
حديقته المدرسية لأنها تلبي حاجاته الروحية
وتهز كيانه وتستأثر بقلبه، فينتقل بين
أرجائها ليستمتع بجمال الورد الرقيق النظرة
ويتخير من نباتاتها أزهارها الجميلة
اليافعة والتي تثير في النفس حنانا إليها.
فما اشد حاجة مدارسنا للحدائق المدرسية
والتي تجعل منها مكانا للتأمل والمحبة ومجلى
للمشاعر الإنسانية وليست مجرد بنايات
إسمنتية بدون روح ولاحس تحاول عزل الأطفال
في أقفاص مغلقة تشعرهم بضرب من التناقض
بين الناحية الاجتماعية والضوابط
المدرسية.كما أن هيئة التدريس ستستفيد هي أيضا من
الحدائق المدرسية لأنها توفر الأجواء
التربوية السليمة و تبعد هذه الهيئة من ظروف و
أسباب الاحتراق النفسي.
وإذا كان من المسلم به أن الإبداع يعتبر من
أهم الأهداف
العامة للتربية، فان الحدائق المدرسية تساعد على
تطوير التوعية الفنية والجمالية
للتلاميذ من خلال إطلاق وتفجير طاقاتهم
الإبداعية وتهيئ الظروف والبيئة الملائمة
لتنمية التفكير الإبداعي في إطار المنظومة
التعليمية الشاملة. فالحدائق المدرسية
تساعد التلميذ على أن يمتلك قدرات إبداعية
عديدة لكونها تحرك طاقات الخلق الكامنة
في أعماق نفسه وتتيح له فرصة للتخيل وكذا
القدرة على عرض أفكاره بصورة مبدعة نظرا
لما تتضمنه هذه الحدائق من ظروف و مواقف
تيسر الإبداع. فالتلميذ يفجر طاقته
الإبداعية بعد أن يعيد اكتشاف التجارب
والأفكار والقدرات التي اختلجت في عقله
ووجدانه وعاطفته وروحه، فيعبر في الوقت
المناسب عن رؤياه ومشاعره الذاتية.
فلا
يكاد أحد يماري في أن الإحساس كان سابقا على
الإبداع، وان أعمال البستنة تعد بمثابة
القلب النابض في التدريس الإبداعي لكونها
تجعل التلميذ رقيق الحس مرهف القلب
وتساعده على تلمس الجمال والمتعة وعلى إدخال
الخيال والشعور في نفسيته وتتيح له
الفرصة للتعبير عن مشاعره الخاصة وعالمه
الباطني.
مما تقدم نلمس مدى أهمية
العملية الإبداعية لدى التلاميذ من خلال
ممارسة أنشطة وأعمال البستنة المدرسية ، لا
سيما أن دورها يتعاظم في هذا المجال عند
انصهارها مع الفنون بشكل عام، ذلك أن
انقطاع الفنان عن المدرسة وقيام علاقات
تباعدية بينهما أسهمت في ظهور أسباب التصحر
بمؤسساتنا التعليمية. وتكمن الفائدة من
تفاعل الفنون وتلاقحها مع الحدائق المدرسية
في أنها تكون حافزا على المزيد من الإبداع
والخلق والجمال ويؤدي تأثير هذا التكامل
والتفاعل على نفوس التلاميذ إلى إمكانية
تعلم الإبداع والتدريب على ممارسته لكونه
يبرز اقتران سحر الحدائق المدرسية بمتعة
الفنون المختلفة، لذلك يكون من الأجدى خلق
مساحة أو حقل لكل فن من هذه الفنون داخل هده
الحدائق لجلب اكثر العشاق ، فكل تلميذ
سيشعر بوجود شيء منه فيها من خلال الفن الذي
يحبه ويعشقه.
فعلى ضوء هذه
المقتضيات يمكن القول أن فن تخطيط الحدائق
المدرسية لم يبق جامدا في مكانه، بل
أدخلت عليه أفكار جديدة بغية الوصول إلى
الأهداف الإبداعية من خلال معانقة كل
الفنون لأجواء طبيعة المدرسة بكل تناغم
وتكامل، وهذا يظهر بجلاء عند تحويل الحدائق
المدرسية إلى قيم زخرفية وأشكال هندسية وذلك
بتوظيف الإمكانيات التشكيلية في عملية
إعداد هذه الحدائق كإنجاز منحوتات فنية
طبيعية بواسطة النباتات أو الأحجار أو غيرها
تجسد أبعاد تربوية كمعالم سيادة الآمة مثل
النجمة الخماسية أو شعار المملكة
المغربية... وكذا إقامة مسرح صغير داخل
الحدائق المدرسية وتقديم عروض مسرحية وفنية
داخل أجوائها مما يزيد من فعالية الأعمال
الفنية والمسرحية، يضاف إلى هذا إجراء أو
راش لفن الرسم لاستفادة التلاميذ من رونق
الأشياء وجمال الأشكال، وإقامة أمسيات
موسيقية وشعرية داخل رواق الحديقة ...كل هذا
سيساعد في تفجير قدرات المتعلمين
الإبداعية وصقل ملكة الخلق لديهم.
