|
|
تفضل بزيارة منتدى الموقع في حلته الجديد من هنا
|
موضوع المقالة : توطين التقنية السبيل الأمثل للنماء |
الكاتب أو الناشر: د. عبد الله بن أحمد الرشيد ( نائب رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) |
توطين التقنية السبيل الأمثل للنماء توطين التقنية الحديثة كان مقترناً بصورة دائمة بأمر في غاية الأهمية ألا وهو السعي إلى ملاءمة هذه التقنية للظروف البيئية، والقيم والموروثات الاجتماعية، والمفاهيم الإسلامية التي يعايشها المجتمع السعودي، وهو ما جعل الملامح الحضارية التي أبرزتها التنمية السعودية ذات سمة متميزة وخصوصية فريدة يشهد لها الجميع. والمملكة وهي تقف على مشارف عتبات قرن جديد تتطلع إلى تعزيز تلك المكتسبات الحضارية والمحافظة على استمراريتها وتعضيدها، وهي قادرة على تحقيق ذلك بعون الله ثم بعزيمة أبنائها وقيادة حكومتها الرشيدة.. إلا أنه لابد من الاستعداد والتحضير لمواجهة التحديات التنموية الكبرى على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ستبرز مع إطلالة القرن الجديد، وتنبع في مجملها.. من ضرورة التعامل مع معطيات الواقع الاقتصادي العالمي بأبعاده الكونية وفي إطار المنجزات العالمية للثورة العلمية والتقنية المعاصرة. ولهذا فلابد أن تجري عمليات التنمية مع الأخذ في الاعتبار توافر القدرات التنافسية وإمكانية الدخول إلى الأسواق العالمية، وتحقيق السبق من خلال التجديد والإبداع والارتقاء بجودة المنتجات، وهو الأمر الذي يتطلب توافر قدرات علمية وتقنية خلاقة ومبدعة قادرة على مواجهة تلك التحديات والتعامل معها بكل إيجابية وفعالية وكفاءة، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال توفر شريحتين هما: - القوى البشرية العلمية الرفيعة المستوى القادرة على إيجاد التقنية من خلال تأدية دورها وإبراز إمكاناتها في مجال البحث العلمي والتقني. - القوى البشرية الفنية المؤهلة لاستخدام التقنية والتعامل معها بقدرة من خلال استيعابها الكامل لها، وهذا ما يقود إلى ضرورة تضمين الخطط التنموية بما يؤدي إلى توافر المكونات القادرة على إيجاد التقنية واستخدامها من بحث علمي وبحث تقني وعناصر استخدام التقنية في مجال الإنتاج، وما يترتب عليه من بروز ومواجهة المشكلات التي يسعى البحث العلمي إلى حلها. مفهوم نقل وتوطين التقنية: للتقنية تعاريف متعددة ومتنوعة تستوعب الكثير من الاجتهادات والآراء، إلا أن أكثرها شمولية والذي ستأخذ به هذه الورقة هو أن التقنية هي التطبيق المنظم للمعرفة والخبرات المكتسبة في المهام العملية لحياة الإنسان، وهي تمثل مجموع الوسائل والأساليب الفنية التي يستخدمها في مختلف نواحي حياته العملية، وبالتالي فهي مركب قوامه المعدات والمعرفة. ولذا.. فإن عملية نقل التقنية لا يقصد بها الاستحواذ فقط على الأجهزة والمعدات بصورتها المجسدة، بل نقل المعارف التقنية ممثلة في المهارات المهنية والمعرفة الفنية والخبرات الإدارية والتنظيمية، أما توطين التقنية وتطويعها فهي العملية التي يتم من خلالها تنمية القدرات الذاتية للتعامل الفني مع الأجهزة والمعدات الحديثة وعمل التعديلات اللازمة عليها لتلائم طبيعة البيئة المحلية والمجتمع وظروفها. ولما كانت التقنية تشكل ظاهرة اجتماعية تكونها ظروف مجتمع تتوافر لديه القدرة على الإبداع العلمي والتجديد التقني وتؤثر العديد من العوامل والظروف عليها إما سلباً وإما إيجابياً، فقد أصبح المفهوم التنموي للتقنية يشتمل على عناصر متعددة خارج إطار مؤسساتها والهيئات التي يمكن أن تستفيد منها؛ لتتسع دائرة منظومة التقنية لتشمل مؤسسات التعليم والتدريب، والتمويل والتخطيط، والتشريعات والقيم والأنساق الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما ستتطرق إليه هذه الورقة