التعليم العالي العربي.. تصدير الأدمغة الثمينة
والأيدي الرخيصة
من المؤكد أن المؤسسات التربوية
بمختلف مراحلها لم تعد مؤسسات استهلاكية كما كان ينظر إليها سابقًا؛ بل تحولت
في الخطط الاقتصادية إلى مؤسسات إنتاجية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ ولأسباب
كثيرة من أهمها أن هذه المؤسسات هي معامل تنتج عقل الإنسان وتفكيره ونفسيته.
الإنسان الذي عن طريقه تتحدد فاعلية كل أدوات الإنتاج الأخرى في المجتمع،
ويتحدد بالتالي نمو وتطور هذا المجتمع.
وبات من الواضح مدى أهمية مؤسسات التعليم العالي (الجامعية وغير الجامعية) في
التنمية بمختلف وجوهها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث صار لهذه
المؤسسات دورها الهام في التنمية وتوسيع آفاق الإنتاجية.
وقد تزايد الاهتمام في العالم بموضوع توظيف التعليم العالي كقناة إنتاجية
وتنموية، حيث إن تقويم فعالية التعليم العالي أصبح يعتمد بشكل أساس على ملاءمة
أهدافه لمتطلبات التنمية الشاملة في البلد الذي يمارس فيه التعليم وظائفه ومدى
قدرته على مواجهة التحديات المختلفة. والاتفاق تام هنا على أن الجامعة الحديثة
لم يعد دورها يقتصر على مواجهة التحديات الآنية فقط، بل صار يمتد إلى ممارسة
عملية الاستشراف والتنبؤ بالتحديات المستقبلية واتخاذ الإجراءات اللازمة
لمجابهتها قبل حدوثها، وإلى الإسهام في تنمية الأفراد تنمية كاملة وشاملة. وهذا
يعني تنمية الموارد البشرية وزجها في المجالات الإنتاجية بشكل فاعل. وهذا
الجانب بالذات أعطي أهمية كبيرة من قبل خبراء الإنتاج والتنمية والمتخصصين.
هذا من جهة، من جهة ثانية ما زالت كل المؤتمرات التربوية والإنتاجية في العالم
تؤكد منذ زمن طويل دور الجامعات في عملية التنمية الاقتصادية وإعداد الأطر
البشرية القادرة على قيادة الإنتاجيات. وهذا ما نراه مثلاً في المؤتمر الذي عقد
عام 1966م في جامعة إنديانا، حيث جاء في التقرير الذي صدر عنه ما يلي: «يتضمن
منهج تعليم القوى العاملة برامج للدراسات الجامعية والدراسات العليا وبرامج
داخل الحرم الجامعي وخارجه تستهدف من هم في سنّ الدخول إلى الجامعة، وتعليم
الكبار أنواعًا أخرى من البرامج النظرية والتطبيقية، وتقديم برامج خاصة إلى
الذين يفتقرون إلى الكفاءات الإدارية والمهنية؛ بالإضافة إلى بذل جهود أخرى
تتعلق ببرامج الكبار والبرامج الأخرى التي تهدف إلى زيادة القدرات
والمهارات»(1).
سياسة القبول المفتوح والتوجيه المشروط
هذه المقدمة أوردناها إشارة إلى أهمية الجامعات في عملية التنمية وكمدخل لدراسة
واقع الجامعات العربية في هذا المجال؛ أي دورها في تسريع وتائر الإنتاج ومحاربة
العطالة والتخلف اللذين يعتبران من الخصائص العامة التي يتسم بها المجتمع
العربي؛ والاتفاق تام هنا على أن من أسباب هذا التخلف سوء استغلال الموارد
الطبيعية والبشرية.
والتجارب العربية أثبتت ذلك، فكم من تكنولوجيا استوردتها الدول العربية ثم فشلت
هذه التكنولوجيا لديها، نظرًا لأن الدول المستوردة لها تحتاج إلى كفاءات فنية
بشرية تتمكن من تشغيلها واستخدامها. بل إن هذه التكنولوجيا المستوردة تصبح
غالبًا عبئًا على مستورديها وتساهم في التبعية والتخلف بدلاً من ممارسة دورها
الذي استوردت من أجله؛ وهو المساهمة في عملية التنمية!!
إذًا المشكلة عندنا تعود إلى العنصر البشري المؤهل الذي تتجه الأنظار إلى
الجامعات العربية في إيجاده، فهل قامت الجامعات العربية بهذا الدور؟ أعني إيجاد
وتطوير الموارد البشرية المؤهلة التي يحتاج إليها العالم العربي لتخطي هذا
التخلف.
إن الحديث ذو شجون، وما كُتب من مؤلفات عن نظم التعليم العالي في الوطن العربي
يشير إلى قصورها، بالإضافة إلى وجود العديد من النواقص الهامة التي تحول دون
إسهامها بصورة فعالة في دعم جهود التنمية العربية. ومن أهم هذه النواقص عدم
وجود ترابط بين نظم التعليم العالي وخطط التنمية، ففي كثير من الدول العربية
نجد أن النهج الذي يتبعه المخططون في التعليم العالي يبدو غير ملائم ولا يتناسب
مع احتياجات التنمية في القوى العاملة، وربما يُعد هذا أحد الأسباب الرئيسة
التي تشكل عائقًا كبيرًا أمام عدم تمكن نظم التعليم من أن تكون أكثر تجاوبًا مع
حاجات التنمية. ونتيجة لهذا الوضع نجد أن هناك فائضًا كبيرًا في أعداد الخريجين
الذين يعانون البطالة في مجالات اختصاصاتهم من جهة، ونلاحظ من جهة أخرى نقصًا
كبيرًا في أنواع الخريجين الذين نحتاج إليهم في ميادين أخرى!! والسبب الرئيس
لهذه المعضلة السياسات الحالية للقبول، والمعايير التي تتبعها معظم الجامعات
العربية. فعند تحليل نظم التسجيل في أية جامعة عربية يبدو لنا جليًا أن أعدادًا
ضخمة من الطلاب تنتسب إلى كليات الآداب والعلوم الإنسانية مقارنة بالأعداد
القليلة التي تنتسب إلى كليات العلوم والكليات المهنية؛ ويرجع ذلك إلى أن سياسة
القبول المتبعة في الجامعة لا تسمح إلا لنسب قليلة من الخريجين الذين يحملون
شهادة الثانوية العامة بالالتحاق بفروع العلوم التطبيقية والمهنية. ولا يختلف
اثنان في أن حاجة الوطن العربي إلى خريجي كليات العلوم والكليات المهنية أكبر
من احتياجاته إلى خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية.
وهناك ظاهرة أخرى تكاد تكون مشاركة بين جميع نظم التعليم العالي العربي، ألا
وهي سياسة القبول المفتوح إلى الجامعات واشتراط توجيه غالبية الطلبة المقبولين
إلى فروع العلوم الإنسانية. في حين تتطلب عمليات نقل التكنولوجيا بنجاح وجود
نظام تعليمي سليم يعد الأطر البشرية ذات المستوى الرفيع ويؤهلها(2).
ثمة مشكلة أخرى، وهي أن الاهتمام في الجامعات العربية يركز في أغلب الأحيان على
الجوانب الكمية من حيث أعداد الخريجين، ويهمل الجوانب النوعية لهذه العملية.
ففي العام الدراسي 1990م مثلاً بلغ عدد الطلاب المسجلين في قطاع التعليم العالي
العربي (2.8) مليون طالب، ثم ارتفع العدد إلى (6.2) مليون طالب في عام 2000م.
أي بزيادة (3.4) مليون طالب في فترة عشر سنوات(3)!!
ومن الواضح أن هذه الزيادة الكبيرة والمتدفقة في أعداد الطلاب تشكل أكبر تحديات
التعليم العالي العربي، وتؤدي إلى جملة من المشكلات التي دخلت في صلب الواقع
الإنتاجي والتنموي العربي، وأهمها:
* التوسع في تطوير الكليات الإنسانية والاجتماعية على حساب الكليات العلمية
والفنية حيث لا تصل نسبة المقيدين في الكليات العلمية إلى 50% في عدد غير قليل
من الدول العربية.
* استيعاب التعليم العالي لجزء صغير من خريجي التعليم الثانوي؛ مع وجود أعداد
كبيرة لا تجد لها أماكن في هذا القطاع التعليمي.
* تركيز مؤسسات التعليم العالي على القيام بوظيفة واحدة هي وظيفة التعليم؛ مع
بروز نوع من الإهمال في التقدم لوظائف البحث العلمي وخدمة المجتمع التي تعد من
الوظائف الأساسية لهذه المؤسسات.
* الانخفاض النسبي للجوانب النوعية للنظام التعليمي وانخفاض مستوى الخريجين؛
وعدم قدرة المؤسسات على تكييف مناهجها وبرامجها مع المتغيرات السريعة في مجالات
العلوم والتكنولوجيا والتغيرات التي تحدث في طبيعة المهن في سوق العمل.
الجامعات تتحول عن دورها
إنها جملة مشكلات إذًا تعانيها الجامعات العربية؛ وفي العقد المتشابكة لهذه
المشكلات تبرز خطوط تزايد أعداد الطلاب الجامعيين بوتائر سريعة، وتزايد الأعباء
المالية بالنسبة للدخل القومي؛ ثم تزايد نسبة البطالة بين الخريجين؛ وبالتالي
تزايد نسبة هدر البطالة المادية والإنسانية في هذا السياق العجيب!!
يضاف إلى ذلك أن الجامعات في العالم تتغير بسرعة؛ في حين تبقى الجامعات العربية
في سمتها المحافظة، مما يضطرها إلى إعادة تأهيل وتدريب العاملين فيها. مع ما
يعنيه ذلك من تكريس ظاهرة عدم التوافق بين التعليم العالي وحاجات المجتمع
الفعلية للتنمية والازدهار، وإلى هدر ذريع في الجهد والمال، وتصاعد البطالة
وهجرة الكثير من الخريجين طلبًا للرزق. هذا دون أن ننسى أن بطالة خريجي
الجامعات أقسى من بطالة الأميين، فخريجو الجامعات تكونت لديهم حاجات ومستويات
معيشية من الصعب التنازل عنها. ولن يقبل خريج الجامعة بأي عمل كان، وسيترفع عن
العمل اليدوي كمثقف، كما أن خريجي الجامعات يتعرضون لاختيار عمل لا يتعلق
باختصاصهم الذي عملوا وجهدوا من أجله. أضف أن إنتاج الخريجين الجامعيين في
المجتمعات التي يكتظ فيها حاملو الشهادات من اختصاص ما ينتجون بشكل متدن لأنهم
يعملون ـ إن وجدوا عملاً ـ في ميدان غير ميدان اختصاصهم، أو لأنهم يعملون
بالساعة بشكل مبتسر، ولا ينتجون طوال أوقات العمل حتى لو تيسر لهم أن يعملوا في
ميدانهم!!
