إن
الحمد لله نحمده و نستعينه و نستهديه ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن
يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا اله إلا
الله واشهد أن محمد عبده و رسوله صلى الله
عليه وسلم …أما بعد:
أخي الحبيب،
لقد وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها ،
آخر يوم من عمر العام المنصرم 1421هـ ، و على
غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة و هي تمتد
إليها ، و انتابني إحساس نبه في وجداني
شعوراً ، ما كنت أعيره إهتماماً على مدى
أكثر من 350 يوماً قد انتهت ، لقد أحسست
بإشفاق عليها ، و قد تراءت لي كأنها تحتضر
، و ترنو إلى يدي في فزع وذل ، كأنها
تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه
الحياة ، فعدلت عن نزعها ، و رحت أتأمل هذه
الورقة الأخيرة ، و اعترتني رهبة عندما
عرفت أنني في الحقيقية بنزعها قد نزعت
حزمة من أيام عمري ، لأطوي بها سجلي الذي
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، وبما فيها من
خير وشر .
أخي الحبيب، إن هذه اليومية
المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق ، وإنها
تتناقص أيامها مثلما تتناقص أعمارنا
يوماً بعد يوم ، وكما يتناقص بتراكمات
الحقب والسنين عمرُ الزمان ، وكل
المخلوقات في تناقص مطرد حتى تنتهي إلى
الزوال (كل من عليها فان *ويبقى وجه ربك ذو
الجلال والإكرام) ، إن كل المخلوقات
تنتهي أعمارها ، و تمضي حيث شاء الله لها ،
و تطوى ، إلا هذا المخلوق (الإنسان)
فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله
من هذه الدنيا ، وموقوفاً للحساب والجزاء .
لقد تذكرت هجرة المصطفى صلى الله عليه
وسلم وما كان فيها من أحداث ، وما
أحوجنا - أخي الحبيب – و نحن نستقبل عاماً
هجرياً جديداً أن نعيش بقلوبنا و عقولنا و
مشاعرنا وواقعنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في هجرته من مكة المكرمة إلي
المدينة المنورة و التى حوت على الكثير من
الدروس والعبر منها على سبيل المثال لا
الحصر ، قيمة الزمن وأهميته .
و تعهد صلى الله عليه وسلم أصحابه
بالتربية و التعليم فكان يجمعهم في دار
الأرقم بن أبي الأرقم فيعلمهم ما ينز ل
عليه من القران الكريم ، و يأمرهم بحسن
الأخلاق و يحذرهم من الفسق و الشرك و
العصيان ، وكان صلى الله عليه وسلم قدوة
لهم في جميع أقواله وافعاله.
و كان للوقت قيمة كبرى عندهم ، فكانوا
يستغلون أوقاتهم في طاعة الله و في التزود
من علم الرسول صلى الله عليه وسلم و فضله ،
وكانت العقيدة في نفوسهم أهم من المال و
الأهل و الولد ، و عندما خيّروا بين الوطن
و القبيلة و رغد الحياة و بين خشونة العيش
و الغربة و التشرد اختاروا صحبة رسول الله
والهجرة في سيل الله .
لقد صدق الصحابة رضوان الله عليهم ما
عاهدوا الله عليه ، و عندما ابتلاهم الله
صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء
والتضحية ، و عندما نادى منادي الجهاد
كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله
ولسان حالهم يقول (وعجلتُ إليك ربي لترضى) .
و بعد ثلاثة عشر عاماً من البذل و التضحية
أكرم الله جل وعلا محمداً صلى الله عليه
وسلم و أصحابه رضي الله عنهم ،
فأين نحن اليوم - أخي الحبيب - من سيرة
الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلم .
أخي الحبيب، لقد
شغلتنا دنيانا عن طاعة ربنا ، ونحن الذين
حذرنا جل و علا منها ، قال تعالى (يا أيها
الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا
أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك
هم الخاسرون * و أنفقوا مما رزقناكم من قبل
إن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني
إلى أجل قريب فأصدق و اكن من الصالحين ، و
لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله
خبير بما تعملون) .