في مواقع متعددة. التقنية والتنمية الوطنية: أضحت التقنية اليوم أكثر من أي وقت مضى عنصراً أساسياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل وسلاحاً استراتيجياً للمحافظة على الأمن الوطني والمكانة الدولية للدول. ولعل من الحقائق التي توصلت إليها عدد من الدراسات أن مردود التطور التقني على معدل النمو الاقتصادي والناتج الفردي للسكان يمثل نسبة كبرى تتراوح بين 50% في اليابان، و 90% في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي جعل عملية نقل التقنية وتطويرها من أهم القضايا الرئيسة التي تتصدى لها في الوقت الحاضر السياسات العلمية والتقنية في الدول النامية والمتقدمة على السواء. وإذا استثني عدد قليل من الدول النامية في آسيا وأمريكا الجنوبية التي تمكنت من أن تصبح دولاً قوية اقتصادياً بسب إنجازاتها الرائدة في عملية نقل وتوطين وتطوير التقنية، فإن الغالبية العظمى من الدول النامية قد اكتنف تجاربها للتنمية الكثير من الصعاب بل والإخفاقات المريرة، نتيجة لعدم استفادتها من التقنية المنقولة «سواء أكانت أجهزة ومعدات أو معارف ومهارات» ولعدم قدرتها على تطويعها وتطويرها ذاتياً. ولا شك أن من أهم الأسباب التي أدت إلى تلك الإخفاقات هو ضعف القدرة التقنية الذاتية، والتي تعد ضرورية وأساسية للاستفادة الكاملة والفاعلة من التقنية المنقولة وتطويرها وتوطينها، دون أن نغفل أسباباً جانبية أخرى تتعلق بضعف القوى التفاوضية لتلك الدول مما أخضعها للشروط التعسفية في العقود، ووضع الحواجز المختلفة التي تعرقل نقل المعارف التقنية وتوفير المعلومات الفنية. إن هذا يعني بالنسبة للدول النامية.. أنه بالرغم من أهمية نقل المعارف التقنية جنباً إلى جنب مع الأجهزة والمعدات، فإن هناك شرطاً أساسياً لنجاح عملية النقل هذه، وهو أن تمتلك الدول مستويات معينة من المعارف والمهارات والقدرات التقنية الذاتية الضرورية لاستيعاب المعارف والمهارات التقنية المنقولة والبناء عليها وتطويرها. وهذه لا بد منها لإيجاد حركية «دينامية» تقنية تعد مطلباً أساسياً لأي تطور تقني، إن هذه الحركية التقنية الذاتية التي يرجع إليها نجاح تجارب الدول المتقدمة في تطورها تُكْتَسب في معظمها من الجهود الرائدة للتعليم والتدريب إضافة إلى البحث والتطوير. إن دراسة تجارب ماضية لدول متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان في مسيرتها الناجحة نحو التقدم التقني، والتي كانت في وضع مشابه تماماً للدول النامية اليوم، لتعطي دروساً جديرة بالاهتمام لواضعي السياسات العلمية والتقنية في الدول النامية. فمن أهم الأوجه العديدة المختلفة التي ساهمت في الإنجازات الناجحة التي حققتها تلك الدول والتي لها مضامين مباشرة على سياسات ونظم التربية والتعليم الآتي: - إن تلك الدول لم تعتمد فقط في تطورها على استخدام التقنية بصيغتها الجاهزة من الدول الأكثر تقدماً.. فعلى الرغم من استيرادهم المكثف للتقنيات، فإنه قد تم ربطها بجهود ذاتية ضخمة ومتواصلة لتطويع وتحسين التقنيات المستوردة.. هـذه الدينامية التقنية الذاتية لم يكن بالإمكان إيجادها لولا توفر مؤسسات تعليمية وتدريبية ذات كفاءة عالية قادرة على تخريج أعداد هائلة من الموارد البشرية المبدعة علمياً والخلاقة تقنياً ونشرها في كافة القطاعات الاقتصادية وخصوصاً داخل القطاعات الإنتاجيــة. أو بمعنى آخر، إن بناء حركة تقنية وطنية فعالة «ضرورة لأي تقدم علمي وتقني» يتطلب مؤسسات تعليمية متطورة قادرة على توفير مخزون كبير من الكفاءات البشرية الخلاقة والمبدعة. - إن إنشاء المؤسسات التعليمية والبحثية وقيامها بأنشطتها لم يتم أبداً بمعزل عن المؤسسات المستفيدة من خدماتها، بل كان هناك ترابط وثيق وتفاعل قوي ومتبادل في مسيرتها التطويرية.. ولقد كان لدور الطلب من المؤسسات الإنتاجية والخدمية على منتجات المؤسسات التعليمية والبحثية أهمية في إيجاد ذلك الترابط والتفاعل، إلا أن الدور الأهم والفاعل والناجح في ذلك الترابط هو المبادرات المستمرة للمؤسسات التعليمية والبحثية في تحسس احتياجات المجتمع وتوجيه أنشطتها لتلبية تلك الاحتياجات، هذا التفاعل القوي والمتبادل إيجابياً، ومرونة الاستجابة لاحتياجات القطاع الآخر، كان لها مضامين مباشرة على التربية والتعليم، فلابد من التركيز عليها عند رسم السياسات التعليمية وتنفيذها وصياغة نظم التربية والتعليم. وبإلقاء نظرة فاحصة على تجارب بعض الدول حديثة التصنيع في آسيا كالصين وكوريا وتايوان وماليزيا وغيرها، نلاحظ أن التفاعل ومرونة الاستجابة ما بين القطاعات قد لعب دوراً حيوياً في تقدمها التقني والصناعي، حيث استطاعت من خلال العناية الفائقة بالتعليم بناء القدرات التقنية الذاتية وتطويرها والانتقال مباشرة إلى اقتصاد المعلومات ومجالات الصناعات عالية التقنية. نقل وتوطين التقنية في السعودية: يعد نقل التقنية المتقدمة واستخدامها في جميع المجالات أحد الأهداف الاستراتيجية لخطط السعودية التنموية، ولقد فرض هذا الوضع بعض الخصائص التي تميز بها اقتصاد المملكة كالنقص في القوى العاملة، وتوفر رأس المال، والحاجة إلى حلول مستندة إلى التكثيف الرأسمالي، وذلك في ضوء سعيها نحو التقدم العلمي والتقني والصناعي، والتعجيل بمسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. وحتى تضمن المملكة نقل التقنيات الحديثة اللازمة لنجاح المشاريع التنموية، عملت على وضع حوافز مجزية لتشجيع قيام المشاريع المشتركة. ولقد نجحت تلك التوجهات في تحقيق الكثير من الإنجازات العملاقة في المجالات الخدمية والإنتاجية كافة مقارنة بغيرها من الدول، ودون أن تضطر إلى إعطاء تنازلات تتعلق بنوعية التقنية والاتجاهات الفنية العالمية فيها، أو اختيار أنواع أقل تطوراً.. فلقد تمكنت السعودية- بحمد الله- من بناء صروح طبية شامخة تستخدم أحدث التقنيات الطبية التي عرفها العالم، كما أقامت شبكات اتصال واسعة تغطي جميع أرجاء المملكة، وعملت على بناء محطات لتحلية المياه المالحة والنظم الإدارية، علاوة على ذلك فقد نجحت في إرساء قاعدة صناعية راسخة قوامها أكثر من (2720) مصنعاً منتجاً تُستخدم بها مختلف التقنيات الحديثة، والتي بلغت قيمة رأسمالها أكثر من (250) مليار ريال. كما تم دعم تلك الجهود لنقل التقنيات الصناعية المتقدمة، ببرنامج التوزان الاقتصادي الذي يضم (12) شركة وطنية، ويعد برنامجاً صناعياً استثمارياً طويل الأجل، يهدف إلى ربط شركات القطاع الخاص السعودية بالشركات الأجنبية وتمكينها من الاستفادة من التقنية العالية والمتطورة لدى الشريك الأجنبي ونقلها إلى المملكة. إن نقل التقنية بالتأكيد هو عملية مستمرة لا يمكن الاعتقاد بالاكتفاء منها أو التوقف عنها بين الدول المتقدمة فضلاً عن الدول النامية، إلا أن المملكة وإدراكاً منها بأن الاعتماد الكلي على التقنيات المستوردة وبشكلها المجسد دون القدرة على تطويعها وتطويرها لن يمكّن المملكة من مواجهة تحديات التقدم العلمي والتقني والصناعي المنشود. فقد واكبت تلك الإنجازات في نقل التقنية المتقدمة جهود كبيرة في الاستيعاب والتطويع والتوطين، كان من أهمها الآتي: - التوسع الكبير في إنشاء المؤسسات التعليمية العامة والعالية، ومؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني؛ لتخريج كفاءات بشرية من علماء ومهندسين وفنيين قادرة على التعامل مع التقنية واستيعابها وتوطينها. - تطوير المؤسسات الإنتاجية القادرة على توطين التقنية وتطويرها. - إنشاء العديد من مراكز البحث والتطوير في القطاعين العام والخاص. - توفير الخدمات المساندة من معلومات