يلاحظ أيضًا أن من اعترضتهم البطالة، أو الذين يعملون جزءًا من الوقت، وحتى
الذين يعملون في ميدانهم يسعون إلى متابعة دراستهم العالية، وفيهم أعداد
متزايدة من الاختصاصات النظرية، وعندما يحصلون على الدكتوراه يسعون إلى الدخول
للجامعة للتدريس فيها، إذ إن العمل خارجها مشبع بالخريجين، ويستطيعون عبر الضغط
توسيع دائرة العمل في اختصاصهم بالذات، فتستحدث الشُّعب وتتزايد الدراسات
العليا لاستيعاب من واجهتهم البطالة المقنعة!! ويؤدي ذلك إلى أن تتفاقم
المشكلة، وإلى تغذية اختصاصات جامعية لا تتناسب مع احتياجات سوق العمل. وسرعان
ما يصاب هذا التعليم بالتضخم والهبوط. وفي مواجهة تزايد أعداد الطلاب وتشبع
السوق باختصاصات تؤدي إلى البطالة، لجأت الجامعات العربية إلى اختيار وفرز
المعدلات المرتفعة عن طريق المباريات والامتحانات، وتحولت عن دورها لتقويم
مستوى تحصيل الطالب إلى سدود وحواجز تتم فيها تصفية الأعداد الكبيرة من
المنتسبين إلى التعليم العالي، مما يوجد أضرارًا كبيرة في إنتاجية الشباب
وتحقيق ذواتهم!!
فمباريات الدخول لا تعتمد على النجاح في الاختبار، بل على قبول عدد محدد جدًا
من جمهور المتقدمين للمباريات.
كذلك فإن الامتحانات التي تؤدي إلى رسوب الطلاب وسط دراستهم الجامعية والتي
تقطع الطريق أمام إنهاء هذه الدراسة، تجعل منهم هامشيين غير منتجين، أو تضطرهم
إلى تكرار المحاولة في اختصاص آخر لا يتناسب مع طموحاتهم وإمكاناتهم أو تدفعهم
إلى اللجوء لعمل جزئي أو بسيط يعيشون منه.
الأدمغة الثمينة والأيدي الرخيصة
هذا الواقع الذي تعيشه الجامعات العربية يتحدث بالضرورة عن إشكالات أخرى تطفو
على السطح، وتؤثر تأثيرًا كبيرًا في القوى الإنتاجية للشباب ولخريجي التعليم
العالي، ومن أهم هذه الإشكالات اتجاه الشباب العربي لاستكمال الدراسة الجامعية
خارج الدول العربية. وهذه الإشكالية ناجمة عن سلسلة مترابطة من الحلقات، أولها
النظام التعليمي الخاطئ الذي يعد الطالب بشكل عام للتعليم العالي، بحيث إنه إذا
حصل على الشهادة الثانوية أو حتى الإعدادية تراه يأنف عن ممارسة الأعمال
اليدوية أو المهن العادية، فلا يبقى أمامه غير الحصول على شهادة جامعية!! ولكن
(وهنا الحلقة الثانية) يصطدم الراغب في الانتساب إلى الجامعة بأنظمة القبول
والمفاضلات، بحيث يجد نفسه في فرع لا يناسب طموحاته وما يعتقد أنه كامن فيه من
إمكانات، علمًا أن معظم الذين يقصدون الخارج لاستكمال الدراسة الجامعية تكون
دراستهم في الفروع العلمية والاختصاصية المهنية التي يحتاج إليها المجتمع
العربي في عملية التنمية. ثم تبدأ الحلقة الثالثة عندما تحاول الدول التي يدرس
فيها الطلبة الاحتفاظ بهؤلاء الطلبة أطول مدة ممكنة في أثناء الدراسة عند
الحاجة إلى اليد العاملة الرخيصة، وبعد الدراسة أيضًا كي تجني ريع استثمارات
الدول العربية للتعليم لنفسها!!
وعمومًا نلاحظ أن الطلاب العرب الدارسين في جامعات الخارج تطول دراستهم إلى ضعف
المدة التي تستغرقها الدراسة الجامعية عادة، وأحيانًا إلى ضعفين. فعادة يضيّع
الطالب عامين على الأقل في عملية التسجيل بالجامعة وتعلم لغة البلد والبحث عن
مأوى، ولأن معظم الطلاب العرب غير حاصلين على منح دراسية فهم يضطرون إلى العمل
كي يكسبوا في أثناء دراستهم تكاليف الدراسة أو جزءًا منها. وهذا الوضع يضعف
العلاقة والروابط مع الوطن والعائلة ويؤدي إلى مرض انفصام الشخصية. أضف إلى ذلك
ما يتعرض له الطالب من سياسة التمييز العنصري، فيحاول التنصل من منشئه ومن
انتمائه العربي والذوبان في المجتمع الذي يدرس فيه. وعندما يحصل هذا الطالب على
شهادته الجامعية تستقطبه الدولة التي درس فيها. واستقطابه عادة يتم عن طريق
مغريات مهنية ومادية واستهلاكية مفقودة في وطن الخريج، وربما ترافقت هذه
المغريات مع جملة تهديدات وعراقيل فيما لو أصر الخريج على العودة إلى بلده.
وخصوصًا إذا كان الاختصاص الذي يحمله من الاختصاصات العلمية النادرة التي
تعتبرها الدول المتقدمة حكرًا لها. ولا يجوز للدول النامية أن تستفيد منها.
ولتوضيح مدى الخسارة في الطاقة الإنتاجية العربية نتيجة لهذا الوضع نشير إلى أن
لبنان مثلاً خسر خلال الفترة ما بين أعوام 1962م و1966م ما نسبته (32.5%) من
مهندسيه، و(10.5%) من حملة العلوم الطبيعية، و(24.9%) من الأطباء. وبالفترة
نفسها خسرت سوريا (56.9%) من مهندسيها و(11.7%) من حملة العلوم الطبيعية،
و(9.3%) من الأطباء، حيث بقي هؤلاء في البلاد التي درسوا فيها ولم يعودوا إلى
بلادهم بعد تخرجهم(4).