من هنا يتضح أن العلاقة بين الفنون والحدائق
المدرسية هي علاقة وثيقة لا نملك سوى أن
نعجب بها. ويجدر الوقوف هنا على دور
الحدائق اليونانية القديمة في تحقيق المعجزة
الإغريقية على اعتبار أنها كانت تحتضن
في الهواء الطلق الحلقات التعليمية والعروض
المسرحية والموسيقية والشعرية
والمجادلات الفلسفية إضافة إلى أعمال فنية
للرسم والنحت ...والتي أنجبت لنا عباقرة
في دروب إبداعية مختلفة أمثال أر سطوAristote
– أفلاطون Platon–
سقراط Socrate–
فيدياس Phidias-هوميروسHomère
– بندار Pindare-
هيرودوتHérodote
... بحيث لا أحد
يجادل في مقدار ما كان لهذه الحلقات من اثر
عظيم في مسار التاريخ الإنساني.
وإذن
فليس من سبيل إلى أن نقبل بفن البستنة
بمؤسساتنا التعليمية، وإنما السبيل أن نوازن
بينه وبين باقي الفنون، وليس إلى هذه
الموازنة المنتجة من سبيل إذا لاحظنا القواسم
المشتركة فيما بينها في أفق تحقيق التناغم
والتأثير والتفاعل المطلوب حتى نتقن فن
البستنة المدرسية اتقانا ونحسن الانتفاع به
ونستثمر نتائجه في الحاضر والمستقبل.
ولو ان لنا أن نقترح لرفعنا هذا الاقتراح إلى
جهازين أساسيين : وزارة التربية
الوطنية ووزارة الثقافة ، وهو أن تكون
الفنون من أهم مميزات حدائقنا المدرسية، فهل
يسمع لهذا الاقتراح؟.
وغني عن البيان أن عدة منظمات دولية اهتمت
بموضوع الحدائق
المدرسية في مقدمتها منظمة الأمم المتحدة لتربية
والعلوم والثقافة -UNESCO-
التي
أجرت بحوثا ميدانية في بعض المدارس الحديثة وصلت
إلى نتائج بالغة الأهمية وأكدت
كلها على الدور التربوي والنفسي للحدائق
المدرسية.
أما منظمة الأغذية والزراعة
للأمم المتحدة (فاو)-FAO-
فقد ركزت اهتمامها على علاقة الحدائق
المدرسية بالمحيط
الاقتصادي والاجتماعي وذلك بإتاحة الفرص للناشئة في
جميع أنحاء العالم لتفجير
طاقاتها الإنتاجية عندما أعلنت بتاريخ 30 يونيو
2005 بروما بان الحدائق المدرسية
باستطاعتها أن تكون أداة قوية لتحسين مستوى
تغذية وتربية الأطفال و أسرهم في
المناطق الريفية والحضرية للبلدان النامية
إذا ما تم دمجهم ضمن البرامج القطرية
الزراعية و التغذوية والتربوية، ومما يذكر
أن المنظمة كانت قد قدمت منذ عام 1997
الدعم من خلال برنامجها المعروف باسم (تليفود
:TELEFOOD) لما يزيد على 150 مشروعا
صغيرا من مشاريع الحدائق المدرسية في اكثر
من 40 بلدا.
ومن جهة أخرى فقد أولت كل
من منظمة الصحة العالمية-Organisation
mondiale de santé- وكذا منظمة
اليونسيف-UNICEF-
عناية خاصة للحدائق المدرسية لأنها تساهم
مساهمة فعالة في
التربية النفسية والصحية للأطفال وتحارب التلوث
بجميع أشكاله داخل المؤسسات
التعليمية وتنمي الوعي البيئي لأطفال
المدارس ودعتا إلى الحفاظ على بيئة نظيفة
والزيادة من المجال الأخضر لتدعيم برامج
الصحة المدرسية.
وهكذا نرى أن الحدائق
المدرسية هي قصة ممتعة موحية، يتابعها
التلميذ بشوق وينتهي منها إلى فائدة، لأنها
تنطوي على شئ كثير من الجدة و اللذة، وقد
الممنا المامة قصيرة بهذا الموضوع ولكنها
نافعة لابنائنا. فالحدائق المدرسية عبارة عن
كنوز خليقة أن تستكشف وان تدرس على
وجهها لان لها آثار مزدوجة على الحياة
المدرسية والمجتمع كله.
فألف تحية لكل من
ساهم في هذه الملحمة التربوية لتكون حافزا
للناشئة إلى تلمس الجمال و نشدان الإبداع
وتبيان الطريق...
بقلم الأستاذ و الفنان
التشكيلي حميد موقدمين.
إعدادية المسيرة
الخضراء. تيسة. تاونات . المغرب
|