وتسجيل براءات اختراع ومكاتب استشارية هندسية. - رسم السياسات ووضع الخطط العلمية والتقنية لنقل التقنية وتوطينها وتطويرها. ونظراً إلى أن تلك الجهود بحاجة دائمة إلى تقوية وتعضيد- «من أجل تحقيق الطموحات الكبيرة والأهداف الاستراتيجية للمملكة للتحول في المستقبل المنظور بإذن الله من دولة مستوردة للتقنية إلى منتجة لها، ومن دولة نامية إلى دولة متقدمة علمياً وتقنياً وصناعياً»- فقد تعززت جهود نقل التقنية وتوطينها بإنشاء مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية؛ لتساهم وبفاعلية مع الجامعات والمؤسسات التعليمية والإنتاجية الأخرى في جهود المملكة لبناء وتطوير القدرة التقنية الذاتية اللازمة لتوطين التقنية وتطويرها. دور مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية في نقل وتوطين التقنية: تساهم مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية باعتبارها الهيئة الرئيسة المسؤولة عن تنسيق أنشطة العلوم والتقنية وتطويرها في المملكة بأوجه متعددة وحيوية في عملية نقل التقنية وتطويعها في المملكة، حيث تركز أهم أهدافها على دعم وتشجيع وتنفيذ البحث العلمي للأغراض التطبيقية، واقتراح الأولويات والسياسات الوطنية في مجالات العلوم والتقنية. ففي مجال التخطيط العلمي والتقني بدأت المدينة وبالتعاون مع الجهات المعنية في إعداد خطة وطنية مستقبلية شاملة للعلوم والتقنية بعيدة المدى تغطي المرحلة الزمنية القادمة من 1420-1440هـ، تهدف إلى تطوير القدرات العلمية والتقنية وتعزيزها في المملكة، وبناء قاعدة صلبة متكاملة وفعالة تساند القطاعات الإنتاجية وتقلل من الاعتماد على التقنيات المستوردة من خلال التطوير المحلي للتقنية.. وستعمل هذه الخطة على تحديد الأهداف الاستراتيجية والتوجهات المستقبلية لمنظومة العلوم والتقنية في المملكة، وعلى تحديد الاختيارات والمبادئ والمعايير التي تسترشد بها المؤسسات الوطنية للعلوم والتقنية في اختيار أنشطتها، وفي توجيه الموارد العلمية والتقنية وربطها بالقطاعات المستفيدة، مستفيدة بذلك من دراسة متأنية وعميقة لتجارب الدول الأخرى التي سبقتها في هذا المضمار. كما تقوم المدينة بالمساهمة في نقل التقنية وتطويعها من خلال إعطاء أولوية لدعم البحوث التطبيقية الموجهة لحل المشكلات التقنية التي تواجه القطاعات الخدمية والإنتاجية، والتي يتم تنفيذها في المراكز البحثية في الجامعات والجهات الأخرى، أو من خلال تنفيذ البحوث التطبيقية في معاهد المدينة البحثية في مجالات الإلكترونيات والبترول والصناعات البتروكيميائية والطاقة والفضاء والموارد الطبيعية والبيئة. كما تساهم المدينة في تطوير القوى البشرية من خلال تنمية المعارف والمهارات التقنية للعاملين عن طريق الابتعاث للتدريب أو للدراسة في مجالات تقنية متقدمة ذات أولوية للتنمية الوطنية، كما تقوم المدينة بوضع الأنظمة وتوفير المعلومات والبيانات التقنية لمساعدة القطاعات الإنتاجية في اختيارهم للتقنية المناسبة، كما تنشط المدينة في نشر التوعية العلمية بين المواطنين من أجل توسيع قاعدة الانتشار العلمي وبناء الإنسان المتطور القادر على التعامل مع العلوم والتقنية وتوطينها. التحديات المستقبلية للتعليم: تشهد المملكة كما لاحظنا نهضة حضارية شملت مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والصناعية، وذلك في وسط عالم يعيش اليوم ثورة تقنية هائلة تنعكس أبعادها وآثارها المستقبلية على كافة مناحي الحياة المعاصرة، لذلك فإن الأمر يستوجب منا التعامل مع تلك المتغيرات بإيجابية للتعرف على الفرص التي ينبغي استثمارها وتوظيفها وتدارك المخاطر والعمل على تلافيها أو تحييدها قدر الإمكان.. وتبقى التربية والتعليم هي المرتكز الأساس في الإعداد للمستقبل ولمواجهة تلك المتغيرات والتعامل معها بكل ما يحقق التطلعات المستقبلية للتنمية الشاملة في المملكة. ولا أعتقد أن هذه الحقيقة يختلف عليها أحد، إنما تتفق على تأكيد دور التربية والتعليم في هذا السياق دول العالم بمختلف مستوياتها سواء كانت متقدمة أم نامية. إن هناك بلا شك تحديات ومتغيرات كبرى على المستوى العالمي والوطني تواجه التربية والتعليم، وتؤثر في تحديد مساراته المستقبلية لمواجهة متطلبات التنمية في المرحلة المقبلة والمرتبطة بتحويل المملكة إلى دولة متطورة علمياً وتقنياً وصناعياً. وسنحاول أن نبرز باختصار أهم التحديات العالمية، والتحديات الوطنية التي تواجه العلوم والتقنية وتتفاعل معها، ومن ثم لابد أن تنعكس على منظومة التربية والتعليم وتستلزم استجابة مباشرة لهذه التحديات لمقابلتها. التحديات العالمية: 1- الثورة العلمية والتقنية الهائلة: تبرز هذه الثورة بشكل كبير في التطور السريع للتقنيات بشكل عام «حتى التقليدية منها»، وظهور تقنيات مستحدثة مرشحة لأن تلعب دوراً حاسماً في الاقتصاد العالمي خلال هذا العقد والعقود المقبلة. من هذه التقنيات: تقنية المعلومات، تقنيات المواد الجديدة، التقنيات الحيوية، «بما فيها الهندسة الوراثية- هندسة الجينات»، تقنيات الإلكترونيات الدقيقة والإلكترونيات البصرية والروبوت وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره. هذه التقنيات الجديدة ستؤدي إلى الانتقال باقتصاديات الدول من الاقتصاد الصناعي التقليدي القائم على صناعة المواد الخام، إلى اقتصاد المعلومات المتمثل في تقنيات المعلومات والإلكترونيات والاتصالات والحاسبات، مما جعل العالم يبدو كشبكة اتصالات واحدة، بحيث أتاحت وستتيح فرصاً متعددة للانطلاق السريع غير المتدرج للدول النامية بما فيها المملكة. فطبيعة عالمنا الديناميكي الحالي وما ينتابه من تغيير متسارع الوتيرة تحت تأثير التطور العلمي والتقني العاصف يفرض على التربية والتعليم سرعة الاستجابة والمواكبة لهذا التطور؛ لأن مخرجات منظومة التربية والتعليم هي المسؤولة عن استمرارية التطور العلمي والتقني واستخدامه والتعامل معه. ولهذا فإنه لا بد من تجديد التربية والتعليم أو إعادة بناء للمناهج لتستجيب لهذه المدخلات والمستجدات القادمة بقوة واقتدار. وفي هذا السياق فقد أدركت المنظمات العالمية ذات العلاقة وعلى رأسها منظمة اليونيسكو أهمية إدراك وتفهم التقنية والتعامل معها بالنسبة لتلاميذ وطلاب المدارس، وضرورة تعزيز مناهج التعليم العام بهذا الوافد الجديد الذي أصبح من المستحيل تجاهله أو إهماله، فأوصى مؤتمر اليونيسكو العام سنة 1974م «بأن الدخول إلى ميدان التقنية ودنيا العمل ينبغي أن يكون من المكونات الضرورية في التعليم العام، فبدونه سوف يكون التعليم ناقصاً». وبناء على هذه التوصية فقد تأكد لكثير من الدول في العالم، المتطورة منها والنامية على حد السواء، أنه لابد من إدخال مقرر اسمه التقنية إلى التعليم العام. ولست في مجال الإفاضة على هذا المقرر وأهدافه وأهميته فأترك هذا للزملاء التربويين إلا أنني أشير إلى أن إدخال هذا المقرر قد تم بالفعل في أكثر من ستين دولة في العالم. وقد خطت بلادنا أيضاً خطوات في هذا الاتجاه وإن لم تؤتِ ثمارها بعد. 2- العولمة الاقتصادية: شاع استخدام هذا المصطلح بداية في مجال المال والتجارة والاقتصاد، ولكنه سرعان ما تعدى هذا الإطار المحدود بالاقتصاد ليصبح الحديث عنه على أنه نظام عالمي يتضمن في شموليته مجالات المال والتبادل والاتصالات، ويتعداها وصولاً إلى مساحات السياسة والفكر. وهو ما يعني في أبسط تعريفاته الانتقال بالشيء من المحدود إلى اللامحدود أو جعله عالمياً أو حدوده الكرة الأرضية. وتعد العولمة إحدى مفرزات ونتائج التقنية الحديثة في وسائل الاتصال والإعلام والإعلان. هذا المفهوم الجديد مع بدء عمل منظمة التجارة الدولية وأثرها في التحول من الاقتصاد الوطني المنغلق إلى الاقتصاد العالمي وسوقه الموحدة، ستجعل من الصعب على أية دولة أن تحقق معدلات التنمية المنشودة خارج نطاق هذا السوق، بل إن التوجه نحو هذا السوق وإيجاد الميزة التنافسية للصناعات الوطنية يصبح المحرك الأساس للصادرات ومن ثم التطور الصناعي.. وبذلك يصبح التجديد والتطور والمحافظة على الجودة من العناصر المهمة لتحقيق الميزات التنافسية، الأمر الذي يوحي إلى أن نهضة التربية والتعليم ستصبح أساس التطور الاقتصادي الجديد، وما الاهتمام المتزايد خلال هذا العقد من قبل الدول المتقدمة بإصلاح نظم التربية والتعليم لتتواكب مع المستجدات العالمية إلا دليل واضح على هذا التوجه. 3- تصدير الثقافات والاعتزاز بالذات: إن تداعي الحواجز الجغرافية وتساقطها أمام تقنيات البث الإعلامي الفضائي، ترك للأمم المختلفة أو للشعوب حرية نشر ثقافاتها وأفكارها؛ لأنه ما من أمة في هذا العالم إلا وتعتز بذاتها وتحرص على هويتها، وتسعى للتعريف بثقافاتها وتراثها مع افتراضنا بحسن نوايا الآخرين. أما إذا أردنا استبعاد النوايا الطيبة فإننا ندرك أيضاً أن لبعض الشعوب نوايا مغايرة قد تنطلق من توجهاتها إلى صراع الحضارات والثقافات وما يجره من حقد على بعض الأديان الأخرى والحضارات المنتسبة لها. إن هذه الظاهرة العالمية، هي إحدى أبرز منتجات التقنية الحديثة أو انعكاساتها على المسألة الثقافية والاجتماعية لجميع الشعوب والأمم، كما أنها تشكل تحدياً لمنظومة التربية والتعليم، لابد لها من التعامل معها إيجابياً لتمكين جيل الشباب من الاحتفاظ بذاتيته وشخصيته واعتزازه بقيمه وانتمائه. التحديات الوطنية 1- بناء مجتمع علمي وتقني: يعد بناء مجتمع علمي وتقني متمسكاً بقيمه وثقافته وأخلاقه الإسلامية من أهم التحديات التي ستواجه منظومة التربية والتعليم، والتي لابد من العمل على تحقيقه حتى تتمكن المملكة من الاستفادة الكاملة من التقنيات المنقولة وتطويعها وتطويرها ذاتياً، فتنميه المواطنين وإعدادهم ليكونوا أكثر معرفة وقدرة في المجالات العلمية والتقنية، وتوجيه وبناء اهتمامات الأجيال الشابة بالعلوم والتقنية من خلال مؤسسات التربية والتعليم يعد واحداً من العوامل الحيوية نحو التطور العلمي والتقني. إن بناء مجتمع علمي وتقني يحتاج إلى جهود مكثفة من منظومة التربية والتعليم لتشجيع الثقافة العلمية والتقنية ونشرها لدى الطلاب، وجعل العلوم والتقنية ثقافة مسيطرة في تفكيرهم ومداركهم، ولن يتم ذلك إلا من خلال التوسع في تدريس المواد العلمية والتقنية وتوفير السبل الكفيلة بترغيب الطلاب، وبخاصة النشء منهم على حب العلوم والتقنية والمهارات اليدوية، وإدراك أهمية التطورات التقنية للمجتمع بأسره.. إن هذا الإدراك هو الحافز الرئيس للطلاب لاكتساب المعارف والمهارات والإبداع العلمي والتقني، في حين أن قصور الوعي بأهمية العلوم والتقنية في حياة المجتمع يحيده عن سبل التطور والتقدم، ويكرسه في قائمة الأمم المتخلفة حضارياً. وإذا كان معيار نجاح وفعالية منظومة التربية والتعليم في مواجهة التحديات المتجددة وفي تشجيع الإبداع والابتكار والاهتمام بالمعارف والمهارات العلمية والتقنية، هو انخفاض الأمية العلمية والتقنية لدى المواطنين، فإن أمام منظومة التربية والتعليم جهوداً كبيرة لابد من بذلها من أجل بناء مجتمع مزوّد بثقافة علمية وتقنية عالية المستوى. تشير الإحصاءات الأخيرة في المملكة إلى تقلص اتجاه الطلاب نحو التخصصات العلمية والتقنية، والتي هي مرتكز التقدم العلمي والتقني. فتدل إحصاءات عام 1416هـ على أن توزيع الطلاب المقيدين السعوديين «ذكوراً وإناثاً» في مؤسسات التعليم العالي المختلفة يبين أن نسبة الملتحقيــن بالمجــالات العلميـــة والتقنيــة تقـــدر بـ 9،19% مقارنة بـ 1،80% ملتحقاً بمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، والدراسات الإسلامية. في حين أن الملتحقين بمجالات العلوم والتقنية عام 1992 في كوريا- على سبيل المثال- يصل إلى 40%، وفي الصين 47%. وحيث إن هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى بروز تلك الاتجاهات مثل فرص التعليم والعمل المتاحة للفتاة السعودية في إطار الشريعة الإسلامية السمحة والسياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع السعودي، إلا أن السبب الرئيس الجدير بالاهتمام الذي أدى إلى تعزيز هذا الاتجاه هو مخرجات التعليم العام من الطلاب التي تعد المورد الأساس للتعليم العالي الجامعي.. حيث تشير بيانات التعليم العام في المرحلة الثانوية إلى أن إجمالي عدد الطلاب المقيدين في الصف الثالث الثانوي في عام 1416/1417هـ والمتجهين إلى تخصصات العلوم الطبيعية والتقنية بلغت نسبتهم 3،58% فقط من إجمالي الطلاب؛ ليتكرس هذا أيضاً خلال عام 1417/1418هـ وتنحدر النسبة إلى 5،50% فقط من إجمالي الطلاب. كما أن هذا التحدي يزداد عمقاً إذا ألقينا نظرة شمولية على هيكل نظام التربية والتعليم في المملكة، حيث يلاحظ أن التعليم الفني والتقني يشكل نسبة صغيرة جداً مقارنة بالتعليم العام والعالي.. وتشير الإحصاءات في هذا السياق إلى أن نسبة عدد الطلاب الملتحقين بالمدارس والمعاهد الفنية الثانوية للعام الدراسي 1415/1416هـ وصلت إلى 8% فقط من إجمالي الطلاب الملتحقين بالتعليم الثانوي العام، بينما بلغت نسبة عدد الطلاب المقبولين للدراسة في الكليات التقنية للعام الدراسي نفسه 10% من إجمالي الطلاب المقبولين في الجامعات السعودية، في حين أن هذه النسبة تصل في ألمانيا إلى 31% عام 1996 على سبيل المثال وللمقارنة فقط. إن تلك المؤشرات بالتأكيد توحي بأن مخرجات التعليم لا تتواءم تماماً والاحتياجات الحالية والمستقبلية لسوق العمل التي تنحو إلى الطلب المتزايد على التخصصات العلمية والتقنية والفنية لمواجهة التطورات العلمية والتقنية في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد السعودي، مما يتطلب استجابة ملحة لمخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل، وفي الوقت نفسه الارتقاء بنوعية الخريجين، ورفع قدراتهم الإبداعية ليصبح هناك كمٌّ كبير من الكفاءات البشرية الخلاقة والمبدعة اللازمة لإيجاد الدينامية التقنية الذاتية الضرورية للتطور العلمي والتقني المنشود. 2- استجابة منظومة التربية والتعليم لارتفاع معدلات النمو السكاني: يشكل ارتفاع معدل النمو السكاني في المملكة أحد أهم التحديات الوطنية الضاغطة على منظومة التربية والتعليم بخاصة وخطط المملكة التنموية بعامة. فارتفاع معدلات النمو السكاني وتسارعه في المملكة التي تخطت 5،3% سنوياً تؤدي إلى حداثة أعمار السكان، بحيث تشكل الشريحة العمرية لـ 15 عاماً وأقل، ما نسبته 5،53%. إن ارتفاع هذه النسبة إلى هذا المستوى سيوجد دون شك ضغوطاً شديدة على منظومة التربيــة والتعليم لتحويل هذه الثروة الهائلة إلى أداة تنمية وتطوير موجهة نحو الاحتياجات المستقبلية للتنمية وفي مقدمتها قطاع العلوم والتقنية. فلو أحسن إدارة هذا المورد وأمكن التحكم في مواءمته لمتطلبات سوق العمل، فإن هذا التحـدي سيتحـول إلى طاقة هائلــة فــي إنجـــاز الآمـال والطموحات التي تبلورها خطط التنمية الوطنية. 3- تعريب العلوم والتقنية في التعليم العالي مطلب لتوطين التقنية: إن بناء الإنسان السعودي المعاصر وتسليحه بالمعارف والمهارات التقنية التي تمكنه من الابتكار والإبداع يعد شرطاً لازماً للتطور العلمي والتقني والصناعي. كما يستلزم أن يكون هذا التطور مبنياً على قاعدة من تأصيل الفكر ومهارة الابتكار. إن هذا التأصيل الفكري لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تراثنا واستخدام لغتنا العربية وسيلة للإبداع والتفكير في مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، الأمر الذي سيكسبنا الثقة بالنفس، ويجنبنا الاعتماد على النقل والتبعية التقنية، فاللغة وسيلة مهمة لاكتساب القدرة والمهارة على التحليل والاستنباط اللذين لايمكن تحقيقهما إلا باستخدام اللغة العربية في تلقي المعرفة والإبداع فيها. لقد استحوذت برامج وخطط التعليم والتدريب في كثير من الدول المتقدمة، والتي يأتي في مقدمتها اليابان على اهتمام خاص باستخدام اللغة القومية في تدريس المعارف والمهارات للطلاب، وفي نشر الثقافة العلمية والتقنية بين المواطنين، مما جعلهم يتعاملون مع مجتمعات العالم من منطلقات لغتهم مؤثرين فيها ويتأثرون بها حسب ما تمليه مصالحهم القومية وإسهاماتهم الحضارية، ولذلك فإن استخدام اللغة العربية وتعضيدها كوسط تعليمي لجميع المواد الدراسية في مؤسسات التعليم العالي والفني والعام لابد أن يكون ركناً أساسياً في تطوير منظومة التربية والتعليم، وما ينسحب على ذلك من تمكن واقتدار في استيعاب العلوم والتقنية وتطويرهما. 4- تطوير المناهج وأساليب التعليم: إن المناهج الدراسية هي القاعدة التي تبنى عليها منظومة التربية والتعليم وتطويرها وفاعليتها، ولما كانت المعارف العلمية والإنجازات التقنية الحديثة تتزايد بصورة متسارعة- وقد لا يكون الأمر مبالغاً فيه إن قلنا يومياً-، وأن فاعلية أي منهج تنبع من حركيته ومواكبته للاحتياجات المتغيرة، فقد أصبح لزاماً لأي نظام تعليمي يسعى إلى تحقيق أهداف الأمة في التطور والتقدم، أن لا يتوقف عن مراجعة المناهج وتحديثها من حيث الهيكل والبناء والصياغة، كما لابد أن يتمتع المنهج بالمرونة الكافية لاستيعاب أي اختراعات أو ابتكارات علمية طارئة حتى يضمن المستوى اللازم للخريـج من حيـث اكتسابه المفاهيم والمهارات العلمية والتقنية التي تلبي احتياجات المجتمع وسوق العمل، ويتزود بثقافة العصر وبالوعي العلمي التقني الذي يجعله على إحاطة كاملة ومدركة لمخرجات العلم والتقنية الدائمة. ولكي تتمكن المملكة من الاستمرار في نقل التقنية وتوطينها بنجاح واقتدار فإن المناهج التعليمية والتربوية لابد أن تجد الآلية التي تجعلها في تجدد دائم. كما لابد أن يتوسع الاهتمام بالمجالات العلمية والتقنية لتصبح متوفرة لكل طالب. ولابد من إدخال المهارات الفنية والتقنية في المناهج لتعمل على تعزيز معارف قدرات الطلاب في مجالات العلوم والتقنية ليحسنوا التعامل مع منتجاتها. ولابد أيضاً أن تجد العلوم والتقنيات الجديدة مواقعها في مناهج التعليم لتتواكب مع التطورات المعاصرة. إن التجديد المستمر للمناهج يتطلب أيضاً طرائق وأساليب مستحدثة لجذب الطلاب لدراسة العلوم والتقنية وتقريبها إلى ميولهم، وزيادة إقبالهم نحو مجالاتها الواسعة خصوصاً أننا لاحظنا أن هناك حيوداً أو نقصاً في هذا الاتجاه ونحن في أمس الحاجة إليه. لقد أفرزت التقنية من منتجاتها الكثير مما يساعد على تجديد المناهج وتحديث أساليب اكتساب المعارف والمهارات مثل الحواسيب وبرامجها التعليمية. وهذه التقنيات والوسائل التعليمية المتعددة التي لا يتسع المجال لعرضها تبرز لنا بصورة مباشرة وكبيرة أثر التقنية المباشر على التربية والتعليم ودور التقنية الحاسم بالمساهمة في تطوير المناهج وأساليب التعليم وبما يحقق أهداف العملية التربوية وغاياتها. إن دينامية العصر وتحدياته الكبرى لا تتيح لنا الركون لحظة إذا أردنا أن نواكب السبق أو نجد موقعاً فيه.
|
جـمـيـع الحـقـوق محـفوظـة لـمـوقـع تكـنـولـوجيـا التـعلـيـم | إعداد وتصمـم الـموقـع والمـنـتدى : ربـيـع عبـد الفـتاح طبـنـجـه |