إن خسارة الوطن العربي واضحة في هذا المجال تمامًا، فمن ناحية تخسر الدول
العربية تكاليف التعليم التي صرفتها على هؤلاء حتى مرحلة ما قبل التعليم
الجامعي، وتخسر الطاقة الإنتاجية للشباب الذين هاجروا للتعلم في الجامعات
الخارجية. والمستفيد حصرًا هي الدول التي تعلم هؤلاء في جامعاتها!!
مصر المصدر الرئيس للعلماء في أمريكا
وثمة مشكلة أهم؛ وهي ظاهرة هجرة خريجي الجامعات العربية وأصحاب الكفاءات للعمل
في البلدان المتقدمة الصناعية، سواء أكانت الهجرة من أجل الإقامة الدائمة أم
المؤقتة. وتكاد الدراسات تجمع على تحديد فئات المهاجرين كما يلي:
* ذوو المهن الحرة كالأطباء والمهندسين والاقتصاديين والمحامين وغيرهم.
* الفنيون الذين يشكلون حلقة الاتصال بين المهندسين والعمال المهرة.
* العمال المهرة المكتسبون خبرة متخصصة بمجالات حيوية في الصناعة.
ولا نجد هنا إحصاءات دقيقة تتعلق بهجرة الكفاءات العربية. ومن المؤكد أن هناك
تعمدًا من قبل الدول المتقدمة في عدم نشر بيانات واضحة عن حركة هجرة الكفاءات
العربية وغيرها من الكفاءات من دول العالم الثالث، ولكن وفقًا لنتائج ندوة «أكوا»
(اللجنة الاقتصادية لدول غرب آسيا التابعة للأمم المتحدة) بلغت النسبة المئوية
لهجرة الأطباء 50%، والمهندسين 23%، وعلماء الطبيعة 15%، وذلك حتى سنة 2000م.
والمصدر الرئيس للعلماء والمهندسين المهاجرين للولايات المتحدة الأمريكية من
الدول العربية هو مصر، حيث هاجر منها نحو ثلث المجموع، ثم العراق ولبنان. ويقدم
كل منهما نسبة 10% من المجموع، وسورية والأردن، ويقدم كل منهما 5%، وفلسطين
تقدم نسبة 6% من المجموع.
وقد تجاوز عدد العلماء العرب الذين دخلوا الولايات المتحدة كمهاجرين 480 شخصًا
في عام 1980م. وفي الفترة من عام 1974م حتى عام 1977م بلغت الزيادة في هجرة
العلماء والمهندسين من الدول العربية 50%، وقد هاجر من مصر والأردن وفلسطين
ولبنان والعراق وسورية حوالي 95% من العلماء والمهندسين المولودين في هذه الدول
ما بين عامي 1966م حتى عام 1976م، كما ارتفعت حصة المهاجرين المصريين بين عامي
1976م وعام 1980م من 53% إلى 75%. وهناك عدد غير معروف من العلماء والمهندسين
العرب الموجودين حاليًا في الولايات المتحدة الأمريكية بصفة غير مهاجرين، وهم
يعتزمون على الأرجح الحصول على صفة مهاجرين، أو أنهم يعتزمون البقاء فيها بصورة
دائمة دون تغيير وضعهم لغير مهاجرين(5).
وإجمالاً يمكن القول إن عدد المهاجرين العرب من الكفاءات العالية والمقيمين في
الولايات المتحدة الأمريكية بلغ حتى عام 1983م ما مجموعه 100 ألف شخص، وارتفع
في عام 2000م ليصل إلى 353 ألف شخص. ولغة الأرقام هذه تصبح أكثر مدعاة للدهشة
والقلق عندما نعلم أنه طبقًا لتقديرات الأمم المتحدة وجهات أخرى تبلغ كلفة
تعليم الطالب الجامعي في الدول العربية 21 ألف دولار، والولايات المتحدة تربح
من 100 ألف عالم وصاحب كفاءة عرب موجودين على أراضيها ما مقداره أربع مليارات
دولار من تكاليف التعليم، وهذا المبلغ يعادل مجموع المبالغ التي دفعتها
الولايات المتحدة لكل دول العالم من مساعدات اقتصادية وسياسية(6)!!
العوامل التي تدفع الكفاءات العربية إلى مغادرة دولها كثيرة: اجتماعية،
وسياسية، وإدارية، وثقافية، وعلمية، والتي لا يمكن إخضاعها لنمط من التحليل في
كل الظروف، ويمكن بإيجاز أن نذكر عوامل الدفع هذه؛ وهي:
* الحواجز الإقليمية بين الدول العربية وغياب التكامل الهيكلي وتنافر برامج
وخطط هذه الدول.
* عدم توفر التسهيلات العلمية وعدم وجود مناخ ملائم لإمكانية البحث العلمي.
* انخفاض مستوى المعيشة.
* السياسة التعليمية التي تعمل على زيادة عدد الخريجين من الجامعات بما لا يتفق
مع احتياجات التنمية مما يشكل عامل دفع لهجرة كفاءات واسعة.
وضمن سياق استعراض المشكلة لا يمكن أن نغفل العوامل التي تضعها الدول المتقدمة
لجذب الكفاءات العربية، ويمكن أن نوجزها:
* المحيط العلمي المتقدم الذي يحفز على مواصلة البحث والتجريب.
* تقويم صاحب الكفاءة وترفيعه اعتمادًا على البحث المنتج والكفاءات الفردية.
* توفر الحرية السياسية.
* المستوى المعاشي الجيد.
«نحو التعليم الفني» ولكن كيف؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تقيدها بعض الأمور الأساسية، وأولها أن حاجات سوق
العمل ينبغي أن تفهم على أنها تلك الحاجات المتجددة المتطورة التي تجري في عصر
سمتة التحرك والتغيير السريع في بنية الأعمال وأدواتها. ومن غير الجائز أن تكون
إسقاطات الإنتاج والإعداد التربوي له مستندة إلى بُنى الإنتاج وحاجاته الحالية
أو حاجاته قريبة المدى. ولا بد من دراسات تحسبيّة طويلة الأمد تأخذ بعين
الاعتبار انقراض العديد من المهن وبزوغ مهن جديدة، وتحيط علمًا بالتحولات
الجذرية السريعة في العلم والتكنولوجيا. وعلى رأس ما ينبغي أن نوليه اهتمامًا
في هذا المجال ظهور الثورة الصناعية الثالثة وما يلحق ذلك من انتقال نشاط
الإنسان من مرحلة الإنتاج نفسها إلى المرحلة السابقة للإنتاج وما يصاحبها من
بحث وتخطيط. ولعل الفرصة السانحة للأمة العربية هي أن تدخل توًّا دروب الثورة
الصناعية الثالثة دون أن تتريث طويلاً عند الثورة الصناعية الثانية.
وثاني الأمور هو أن التربية وحاجات الإنتاج ليست مسألة نبوءات وحساب فحسب، بل
هي عمل ينبغي أن يصحبه جهد هائل في تطوير التربية تطويرًا كيفيًا ونوعيًا. وضمن
هذه الأمور وغيرها بدأ التركيز في الوطن العربي على مرحلة التعليم الفني كدواء
أساسي لجملة المشكلات التي يعانيها المجتمع والتعليم العالي، بل لم يحظ أي نوع
من أنواع التعليم في العقود الأخيرة بهذا القدر من الكتابات والمؤتمرات كالذي
حظي به التعليم الفني. فهو كما تذكر الكتابات والمؤتمرات طوق النجاة للدول
العربية والنامية عمومًا لتمكينها من إعداد مواردها البشرية اللازمة لمشروعات
التنمية. وزيادة الإقبال على التعليم الفني واتساعه هو الحل الموصوف لمعالجة
البطالة والبطالة المقنعة لحشود الخريجين من كليات الجامعات العربية، وهو
التعليم القادر في رأي المربين على أن يعيد للتربية توازنها. ولكن القول شيء
والفعل في الحقيقة شيء آخر. فعلى أرض الواقع نرى رفضًا شبه جماعي للتعليم
الفني. ولعل أصدق الأوصاف دلالة على هذا الوضع هو تلك العبارة التي أجاب بها
أحد المثقفين حين سئل عن رأيه في هذا التعليم فأجاب: «هو خير أنواع التعليم
وأعظمها نفعًا لأبناء الجيران».
عمومًا نجد أن الذين ينتسبون للتعليم الفني ينتمون إلى أسر من مستوى اجتماعي
واقتصادي وثقافي أقل من الذين ينتسبون للتعليم العام. ورغم الجهود الكثيرة التي
بذلت في أغلب الدول العربية في السنوات الأخيرة لمحاولة تطوير التعليم الفني
كمًا ونوعًا، والعمل على زيادة قدرته على اجتذاب أعداد أكبر، فإنه ما زال يقف
بالمرتبة الأخيرة إذا ما قورن بالتعليم الثانوي العام.
ولنوضح أكثر نلجأ إلى لغة الأرقام، فنجد آخر البيانات والإحصاءات المتوفرة حول
التعليم الفني في الوطن العربي عام 2000م تشير إلى أن نسبة التعليم الفني إلى
مجموع المرحلة الثانوية هي بحدود 30.2%، وهناك تفاوت ضخم بين الدول العربية في
هذا الصدد. فقد بلغت نسبة التعليم الفني إلى مجموع التعليم العام في مملكة
البحرين ومصر 50%، وهي أعلى نسبة في الوطن العربي. في حين بلغت النسبة من 20 %
إلى 30% في كل من تونس والعراق ولبنان وليبيا، ومن 10% إلى 20% في الأردن
وجيبوتي والسودان والصومال وفلسطين واليمن، ومن 5 % إلى 10% في الجزائر
والمملكة العربية السعودية وعمان، وأقل من 55% في كل من دولة الإمارات العربية
المتحدة وقطر والمغرب وموريتانيا. كما نجد تناقضًا ضمن التعليم الفني، فالتعليم
التجاري يحتل الدرجة الأولى من حجم التعليم الفني في الدول العربية، يليه
التعليم الصناعي. حتى إننا نتعجب عندما نجد أن التعليم الزراعي يحتل المرتبة
الأخيرة من التعليم الفني في دولتين عربيتين زراعيتين هما: مصر والعراق(7)!!
ورغم أن تكلفة التعليم الفني تفوق مثيلاتها في التعليم الثانوي العام بسبب
متطلباته من الأجهزة والمعدات والمختبرات والورش ومتطلبات التدريب، نجد أن نسبة
الإنفاق على التعليم الفني أدنى بكثير من نسبة الإنفاق على التعليم العام!!
ولتمكين الاتجاه نحو التعليم الفني لجأت بعض الدول العربية إلى وضع معدلات
عالية للناجحين في التعليم الإعدادي كي ينتسبوا للتعليم الثانوي العام، وبذلك
أرغمت أعدادًا كبيرة من الطلاب على الانتساب للتعليم الفني، حتى إن نسبة
المنتسبين للتعليم الفني بلغت في سورية خلال السنوات الأخيرة 80% وأكثر، بحسب
الإحصاءات الرسمية عن وزارة التربية السورية، ولكن ذلك بقي في الحيز النظري،
حيث مصير المنتسبين أحد أمرين: إما ترك التعليم الفني بعد فترة من الدوام فيه،
وإما دراسة منهاج التعليم الثانوي بشكل حرّ ثم التقدم إلى امتحانات الثانوية
العامة بصفة أحرار (غير منتظمين). ولذلك نجد أن أعداد الطلاب المتقدمين بصفة
أحرار لشهادة التعليم الثانوي في كل عام تتجاوز الآلاف في كل محافظة سورية،
بينما أعداد المتقدمين لامتحانات شهادات التعلم الفني تحسب بالعشرات. مع أن
العملية يفترض أن تكون عكسية، أي أن أعداد المتقدمين لامتحانات التعليم الفني
يجب أن تحسب بالآلاف قياسًا لنسبة المنتسبين نظريًا قبل ثلاث سنوات من امتحان
الشهادات للتعليم الفني وقلة عدد المقبولين في التعليم الثانوي العام. وهذا
يعني أنه يتم الالتفاف على إجبارية التعليم الفني من خلال الدراسة الحرة
للتعليم الثانوي العام، في حين لا يجد البقية الذين أكملوا التعليم الفني فرص
عمل في المؤسسات الإنتاجية أو ضمن وظائف الدولة نظرًا لتضخم أعدادها قياسًا
للتوسع في حجم وعدد المنشآت الإنتاجية.
في النتيجة كان التعليم الفني قد وجد نفسه بعد سنوات من التوجيه شبه الإجباري
نحوه ضمن إشكالية كبيرة، وبالتالي وجدت الجهات التخطيطية ووزارة التربية
السورية ضرورة التراجع، فتقرر في العام الدراسي 2004 ـ 2005م قبول 60% من
الطلاب في التعليم الثانوي العام، مقابل 40% في التعليم الفني.
من هذه الإحصاءات وغيرها نستنتج أن واقع التعليم الفني في الوطن العربي لا يزال
قائمًا، وهو التعليم الذي أرادوه خلاصًا أو مقدمة للخلاص من الإشكالات الكثيرة
التي تعانيها الجامعات العربية. فإذا بهذا التعليم غارق في إشكالات أكثر!! وصار
على الخبراء والدارسين والمنظمات والهيئات العربية المعنية أن يبحثوا في أسباب
هذه الإشكالات وأسباب النظرة الدونية التي ينظر إليها للتعليم الفني في الوطن
العربي. وقد بحثوا فعلاً ووجدوا أن أسباب هذا العزوف كثيرة منها:
* جمود النظم التعليمية العربية واتباعها سياسة (الباب المغلق) أمام خريجي هذا
التعليم.
* نظرة المجتمع السلبية نحو العمل اليدوي وغياب العمل عن التعليم العام.
* ما ترسخ في الأذهان من ضرورة إكمال الدراسة الجامعية لكل من ينهي الثانوية
وإلا نظر إليه كفاشل ولم يكمل التعليم.
* نظرة العائلة إلى التعليم الفني باعتباره طريقًا لعمل فني يدوي لا يتناسب
ومركز العائلة ما ىؤدي إلى توجيه الأبناء نحو التعليم الثانوي العام فالجامعي
بحثًا عن الوظيفة ذات الاسم والمكانة.
* ضعف التوجيه المهني أو انعدامه في المراحل الدراسية التي تسبق مرحلة التعليم
الفني ما لا يسهم في توكيد قيمة العمل واحترامه لدى الطلاب.
* قلة الحوافز المهنية والمادية أمام خريجي التعليم الفني نتيجة التمييز الواضح
في هيكل الأجور ونظم الاستخدام والترقيات لصالح خريجي الجامعات.
ومن البديهي أننا ما دمنا قد عرفنا الإشكاليات التي يعانيها التعليم الفني
فإننا نستطيع وضع العلاج، وأوله ألا يتحول التوجيه الرسمي نحو التعليم الفني
مجرد عملية وضع الطلاب وفقًا لمجموعهم، فننتقل بذلك من حالة العزوف عن التعليم
الفني إلى اتخامه بذوي المعدلات العلمية الضعيفة، إذ ليس الهدف أن ننجح في حشد
أعداد كبيرة من الطلاب على أبواب التعليم الفني، وإنما المهم أن يفدوا إلى هذا
التعليم ولديهم الرغبة ويمتلكون القدرة ليخرجوا منه وقد اكتسبوا الكفايات التي
ينتظرها سوق العمل من الخريجين. وكذلك استحداث تخصصات جديدة لمواجهة حاجات
التنمية وتوفير العمل للخريجين من التعليم الفني والاستفادة من طاقاتهم، وإلا
ملأنا أسواق العمل بحشود من الفنيين العاطلين عن العمل.
ولا بد أيضًا من العمل على إلغاء الفوارق الوظيفية بين خريجي الثانوية العامة
والتعليم الفني، وتعديل نظام الأجور بحيث تتساوى رواتب خريجي المعاهد الفنية مع
رواتب خريجي الجامعات، وغير ذلك من الإجراءات التي باتت معروفة من كثرة ما
طرقتها مؤتمرات التعليم والمنظمات والهيئات المعنية بأمور التعليم في الوطن
العربي.
إننا نتحدث عن أزمة في التعليمين الفني والجامعي، فهذا يعني أننا نتحدث عن أزمة
في التربية ككل!! وبالتالي يأتي السؤال الأهم: أي تربية تلك التي نرجو أن تكون
توظيفًا مثمرًا يؤدي إلى التنمية الشاملة في الوطن العربي وتلغي الإشكاليات
والتحديات التي يعيشها الواقع التربوي العربي الآن؟
سؤال شغل بال العلماء والبحاثة والتربويين والاقتصاديين العرب، وشغلت بالهم
الإجابة عنه أيضًا. وما أرانا نستطيع هنا الإجابة عن سؤال ما زال مثار عشرات
المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك في الوطن العربي، ولذلك سنركز على التعليم
الجامعي، وسنجد في المحصلة أن التعليم الجامعي في الوطن العربي تنسحب عليه
خصائص منها:
* تقوم الدول العربية ـ باستثناء لبنان ـ بالتخطيط لمؤسسات التعليم العالي
فيها، ولكن دوائر التخطيط تفتقر عمومًا إلى المعلومات الكافية والدقيقة
والحديثة وتفتقر كذلك إلى المتخصصين.
* لا يوجد تنسيق بين التخطيط الجامعي وخطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
* قلما يوجد تخطيط طويل المدى في الدول العربية، إذ يعتمد المخططون على
الاستجابة السريعة لمطلب الجمهور للمواضيع الشائعة المرغوبة (8).
والنتيجة النهائية هي أن التعليم العالي في الوطن العربي لا بد له من إجراءات
فعالة، مع أن الحديث قد كثر عن هذه الإجراءات، فما نملك إلا أن نورد بعضها هنا،
وهي:
* إجراء الدراسة التقويمية لفاعلية برامج التعليم العالي في الوطن العربي بشكل
عام، وبرامج الدراسات العليا بشكل خاص.
* توفير المعلومات والبيانات الدقيقة عن هذه البرامج ونشرها وتبادلها بين
الجامعات العربية.
* توجيه الأساتذة وطلبة الدراسات العليا إلى إجراءات البحوث التطبيقية حول
المشكلات التنموية الخاصة بمجتمعاتهم.
* وضع تشاريع تحث على ضرورة التنسيق بين القطاع العام والخاص من جهة، وبين
أقسام الدراسات في الجامعات من جهة أخرى لحصر المشكلات التي يمكن التعاون على
حلها عن طريق توظيف البحث العلمي.
* إدخال برامج ودراسات عليا متداخلة في الحقول المعرفية تخدم حاجات التنمية
بشكل أكثر فاعلية.
* التنويع والمرونة في إنشاء دراسات عليا تستجيب للمتغيرات الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية مثل: برامج التنمية وتعليم الكبار، وبرامج البيئة
والحاسب الآلي، وتشعيب التخصصات داخل الحقل الواحد.
وكما رأينا، فإن أحد الإشكاليات والتحديات التي تواجه الجامعات العربية هو نزيف
الكفاءات العربية، ومما بات يستدعي تضافر جميع الجهود، وعلى المستويات القطرية
والعربية، والبدء في بلورة رؤية جديدة للتنمية في البلدان العربية تفيد من
الهياكل القائمة. ويمكن البدء بالإجراءات التالية:
* تكثيف رعاية المبعوثين للبحث والدراسة والتدريب رعاية مادية ومعنوية،
والتوجيه الجاد للاستفادة من طاقة البحث العلمي والدراسة والتدريب المتاحة في
البلدان المتقدمة.
* إعادة النظر جذريًا في سلم الرواتب التي تمنح للكفاءات العربية في بلدانهم،
وتقديم حوافز مادية ومعنوية تشجيعية ترتبط بالبحث والإنتاج، وتقديم الأجر
المتساوي مع العمل المتساوي.
* احترام الجانب الإنساني في الكفاءات العربية، وخصوصًا منها حرية الرأي، وبشكل
خاص فيما يتعلق بمجالات اختصاصاتهم الفنية.
* إعطاء المسؤوليات الفنية للفنيين، وأن يلتزم سلم الوظائف بشروط الكفاءة التي
يجب أن توضع لها معايير دقيقة تبتعد عن النزوات والأهواء الشخصية.
* تقليل الشعور بالغبن عند الكفاءات العربية مقارنة بزملائهم الأجانب العاملين
في البلاد العربية.
* الالتزام باستراتيجية العمل الاقتصادي العربي فيما يتعلق بسياسة البحث وتخصيص
نسبة مئوية مقبولة من الدخل القومي لأغراض البحث العلمي، وبرمجة سياسة البحث
العلمي على مستوى الوطن العربي.
وعلى أية حال، ما دامت أسباب هجرة الكفاءات العربية نتيجة حتمية للواقع العربي
وما يعانيه من تخلف وتبعية، فستبقى هذه الهجرة نتيجة إفرازات البيئة الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والتقنية الناتجة من الخلل التنموي في المجتمع العربي،
والذي يؤدي بدوره إلى الأخذ بالتخطيط العلمي الدقيق للموارد البشرية الموجودة
التي تعتبر بحق الركن الأساسي في التنمية.
تحويل الجامعات إلى مؤسسات إنتاجية
وبالنسبة للبطالة المتزايدة بين صفوف خريجي الجامعات العربية فقد أثبتت التجارب
العربية أن القرارات الفوقية والارتجالية والرسمية لا تفيد شيئًا في معالجة هذه
المشكلة، بل كل قرار يصدر يزيدها حجمًا وتأزمًا. وبات من الضروري وضع حلول
جذرية تحول الجامعات العربية إلى مؤسسات إنتاجية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،
مؤسسات تستقطب وتستوعب طلابها وخريجيها الذين لا يجدون مجالاً للعمل في
المؤسسات الأخرى. ولنا أن نستفيد من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، ففي
الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، يندرج الطلاب حاملو الدبلوم في جهاز الإدارة
والإنتاج في الجامعة نفسها التي تخرجوا فيها، وفي منشآت إنتاجية ضخمة تتبع
للجامعة، ولها علاقتها الإنتاجية مع المؤسسات السياسية والاقتصادية الأخرى.
واليابان أوجدت في جامعاتها ما يسمى بالاتحادات الكبرى كمجموعة منشآت إنتاجية
وعلمية تستقطب الدارسين والخريجين معًا، فلماذا إذًا لا يتم تطبيق ذلك في
الجامعات العربية؟!
هناك اقتراحات في هذا الصدد ربما تكون جديرة بالدراسة والتطبيق الفعلي، ومنها:
* جعل الإنسان العامل والإنسان الحكيم إنسانًا واحدًا، ويستدعي التغلب على افصل
بين الميزتين البدء بذلك منذ المدرسة الابتدائية وفي جميع مراحل الدراسة، ولا
شك أن الاهتمام بالناحية العملية التطبيقية يكسب الإنسان توازنًا أكبر في
شخصيته ويعيد للجسد اعتباره.
* تعليم الجامع للطلاب في محترفاتها ومؤسساتها الإنتاجية والتطبيقية، وإمكانية
العمل فيها بعد التزود بالخبرة العملية والمهنية الكافية.
* تنظيم البرامج بحيث يستطيع الطالب أن يعمل في المكان المناسب تبعًا لاختصاصه.
* الإفادة من طاقات الأساتذة في الإنتاج والبحث من قبلهم، وبالتعاون مع طلابهم
عوضًا عن الاكتفاء بالتعليم والبحث الذي تغلب عليه الناحية النظرية.
* الاكتفاء الذاتي للجامعة عن طريق مردود إنتاجها وتغذية الأبحاث فيها وتوفير
المبالغ الطائلة على الدولة من جهة، وتأكيد استقلالية الجامعة من جهة أخرى.
* تنظيم الإثابة والحوافز بحيث ينال الأستاذ المنتج والمبدع نسبًا مئوية من
مردود إسهامه، فضلاً عن تمكينه من توكيد ذاته كقيمة عملية إنتاجية.
وهكذا، نستنتج أن الحل هو في تحويل الجامعات العربية إلى مؤسسات إنتاجية تستوعب
قسمًا كبيرًا من طلابها وخريجيها في منشآتها الإنتاجية، وهذا يعني أنه يتوجب
على الجامعات والمعاهد التقنية العليا ومراكز الأبحاث العربية أن تعيد تنظيم
نفسها لتصبح إلى جانب صفاتها الأخرى ميدانًا إنتاجيًا تطبيقيًا. فالجامعة يمكن
أن تنشئ صناعات ومراكز بحوث ومعاهد تقنية تابعة لها، وهذه الصناعات ستكون ضمن
الجامعات مجال تطبيق لإعداد الطلاب إعدادًا عمليًا، وستثمر خبرة الأساتذة
وبحوثهم، وستفيد ثقافة المجتمع ومصالحه من خلال الاستفادة من الأساتذة وخريجي
فروع إدارة الأعمال والاقتصاد والعلوم الإنسانية، والأهم أنها ستحل جزءًا
كبيرًا من أزمة بطالة المثقفين وخريجي الجامعات العربية.
وبعد:
إن التحديات التي تواجهها الجامعات العربية كثيرة، وأي حل يتم اقتراحه لن يضيف
شيئًا جديدًا إلى مئات الحلول التي اقترحت عبر عشرات المؤتمرات التي عقدت لعرض
هذه التحديات وعلاجها، ومع ذلك نقول إن علاج المشاكل التي تعانيها الجامعات
العربية (بطالة الخريجين مثلاً) لا يكون إلا بربط جاد وحقيقي ما بين الجامعات
وعمليات التنمية، ولكن أي تنمية؟
إنها التنمية متسارعة العجلات في جميع المجالات والقطاعات بحيث يتزايد الطلب
والحاجة إلى القوى العاملة تزايدًا يكفي لاستيعاب السكان الوافدين إلى سوق
العمل، وخصوصًا من خريجي التعليم الفني والثانوي والجامعي، وبتحقيق ذلك لا يعود
التوسع في التعليم الثانوي وما فوقه مشكلة مؤرقة، وتصبح المسيرة في تلبية الطلب
الشعبي على التعليم وفق منحى تكافؤ الفرص، وضمن بعض الشروط أكثر انسجامًا
وملاءمة للحاجات والآفاق التنموية.
وبعد أيضًا:
لقد كثرت الآراء والمقترحات حول علاج المشكلة، ومعظمها تصدر عن مؤتمرات
المعنيين، ومن بينهم وزراء التربية والتعليم العالي في الوطن العربي، ولكن هذه
القرارات تبقى كلامًا لا ينفذ، وآن الآوان لخطوات جادة على مستوى الوطن العربي،
وتكون ملزمة للدول العربية، خطوات لا يبقى الكلام فيها كلامًا، بل يتحول إلى
فعل يتغلغل إلى صلب النظم التربوية وربطها بالإنتاج والتنمية بشكل عقلاني فعلي.
المصادر:
1ـ عبدالله بوبطانة، الجامعات وتحديات المستقبل، مجلة عالم الفكر، المجلد
التاسع، 1988م.
2ـ عبدالله بوبطانة، التخطيط في التعليم العالي: أهدافه وأساليبه، سلسلة دراسات
ووثائق حول التنمية والتعليم في الوطن العربي، مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية،
العدد 9، 1985م.
3ـ نشرة مكتب اليونسكو للتربية، العدد7، 2001م.
4ـ عبدالرحمن حمادي، التعليم العالي في الوطن العربي، مجلة الوحدة، العدد 92،
الرباط 1990م.
5ـ تقرير اللجنة الاقتصادية لدول غرب آسيا (أكو) لعام 2000م.
6ـ المصدر نفسه.
7ـ عمر شوباشي، التعليم الفني وآفاقه في الوطن العربي، مجلة الراية، العدد 134،
بيروت 1988م. |