وقال صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبد
يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم
أفناه ، و عن شبابه فيم ابلاه ، وعن ماله من
أين اكتسبه و فيم أنفقه ، و عن علمه ماذا
عمل به) السلسلة الصحيحة (946) .
أخي الحبيب، إن الكثير
من أبناء المسلمين في معظم البلاد العربية
و الإسلامية يحتفلون بذكرى الهجرة في كل
سنة ، ولكن للأسف الشديد القليل جداً منهم
الذي يعرف الحكمة التي انطوت عليها حادثة
الهجرة ، فالله عز وجل في كتابه العزيز قد
انحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم كانوا في مكة
يصلون و يصومون فقط ، و لا يستطيعون أن
يفعلوا أكثر من ذلك من مظا هر الدين لأنهم
كانوا تحت سلطة قريش و لا قوة لهم عليها ،
ثم هم لم يهاجروا إلى قلعة الإسلام
ليكونوا من جنودها ويظهروا شعائر دينهم
بكل راحة ، فأنزل الله فيهم قوله تعالى: (إن
الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في
الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت
مصيرا) .
فالحكمة أخي الحبيب من الهجرة هي أن
الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة و الصوم
فقط ، بل يريد منهم مع ذلك أن يطبقوا كل
أوامر الله عز وجل و أوامر رسوله صلى الله
عليه وسلم الظاهرة والباطنة في أنفسهم وفي
كل أمور حياتهم اليومية كما قال تعالى : (يا
أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة و
لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو
مبين) و السلم هو الإسلام ، و قال تعالى : (قل
إن صلاتي و نسكي و محياي ومماتي لله رب
العالمين) .
أخي الحبيب، إن الهجرة
باقية لم تنتهي بعد ، فقد قال صلى الله
عليه وسلم : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع
التوبة ، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس
من مغربها) رواه ابوداود و النسائي ، صحيح
الإرواء ( 1208 ) .
و قال صلى الله عليه وسلم في حجه الوداع
: (ألا أخبركم بالمؤمن ؟ من أمنه الناس
على أموالهم و أنفسهم . و المسلم ؟ من سلم
الناس من لسانه ويده . و المجاهد ؟ من جاهد
نفسه في طاعة الله . و المهاجر ؟ ( وهنا
الشاهد ) من هجر الخطايا و الذنوب) السلسلة
الصحيحة (549) .
فلابد من الهجرة من ترك الصلاة مع الجماعة
و النوم عن الصلوات إلى الصلاة على وقتها
مع الجماعة في الصف الأول . و لابد من
الهجرة من قراءة المجلات والجرائد
التافهة إلى قراءة القرآن الكريم و
تدبر آياته .
و لا بد من الهجرة من الكذب و الغيبة و
الكلام البذيء إلى ذكر الله عز وجل و دعائه
و التلذذ بمناجاته .
أخي الحبيب، أن بداية
العام الهجري الجديد فرصة لكل واحد منّا
لكي يفتح صفحة جديدة مع الله عز و جل ، صفحة
بيضاء نقية ، يعاهد الله فيها أن يسلك طريق
الالتزام و الهداية ، يعاهد الله فيها أن
يكون كتاب الله عز وجل جليسه ، و ذكر الله
عز و جل أنيسه ، و قيام الليل و صيام النهار
سبيله ، و الأخ الصالح في الله نديمه .
بهذا و هذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة
، و نحقق مقاصدها ، و هذا هو الفلاح الذي
يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم
عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله عز و
جل . اللهم أجعل عامنا القادم أفضل من عامنا الماضي بتوفيقنا لطاعتك و ترك معصيتك يا رب العالمين ، اللهم اجعل عامنا القادم فرصة لقبولنا في قافلة العائدين إليك والمنيبين إليك يا ذا الجلال و الإكرام ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم . |